هزات قوية تضرب هذه الايام حركة فتح. اصوات رسمية في السلطة نفسها تطالب باصلاحات داخل الحركة. فتح اعتبرت السلطة غنيمة، وراح عناصرها يتنافسون على تقسيمها من خلال العصابات المسلحة. تقويض الاحتلال الاسرائيلي للسلطة، ساهم في تعميق الفوضى. بعد رحيل عرفات سيأتي الطوفان وقد وصل الشعب الفلسطيني، بين الاحتلال الاسرائيلي وفساد سلطته، الى حافة الهاوية.
ميخال شفارتس
هزات قوية تجتاح هذه الايام حركة فتح. الخلافات الداخلية قوية، والانتقادات لاذعة بطريقة غير مسبوقة. الى ركب الناقدين انضمت اصوات فلسطينية كثيرة يشغل بعضها مناصب في السلطة الفلسطينية، ويمثل بعضها الآخر جهات خارجية، وكلها تطالب باصلاحات داخلية ووضع حد للفساد والفوضى المستشرية في الحركة.
صحيفة "الحياة" وقناة "الجزيرة" خصصتا عناوين رئيسية للتحقيق في شبهات فساد ضد زوجة الرئيس، سهى عرفات، وضد رئيس الحكومة، احمد قريع (ابو علاء). (راجع الاطار)
اللافت للانتباه ان الوضع في فتح خرج عن النطاق الفلسطيني، وتحول الى موضوع لتدخل عربي خارجي. وقد نشرت شبكة arabonline (في 5 شباط) ان مصر طالبت "باصلاحات جذرية داخل حركة فتح". وأكد مسؤول فلسطيني رفيع المستوى بان "الطلب المصري نُقل عبر اعلى المستويات في الادارة المصرية من خلال اتصالات هاتفية مع الرئيس الفلسطيني، وبواسطة مبعوثين التقوا عرفات مؤخرا في مقره بمدينة رام الله". وأضاف المسؤول نفسه الذي فضل عدم ذكر اسمه: "ان الطلب يأتي في اطار مساع مصرية حثيثة للخروج من المأزق الراهن، واستئناف المحادثات السياسية بين اسرائيل والفلسطينيين".
المطالبة باصلاحات في فتح، وليس في السلطة هذه المرة، تتضمن اعترافا بفشل السلطة كجهاز دولة. وتشير الى اضمحلال الخط الفاصل، الذي كان ضعيفا على كل حال، بين حركة فتح والسلطة.
المجلس التشريعي الفلسطيني حمّل حكومة ابو علاء مسؤولية "الفشل في تحقيق الامن للمواطن"، واتهمها ب"عدم اتخاذها الاجراءات اللازمة لضبط الوضع الامني وسيادة القانون." (الحياة، 26 كانون اول). واضاف المصدر ان المجلس عبر عن "قلقه نتيجة تجاهل الحكومة قراراته في قضيتي وجوب تحويل كل رواتب اجهزة الامن مباشرة الى المصارف (بدلا من توزيعها عبر الاجهزة)".
ويعبر هذا الموقف عن اعتراف ضمني آخر بان السلطة تحولت الى غنيمة، تقتسمها عناصر فتح من خلال التناحر بين عصاباتها المسلحة.
اسلحة دمار شامل
دلالة على خطورة الوضع في فتح موجودة في مقال عماد شقور، عضو المجلس الوطني الفلسطيني واحد مستشاري الرئيس عرفات. يقول شقور: "لا يجوز ان يبقى وضع فتح على ما هو عليه الآن". وكانت للمقال اصداء اعلامية اذ نشرته في نهاية كانون ثان (يناير) "الشرق الاوسط" اللندنية، "الرأي" الاردنية، "الايام" الفلسطينية التي يديرها اكرم هنية المقرب من عرفات، وكذلك "القدس" الفلسطينية المنافسة.
يهاجم الكاتب شعاري "القيادة الوطنية والاسلامية" و"الوحدة الوطنية"، اذ يقول: "ان التوافق على وضع ‘الوحدة الوطنية‘ حتى وهي عمليا ‘الشلل الوطني‘ فوق كل اعتبار، يعني بالضرورة منع تداول السلطة بين التيارات والاحزاب السياسية، وجعل الامكانية الوحيدة لهذا التداول للسلطة، هي امكانية الانقلاب العسكري او الاغتيال والدموية، وما يلحق بذلك من تخلف وسيطرة لاجهزة القمع، التي تشكل حقيقة ‘اسلحة الدمار الشامل‘ للشعب، تحكمه وتتحكم في حاضره وتتآمر على مستقبله، وهي بذلك الخطر الاكبر على شعبها ذاته".
ويشير شقور الى ان "تعدد الادوات، كما هو حاصل في الساحة الفلسطينية، هو عمليا الغاء بالسلاح والعنف لدور السلطة واداتها الواحدة... انها الحالة الفلسطينية الراهنة، حالة وجود منظمات وفصائل وجبهات وحركات، لكل منها ‘جيشه‘ و‘جناحه العسكري‘ و‘كتائبه‘ و‘سراياه‘".
ويشير الكاتب الى عدم وجود اهداف استراتيجية متفق عليها في الحركة والسلطة، عندما يتساءل ما هي اهداف السلطة واهداف فتح: هل هي اقامة دولة من المحيط الى الخليج، ام تحرير كل فلسطين من النهر الى البحر، ام هي اقامة دولة فلسطينية مستقلة على الجزء من فلسطين الذي احتلته اسرائيل في حزيران 1967؟ الحل الذي يقترح الكاتب للوضع، وهو بالاساس تحويل الميليشيات الى احزاب سياسية، يبدو مثاليا، وغير واضح ما الآلية لتنفيذه.
في مقال آخر للكاتب حازم صاغية (الحياة، 11 شباط) بعنوان: "في الهوة العميقة بين ‘الثورة‘ و‘الدولة‘"، يسأل الكاتب: "هل نجح شارون، اذاً، في قتل فتح دون قتل عرفات؟ اغلب الظن ان نعم". ويفسر الكاتب سبب المشكلة بان "‘فتح‘ لم تعد ‘ثورة‘، لكنها لم تصبح ‘دولة‘". وينهي مقاله بان "حماس اخذت الثورة، وهي متفسخة، من فتح، مثلما اخذته الاخيرة، وهو مشروع واعد، من احمد الشقيري. اما الدولة فأمست في يد شارون. وهذه النهاية يقرأها البعض دلالة على رداءة في قيادة عرفات، ويقرأها بعض آخر دلالة على وحشية شارون. لكنها، كائنة ما كانت الحال، تشير الى سوء حظ الشعب الفلسطيني".
استقالة جماعية
لم يمض اسبوع على نشر مقال عماد شقور، حتى اعلن 350 من كوادر فتح استقالتهم من الحركة، في 7 شباط. وتم تبرير الخطوة بالحالة المأساوية التي وصلت اليها الحركة. المستقيلون الذين اثنوا على دور كتائب الاقصى، طالبوا بفصل شخصيات مقربة من عرفات، امثال هاني الحسن، المسؤول عن حركة فتح في المناطق المحتلة، ومحمد رشيد المدعو "الكردي المسؤول عن اموال الشعب الفلسطيني".
وقال الوزير الفلسطيني فارس قدورة ان الخلفية للاستقالة الجماعية، هي تأجيل المؤتمر السادس لحركة فتح، والذي كان المفروض ان ينتخب هيئاتها. وقد اجل عرفات التئام المجلس الثوري لفتح في 8 و9 شباط، كما الغى عقد مؤتمرات لوائية تمهيدا للمؤتمر. غير ان حسين الشيخ، من رؤساء التنظيم بالضفة الغربية، اشار الى ان عدم وجود قيادة حقيقية للحركة، والفوضى التي تسود ادارتها ومؤسساتها، وانعدام البرنامج السياسي الجيد، هي التي ادت للاستقالة الجماعية. (ynet، 8 شباط)
امين مقبول، القائم باعمال امين سر اللجنة الحركية لفتح بالضفة، اتهم جهات لم يحددها، "باستغلال الظرف الحالي، وخاصة المطالبة المصرية والنقاشات الدائرة في حركة فتح، لاصدار هذا البيان، وإحداث بلبلة". ولكن ارتأى آخرون، مثل النائب محمد حوراني، ان حركة فتح تعاني من قضايا اكبر حجما من تلك التي ذكرها البيان. (الحياة الجديدة، 10 شباط)
مراقبون اسرائيليون اشاروا الى ان محمد دحلان، وزير الامن الداخلي في حكومة ابو مازن السابقة، هو الذي يقف وراء العريضة. وفسروا ذلك، بانه محاولة للحفاظ على قوته رغم ابعاده عن صدارة مراكز القوة بعد سقوط حكومة ابو مازن. في الوقت نفسه اشار المحللون الى ان جبريل الرجوب الذي عاد ليكون مقربا من عرفات، يقف ضد العريضة لانها تمت بمبادرة دحلان الذي يعتبر منافسا له على مراكز القوة، مع ان الاثنين ينتميان لقيادة فتح المحلية الشابة التي وقفت سابقا موحدة ضد "قيادة الخارج".
الصحافي ارنون ريغولر (هآرتس، 10 شباط) كتب عن محاولات دحلان ابراز نفسه على انه الرجل القوي في غزة. من ذلك استعراض العضلات الذي قام به آلاف المسلحين في جهاز الامن الوقائي، في مظاهرة ضد رجال اللجنة المركزية لفتح. كما تم قبل ثلاثة اشهر اطلاق "صاروخ ضد الدبابات" باتجاه مكتب موسى عرفات، رئيس الاستخبارات العسكرية في غزة وابن اخي الرئيس عرفات.
وكان آخر حدث في هذا الصدد الهجوم على غازي الجبالي، رئيس شرطة غزة، نفذته عناصر مسلحة مقربة من دحلان في 5 شباط. وقد قتل في الحادث احد الحراس خلال تبادل اطلاق النار واصيب 12 شخصا. وكان الجبالي قد فصل من منصبه بسبب تهم فساد وجهت له بعد عملية السور الواقي (نيسان 2002)، غير ان عرفات اعاد تعيينه قبل شهرين.
وفي بيت لحم وُزّع منشور باسم كتائب الاقصى (في 6 شباط) يطالب قائد قوات الامن الفلسطيني في المنطقة، احمد عيد، بوقف التعاون الامني مع الجيش الاسرائيلي في منطقة بيت لحم. ولكن الصحافي ريغولر اشار الى ان عرفات نفسه يقف وراء هذا المنشور.
قلق اسرائيلي
الاعتداءات الاسرائيلية منذ عملية السور الواقي التي دمرت البنية التحتية للسلطة، بالاضافة للطوق والجدار، لا تزيد الفوضى الا تعميقا. وتقول اصوات فلسطينية ان الانتفاضة تحولت الى "انتفوضى". وقد وصل الوضع لدرجة ان اي انسحاب اسرائيلي احادي الجانب سيفاقم الازمة على ضوء الفوضى وفقدان السلطة شعبيتها ومصداقيتها.
للرئيس الفلسطيني نصيب كبير في إحداث الفوضى الراهنة. فقد سيطر عرفات بشكل كامل من خلال سياسة فرق تسد التي اتبعها بين التيارات والشخصيات المختلفة. فكان يوزع مناصب دون صلاحيات بين الخصوم ليبقى هو الحكم المصلح والمرجعية الاولى والاخيرة. في الاتجاه نفسه بنى اجهزة امنية متعددة كيلا تتركز القوة بيد شخص يمكن ان ينافسه. كما اهتم بان يبقى صندوق الخزينة بيده يوزع منه ما شاء على من شاء.
اسرائيل من جانبها تخشى من تدهور اضافي في الوضع بعد رحيل عرفات. وشد ما يقلقها ان تحكم البلد عصابات محلية مسلحة متناحرة، تمثل كل واحدة مصالح عائلية وعشائرية وطائفية محلية، دون ان تكون هناك سلطة مركزية يمكن الوصول معها لاتفاق. من جانب آخر تخشى اسرائيل ان تقوم حماس بملء الفراغ في غزة (عن تقرير لخبراء امنيين قدم في مؤتمر هرتسليا الرابع للسياسة والاستراتيجية، 18 كانون اول، 2003). ولكن اسرائيل ساهمت بشكل خاص في الوصول الى النتيجة التي تخافها منها الى هذه الدرجة، وذلك عندما قوضت اركان السلطة وشلت اجهزتها الامنية وافشلت المفاوضات. لا يجب انتظار الطوفان الذي يتوقعه الجميع بعد رحيل عرفات، حتى ندرك ان الشعب الفلسطيني عاش طيلة العقد الاخير رهينة وضحية ليس فقط للاحتلال الاسرائيلي بل لسلطته الفاسدة ايضا التي دفعته دفعا الى الهاوية.
فضائح فساد جديدة: ابو علاء وسهى عرفات
تشكلت لجنة برلمانية فلسطينية برئاسة النائب حسن خريشة، للتحقيق في شبهات فساد نسبت الى رئيس الحكومة الفلسطينية، احمد قريع (ابو علاء). التهمة هي قيام مصنع للاسمنت، تموله عائلة ابو علاء، ببيع الاسمنت لمستوطنات هار حوما (جبل ابو غنيم) ومعاليه ادوميم والمقاولين العاملين في بناء الجدار الفاصل الاسرائيلي بالضفة الغربية.
من جانب آخر، نقلت صحيفة "لو كانار انشينيه" الفرنسية (11 شباط) ان النيابة العامة في باريس بدأت تحقيقا اوليا مع سهى عرفات، زوجة الرئيس الفلسطيني، بشأن تحويلات نقدية بقيمة 11.5 مليون دولار الى حسابين مصرفيين في فرنسا. واشارت المعلومات الى ان ميلونين من المبلغ المذكور دُفعا لمكتب لتصميم الديكور.
في تقرير صندوق النقد الدولي الذي فحص حسابات السلطة الفلسطينية بين الاعوام 1997-2003، جاء ان نحو 900 مليون دولار من اموال السلطة الآتية من الدول المانحة والاحتكارات الفلسطينية، نقلت الى حسابات خارج البلاد، جزء منها الى حسابات سهى عرفات. (هآرتس، 11 شباط)
وقد نفى قريع وعرفات التهم المنسوبة اليهما.