نتائج التصور المادي للتاريخ :
أولاً : "في سياق تطور القوى الإنتاجية تأتي مرحلة تنشأ فيها قوة إنتاجية ووسائل تداول لا يمكن إلا أن تكون ضارة في إطار العلاقات القائمة " [أيوب ص 47 ]. إن القوى الإنتاجية من الآن [مع الظاهرة الإمبريالية] "قوى هدامة" ضمن العلاقات الرأسمالية القائمة وضمن سيطرة الملكية الخاصة الرأسمالية في شكلها المالي- الاحتكاري. التقني أو رأس المال التقني من الآن فصاعداً قوى هدامة وليست منتجة. بمعنى آخر، العقلانية التقنية من الآن فصاعداً لا عقلانية في سياق العلاقات الرأسمالية القائمة. "كما تنشأ .. طبقة تتحمل جميع أعباء المجتمع ، دون الاستمتاع ميزاته، وهي مطرودة من المجتمع بحيث لا بد لها أن تتخذ مكانها في المعارضة الأشد صراحة وضد جميع الطبقات الأخرى ، طبقة يشكلها غالبية أعضاء المجتمع وينبثق منها وعي ضرورة قيام ثورة جذرية " [أيوب ص 48 ] ترتبط هذه الواقعة بالواقعة السابقة التي هي تحول القوى المنتجة إلى قوى هدامة. ولقد أسئ فهم العبارة السابقة لماركس في "نقد برنامج غوته"[1] وقد رد انجلز على هذه الإساءة بالقول: "لقد بدؤوا هذا البرنامج بقبول عبارة لاسال التالية: "إن الطبقات الأخرى جميعها لا تشكل ، أمام الطبقة العاملة سوى كتلة رجعية واحدة" وهذه العبارة ، رغم أنها طنانة ، خاطئة .. تاريخياً ، وليست صحيحة إلا في بعض حالات استثنائية، هي على سبيل المثال، إما في ثورة بروليتارية كـ كمونة باريس ، وإما في بلاد لم تكن البورجوازية وحدها هي التي حولت الدولة والمجتمع إلى صورة طبق الأصل عنها . وإنما أعقبتها البورجوازية الصغيرة الديمقراطية ، وأكملت هذا التحويل إلى غاياته الأخيرة " [ماركس - انجلز "نقد برنامجي غوته وإيرفورت " ت. صلاح مزهر وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1974 ص 51 ] .. يوجد نقد انجلز هذا في رسالة بتاريخ 28 تشرين الأول سنة 1882 جاء فيها: "إنهم يحلمون دائماً في أن تتحقق قضية "الكتلة الرجعية الوحيدة " فتجتمع جميع الأحزاب الرجعية في كتلة هنا، في حين يؤلف الاشتراكيون فرقتهم هناك . وتحدث المعركة الفاصلة ، فنحرز النصر بلمحة بصر على طول الجبهة . إلا أن الأمور لا تتم ، في الحقيقة بهذه السهولة . وإنما، على العكس، تبدأ الثورة عملياً في أن تتوحد الأحزاب الرسمية وأغلبية الأمة الساحقة ضد الحكومة التي تمسي منعزلة ، فيقلبونها..(رسائل إلى بيبل وليبكنخت) " [لاحظ تجربة الثورة الإيرانية 1979 . دور الحشود في الثورة، أيضاً راجع يرفند أبراهميان : " الحشود في السياسة الإيرانية 1905- 1953" ]
"هذا الوعي بضرورة قيام ثورة اجتماعية (جذرية) .. هو الوعي الشيوعي .. يمكن أيضاً أن يتشكل عند الطبقات الأخرى عندما تتبين وضع هذه الطبقة " [أيوب ص 48 ]. هذا الوعي عند الطبقات الأخرى مشروط بوعي هذه الطبقات لوضع الطبقة الأكثر جذرية في المجتمع (البروليتاريا) وبدرجة الوعي الذي تحصل عليه هذه الطبقة الجذرية. لاحظ علاقة البروليتاريا الروسية بالفلاحين الروس أثناء الثورتين الروسيتين الديموقراطية والاشتراكية في شباط وتشرين الأول سنة 1917 . اقرأ :
الوعي الشيوعي ، هو وعي ضرورة ثورة اجتماعية (ثورة جذرية) هدفها الأساسي تحويل شكل الملكية الخاصة الرأسمالية إلى ملكية اجتماعية .
ثانياً : "إن الشروط التي يمكن فيها استخدام قوى إنتاجية معينة هي شروط سيطرة طبقة اجتماعية على المجتمع . إن القوة الاجتماعية لهذه الطبقة ، الناجمة عما تملكه ، تجد بصورة منتظمة تعبيرها العملي في شكل مثالي في نمط الدولة الخاص ، لهذا السبب ، كل نضال ثوري يتوجه ضد طبقة سادت حتى ذلك الحين " [أيوب ص 48 ].
اقرأ : 1- إن شروط سيطرة طبقة معينة الناجمة عما تملكه وتعبيره المثالي في سيطرتها على السلطة السياسية ، هي عينها الشروط التي يمكن فيها استخدام قوى إنتاجية معينة. مثال ذلك ، طبقة تجارية سائدة تتعامل مع أجهزة الكومبيوتر كأية سلعة مستوردة وتتصرف كأي تاجر. إذاً يمكننا تقدير شكل سيطرة طبقة سائدة من خلال رصد شكل استخدامها الفعلي لقوى أنتا جبة معينة كـ جهاز الكومبيوتر مثلاً . توجد على هذا الأساس علاقة عضوية بين شروط سيطرة طبقة والشروط التي يمكن فيها استخدام قوى إنتاجية معينة. فكلما كان شرط سيطرتها فقيراً كان استخدامها لقوى إنتاجية بعينها وتطوير هذه القوى فقيراً أيضاً . 2- القوة الاجتماعية لهذه الطبقة ناجمة عما تملكه من ثروة الأمة .
3- التعبير العملي المثالي (المجرد) لقوة هذه الطبقة اجتماعياً هو نمط الدولة الخاص الذي تسيطر من خلاله. 4- هذا التعبير في شكل الدولة هو تعبير تجريدي –مثالي لأنه يعبر عن المصالح المشتركة لهذه الطبقة ، وليس عن مصلحة أو مصالح أفراد فيها . 5- كل نضال ثوري ضد هذه الطبقة هو نضال موجه ضد سيطرة هذه الطبقة ، بالتالي فهو موجه ضد شكل الدولة الخاص بها.
ثالثاً : "كان نمط النشاط يبقى دون أن يطرأ عليه أي تغيير في جميع الثورات السابقة ، وكان المقصود مجرد توزيع آخر لهذا النشاط ، تقسيم جديد للعمل بين أشخاص آخرين ، بالمقابل فإن الثورة الشيوعية موجهة ضد نمط النشاط السابق. وهي العمل (الأجير) . وتلغي سيطرة جميع الطبقات حين تلغي الطبقات نفسها . لأن من يقوم بها هي تلك الطبقة التي لا تعتبر طبقة في مجتمع ، والتي لا يعترف بها على اعتبارها طبقة ، والتي هي سلفاً التعبير عن انحلال جميع الطبقات وجميع القوميات في إطار المجتمع الحالي(البورجوازي) " [أيوب ص 48 ].
اقرأ : 1- في جميع الثورات السابقة كان المقصود هو إزاحة طبقة وحلول أخرى مكنها بحيث يتم توزيع جديد للملكية وتقسيم جديد للعمل . 2- الثورة الشيوعية موجهة ضد نمط النشاط السابق بشكل جوهري ، أي تهدف إلى تحويل الملكية الخاصة إلى ملكية اجتماعية . 3- على هذا الأساس هي تلغي العمل ، أي تنسف الأرضية التي يقوم عليها العمل ( المتصرف به من قبل الآخريـن ). 4- إلغاء الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج ومهما كان شكلها هو نسف للأرضية التي تقوم عليها كل سيطرة طبقية . وهو تدمير للقوة الاجتماعية للطبقة بتحطيم ما تملكه. 5- المرشح الممكن تاريخيا للقيام بهذه الثورة الاجتماعية هي البروليتاريا التي هي التعبير المسبق عن انحلال جميع الطبقات ... ذلك أنها لا تملك شيئاً سوى قوة عملها التي هي مجبرة على بيعها . 6- انحلال جميع الطبقات وجميع القوميات .
لاحظ أن القومية هي التعبير الخارجي السطحي عن مجتمع متعاون وغير منقسم. هذا الوهم ، وهم عدم انقسام المجتمع ، ناجم أصلاً عن إيهام الطبقات المحرومة والهامشية من قبل الطبقة المسيطرة بأن مصلحة هذه الأخيرة تمثل مصالح جميع فئات السكان .
إن انحلال جميع الطبقات يعني انحلال هذه الأوهام الأيديولوجية بالمساواة، بالتالي أفول فكرة القومية وزوال الانقسام داخل المجتمع الذي يولد هذا الوهم هو زوال لهذا الوهم ... تماماً كـ الاستلاب الديني الذي هو ناتج استلاب أعمق الذي هو الاستلاب الاقتصادي الاجتماعي، طبقة تملك وأخرى لا تملك وثالثة ملكيتها متواضعة بالنسبة لثروة الأمة. على البروليتاريا وبرنامجها الديموقراطي، وفي سبيل حصولها على سيادتها (على هيمنتها وسيطرتها) أن تستخدم تلك الأيديولوجية ، وذلك الوهم ، أي لأن تستفيد من كل تشابه في المصالح بينها وبين جميع الطبقات التي لها مصالح جزئية مشابهة . ومن هنا تلعب القومية في شروط المنطقة العربية دوراً ديموقراطياً وتقدمياً ."
رابعاً : "يتضح أنه لابد من تحقيق تحويل كتلي للبشر من أجل خلق هذا الوعي بصورة كتليه، وكذلك من أجل تنفيذ الأمر نفسه ، والحال أن مثل هذا التحويل لا يمكن أن يحدث إلا بواسطة حركة عملية ، بواسطة ثورة.. " [أيوب ص48 ]... الثورة ضرورية ليس لأنها "الوسيلة الوحيدة" من أجل قلب الطبقة السائدة ، بل هي ضرورية كذلك لأن الثورة وحدها يمكن أن تتيح للطبقة التي تقلب الطبقة الأخرى أن تكنس كل عفن النظام القديم الذي يعلق بها وأن تصبح مؤهلة لتؤسس المجتمع على قواعد جديدة .[أيوب ص 48-49 ] لاحظ أن سيطرة بروليتارية تعيد ترتيب عناصر المجتمع كلها . وهنا نؤكد على مقولة تبدل البنية مع تبدل العنصر المسيطر ، فهذا التبدل في العنصر المسيطر يعيد إنتاج ترتيب مختلف لمجمل البنية . العنصر هنا هو طبقة بعينها البورجوازية أو البروليتاريا أو الطبقات الوسطى ، والبنية هي كلية المجتمع بجميع طبقاته وفئاته. على سبيل المثال، تلعب الطبقة الفلّاحيّة دوراً مختلفاً تحت قيادة البروليتاريا وبرنامجها الديموقراطي عن الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الطبقة تحت قيادة البورجوازية. وكذلك يمكن النظر إلى الثورة الديموقراطية البورجوازية بنفس الطريقة. يكتب ماو تسي تونغ : "وإذا نظرنا إلى عملية الثورة الديمقراطية البورجوازية في الصين ، التي بدأت بثورة 1911 ، وجدنا لها أيضاً مراحل خاصة متعددة . فالثورة في فترة قيادة البورجوازية لها والثورة في فترة قيادة البروليتاريا لها تتمايزان على الأخص ، كمرحلتين تاريخيتين مختلفتين اختلافاً كبيراً . ذلك أن القيادة التي مارستها البروليتاريا غيرت وجه الثورة بصورة جذرية ، وأدت إلى ترتيب جديد في العلاقات الطبقية ، وإلى انطلاق عظيم في ثورة الفلاحين ، ومنحت الثورة الموجهة ضد الإمبريالية والإقطاعية صفة الحزم الذي لا يعرف المهادنة ، وجعلت من الممكن الانتقال من الثورة الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية ، وما كان يمكن أن تحدث هذه الأشياء عندما كانت الثورة بقيادة البورجوازية . وعلى الرغم من أنه لم يحدث تبدل في طبيعة التناقض الأساسي في العملية كلها ، أي في طبيعة هذه العملية بوصفها ثورة ديمقراطية مناهضة للإمبريالية والإقطاعية " (راجع مقولة ماو تسي تونغ : "في التناقض" مؤلفات ماو المختارة المجلد الأول ، الطبعة الثانية 1977 دار الشعب للنشر بكين ص473-474 ).
"إن هذا التصور للتاريخ يتوقف على قدرتنا على توسيع عملية الإنتاج الفعلية ، منطلقين من الإنتاج المادي للحياة بالذات . إنه يدرك شكل التعامل المرتبط بهذا لنمط من الإنتاج ، والمكون من قبله [أي المجتمع المدني في مراحله المتنوعة ][2] على اعتباره أساس التاريخ برمته . الأمر الذي يستقيم في إظهار هذا المجتمع في عمله من حيث هو دولة ، وكذلك في تفسير جميع المنتجات النظرية وأشكال الوعي المختلفة من دين وفلسفة وأخلاق" [أيوب ص 49-50 ].
اقرأ : 1- هذا التصور المادي للتاريخ لا يظهر إلا عند درجة معينة من توسع عملية الإنتاج الفعلية ، أي لا يظهر إلا مع ظهور الرأسمالية كنمط إنتاج . وهو مشروط بهذا التوسع للعملية الإنتاجية التي تأتي بها الرأسمالية، بتوسيع الإنتاج المادي للحياة بالذات. 2- يدرك هذا التصور للتاريخ شكل التعامل(علاقات الإنتاج) المرتبط بهذا النمط من الإنتاج والمكون من قبله . أي أنه يدرك العلاقات الاجتماعية الاقتصادية المرتبطة بنمط معين من الملكية الخاصة . وهذا الشكل من الملكية هو الذي يحدد ويشرط هذا الشكل من التعامل أي هذه العلاقات الاجتماعي الاقتصادية . 3- نمط الإنتاج هذا وشكل الملكية الخاص به ، وشكل التعامل الذي تشرطه هذه الملكية هو ما يسمى بالمجتمع المدني "في مراحله المتنوعة" . 4- هذا المجتمع المدني يعتبر أساس التاريخ برمته . فقوى الإنتاج ذات التقدم أو التراجع الخطي تدفع للانتقال من سيطرة شكل ملكية إلى سيطرة آخر ، أي من نمط إنتاج إلى آخر . 5- هكذا ومن خلال دراسة هذا الأساس للتاريخ (أي المجتمع المدني وشكل الملكية المسيطر وعلاقات التبادل والتداول [علاقات السوق ]) يمكن إظهار هذا المجتمع في عمله من حيث هو دولة ، أي يمكن دراسة شكل تنظيمه السياسي في الداخل (دولته الخاصة) ، وأيضاً تفسير جميع منتجاته النظرية والأيديولوجية من دين وفلسفة وأخلاق وحقوق عبر دراسة هذا المجتمع المدني كما هو بالفعل ، أي تجريبياً .6- رسم أصوله ونموه انطلاقاً من هذه المنتجات ، وبهذه الطريقة يمكن بكل تأكيد وصف الأمر بأسره في كليته ، وبالتالي دراسة الفعل المتبادل لجوانبه المتعددة آ- دراسة العلاقات الاجتماعية الفعلية . 7- هذا التصور للتاريخ لا يحتاج إلى مقولة واحدة في جميع مراحله ، بل يبقى باستمرار على أرض التاريخ الواقعي ، التجريبي والفعلي . أي يجري التعميم بعد دراسة الحالة الخاصة بكل مجتمع، ولا تسقط تعميمات سابقة على مجتمع لاحق . فالمجتمع ليس تخارجاً لمقولة عبر التاريخ، بل المقولة والتعميم ذاتهما نتيجة دراسة المجتمع بصورة تجريبية ، وهما تجريد ذهني لهذه الدراسة. 8- لا يفسر هذا التصور للتاريخ الممارسة البشرية انطلاقاً من الأفكار ، بل يفسر تكون الأفكار انطلاقاً من الممارسة بكل أشكالها الصناعي والتجارية ، الزراعية والسياسية . وقلب هذا التصور ينتهي بنا إلى الاستشباح. يكتب ماركس : "إن سائر أشكال الوعي ومنتجاته يمكن حلها ليس بالنقد الذهني .. ، بالانحلال في "الوعي الذاتي" أو التحول إلى "أطياف" "وأوهام" و "أشباح" ، بل فقط بواسطة القلب العملي للعلاقات الاجتماعية الواقعية التي ولد منها هذا الهراء المثالي " [أيوب ص 50 ]. "إن الثورة لا النقد هي القوة المحركة للتاريخ، وكذلك للدين والفلسفة وكل نظرية أخرى " [أيوب ص 50 ] .. إن هذه الشروط الحياتية التي تجدها الأجيال المختلفة قائمة ، هي التي تقرر كذلك ما إذا كان الاختلاج الثوري الذي يتكرر دورياً في التاريخ قوياً بصورة كافية أم لا ليقلب أسس النظام برمته ... إن العناصر المادية لثورة كاملة هي من جهة واحدة القوى المنتجة القائمة ومن جهة ثانية تشكل كتلة ثورية تثور[50] ضد "إنتاج الحياة" بالذات حتى ذلك الحين ؛ ضد "النشاط الكلي" الذي هو أساس ذلك الإنتـاج" [51] . كتلة ثورية تثور ضد شكل الملكية السائد ، وبالتالي ضد شكل التعامل حتى ذلك الحين . إذا لم تتوفر هذه الشروط للثورة يبقى الحديث عنها حديثاً نظرياً، أي إعلاناً نظرياً . ..إذا لم تكن هذه الشروط موجودة فإنه لا أهمية على الإطلاق بقدر ما يتعلق الأمر بالتطور العملي ، لما إذا كانت فكرة هذه الثورة قد تم التعبير عنها مائة مرة حتى ذلك الحين[51] ... صحيح أن هذه الشروط الحياتية تعدل من قبل الجيل الجديد لكنها من جهة أخرى تملي عليه شروطه الحياتية الخاصة وتمنحه تطوراً محدداً وطابعاً نوعياً. نتيجة ذلك إن الظروف تصنع البشر بقدر ما يصنع البشر الظروف[50] .
اقرأ : شروط الثورة الكاملة، أي شروط الثورة الاجتماعية . 1- درجة تطور القوى الإنتاجية. 2- فيما إذا خلق هذا التطور تجمعاً كثيفاً لقوى اجتماعية معارضة ، أو ما يسمى بالكتلة التاريخية حيث كتلة اجتماعية محرومة من نتاج هذا التطور وممتلكة لوعيها المقارب لوضعها ومكانتها الاجتماعية والإنتاجية، وذلك عبر توسط مثقفيها وأحزابها السياسية ونقاباتها. وغالباً ما يشار إلى هذه الكتلة التاريخية باسم الحامل الاجتماعي للثورة مثال ذلك الطبقة الثالثة في فرنسا زمن الثورة الفرنسية ، قبيلة قريش زمن الانقلاب المحمدي ، طبقة البازار في الثورة الإيرانية. وبالطبع هناك طبقات مشاركة ومساندة لكنها ليست قائدة للتحول الثوري . بالنسبة للطبقة البورجوازية يتوجب من حيث الأساس مناقشة درجة تطور القوى الإنتاجية على أساس التاريخ الكوني ، أي على أساس عالمي وليس قطري أو محلي فحسب. يمكن معالجة الحامل الاجتماعي أيضاً على أساس جدل التاريخ العالـمي والبؤر الأكثر تركيزاً لهذه الكتل الاجتماعية ( البؤرة التاريخية) . على سبيل المثال ، خلق التصنيع ذو الدوافع السياسية في كوريا الجنوبية فترة الحرب الباردة كتلة مركزة من الطبقة العاملة الكورية الجنوبية ذات وعي نقابي رفيع وذات شعور قومي ديمقراطي متقدم. بالتالي فهي مرشحة للعب دور تاريخي متقدم إذا ما حصلت على أحزابها السياسية، وبرنامجها الديمقراطي .
خامساً ، "إن هذا التصور المادي للتاريخ يعيد "علاقة الإنسان بالطبيعة إلى مكانها الصحيح" كجزء من تاريخ الإنسان وهكذا يختفي التعارض بين الطبيعة والتاريخ" [أيوب ص 51 ] . وهكذا يمكننا الحديث عن طبيعة تاريخية ، مصنوعة بفعل ممارسة البشر ومحولة من قبلهم .
"المؤرخون التقليديون... لم يكن لهم بد ... في كل عصر تاريخي، من المشاطرة في وهم هذا العصر.. مثال ذلك أنه إذا تخيل عصر ما نفسه خاضعاً لحوافز "سياسية" أو "دينية" صرف، وبالرغم من أن الدين والسياسة مجرد شكلين لحوافزه الحقيقية ، فإن مؤرخه (مؤرخ العصر) يقبل بهذا الرأي " [أيوب ص 51 ] . هكذا يكون لكل عصر أوهامه. "إن فكرة الناس أصحاب العلاقة ، "تصورهم" عن ممارستهم الفعلية يتحول إلى القوة الوحيدة والحاسمة التي تتحكم في ممارستهم وتعينها" [51]
تعليق أولي : لا شك أن فكرة الناس ، "تصورهم" عن ممارستهم الفعلية يلعب دور قوة لكن هذه القوة ليست الوحيدة ولا الحاسمة التي تتحكم بممارستهم وتشرطها. فحين يؤدي قيام شكل بدائي لتقسيم العمل لدى الهنود والمصريين إلى قيام نظام الطوائف في دولتهم وديانتهم ، فإن المؤرخ [التقليدي، المثالي] يعتقد أن نظام الطوائف هو القوة التي أنتجت هذا الشكل الاجتماعي البدائي " [51] . تقسيم بدائي للفائض ، شكل بدائي للملكية ، وشكل تعامل بدائي . هذا الشكل لتقسيم العمل وهذا الشكل للملكية هو الذي حدد نظام الطوائف. وهذا التقسيم للعمل ناجم عن تطور أولي للقوى الإنتاجية . "بينما يتشبث الفرنسيون والإنكليز بالوهم السياسي على الأقل الذي هو مع ذلك الأقرب إلى الواقع ، فإن الألمان يتحركون في ميدان "الفكر الخالص" ويجعلون من الوهم الديني القوة المحركة للتاريخ" [51] شكلان لتمظهر القوة الاجتماعية الحقيقية: الشكل السياسي ، والشكل الأيديولوجي، ومنه الديني. والشكل الأول أكثر واقعية من الثاني ، لأنه موسط بالتنظيم والإدارة . "إن فلسفة التاريخ عند هيغل هي النتيجة الحاسمة الأخيرة المختزلة في "تعبيرها الأصفى" لمجمل هذه الطريقة التي يتبعها الألمان في كتابة التاريخ والتي لا تولي اهتماماً للمصالح الفعلية ، ولا حتى المصالح السياسية بل للأفكار المحضة.." [51] القوة المحركة للتاريخ حسب فلسفة التاريخ الهيغلية هي الفلسفة أو الأفكار المحضة. وهي لا تعير المصالح الفعلية ، ولا المصالح السياسية أي قيمة بالنسبة لتوليد الانفعالات والأفكار. ما يهمها الأفكار المحضة. بالمقابل هناك مؤرخون يعالجون الشروط المعطاة كموضوعات تأمليّة بعيداً عن النشاط السياسي والفكري والعقائدي. وهذه الطريقة حسب ماركس لها طابع رجعي، لأنها تنسى فعل الممارسة بكل أشكالها في التحويل الدائم للوقائع المعطاة. يكتب ماركس في هامش مشطوب : "إن ما يسمى الطريقة الموضوعية في كتابة التاريخ كانت تستقيم بالضبط في معالجة الشروط التاريخية بصورة منفصلة عن النشاط" [هامش ص51] .
اقرأ : 1- المصالح الفعلية ، مصالح رأس المال والملكية الخاصة الإيجابية. إعادة إنتاج رأس المال ، وشكل الملكية. أي مصالح رأس المال الاجتماعية والسياسية . وهي ما يمكن أن نطلق عليها اسم المصالح السياسية الرجعية، أي محاولة إعادة الإنتاج الموسع لرأس المال ولتقسيم العمل المحلي والدولي ولشكل الملكية الخاصة المسيطر . أي محاولة تكريس الوضع القائم 2- مصلحة العمل الأجير والطبقات المحرومة من الملكية ومن الثروة الاجتماعية. أو المصلحة السياسية التقدمية. التي تسعى لقلب الوضع القائم عبر تحويله، وعبر تحطيم شكل الملكية السائد.
التصور الديني للتاريخ: "يفترض أن الإنسان الديني هو الإنسان البدائي الذي ينطلق منه التاريخ بأسره وأنه ليضع في مخيلته الإنتاج الديني للأوهام في مكان الإنتاج الفعلي لوسائل المعيشة وللحياة بالذات " [52] . قارن هذا مع التصور المادي للتاريخ . بالنسبة لأصحاب التصور المثالي والديني للتاريخ، يتحول "الشيوعي" عندهم إلى محمول(صفة) للإنسان يتم تحويله من ثم إلى حزب ثوري معين إلى "مقولة مجردة" . "إن مجمل استدلال فيورباخ بخصوص علاقة البشر ببعضهم بعضاً لا يذهب إلى أبعد من البرهان على أن البشر يحتاجون إلى بعضهم بعضاً وأن تلك كانت الحال على الدوام ، وأنه فيورباخ ليريد أن ينشئ وعياً صحيحاً عن حقيقة قائمة بينما المسألة بالنسبة إلى الشيوعي الفعلي هي قلب هذه الأوضاع القائمة" [54] فيورباخ : "التسليم بالأوضاع القائمة وإنكارها ... وفيما عدا ذلك فإننا نقدر كل التقدير أن فيورباخ في جهوده لتوليد وعي هذه الحقيقة بالضبط يتقدم بقدر ما يستطيع منظر أن يتقدم دون أن يكف عن كونه منظراً أو فيلسوفاً" فيورباخ "يلتجئ على الدوام إلى الطبيعة الخارجية والأكثر من ذلك إلى طبيعة لم تقهر بعد من قبل الإنسان" [54 ] إن كل اختراع جديد وكل تقدم تحققه الصناعة ينتزعان قسماً آخر من هذا الميدان بحيث أن الأرض التي تنبت عليها الأمثلة التي تبرهن على مثل هذه المقترحات الفيورباخية تضيق باستمرار " [55] فيورباخ لا يتحدث عن ممارسة البشر في تحويل الطبيعة. إن ممارسة البشر في الصناعة تزعزع التأمل الفيورباخي والطبيعة البكر. يكتب ماركس : "و كيما نورد مثالاً عن هذا التسليم بالأوضاع القائمة وإنكارها في الوقت ذاته، نذكر بمقطع من "أسس فلسفة المستقبل" حيث يشرح فيورباخ الرأي القائل بأن وجود الشيء أو الإنسان هو في نفس الوقت ماهيته ، بحيث أن شروط وجود ، وأسلوب حياة ونشاط كل من الحيوان والإنسان الفرد ، هي (هي ) تلك حيث تشعر "ماهيتها" نفسها بالرضى " [أيوب ص54 . وأيضاً ص 54 من الطبعة الإنكليزية] بكلام آخر يقول فيورباخ أن الشرط الحاسم لوجود الإنسان أو الشيء هو الرضى والاستسلام ، وبالتالي فالتمرد ليس من ماهية الإنسان ، وأنه لا وجود لإنسان أو شيء في تناقض وصراع مع شرطه وأسلوب الحياة السائد من حوله. وهذا يتعارض مع أبسط أنواع الوجود القائم أصلاً على التناقض والصراع من أجل البقاء . والكلام هنا يخص الكائنات الحية. لو يسمع كلام فيورباخ أبطال حركات التحرر الاشتراكي والقومي ضد الغزاة والمستعمرين.
نعود إلى ماركس حيث يكتب: "إن أفكار الطبقة السائدة هي في كل عصر الأفكار السائدة أيضاً ، يعني أن الطبقة التي هي القوة المادية السائدة في المجتمع هي في الوقت ذاته القوة الفكرية السائدة ... ليست الأفكار السائدة شيئاً آخر سوى التعبير المثالي عن العلاقات التي تجعل الطبقة الواحدة طبقة سائدة [وهذه الأفكار] هي أفكار سيطرتها." [أيوب ص 56 ]
اقرأ : 1- العلاقات الفعلية التي تجعل الطبقة الواحدة مسيطرة هي علاقات الملكية المهيمنة ، وحصة هذه الطبقة الفعلية من ثروة الأمة. 2- التعبير المثالي عن هذه العلاقات، أي التعبير المثالي عن هذه الهيمنة هي الأفكار السائدة. الطبقة السائدة تشرف على وسائط الإنتاج المادي والفكري. الأفراد "بقدر ما يسودون على أنهم طبقة ، ويحددون مدى عصر تاريخي معين واتساعه ، فمن البديهي أن هؤلاء الأفراد يسودون على نطاق كامل، وبالتالي فإنهم يسودون ضمن أشكال سيطرتهم ، على أنهم كائنات مفكرة أيضاً، على أنهم منتجون للأفكار... إنهم ينظمون إنتاج أفكار عصرهم وتوزيعها ، وبذلك فإن أفكارهم هي أفكار العصر السائدة " [أيوب ص56 ][3] مثال "حيث تكون السيادة متقاسمة ، فإن مذهب انفصال السلطات هو الذي يشكل الفكرة السائدة ويتم التعبير عنه على أنه "قانون أبدي" " [ص56 أيوب]. "إننا نصادف هنا تقسيم العمل" . إنه (تقسيم العمل) أحد أشكال التاريخ الرئيسية حتى وقتنا الحاضر." .. هذا التقسيم للعمل ليتظاهر حتى في الطبقة السائدة على أنه تقسيم بين العمل الفكري والعمل المادي ، بحيث يكون لدينا مقولتان من الأفراد داخل هذه الطبقة [السائدة ] "
اقرأ : لدينا مقولتان للبورجوازي، 1- مفكرو الطبقة البورجوازية ، مؤد لجوها "الفاعلون" فكرياً ، القادرون على التصور ، الذين يجعلون من صناعة الأوهام عن الطبقة ذاتها المصدر الرئيسي لمعيشتهم. وهؤلاء يمكن أن نطلق عليهم اسم، المثقفون العضوييون للطبقة البورجوازية. 2- البورجوازي الفعلي أو رب العمل، أو مدير المشروع الرأسمالي . هم منفعلون أيديولوجياً بالأوهام التي ينتجها الأولون عن وجود الطبقة ودورها . يمكن أن نطلق على هؤلاء اسم المنظمون أو المثقفون الوظيفيون للطبقة البورجوازية حسب أنطونيو غرامشي، الماركسي الإيطالي. "موقف هؤلاء حيال هذه الأفكار والأوهام موقف أشد انفعالية وأعظم استقبالاً لأنهم في واقع الأمر أعضاء هذه الطبقة النشيطون، ووقتهم أقل اتساعاً من أجل صنع الأوهام والأفكار عن أنفسهم " [أيوب ص 56 ] . يمكن أن نسمي المثقف العضوي للطبقة بالمثقف السياسي ، ونسمي الوظيفي بالمثقف النقابي للطبقة. وكلما اشتد الصراع الطبقي ازداد للتمايز بين المقولتين، وازداد تعاونهما وتكامل عملهما تجاه الخطر الذي يهدد كيان الطبقة برمتها. يكتب ماركس: "يمكن أن يحصل تعارض بين الفريقين لكنه(التعارض) يسقط على أية حال من تلقاء ذاته حالما يقوم نزاع عملي تتعرض فيه الطبقة بأكملها للخطر" [أيوب ص56-57] في هذه الحالة ، حالة تعرض الطبقة بأكملها لخطر فعلي (عملي) "يتبدد فيها كذلك الوهم بأن الأفكار السائدة لم تكن أفكار الطبقة السائدة [يعتقد حتى هذا الوقت أنها حقائق أبدية]، وأنها أفكار تملك سلطاناً متميزاً عن سلطان هذه الطبقة " [أيوب ص 57 ].
اقرأ : حتى لحظة تعرض الطبقة بأكملها للخطر العملي (الفعلي) يبقى الوهم التالي سائداً . وهذه السيادة في صالح الطبقة السائدة. يمكن صياغة هذا الوهم كالتالي: 1- الأفكار السائدة ليست أفكار الطبقة السائدة. 2- تملك هذه الأفكار سلطاناً متميزاً عن أفكار الطبقة السائدة . 3- هذه الأفكار سائدة لأنها تمثل حقائق أبدية ولا علاقة لها بالطبقات.
الأفكار الثورية : "إن وجود الأفكار الثورية في عصر معين يفترض مسبقاً وجود طبقة ثورية " [أيوب ص 57 ].
"إذا نحن فصلنا أفكار الطبقة السائدة عن الطبقة السائدة نفسها ، وعزونا إليها ؛ إلى هذه الأفكار ، وجوداً مستقلاً ، إذا نحن اقتصرنا على القول أن هذه الأفكار أو تلك قد كانت سائدة في زمان معين دون أن نعني بشروط إنتاج هذه الأفكار ومنتجيها". إذا نحن فعلنا ذلك نصل إلى نظرة للتاريخ والأفكار تهمل : 1- الشروط العالمية والمحلية لإنتاج هذه الأفكار 2- الأفراد الذين أنتجوها ، والحقل الأيديولوجي الطبقي لإنتاج هذه الأفكار. هذه النظرة تعرض فقط تزامن فكرة ما تاريخياً مع وجود طبقة معينة سائدة دون أن تبحث عن الرابط الضروري والتاريخي بين هذه الطبقة وبين فكرة بعينها . مثال ذلك ، سيادة فكرة الشرف والإخلاص إبان سيادة الأرستقراطية الإقطاعية . أيضاً ، سيادة فكرة الحرية والمساواة إبان سيادة الطبقة البورجوازية، خاصة فترة صعودها التاريخي . مع أخذ مجرى التاريخ بعين الاعتبار ، كل طبقة سائدة كانت لديها أفكار سائدة خاصة بها . أو أنها أحيت أفكار سابقة لها بطريقتها.
"هذا التصور للتاريخ المشترك بين جميع المؤرخين منذ القرن الثامن عشر بصورة خاصة سوف يصطدم بالضرورة بظاهرة أن الأفكار السائدة سوف تزداد تجريداً ، يعني أنها سوف تتخذ أكثر فأكثر شكل العمومية . وذلك أن كل طبقة جديدة تحتل مكان طبقة كانت سائدة قبلها مضطرة ، ولو لمجرد تحقيق أهدافها ، إلى تمثيل مصلحتها على أنها الأفكار الوحيدة العقلانية ، الأفكار الوحيدة الصالحة بصورة شاملة " [أيوب ص 57 ].
اقرأ : إن التصور الغالب لدى المؤرخين والذي يقابل بين سيادة فكرة وبين سيادة طبقة معينة هو تصور سكوني بنيوي يلاحظ التزامن فقط دون أن يقارب النشوء التاريخي والموت التاريخي لأفكار بعينها . إضافة لذلك سوف يواجه هذا التصور الميل المتزايد للتجريد والتعميم لأفكار الطبقة التي هي في طريقها إلى السيادة أو السيطرة . تحاول كل طبقة سائدة أن تظهر مصالحها على أنها مصلحة الجميع ، أي تقيد الجميع، مصلحة مشتركة . وأن تظهر أفكارها على أنها أفكار حقه وعمومية، أي تناسب الجميع. يقول ماركس : "إن الطبقة الثورية تمثل منذ البداية ، لمجرد أنها تعارض طبقة أخرى ، ليس على أنها طبقة ، بل على أنها ممثلة المجتمع بأسره، إنها تتجلى على أنها الكتلة الكاملة للمجتمع في مواجهة الطبقة السائدة . وأنها لتستطيع أن تفعل ذلك بادئ ذي بدء ، لأن مصلحتها أوثق ارتباطاً بعد بصورة فعلية بالمصلحة المشتركة لجميع الطبقات غير السائدة الأخرى"[أيوب ص 57 ]. في اللحظة الأولى ولفترة هذا الوهم صحيح ؛ وهم جماعية المصالح . هذه المفاهيم السائدة سوف تتجلى بشكل يزداد عمومية بقدر ما تلزم الطبقة السائدة ذاتها أكثر فأكثر بتمثيل مصالحها على أنها مصالح جميع الطبقات الأخرى غير السائدة . [هامش ص 57 أيوب] . إذاً علينا أن نلاحظ موضوعية الوهم في البداية . هذا يذكر بـ تقليد(محاكاة) ماركس لـ هيغل في المدخل وافتراقه عنه في المتن(الكتاب الذي هو رأس المال). يكتب ماركس في تذييل الطبعة الثاني لرأس المال : "لقد انتقدت الجانب الصوفي من ديالكتيك هيغل قبل حوالي 30 عاماً حينما كان هذا الديالكتيك ما يزال على الموضة . بيد أنه عندما كنت منهمكاً في كتابة المجلد الأول من "رأس المال" شرع المقلدون الصاخبون، المتصنعون ، والتافهون للغاية، الذين يلعبون الدور الأول في ألمانيا المعاصرة المثقفة ، يستهينون بـ هيغل ، مثلما كان المقدام موزيس مندلسون في عهد ليسنغ يستهين بـ سبينوزا كـ "كلب ميت " . ولذلك أعلنت عن نفسي بصراحة أنني تلميذاً لهذا المفكر العظيم ، وحتى أنني عمدت في بعض مواضع الفصل المتعلق بنظرية القيمة إلى محاكاة طريقة هيغل في التعبير . " [رأس المال المجلد الأول ، الجزء الأول . دار التقدم ص27 ]. ومعلوم أن بحث القيمة هو البحث الذي يبدأ فيه ماركس "رأس المال". إن وهم جماعية المصالح صحيح في البداية يكتب ماركس: "هذه المفاهيم السائدة سوف تتجلى بشكل يزداد عمومية وتعميقاً بقدر ما تلزم الطبقة السائدة أكثر فأكثر بتمثيل مصالحها على أنها مصالح جميع أعضاء المجتمع" [هامش ص 57 ] وذلك لأن تلك المصلحة لم تسنح لها الفرصة بعد تحت ضغط الأوضاع القائمة حتى ذلك الحين كي تتطور على أنها المصلحة الخاصة لطبقة خاصة " [ص58 ] . نؤكد على موضوعية الوهم في البداية . أي لحظة الظاهر كلحظة موضوعية إذا أخذت في سياق السير من البسيط نحو العياني (العيني) ، إذا ما ضمِّنت هذه اللحظة في مفهوم الكل العيني . يكتب ماركس: "إن وهم جماعية المصالح ، هذا الوهم صحيح في البداية ، وذلك لأن انتصار الطبقة الطامحة إلى السيطرة .. يعود بالمنفعة أيضاً على أفراد كثيرين من الطبقات الأخرى التي لا تتوصل إلى السيطرة " ..وهذه المنفعة تكون "بقدر ما تجعل هؤلاء الأفراد في مركز يمكنهم من الانتساب إلى الطبقة السائدة" .. فـ "حين قلبت البورجوازية الفرنسية سلطة الأرستقراطية فقد أتاحت بذلك لعدد كبير من البروليتاريين أن يرتفعوا فوق البروليتاريا، لكن بقد ما أصبحوا هم أنفسهم بورجوازيين " [أيوب ص 58 ].
اقرأ : 1- الانقلاب الذي أحدثته البورجوازية أتاح لأفراد من البروليتاريا أن يتحولوا إلى بورجوازيين بمقدار ما يكون لديهم من ميول بورجوازية ، وأحلام بورجوازية. 2- الميول والأحلام الفردية لا تستطيع وحدها تفسير هذه الإزاحة الطبقية. ما يفسر ذلك خاصية البورجوازية التي تميزها عن الأرستقراطية ، وهي أن البورجوازية الحديثة طبقة مفتوحة للجميع ، تستوعب من جهة وتلفظ من الجهة الأخرى. 3- المنفعة التي تقدمها الطبقة المسيطرة الجديدة تكون أكبر بمقدار ما يهجرون ، أو يبتعدون عن طبقاتهم الأصلية أكثر ، أي بمقدار ما يندمجون في الطبقة المسيطرة الجديدة . وهكذا "فإن كل طبقة جديدة إنما تحقق هيمنتها على قاعدة أعرض من قاعدة الطبقة التي كانت سائدة من قبل ، بينما التعارض بين الطبقة التي تسود من الآن فصاعداً والطبقات غير السائدة يتطور بالمقابل بمزيد من الحدة والعمق في وقت لاحق ... وأن كـلا هذين الأمرين (قاعدة أعرض ، تطور الصراع بحدة وعمق) يقرران أن حقيقة الذي يجب أن يشن ضد هذه الطبقة السائدة الجديدة يستهدف بدوره إنكاراً للشروط الاجتماعية السابقة أشد حسماً وجذرية مما كان في قدرة جميع الطبقات السائدة التي سعت إلى الحكم أن تحققه" [أيوب ص 58 ]. إن الوهم القائم على أساس أن سيطرة طبقة معينة سببه سيطرة أفكار معينة ينتهي حالما ينتهي كل شكل طبقي للنظام الاجتماعي . وهذا يفترض أن الأيديولوجيا كأوهام وأفكار زائفة سوف تبقى في مراحل الانتقال من النظام الرأسمالي إلى الاشتراكية. أي طالما البروليتاريا مضطرة لإظهار مصلحتها على أنها المصلحة العامة ، أو مصلحة جميع الطبقات. يكتب ماركس : "إن هذا الوهم بأكمله ، القائم في الاعتقاد بأن سيطرة طبقة معينة إنما هو [ناجم] عن سيطرة أفكار معينة ، ينتهي من تلقاء ذاته بكل تأكيد حالما تكف السيادة الطبقية بصورة عامة عن كونها شكل النظام الاجتماعي .. يعني حالما لا يبقى من الضرورة بمكان بعد الآن تمثيل مصلحة خاصة على أنها مصلحة عامة ...تمثيل مصلحة خاصة ، على الصعيد العملي ، على أنها المصلحة المشتركة للجميع، وعلى الصعيد النظري على أنها المصلحة العمومية".[أيوب ص 58 ] . كنتيجة ، لا يمكن للوهم الأيديولوجي أن يختفي إلا باضمحلال الطبقات وزوالها. وهذه ملاحظة موجهة ضد من يتوهمون نهاية الأيديولوجيات ، أي نهاية الطبقات . أولئك الذين ينظرون إلى أن "العولمة" ما هي إلا هذا الزوال للطبقات وصراعها ، وبالتالي نهاية الأيديولوجيات. في هذا السياق يمكن أن نسمي النزعة الليبرالية الجديدة بـ أيديولوجيا العولمة حسب تعبير للدكتور نايف بلوز ورد في مجلة النهج العدد 22/ ربيع 2000 / ذلك أن هجوم الشركات الاحتكارية الاقتصادي مصفح بهجوم عسكري وأمني من أجل استعادة ما تم فقده من أسواق بعد قيام الثورة الاشتراكية الروسية . ونضيف أن توحيد العالم عولمياً هو توحيد زائف لأنه قائم على تفاوت لا يمكن طمسه . ومن هنا الجانب المضلل في مقولة العولمة .
التصور الذي مفاده أن الأفكار هي التي تسيطر على التاريخ وهي التي تصنعه ناجم أصلاً عن فصل الأفكار السائدة عن الأفراد السائدين وعن العلاقات التي تنجم عن سيادة شكل من أشكال الملكية الخاصة؛ سيادة مرحلة معينة من نمط الإنتاج وهذا يعني : 1- الأوهام والأفكار تسود التاريخ 2- تنظيم هذه السيادة للأفكار وإقامة رابطة صوفية بين الأفكار السائدة المتعاقبة . وهذا ممكن لأن الأفكار مرتبطة ببعضها فعلياً من جراء قاعدتها التجريبية ، وهي فضلاً عن ذلك تصبح تفاضلاً ، تمييزاً يقوم الفكر نفسه به حين يتم تصورها على أنها مجرد أفكار . 3- من أجل التخلص من مظهره الصوفي يتم تحويل هذا المفهوم إلى شخص أو أشخاص (الفلاسفة مثلاً) وهذا ما قامت به فلسفة التاريخ الهيغلية حيث تتخارج الفكرة على مراحل تاريخية من أجل الظهور بمظهر مادي . هكذا تنزع من التاريخ جملة العناصر المادية ، ويحرم من دافعه الذاتي. [راجع الصفحات 58-59 من أيوب ] . يقول ماركس : "إن مؤرخينا يصدقون مزاعم كل عصر عن نفسه ، والأوهام التي يصنعها عن ذاته" [ص 59 ] . هناك مسافة يتوجب ملاحظتها بين ما يزعمه المرء عن نفسه من جهة وبين حقيقته التجريبية من الجهة الأخرى. مسافة بين الأيديولوجي الزائف وبين التجريبي أو الفعلي. إن وهم الأيديولوجيين "ليفسر ببساطة تامة انطلاقاً من مركزهم العملي في الحياة ، ومهنتهم ، و تقسيم العمل " [أيوب ص59، أيضاً ص 64 من الطبعة الإنكليزية ] .
يشير ماركس إلى "الفارق بين أدوات الإنتاج الطبيعية وأدوات الإنتاج التي خلقتها الحضارة ... إن الحقل المزروع (المياه الخ...) يمكن أن يعتبر أداة إنتاج طبيعية " [أيوب ص 60 ] . "بالنسبة إلى أداة العمل الطبيعية ، يخضع الأفراد للطبيعة . أما في الحالة الثانية (الحضارية) فيخضعون لأحد منتجات العمل. في الحالة الأولى [أدوات إنتاج طبيعية] تظهر الملكية وهي الملكية العقارية هنا، على أنها سيطرة مباشرة وطبيعية، وفي الحالة الثانية [الإنتاج الحضاري][4] تظهر هذه الملكية على أنها سيطرة العمل ، وهو هنا العمل المتراكم ، [أي] الرأسمال ... الحالة الأولى [الإنتاج الطبيعي ] تفترض مسبقاً أن الأفراد موحدون برابطة ما ، سواء أكانت العائلة ، أم القبيلة ، أم الأرض بالذات... وتفترض الحالة الثانية أنهم (الأفراد) مستقلون عن بعضهم بعضاً ولا يجمع بينهم إلا المبادلة ". [أيوب ص 60 ] . في الحالة الطبيعية تكون العلاقة مع الطبيعة مباشرة ، بينما في الحالة الحضارية تكون هذه العلاقة موسطة بالمبادلة أي بالسوق سواء أكانت هذه المبادلة عينية، عبر مقايضة منتج بآخر. أو بيع وشراء بواسطة النقود. ظهور السوق يفترض ظهور الانقسام بين العمل العضلي من جهة والعمل الذهني من الجهة الثانية. بالتالي ظهور الأيديولوجيات. في الحالة الطبيعية يهيمن التعامل المباشر بين البشر والطبيعة. بينما يهيمن في الإنتاج الحضاري المبادلة ، مبادلة بين البشر أنفسهم. يكتب ماركس: "في الحالة الأولى ، النشاط الجسدي والنشاط الذهني لم ينفصلا بعد مطلقاً ، أما في الحالة الثانية فإن الانقسام بين العمل الجسدي والعمل الذهني لا بد أن يكون قد اكتمل عملياً بصورة مسبقة ".[5] [أيوب ص 60 ] .
نشير هنا إلى أن السوق توهم بالمساواة بين أفراد ليسوا متساوين أصلاً ، وكذلك تفعل الأيديولوجية الزائفة. حيث تحاول طمس كل من الفروق والتفاوتات والمصالح المختلفة ، وأحياناً المتناقضة منها. يكتب ماركس: "في الحالة الأولى يمكن لسيادة الملاك على غير الملاكين أن ترتكز على علاقات شخصية ، على نوع من الجماعية. أما في الحالة الثانية فلا بد أن تكون [هذه السيادة] قد اتخذت شكلاً مادياً ، وتتجسد في الطرف الثالث وهو المال(النقود) " [أيوب ص 60 ]. "في الحالة الأولى تكون الصناعة الصغرى موجودة لكنها خاضعة لاستخدام أداة الإنتاج الطبيعية (الأرض، المياه ، الخ..) فهي لا تحتاج إلى مهارات كبيرة، بالتالي تفتقر إلى توزيع العمل بين الأفراد".. أما في الحالة الثانية (الحضارية) فلا وجود للصناعة إلا في تقسيم العمل ، ولأغراض هذا التقسيم" [أيوب ص 60 ] .
اقرأ : في الحالة الحضارية، ومع ظهور الملكي الخاصة ، لا وجود للصناعة إلا في تقسيم العمل ولأغراض هذا التقسيم. أي تكون غاية الصناعة خدمة هذا الشكل من تقسيم العمل وبالتالي خدمة شكل محدد من الملكية الخاصة. في مرحلة متقدمة ، ومع ظهور الصناعة الكبيرة البورجوازية تدخل هذه الصناعة في تناقض مع الملكية الخاصة كملكية خاصة ، أي يغدو شكل تقسيم العمل السائد عقبة أمام تقدم الصناعة المطرد على المستوى العالمي . أي يتركز هذا التقدم في أقطار قليلة ، بينما يترك معظم أقطار العالم في حالة تأخر صناعي . كما يخضع التصنيع في الأقطار المتقدمة صناعياً لغايات عسكرية ، بالتالي يتم تشويه هذا التصنيع . وهو بطبيعة الحال وبحكم شكل توجيهه مضر بالبيئة الطبيعية للأرض لأنه تصنيع جشع، غير إنساني.
"لقد انطلقنا حتى الآن من أدوات الإنتاج فتبينت هنا ضرورة الملكية الخاصة في درجات معينة من التطور الصناعي وفي "industrie extractive" (الصناعة الاستخراجية ) [6] لا تزال الملكية الخاصة تتطابق كلياً مع العمل [الفرد يملك أدوات عمله] ، والملكية في الصناعة الصغيرة وكذلك في الزراعة حتى الآن في كل مكان هي عاقبة ضرورية لأدوات الإنتاج الموجودة [بما فيها الأرض والمياه].
في الصناعة الكبيرة يبرز التناقض بين أداة الإنتاج والملكية الخاصة ، للمرة الأولى بوصفه نتاجاً خاصاً لهذه الصناعة لا بد لها ، من أجل إنتاجه ، [إنتاج هذا التناقض ] بين أداة الإنتاج والملكية الخاصة ، أن تبلغ [الصناعة الكبرى] درجة عالية من التطور . وهكذا لا يصبح القضاء على الملكية الخاصة ممكناً إلا مع تطور الصناعة الكبيرة " [ترجمة دار التقدم ، الياس شاهين 1988 ص 152-153 . وسوف نشير إلى هذه الترجمة بـ التقدم ] . مع تطور الصناعة الكبيرة إلى درجة كبيرة يصبح القضاء على الملكية الخاصة ممكناً ووارداً . مع الأخذ بالاعتبار أن هذا الأمر مطروح مع هذا التطور على أساس عالمي ، على أساس أعلى درجة وصلت إليها قوى الإنتاج العالمية . بالتالي بات الطريق مفتوحاً لتحطيم الملكية الخاصة حتى في أطراف النظام الرأسمالي. نشير هنا إلى خطأ مؤسف وقع في ترجمة فؤاد أيوب جاء في الترجمة: "لقد انطلقنا حتى الآن من أدوات الإنتاج وكانت ضرورة الملكية الخاصة لبعض المراحل الصناعية واضحة سلفاً في هذه الحالة . أما في الصناعة الاستخراجية ، فإن الملكية الخاصة تتطابق كلياً بعد مع العمل ، لقد كانت الملكية في الصناعة الصغرى وفي كل الزراعة حتى الآن ، النتيجة الضرورية لأدوات العمل المتوفرة ، أما في الصناعة الكبرى ، فإن التناقض بين أداة العمل والملكية الخاصة ليس سوى نتاج هذه الصناعة التي لا بد أن تكون حققت شوطاً كبيراً من التطور كي تستطيع خلقه [خلق هذا التناقض] . ونتيجة ذلك فإن إلغاء قانون الملكية الخاصة غير ممكن أيضاً إلا مع إلغاء الصناعة الكبرى" . [أيوب ص 61] نقارن هنا بين عبارات من الترجمتين:
ترجمة أيوب : "إن إلغاء قانون الملكية الخاصة غير ممكن إلا مع إلغاء الصناعة الكبرى ". ص 61
ترجمة دار التقدم : "هكذا لا يصبح القضاء على الملكية الخاصة ممكناً إلا مع تطور الصناعة الكبيرة " . ص 153
الشيوعية في ترجمة أيوب غير ممكنة عملياً إلا بإلغاء الملكية الخاصة، وبالتالي إلغاء الصناعة الكبيرة .ترجمة فاسدة ، ونتيجة مهولة. في ترجمة دار التقدم ، الشيوعية غير ممكنة من حيث هي القضاء العملي ، التجريبي، على الملكية الخاصة جوهرياً إلا مع التطور الكبير للصناعة الكبيرة .
يجب أن نميز التناقض بين قوى الإنتاج وبين شكل التعامل ، التناقض بين قوى الإنتاج وبين شكل معين من أشكال تقسيم العمل ، وبالتالي تناقض مع شكل معين من أشكال الملكية الخاصة من جهة أولى ، وبين التناقض بين أداة الإنتاج والملكية الخاصة من حيث هي ملكية خاصة ، بغض النظر عن شكلها. وهذا التناقض الأخير لا يظهر إلا مع تطور كبير للصناعة الكبيرة، إلا مع تطور البورجوازية الصناعية الحديثة، وتعميم المزاحمة . ولا يكون بالتالي القضاء على الملكية الخاصة جوهرياً ، كملكية خاصة ، وبغض النظر عن شكلها ، إلا مع هذا التطور.
الأساس الواقعي للأيديولوجيا هو "التعامل والقوى المنتجة" . يكتب ماركس : "إن التقسيم الأكبر للعمل المادي[7] والذهني هو انفصال المدينة والريف . فالتعارض بين المدينة والريف يظهر مع الانتقال من الهمجية[8] إلى الحضارة، من التنظيم القبلي إلى الدولة ، من الإقليمية إلى الأمة[9] . ويستمر عبر تاريخ الحضارة بأكمله حتى أيامنا الحاضرة " [أيوب ص 61 ]. قارن هذا الانتقال من المحدودية المحلية إلى الأمة مع انتقال قريش من التنظيم القبلي إلى الجماعة السياســـية، الأمة- الدولة على أثر الانقلاب المحمدي. راجع بهذا الخصوص كتاب خليل عبد الكريم : "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية " دار سينا 1993 . وأيضاً كتاب "حروب دولة الرسول " لـ "سيد القمني" في جزأين. في المدينة "ظهر للمرة الأولى انقسام السكان إلى طبقتين كبيرتين ، وهو انقسام يعتمد بصورة مباشرة على تقسيم العمل وأدوات الإنتاج. وإن المدينة إذن هي نتيجة تمركز السكان ، والرأسمال ، والملذات، والحاجات، بينما يثبت الريف الحقيقة المضادة تماماً ، أي العزلة والتشتت. " [أيوب ص 61 ]. ..لا يمكن أن يكون التضاد بين المدينة والريف وجود إلا ضمن إطار الملكية الخاصة ، وهو [التضاد] يشكل التعبير الأشد جلاء عن خضوع الفرد لتقسيم العمل ، خضوعه لنشاط معين مفروض عليه" [أيوب ص 61 ]. إذاً لا وجود لهذا التضاد من دون وجود تقسيم للعمل قسري يفترض وجود الملكية الخاصة . وما دام تقسيم العمل المفروض على الأفراد قائماً فهذا معناه أن الملكية الخاصة ما تزال قائمة هنا.العمل ضمن هذا التقسيم يعيد إنتاج الملكية الخاصة ، أي يعيد إنتاج الاستغلال ، ويكرس تفوت توزيع الثروة المادية . تقسيم العمل المفروض يشكل قوة فوق الأفراد، فوق إرادتهم.
يكتب ماركس "إن العمل[10] هو الشيء الرئيسي هنا، السلطان على الأفراد، وما دام لهذا السلطان وجود فلا بد من وجود الملكية الخاصة " [أيوب ص61 ]. نقرن هذه العبارة مع ترجمة "التقدم" : "إن العمل هو الأهم هنا أيضاً ، وهو تلك القوة التي تقف فوق الأفراد. وما دامت هذه القوة موجودة ، فلا بد أن تظل الملكية الخاصة قائمة " [دار التقدم ص 153]. العمل في شروط تقسيم للعمل مفروض على الأفراد . هذا التقسيم الذي هو نتيجة عمل متراكم . هو أيضاً مفروض على الأفراد، فوق الأفراد. ووجود هذا التقسيم للعمل يعني بالضرورة وجود الملكية الخاصة . أليست الملكية الخاصة هي توزيع نتيجة العمل . وتقسيم العمل هو توزيع للفعالية في العمل وفق مصلحة الملكية الخاصة نفسها. أي مصلحة إعادة إنتاج هذا التوزيع لنتيجة العمل . "وأنه ليمكن فهم الانفصال بين المدينة والريف كذلك على أنه انفصال رأس المال عن الملكية العقارية ، على أنه بداية وجود ونمو رأس المال بصورة مستقلة عن الملكية العقارية . بداية ملكية يقوم أساسها على العمل labour والمبادلة وحدهما " [أيوب ص 62 ]. وردت العبارة المشدد عليها بالخط في ترجمة "التقدم" كالتالي: "انفصالاً للرأسمال عن ملكية الأرض وبداية لوجود وتطور الرأسمال المستقلين عن ملكية الأرض، أي لوجود وتطور الملكية القائمة على العمل labour والتبادل فقط " [التقدم ص 154]. مع هذا الانقسام بين المدينة والريف يكون التاريخ قد أنجز تفوقه وهيمنته على الجغرافيا، وتكون الحضارة قد هيمنت على الطبيعة. وإذا استطردنا أكثر نقول إن الثقافة هي فعل التاريخ في الجغرافيا ، وفعل التربية في الطبيعة البكر للإنسان. "فعلى امتداد القرون الوسطى كلها ، استمر هرب الأقنان [11] إلى المدن towns بلا انقطاع " [التقدم ص 154 ]. تقول ترجمة أيوب "إن هجرة الأرقاء إلى المدن قد استمرت دونما انقطاع عبر العصر الوسيط بأكمله " [أيوب ص62 ].
نقارن هنا نماذج من الترجمتين لتبيان الفرو قات ، وهذا مثال: "إن حاجة المدن إلى المياومة قد خلقت العامة" [التقدم ص 155 ]. وردت العبارة في ترجمة أيوب كما يلي: "إن الحاجة إلى الشغيلة المياومين [12] في المدن قد خلقت الغوغاء [13] " [أيوب ص 62 ].
"إن الانتفاضات العظمى في العصر الوسيط قد انطلقت جميعاً من الريف country ، لكن الإخفاق كان من نصيبها جميعاً منه جراء عزلة الفلاحين [14]، وما يترتب على هذه العزلة من جهالة [15] " [أيوب ص63 ] . ترد هذه العبارة في ترجمة دار التقدم كالتـــــالي : " إن جميع الانتفاضات الكبيرة في القرون الوسطى كانت تنطلق من الريف، ولكنها هي أيضاً كانت لا تسفر عن أية نتيجة نظراً لتشتت الفلاحين والتخلف الأقصى المقترن به " [التقدم ص 155]. لمزيد من التفاصيل حول هذه الانتفاضات، راجع كتاب انجلز "حرب الفلاحين في ألمانيا " .
"إن المبادلات المحدودة والمواصلات الهزيلة بين المدن المفردة ، ونقص السكان وضيق الحاجات ، لم تشجع كذلك على قيام تقسيم أعلى من العمل" [أيوب ص 63] فقد بقي تقسيم العمل بين النقابات الحرفية. "لذا كان على كل امرئ راغب في أن يصبح معلماً أن يكون بارعاً كل البراعة في حرفته برمتها. ومن هنا يصادف لدى الحرفيين الوسيطين(في العصر الوسيط) اهتمام في عملهم الخصوصي وفي البراعة فيه يمكن أن يرتفع إلى بعض الحس الفني الضيق ... لهذا السبب بالضبط، كان كل حرفي وسيطي منصرفاً كل الانصراف إلى عمله الذي كانت تربطه به علاقة استعباد عاطفية ، والذي كانت تبعيته حياله تفوق حتى درجة كبيرة تبعية العامل الحديث الذي يتخذ من عمله موقف اللامبالاة " [أيوب ص 63]. هذه الفقرة غير موجودة في ترجمة دار التقدم.
"كان الرأسمال في المدن الحرفية (الوسيطة) رأسمالاً طبيعياً (مسكن، أدوات الحرفة، والزبائن العاديين الموروثين) كان ملكاً غير قابل للتحقيق .. لقد كان هذا الرأسمال ، بصورة مغايرة للرأسمال الحديث الذي يمكن تقديره بالمال والذي يمكن توظيفه لا على التعيين في هذا المجال أو ذاك، مرتبطاً بصورة مباشرة بعمل صاحبه الخاص ، غير منفصل عنه ، وضمن هذه الحدود رأسمالاً مرتبط بطبقة [طبقة مراتبية منغلقة caste] " [التقدم ص 156]. ما تزال التجارة والإنتاج بالمعنى الضيق غير منفصلين. ما يزال رأس المال غير قادر على التحرر من العمل إذا جاز القول، وغير قادر على التحرر من الأدوات المجسد بها. نشير هنا إلى المصطلح الإنكليزي class والذي يشير إلى الطبقة المنفتحة ؛ إلى البورجوازية. حيث يمكن الانتقال منها ، وإليها، بالتالي فهي طبقة مربية، حيث يلعب الوعي السياسي دوراً أكبر من ذي قبل، حيث كانت الطبقة أو الطوائف الاجتماعية caste طبقات منغلقة ، بحيث يكون الانتقال من طبقة إلى أخرى متعذراً .
ننقل عن ترجمة دار التقدم الفقرة التالية : "إن عملية التوسيع التالية التي طرأت على تقسيم العمل قد تلخصت في انفصال التجارة عن الإنتاج [بالمعنى الضيق للكلمة] [16] ، في نشوء طبقة متميزة هي طبقة التجار... وبذلك نشأت إمكانية العلاقة التجارية التي تخطت حدود أقرب دائرة " [التقدم ص 157]. "لقد أعطيت مع هذا الانفصال إمكانية الاتصالات التجارية التي تتجاوز المحيط المباشر(للمدينة الوسيطة) ، وهي إمكانية كان تحقيقها رهناً بوسائط المواصلات القائمة، وبحالة الأمن العام في الأرياف، المحددة هي نفسها بالشروط السياسية (كان التجار يسافرون كما هو معروف، طوال العصر الوسيط في قوافل مسلحة) وبحاجات المنطقة المفتوحة للتعامل وهي الحاجات التي كانت تعين ،في كل حالة، بمستوى الحضارة الذي تم بلوغه" [أيوب ص 64 ]. لاحظ هنا أن انفصال الإنتاج بالمعنى المباشر للكلمة عن التجارة دفع تقسيم العمل خطوة كبيرة إلى الأمام ، وأعطى إمكانية مزيد من الاتصال. أيضاً ، قارن عبارات الفقرة السابقة مع حالة قوافل قريش التجارية قبيل ظهور الدعوة المحمدية، وكيف كانت تتم حماية القوافل التجارية من قبل قوافل مسلحة، كانت المؤشر التاريخي على ضرورة قيام دولة العرب تحت هيمنة إسلامية . وعلينا في هذا السياق أن ، وعند دراسة هذا الانتقال من التنظيم القبلي العربي إلى الدولة[من القبيلة[17] إلى الجماعة السياسية] أن نقيِّم الحالة الحضارية في اليمن والشام وفارس، وأيضاً عند الرومان أثناء الانقلاب المحمدي. "ومع التجارة التي كانت امتيازاً لطبقة خاصة ... سرعان ما يستدعي الانفصال بين الإنتاج والتجارة تقسيماً جديداً للإنتاج بين المدن المختلفة التي ما أسرع ما تستغل كل مدينة منها فرعاً من الصناعة. وتأخذ القيود المحلية للأزمان السابقة في الانحلال بصورة تدريجية " [أيوب ص 64 ]. "في العصر الوسيط كان المواطنون في كل مدينة ملزمين بالاتحاد ضد النبالة العقارية إنقاذاً لجلودهم . وقد أدى امتداد التجارة وإنشاء المواصلات بكل مدينة إلى التعرف إلى مدن أخرى دافعت عن ذات المصالح في النضال ضد الخصم نفسه. . ولم تنشأ الطبقة البورجوازية إلا بصورة تدريجية انطلاقاً من البورجوازيات المحلية العديدة لمختلف المدن . ولقد أصبحت الشروط الحياتية للبورجوازيين الفرادى ، من جراء تناقضها مع العلاقات القائمة ومن جراء نمط العمل المقرر بفعل هذه العلاقات[بفعل علاقات الملكية الإقطاعية] شروطاً مشتركة بينهم جميعاً ومستقلة عن كل فرد على حدة " [أيوب ص 64 ]. . يكتب ماركس: "إن البورجوازيين قد خلقوا هذه الشروط بقدر ما تحرروا بالقوة من القيود الإقطاعية " [أيوب ص ]
اقرأ : تناقض الشروط الحياتية للبورجوازيين الأفراد في المدن الوسيطة المختلفة مع العلاقات الإقطاعية السائدة ، والتي هي في جوهرها علاقات ملكية خاصة إقطاعية. إن شكل تقسيم العمل المفروض عليهم كأفراد وبالتالي شكل الملكية الخاصة السائد يجمعهم ويوحدهم . أي لم يعد تقسيم العمل الإقطاعي ، وعلاقات الملكية الإقطاعية يتناسب مع القوة الجديدة ومع حجم الثروة المتراكمة لدى هؤلاء الأفراد البورجوازيين . لذلك سوف يعمل هؤلاء الذين وحدتهم هذه الشروط الحياتية وأعطتهم هوية جديدة، والذين وحدهم هذا التناقض الجماعي مع علاقات الملكية الإقطاعية ، وبالتالي مع تقسيم العمل الإقطاعي . سوف يعمل هؤلاء كأفراد متحدين ، وكطبقة مع تنامي وعيهم بهويتهم ومصالحهم المشتركة.
لهذه الأسباب ، وبفعل الشروط الموحدة الجديدة ، راح هؤلاء الأفراد يشكلون طبقة ، وبالتالي باتوا قوة ثورية؛ تغييريه بالقوة. أي باتوا الطبقة التي تحمل أو ترفع أية راية تغيير .وأي تعبير نظري عن هذا الوضع الجديد لن يكون في آخر تحليل ، سوى التعبير السياسي عن المصالح الاجتماعية لهذه الطبقة الوليدة. وبمقدار ما يعي البورجوازيون هذا التناقض في المصالح ، ووعي جماعية هذه المصالح، بمقدار ما يعمقوا شروط تحررهم من العلاقات السائدة . إن الوعي بالمصلحة الجماعي الواحدة يرفع عتبة هذا التضاد ويعطي هويتهم كطبقة مزيداً من الوضوح والفاعلية . يقول ماركس : "هذه الشروط خلقتهم بمقدار ما كان يقررها تضاد هم مع النظام الإقطاعي الذي وجدوه قائماً " [أيوب ص 64 ].
"مع الارتباط مع المدن المختلفة، تحولت هذه الشروط المشتركة إلى شروط طبقية " [أيوب ص 65 ].
اقرأ : 1- تناقض الشروط الحياتية للبورجوازيين الأفراد مع العلاقات الإقطاعية القائمة ، تناقض مع تقسيم العمل الإقطاعي وشكل الملكية الإقطاعية السائد.
2-هذا التناقض مع العلاقات القائمة ومع تقسيم العمل المفروض خلق لدى هؤلاء الأفراد شروطاً حياتية مشتركة وحدت مصالحهم كأفراد وأضحت فوقهم ومع الارتباط بين المدن towns تحولت هذه الشروط الفردية إلى شروط طبقية.
لكن ، بقدر ما كان وعيهم كأفراد يرتقي بهذه المصالح المشتركة وهذا التناقض مع العلاقات القائمة، بقدر ما كانوا يساهمون في خلق هذه الشروط من جديد ، بالتالي بقدر ما يدفعون بتحررهم من هذه العلاقات نحو الأمام .
"إن البورجوازية بالذات لا تنمو إلا بصورة تدريجية في ذات الوقت مع شروطها الخاصة [شروط إنتاجها ونضالها] وتنشق وفقاً لتقسيم العمل إلى فئات متعددة ، وتمتص أخيراً جميع الطبقات المالكة التي تصادفها قائمة . بينما تحول غالبية الطبقات غير المالكة السابقة وقسما من الطبقات المالكة حتى ذلك الحين إلى طبقة جديدة هي البروليتاريا بالقدر الذي تتحول وفقاً له كل الملكية القائمة إلى رأسمال صناعي أو تجاري [رأسمال بورجوازي] " [أيوب ص 65 ]. أيضاً ، تمتص البورجوازية بادئ ذي بدء فروع العمل التي تخص الدولة بصورة مباشرة، ومن بعد جميع (أكثر أو أقل) الفئات الأيديولوجية .
"إن مختلف الأفراد لا يشكلون طبقة إلا بقدر ما يتوجب عليهم أن يخوضوا معركة مشتركة ضد طبقة أخرى . وفيما عدا ذلك فهم [كأفراد] في حالة عداء متبادل في المزاحمة " [18] [أيوب ص65 ].
اقرأ : بقدر ما يتوجب على الأفراد : بقدر ما يدخلون في شروط حياتية مشتركة، وبقدر ما يجعلهم تقسيم العمل وشكل الملكية السائد أصحاب مصلحة مشتركة ، وبقدر ما يدخلهم هذا التقسيم وهذه الشروط الحياتية في تناقض مع العلاقات القائمة، بقدر ما يشكلون طبقة. وبقدر ما يدركون ويعون هذه المصلحة المشتركة ، بقدر ما يعيدون خلقها ودفعها نحو الأمام ، بقدر ما يخلقون أيضاً ، شروط تحررهم .
"من جهة أخرى ، فإن الطبقة بدورها تحقق وجوداً مستقلاً إزاء الأفراد. بحيث يجد هؤلاء الأفراد أن شروط وجودهم مقررة سلفاً، وبالتالي فإن مركزهم في الحياة وتطورهم الشخصي معينان لهم من قبل طبقتهم . فيصبحون مصنفين في عدادها. وتلك هي نفس ظاهرة خضوع الأفراد المنعزلين لتقسيم العمل ، ولا يمكن الخلاص منها إلا بإلغاء الملكية الخاصة والعمل[القسري] نفسه " [أيوب ص65 ]. نشير هنا إلى أن إلغاء العمل نفسه يعني إلغاء العمل الإلزامي، القسري الذي يخضع فيه العامل لتقسيم للعمل مفروض سلفاً يحدده شكل الملكية الخاصة المهيمن.
"لقد أشرنا من قبل مرات عديدة إلى الكيفية التي يؤدي بها خضوع الأفراد للطبقة إلى خضوعهم في الوقت ذاته لمختلف أنواع الأفكار، الخ.." [أيوب ص 65]
"لا يكون بقاء القوة المنتجة المكتسبة مضموناً إلا حين تصبح التجارة عالمية وتكون الصناعة الكبيرة أساساً لها . وحين تكون الأمم جميعاً قد انجرفت في صراع المزاحمة " [أيوب ص 66] . "كانت العاقبة الأولى لتقسيم العمل بين المدن المختلفة قيام المانيفاكتورات ، هذه الفروع للإنتاج التي أفلتت من نظام النقابات الحرفية " [أيوب ص 66]. . إن الحياكة التي كان الفلاحون يمارسونها حتى ذلك الحين في الأرياف على هامش عملهم في سبيل توفير ملبسهم، قد كانت سباقة إلى الانطلاق وإلى تحقيق تطور واسع بفضل امتداد التجارة " [أيوب ص66] . لا حظ أن فروع الإنتاج الهامشية في الأرياف ، والتي أفلتت من نظام النقابات الحرفية في المدن هي التي كانت تحمل بذور تطور أكبر، خاصة مع استعمالها للآلة حتى في حدودها الدنيا.ذلك أن "القيود الناشئة عن نظام الطوائف والمفروضة على الإنتاج في المدن – أي البنيان الفوقي الإقطاعي الملكي بأسره- كانت عقبات في طريق استمرار تطور الإنتاج الرأسمالي" [أوسكار لانكه ، مسائل الاقتصاد السياسي للاشتراكية دار الحقيقة ط2 1982 ص 29 فصل : المسائل الأساسية للبناء الاشتراكي ] .
" "كانت التجارة مع الأمم الأجنبية الشرط التاريخي المسبق لهذا الازدهار" [أيوب 66] . امتداد التجارة مع الأمم الأخرى واتساع المشاغل.
"إضافة للفروع الهامشية للإنتاج وتقسيم العمل بين المدن والتجارة مع الأمم الأجنبية ، فإن المانيفاكتورة مرهونة (مشروطة) بتمركز متقدم سلفاً للسكان – بصورة خاصة في الأرياف- وبالرأسمال الذي جعل يتراكم في عدد قليل من الأيدي ، في النقابات الحرفية جزئياً بالرغم من التنظيمات الإدارية ولدى التجار جزئياً " [أيوب 66 ]. اقرأ : شروط ازدهار المانيفاكتورة : 1- تمركز مسبق للسـكان في الأرياف 2- تمركز الرأسمال بأيدي عدد قليل من الأفراد في النقابات الحرفية بالرغم من التنظيمات الإدارية ، وفي أيدي التجار. 3- هامشية الإنتاج الحرفي في الريف وتفلته من القيود النقابية 4- تقسيم العمل بين المدن 5- التجارة مع الأمم الأخرى .
"إن ذلك العمل الذي كان يفترض منذ البداية آلة ، حتى الآلة الأكثر بدائية ، سرعان ما أثبت أنه العمل الأكثر قابلية للتطور " [أيوب 66]... مع المانيفاكتورة المتحررة من النقابة الحرفية تبدلت علاقات الملكية سريعاً أيضاً . ولقد تحققت الخطوة الأولى على طريق تجاوز الرأسمال البدائي المرتبط بطبقة بفضل قيام التجار الذين كان رأسمالهم منقولاً منذ البداية ، وهو إذاً رأسمالاً بالمعنى الحديث بقدر ما يستطيع المرء أن يتحدث عنه إذا ما أخذت تلك الأزمان بعين الاعتبار" [أيوب 67]. لاحظ : النقابة الحرفية وعلاقتها بالملكية غير المنقولة للمراتب أو الطبقات المغلقة caste . جاء في ترجمة "التقدم" للعبارات السالفة الذكر كالتالي: "... الرأسمال المراتبيّ المتكون بصورة طبيعية ... الرأسمال المنقول بالقياس إلى .. الرأسمال المتكون بصورة طبيعية " [التقدم 159]. إمكانية نقل الرأسمال التجاري دفع علاقات الملكية نحو الأمام . يشترك الرأسمال التجاري مع الرأسمال الحديث الصناعي والمالي (البنكي) بصفة جوهرية هي إمكانية نقل هذا الرأسمال . بالتالي لم يعد هذا الرأسمال ملتصقاً بمرتبة أو طبقة مغلقة . وهكذا تحولت مع الرأسمال التجاري أولاً ، ومن ثم مع الرأسمال الصناعي الحديث الطبقة من طبقة مغلقة أو مرتبة caste إلى طبقة حديثة مفتوحة لجميع الفئات والطبقات الأخرى ، إلى class .
"مبلغ الارتباط الوثيق بين هذا التشرد [القرن الثالث عشر حتى بداية القرن السادس عشر] وانحلال النظام الإقطاعي " [أيوب 67] . إن النهوض السريع للمانيفاكتورة ، وعلى الأخص في إنكلترا ، قد امتصهم [المشردين] بصورة تدريجية " [أيوب 67]. "مع قيام المانيفاكتورة، وضعت الأمم المختلفة في علاقات مزاحمة، وانخرطت في صراع تجاري ، هذا الصراع الذي احتدم بواسطة حروب ، وحماية جمركية ، وحظر الاستيراد، بينما كانت الأمم فيما مضى ، بقدر ما كانت تنشأ أية رابطة فيما بينها ، تقوم بمبادلة غير مؤذية فيما بينها. لقد بات للتجارة من الآن فصاعداً مغزى سياسي " [أيوب 67 ]. المزاحمة التجارية وتقسيم العمل الدولي حيث بات رأس المال التجاري منخرطاً في الصراع السياسي بين الأمم .
"مع قيام المانيفاكتورة تبدلت العلاقة بين العامل ورب العمل. إن العلاقة الرعوية [بطريركية (أبوية) في ترجمة I][19] بين العامل الحاذق والمعلم [بين الصناع والمعلم ترجمة I ] قد استمرت في النقابات الحرفية [الطوائف الحرفية ترجمةI ] ؛ أما في المانيفاكتورة ، فقد حلت مكانها العلاقة النقدية بين العامل والرأسمال " [ترجمةII ص67] . المانيفاكتورة وبداية انحلال العلاقات العاطفية في العمل ؛ انحلال المراتبية والامتيازات ، وانفتاح الطبقة البورجوازية الحديثة . تظهر النقود في هذه المرحلة كوسيط في التعامل بدل العاطفة والامتياز . هكذا تنفصل القيمة التبادلية عن البشر الذين أنتجوها . تلقت المانيفاكتورة وحركة الإنتاج بصورة عامة انتفاضة هائلة من جراء امتداد التجارة الذي تحقق مع اكتشاف أميركا والطريق البحرية إلى جزر الهند الشرقية" [ترجمة II ص68] .
اقرأ : انتفاضة هائلة لحركة الإنتاج وتعزيز للرأسمال التجاري بفعل اكتشاف قوى إنتاج طبيعية جديدة ، مثل اكتشاف أميركا(أراض جديدة) والطريق البحرية إلى جزر الهند الشرقية . لم تدخل هذه القوة الإنتاجية في تعارض مع رأس المال التجاري وشكل الملكية الجديدة ، على العكس ، أدى ذلك إلى امتداد التجارة وتوسع رأس المال المنقول (التجاري) . هكذا خلق امتداد التجارة إمكانية قيام سوق عالمية ، ووجه في ذات الوقت صفعة شديدة إلى الملكية العقارية الإقطاعية. يكتب ماركس : "إن المنتجات الجديدة المستوردة من هناك [من أميركا والهند الشرقية] ، وبصورة خاصة كتل الذهب والفضة التي دخلت التداول ، قد بدلت تبديلاً كاملاً مركز الطبقات حيال بعضها بعضاً، ووجهت صفعة شديدة إلى الملكية العقارية الإقطاعية . وإن حملات المغامرين والاستعمار ، وفي المحل الأول اتساع الأسواق إلى سوق عالمية باتت ممكنة الآن ، وكانت تتحول أكثر فأكثر إلى حقيقة واقعة كل يوم، قد أثارت طوراً جديداً من التطور التاريخي... إن صراع الأمم التجاري فيما بينها قد أعطي بفضل استعمار البلدان المكتشفة حديثاً، غذاءً جديداً ، وبالتالي امتداداً أكبر وحدة أعظم" [ترجمة II ص 68] .
استعمار البلدان يعني ملكيتها من قبل أمم أخرى.
ترجمة I : "إن المانيفاكتورة وكل تطور الإنتاج على العموم قد بلغا مستوى رفيعاً جداً بفضل توسيع[اتساع expansion] التجارة الذي استتبعه اكتشاف أميركا والطريق البحرية إلى الهند الشرقية " [ص 161]
الترجمة II :
"تلقت المانيفاكتورة وحركة الإنتاج بصورة عامة انتفاضة هائلة من جراء امتداد التجارة الذي تحقق مع اكتشاف أميركا والطرق البحرية إلى جزر الهند الشرقية" [ص68]
الترجمة I : "توسيع التجارة استتبعه اكتشاف أميركا.." . الترجمة II : "امتداد التجارة ..تحقق مع اكتشاف أميركا..". لاحظ الفرق بين الترجمتين مع صحة الثانية وخطأ الأولى ، ذلك أن اكتشاف أميركا والطريق البحرية إلى الهند الشرقية أعطى دفعاً قوياً للتجارة العالمية . ما من شك أن توسيع التجارة ، والطموح التجاري قد دفع الأوربيين نحو استكشاف مناطق جديدة . لكن هذا الطموح والتوسع لم يبلغ طوراً كبيراً (لم يتحقق) إلا مع اكتشاف أميركا والطريق البحرية إلى الهند الشرقية . بكلام آخر : دفع ظهور المانيفاكتورة الإنتاج نحو طموح تجاري أكبر أدى بدوره إلى اكتشاف قوى إنتاج طبيعية جديدة [أميركا والطريق البحري] هذا الاكتشاف وسع السوق العالمية ، مما انعكس على المانيفاكتورة دافعاً إياها نحو الأمام . وإذ عجزت المانيفاكتورة عن تلبية حاجات السوق الجديدة خلقت الإمكانية لظهور الصناعة الكبيرة. يكتب ماركس : "عجل اتساع التجارة و المانيفاكتورة في تراكم الرأسمال المنقول ، بينما ظل الرأسمال البدائي(الطبيعي المراتبيّ غير القابل للنقل) جامداً [تحميه "أعراف وقوانين" النقابات الحرفية ] أو تعرض للتدهور أيضاً في النقابات الحرفية " [ترجمة II ص68] ... إن التجارة و المانيفاكتورة قد خلقت البورجوازية الكبيرة ... من هنا كان انحطاط النقابات (الطوائف الحرفية) حالما دخلت في احتكاك مع المانيفاكتورات" [ترجمة II ص 68 ] . "إن الامتياز النقابي المحلي ، في هذه المحظورات الأصلية قد اتسع بحيث شمل الأمة بأسرها. ولقد نشأت الرسوم الجمركية مع تلك الجزيات التي كان السادة الإقطاعيون يبتزونها من التجار الذين يعبرون أراضيهم على أنها [فدية] للحماية من السرقة، وهي جِزْيات فرضتها كذلك المدن في وقت لاحق، وكانت أفضل وسيلة لتحصيل المال بالنسبة إلى الخزينة مع قيام الدول الحديثة " [ترجمة II ص68-69].
"بدأت المرحلة الثانية في منتصف القرن السابع عشر واستمرت حتى أواخر القرن الثامن عشر على وجه التقريب .. كانت التجارة والملاحة قد اتسعتا بصورة أسرع من اتساع المانيفاكتورة التي كانت تلعب دوراً ثانوياً ، وكانت المستعمرات قد بدأت تتحول إلى مستهلكين هائلين . ولقد تقاسمت الأمم المختلفة فيما بينها ، بعد صراعات طويلة السوق العالمية المفتوحة " [ترجمة II ص69] [بسبيل الانفتاح ، ترجمة I ص162]. لقد بدأت هذه المرحلة مع قوانين الملاحة والاحتكارات الاستعمارية" [ترجمة II ص69][20] .
أدت العوامل التالية إلى نهوض البورجوازية : 1- ظهور الذهب والفضة الأميركيين في الأسواق الأوربية 2- تطور الصناعة التدريجي 3- اتساع التجارة. [ترجمة I ص162 ، ترجمةI ص69] . سوف يخلق هذا التفاوت بين إيقاع سرعة توسع التجارة من جهة ، وبين إيقاع المانيفاكتورة من الجهة الأخرى الصناعة ، ويدفع أكثر باتجاه الصناعة الكبيرة . "إن الأمة الإنكليزية ، وهي الأمة البحرية الأقوى ، قد احتفظت بالتفوق على صعيد التجارة والمانيفاكتورة . وإننا لنصادف هاهنا ، منذ ذلك الحين ، التمركز[الرأسمالي] في بلد واحد " [ترجمة II 69] . هذا التفاوت في تمركز الرأسمال في الأقطار الرأسمالية هو سمة مستمرة ، ويتعاظم مع المرحلة الاحتكارية الإمبريالية الجديدة . يكتب لينين في كتابه "الإمبريالية.." : "إن أقاويل كاوتسكي عما فوق الإمبريالية .. الخالية من كل معنى ، تشجع الفكرة المغلوطة ، .. القائلة بأن سيطرة الرأسمال المالي[رأس المال الاحتكاري] تضعف التفاوت والتناقضات في داخل الاقتصاد العالمي ، في حين أنها تشددها في الواقع " [الإمبريالية ص127] .
"من الطبيعي أن الأمة المهيمنة في التجارة البحرية والقوة الاستعمارية قد ضمنت لنفسها كذلك أكبر توسع كمي وكيفي للمانيفاكتورة " [ترجمة II ص70 ]. "لم يكن في مقدور المانيفاكتورة الاستغناء مطلقاً عن الحماية ما دام في الإمكان أن تفقد سوقها وتتعرض للدمار لأتفه تبدل يحدث في البلدان الأخرى : ذلك أنه كان في الإمكان في شروط ملائمة حتى درجة ما ، إدخالها بكل سهولة إلى بلد ما ، لكنه في الإمكان تدميرها بكل سهولة للسبب عينه" [ترجمة II ص70]. لاحظ حاجة المانيفاكتورة للحماية ، نظراً لسهولة تدميرها أو نقلها إلى بلدان أخرى ، مقارنة بالصناعة الهندسية والنيترونية في العصر الإمبريالي. لقد باتت المراكــز المتر وبولية عقبة فعلية في طريق أي تصنيع عضوي هندسي ونيتروني. نظراً لتبلور تقسيم صارم للعمل الدولي. نشير هنا إلى ملاحظة ضعف الحرف عند عرب شبه الجزيرة العربية ، وغياب المانيفاكتورة . حيث اقتصرت على هرب الجنوب في اليمن . كان النفور من الحرفة واحتقار الحرفيين سمة لعرب الحجاز في العصر الوسيط . يكتب رضوان السيد : "والبدوي العربي يحتقر المهنة ، كل مهنة كما يحتقر الفلاح الملتصق بالأرض. وقد اضطر للاعتراف بالتجارة على مضض بسبب من قوة قريش التاجرة التي كان يراها متمثلة في كل شيء " [مفاهيم الجماعات في الإسلام 1984 دار التنوير ص82 ]
"كانت المانيفاكتورة ، بقدر ما كانت تفلح في تصدير منتجاتها تتوقف كلياً على توسيع التجارة أو الحد منها ممارسة من جانبها تأثيراً معاكساً في التجارة تافهاً نسبياً [ " تأثيراً ضئيلاً جداً على هذه التجارة " ترجمة II] ومن هنا أهميتها الثانوية، وكذلك نفوذ التجار في القرن الثامن عشر "[21] [ترجمة I ص163-164]. "صحيح أن أصحاب المانيفاكتورة طالبوا بالحماية – وأحرزوها – ولكنهم كانوا دائماً يتراجعون أمام التجار من حيث الأهمية السياسية "[ترجمة I 162] و[ترجمة I 162] .
[1] كتب هذا النقد سنة 1875 ، فجاء يحمل عنوانه المتواضع: "الملاحظات الهامشية على برنامج حزب العمال الألماني " . هذا البرنامج الذي شاءت منظمتا الطبقة العاملة الألمانية (و هما المنظمة العامة للشغيلة الألمان التي أسسها لاسال سنة 1863 ، وحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الألماني المؤسس في إيزناخ سنة 1869 بقيادة بيبل وليبكنخت) إخضاعه بتعاونهما المشترك ، لمؤتمر التوحيد المنعقد بـ غوته فيما بين 22 و 27 أيار سنة 1875 ".
[2] Burgerliche Gesellchaft Can mean either bourgeois society or civil society . الكلمة الألمانية "بور غر ليشي غيزل شافت" تعني المجتمع البورجوازي أو المجتمع المدني. [الطبعة الإنكليزية ص 48 ]
[3] ملاحظة : كائنات مفكرة، هي كائنات منتجة للأفكار.
[4] لاحظ الفرق بين الإنتاج الطبيعي والإنتاج الحضاري . الإنتاج الحضاري يعني ظهور الملكية الخاصة وخاصة ملكية عمل متراكم. في الإنتاج الطبيعي تكون العلاقة بين البشر والطبيعة مباشرة، بينما تكون في الإنتاج الحضاري موسطة بالسوق أي بالمبادلة بين البشر أنفسهم.
[5] في الحالة الطبيعية يمكن الحديث عن توزيع للعمل طبيعي، ولا تزال الملكية الخاصة تتطابق كلياً مع العمل. بينما يكون الحديث في الحالة الحضارية عن تقسيم عمل قسري. في الحالة الحضارية تكون السيادة على الطبيعة موسطة بالمال ، أي لها طابع مادي غير شخصي .
[6] ليس المقصود استخراج النفط أو المعادن على أثر تطور التقنية والصناعة الكبيرة . المقصود بالصناعة الاستخراجية هنا، تلك التي لها علاقة مباشرة بالأرض ومنها استخراج الجذور والمعادن. الخ..
[7] Material جسدي، عمل جسدي.
[8] “barbarism” البربرية [الطبعة الإنكليزية ص 64 ].
[9] "من المحدودية المحلية إلى الأمة " [التقدم ص153] “from locality to nation ” [الطبعة الإنكليزية ص 64 ].
[10] "labour" الكدح، أو العمل القسري، المفروض والملزم .
[11] serf : كلمة فرنسية تعني ، القنّ ؛ أو عبد الأرض : رقيق يعمل على أرض سيد إقطاعي وتنتقل ملكيته إلى أيما سيد آخر قد تؤول ملكية تلك الأرض إليه . [المورد 1991 ص 837] .
[12] day labourers
[13] rabble : حشد من الناس ، الغوغاء، الرعاع، مجموعة أشياء مختلطة. نقترح هنا كلمة الحشود كبديل.[المورد 1991 ، ص753 ].
[14] Isolation : عزلة . [المورد ص 484].
[15] Crudity : فجاجة ، خامة ، من الشيء الخام . [المورد ص 235]
[16] لدينا مقولتين، مقولة الإنتاج المباشر كمقابل للتوزيع من جهة، وأسلوب الإنتاج أو نمط الإنتاج من جهة ثانية والذي يشمل ، ويحدد كل من الإنتاج والتوزيع معاً .
[17] تلعب القبيلة هنا دور كتلة تاريخية ، لها موقعها في العملية الإنتاجية ، ولها مثقفيها العضويين.
[18] يوجد هنا تحديد لمفهوم الطبقة : نضال مشترك ضد طبقة أخرى، الطبقة مأخوذة هنا في وجودها السياسي.
[19] نشير إلى ترجمة دار التقدم بالرقم I وإلى ترجمة د.فؤاد أيوب عن دار دمشق بـ II .من الآن فصاعداً .
[20] قوانين الملاحة : قوانين أصـــدرها كرومويل عام 1651 .. وقد ألغيت عام في الأعـــــوام 1753-1854 كان هذا الاحتكار يهدف إلى تشجيع البحرية الإنكليزية . راجع ص 672 من ترجمة II ، هامش 61 .
[21] - سمي القرن الثامن عشر قرن التجارة بامتياز: "القرن الثامن عشر قرن التجــــارة "[ترجمة II ص70 ]