• الشاعر درويش يمشي على رمال متحركة رغم كونه حاضراً في كل مكان
يراهن الشاعر كريم ناصر على اللغة المتأججة في كتابة نصه الشعري المتمّوج الذي لا يمنح نفسه دفعة واحدة، فثمة حلاوة في المفردة المنتقاة، وطلاوة في صياغة الجملة الشعرية، وبناء رصين يشي بإمكانية الشاعر في السيطرة على وحدة النص المحبوك. صدر للشاعر كريم ناصر ديوان شعري بعنوان ( بين حدود النفي ) عام 1988، وبعد مرور اثنتي عشرة سنة أطلق الشاعر سراح ديوانه الثاني ( برادة الحديد ) من أدراج الرقيب الذاتي، وسلطة النقد التي تفرض حضورها القوي في استدراجه إلى مدارات التأني. لنتعرف على الشاعر كريم ناصر الذي يضع القارئ العربي في مقدمة أولوياته الإبداعية.
• الشعر هو البحث المحموم في المناطق الغامضة من أعماق الإنسان، ما الذي اكتشفته خلال تجربتك الشعرية، وما الذي قبضت عليه عبر ترحالك المستديم في مروج القصائد؟
- لماذا الشعر؟ الشعر بشكل عام فن أصيل استطاع بسحره النّفاذ استقطاب الكثير من المتلقين إلى دائرته الواسعة، وعلى هذا الأساس انتبه إلى الجنس الروائي والرسام والطبيب، حتى الفرد العادي استهوته هذه المادة. لقد انهمك الجميع في متابعة الشعر كجنس أدبي ممتع وكموقف اهتم بهموم الإنسان وتطلعاته نحو المستقبل، فالشعر يعتمد في الدرجة الأولى على قوة البصيرة التي لا يتمتع بها إلا المبدع الممتلك للمهارات، فقوة البصيرة هنا بمعنى الحدس، أو القدرة على الإحساس المرهف بالأشياء والتنبؤ بنجاحها أو فشلها، إذاً فعلى الشاعر أن يترجم الصورة الشعرية أو الحدث أو اللقطة بواسطة الإحساس، وهذا لم يأت عبثاً إذ أنه جاء نتيجة جينات ( ثقافية ) تتفاعل مع الكلمة بسياقاتها المختلفة ضمن عملية بحث متواصلة، وهذه السياقات هي التي تساعده على عملية الكشف والتنبؤ، وعلى هذا الأساس وضعت الفوارق بين الشاعر والشويعر، على أن الأول يمتلك حاسة جبارة مدهشة، بينما الثاني ليس سوى مقلد سمج. كيف يمكن للشاعر أن يهز العالم من أذنيه كما فعل آرثر رامبو على حد تعبير هنري ميلر؟ أين يكمن السبب يا ترى، هل في لغته أم مخيلته التي يصوغ نصوصه عبرها؟ فمهما تشكل هذه النصوص أفقاً جمالياً أو معرفياً أو روحياً، المهم كيف شغل هذا العاق بشعره أمماً بكاملها.
لا نستبعد أن يكون من أبرز مهام الكتابة الإبداعية تحقيق الممكن في سياق مواجهة طويلة وقاسية، لأنه ليس ثمة إبداع بدون مغايرة وبحث واستقصاء في البنية الشعرية التي يجد الشاعر نفسه ملزماً على الحفر في بواطنها أنها تمنحه فرص الكشف للبحث في أعماق الكون. من هنا توصلت إلى نتيجة أن الشعر أعظم إنجاز لنظام الذاكرة الخاص و( أن الشعر العظيم ينشط الطاقة )، وهو الفرح الذي يملأ أعطاف البشرية وينفذ إلى قلبها، هو جوهر التاريخ البشري كما يقول شوبنهاور، وهو الانعكاس الأفقي للحب و ( العلاقات الحميمة مع الآخرين ) يتشكل تراتبياً بمرور الزمن فيدلف عالمنا ليصحح الخطأ. لقد اكتشفت أن الشعر حقاً هو النقد الرادع لنموذج التسلط ومن العسير أن يقهره أحد، اكتشفت أن الشعر هو الرمز الدال على الحداثة والتنوير لخيال متولد من الشعرية.
• هل نستطيع أن نعيد ترتيب العالم من خلال قلقنا الوجودي وهواجسنا الشعرية، وهل يقتصر دور الشعر حقاً على إثارة الأسئلة فقط دون التدخل الفعلي لترميم هذا الخراب لحق بظاهر الكون وباطنه؟
- لم يكن للصراع قيمته الدلالية ما لم يكن هناك جيل مكتمل الملامح ثقافياً، ربما لا يستطيع الشاعر بمفرده أن يرمم ما حطمته القيم الاستهلاكية أو السياسة أو الحروب، وهذا صحيح،إن لم تظهر بؤرة شعرية تهيئ للشعر أجواء الكتابة بنفس القدر، وبتحقيق ذلك سيصبح بلا أدنى شك للصراع بعده ودلالته، وستكون ثمة منافسة وعملية بناء جبارة. لذا من دون الانتباه إلى المعطيات السابقة ستبقى عملية الصراع هشة ولا مجدية، لأن المنجز الشعري بحد ذاته يحتاج إلى تفعيل الكتابة بقياس الإبداع وصهر المادة الإبداعية مهما تعسّرت، لتحويلها إلى أثر كبير بالغ الأهمية للإسهام في عملية التطور. من المؤكد أن النص الشعري الذي لا يحمل معه سماته العليا والمخيلة الضخمة والعطاء، وإذا لم يسهم في صوغ البنيات الحضارية إبداعياً وإنسانياً مما يدلل على أن كاتبه لا يزال في موقع لا يؤهله على الاستمرار في خلق الأدوات الإبداعية، بينما ستصبح المشكلة أعقد في حالة عدم امتلاكه لمنهج رصين يقدم مادته على أساسها. على الشاعر صياغة مشروعه الحضاري بدقة من أجل الوصول إلى كل ما هو جوهري وفعال، ومؤثر على طريق التماهي والخلق والمسؤولية الكاملة. ينظر شاكر السماوي إلى أن ( الشاعر وحده لا يمكنه خلق ظاهرة إبداعية جديدة ومتخطية، دون توفر أرضية ناهضة باتجاه التخطي والتجدد ) ما لم تكن هناك بؤرة شعرية متوقدة ينطلق منها لإنتاج نصه. فالحرص على النص الشعري ينبغي أن يوازيه حرص الشاعر على أدواته لغة ( وتكوينات وتجليات )، نحتاج أن ننهض بشعرنا إلى مستوى الإبداع والمغامرة، نحتاج إلى شاعر كبير وكذلك متلق حاذق يتحمل قلق وجودنا ونمط تفكيرنا، علينا تثقيف أنفسنا بلغة العصر مستفيدين من عملية التطور التي حصلت في مجمل البنى، أن نفكر كيف وبأية وسيلة يمكننا إنتاج نص ضخم شديد الوقع والدلالة، فلو نظرنا إلى الأمم الأخرى لانبهرنا بلا أدنى ريب لما حققته هذه الأمم من إنجازات أدبية، علاوة على تمثلها تجارب لإنتاج إنسان آلي يعتمد على اللسانيات كمنهج نظر يقدم معظم خدماته بطريقة ذات قيمة حضارية، هذه العملية بكل تمظهراتها ستجعلنا من دون مواربة أن نعيد النظر بكل ما أنتجناه خلال العقود المنصرمة في نطاق الأدب والفن والمعرفة، مهما يكن من أمر يجب ألا ترعبنا آليات التطور المهيبة لتشعرنا بعجزنا عن إجتراح البديل العادل، ذلك لترميم هذا الخراب الذي لحق بالكون كما تقول. وتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الشعر ليس معنياً بإثارة الأسئلة. فكل نص يحمل إسترتيجية ما وهو يتجاوز حدود هذه الأوالية، الشعر إبداع ومغامرة، بينما ( على الشاعر أن يكون الوعي المقلق لزمانه ) هكذا قال سان جون بيرس. نكرر أن الاعتماد على لغة العصر تعتبر من أهم الاستعمالات التي تحقق للشعر حضوره كبنية لترميم ما خربته القيم السائدة، اللغة المستمدة من جمالية الكلمة، واللغة المستحدثة من حيث الآلية والأسلوب.
• بين مجموعتك الشعرية الأولى ( بين حدود النفي )و ( برادة الحديد ) أكثر من أثني عشر عاماً من الكتابة الحذرة، لماذا أنت مقل حد التقشف، وهل هناك إشكال معين يستدعي الخوف من النشر؟
- قد تصيبك الدهشة إذا قلت لك بأنني أمتلك أعداداً لا تحصى من المخطوطات الشعرية، عدا القصائد التي لم أضعها في سياق النشر، لقد توضح لي بأن عملية النشر مسؤولية، وهي ليست سهلة كما ينبغي. لا أبالغ إذا قلت لك أنني صرت الآن أتعامل مع الكتابة بطريقة السحر، وأحياناً بالشك على اعتبار أن الشك هو الهاجس المهيمن على العديد من أفعال الحاضر، يستحضرني خطاب كتبته للشاعر حميد العقابي ذكرت فيه ما يلي: قد يقول قائل أن ما تكتبونه هو شعر، شعر فقط ليس غير، ولم يقل سحراً ليس غير، وهو ينكر علينا ألمنا بكل صلافة، أولم يكن الألم الحقيقي هو ألم الشعر أم ماذا؟ الشعر: إنسان، الشعر: فنتازيا وتاريخ.لا يستطيع الشاعر أن يكون مبدعاً ما لم يضع القارئ نصب عينيه وقبله الناقد الجاد ثم النص الشعري تحديداً، ما لم يشدد على احترام ذوق الناقد، ما لم يعرف مدى إمكاناته، ما لم يسأل نفسه فيما إذا كان يستوجب كتابة الشعر؟ هل هو حقاً مثل غيره يساهم في إحداث أية إثارة أو خلق أي اتجاه صوب ما يسمونه الآن الحداثة الشعرية؟ ليس مهماً أن تنشر ولكن المهم أن تحترم رؤية القارئ الذي لا يقل عنك ثقافة ومعرفة، وإذا اكتشفت أنك غير مؤهل للكتابة عليك أن تقرأ مجدداً، وأن تعيد النظر بكل ما أنتجته خلال مراحل الكتابة، فلا ضرورة لأن تنتج عشرين كتاباً المهم هو إنتاج نص شعري لا يسبب الأذى للآخرين وإنما يقّوم ذائقتهم، أنظر إلى رامبو أنه لم ينشر سوى (المركب السكران )، و ( فصل الجحيم )، و ( إشراقات )، وإلى والت وايتمان الذي لم ينشر في حياته سوى ( أوراق العشب ).
• لكل جيل خطابه الشعري، وسماته المحددة، هل رسا جيلك ( جيل الثمانينات ) على ضفة معينة، وهل قطع صلة الرحم مع الأجيال السابقة، أم أنه تمظهر بخلاصة تجاربها وصار امتداداً طبيعياً لنسغها الصاعد؟
- ما دام السؤال يتعلق بمصطلح الأجيال فأنه يستدعي هنا ( تنّبهاً خاصاً ) . هل يمكن القبول بهذا المصطلح ( جيل الثمانينات )؟ في اعتقادي أن المصطلح بدهياً لا يحمل من الدقة شيئاً مهماً مهما بلغت حدته في الوسط الثقافي، وما أراه هنا هو محاولة فرضت بالإكراه بموجب ما يراه الآخر. يمكن القول أن هذا المصطلح مهما فرض وجوده فهو يبقى محصوراً ضمن إطار التوصيف، أنه مجرد كناية التحقت بالأدب بمحض إرادة الناقد. وقد ينشأ هذا الأمر السؤال التالي. كيف سنسمي شعراء الألفية الجديدة؟ أيمكن أن يقال الشيء نفسه عن سعدي يوسف باعتباره واحداً من جيل الستينات؟ وأني لأسأل انطلاقاً من كل هذا، ما الجدوى في النهاية من هذه المسميات؟ أن ما يثير الدهشة هو أنه ومنذ شروعي بالكتابة تغلب علي إحساس بأنني مقطوع من شجرة، وثمة رأي يقول بأنني كنت خارج السرب ( مقطوع الرحم والصلة ) منذ اللحظة التي كتبت فيها الشعر. الكتابة عندي هي مغامرة تستمد ملامحها من عناصر وجودها، وهي نوع من الرفض لمقاومة التزييف، هي كون مستقل بذاته يخلق زمنه الخاص به وحده. ألا تلاحظ أن المصطلحات لا تصنع الشعر العظيم، إنما تعمل بشكل كامل على تحديده والتقليل من قيمته العليا. فالشاعر برأيي هو درويش يمشي على رمال متحركة رغم كونه حاضراً في كل مكان، بيد أنه لا يستطيع أن يلجأ إلى وضع محدد أو جماعة أدبية، فهو ينشأ دائماً خارج السرب، بمعنى أن الشعر لا يتحدد بالمصطلح فهو نبع لا ينضب مثل أي إنثيال يؤدي طبيعياً إلى تكوينه وتفرعاته في أي عصر أو في أي زمن.
( الراية ) القطرية