|
الديمقراطية والشرعية الدستورية
بدر الدين شنن
الحوار المتمدن-العدد: 2465 - 2008 / 11 / 14 - 08:21
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
الكلمات الأولى للرئيس الفرنسي ساركوزي في المؤتنر الصحفي المشترك ، الذي عقده والرئيسان السوري واللبناني وأمير دولة قطر ، للتحدث عن أعمال مؤتمر الاتحاد من أجل المتوسط المنعقد في ( 13 - 7 - 2008 ) الذي كان محطة هامة في إخراج النظام السوري من العزلة الدولية ، عبرت عن فهم براغماتي انتهازي للقيم الدستورية ، في كل من سوريا ولبنان وقطر وفرنسا ، بما معناه ، أن اختلاف الد ساتير في البلدان الأربعة ، لم يحل دون اللقاء ، ولن يحول دون العمل معاً في المستقبل . وقد تجاوز ساركوزي بعبارة " الاختلاف " ما تضمنه الد ستور السوري من تعارضات مع أبسط مباديء الحرية والديمقراطية ، الذي يكرس ا ستئثار حزب البعث الحاكم بالسلطة ، وتجاوز الديمقراطية التوافقية العجيبة ، التي تكرس الطائفية المتعارضة مع جوهر الديمقراطية في لبنان ، وتجاوز أيضاً الد ستور القطري ، الذي يقوم على أعمدة ومفاهيم ديمقراطية قبيلة آل ثاني .
وسواء كان ساركوزي يقصد بهذا التجاوز الوصول إلى منح الشرعية الد ستورية للرؤساء الجالسين معه أم لا ، فإن النظام السوري قد أخذ الأمر بمثابة جرعة إنعاش إضافية " لشرعيته " الد ستورية ، التي كان بحاجة ماسة إليها في مواجة المعارضة ، التي ظلت فترة طويلة تعتبر هذه الشرعية محور خلاف رئيسي بينها وبينه . الأمر الذي أدى إلى نتائج خارجية وداخلية متباينة . فمن جهة شكل ذلك ، ربطاً ، مع نجاح مؤتمر الدوحة للحوار الوطني اللبناني ( 16 - 5 - 2008 ) ، وبدء المفوضات مع إسرائيل حول الجولان المحتل ، شكل تحولاً إيجابياً بالنسبة لعلاقات النظام الدولية ، إلاّ أنه من جهة أخرى شكل تحولاً سلبياً في الداخل .. في المشهد السياسي المعارض إلى حد يشابه الذهول والارتباك بعد انقضاء العاصفة . فبينما النظام الذي كان أحد اللاعبين في إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة ، بات مرتاحاً ، بل وأعلن على الملأ انتصار سياساته وممارساته ، ذهبت المعارضة متأثرة برياح المنعطف الإقليمي والدولي الجديد ، ذهبت مذاهب شتى . على أن أبرز ما ذهب إليه البعض ، هو تجاوز الشرعية اللاديمقراطية ، والعودة للمربع الأول .. للخطيئة الأولى ، المتمثلة بالجري وراء اكتساب مشروعية معارضة تتمتع بحق المنافسة ، أي العمل في نطاق النظام .. في نطاق " الشرعية الد ستورية " القائمة ، التي لاتعني سوى تجاوز ربع قرن من الآلام القمعية والاجتماعية مجاناً ، والانضواء تحت قيادة الحزب القائد ، على أمل أن نتائج انتخابات ضمن نطاق النظام ( مجلس شعب وغيره ) هي التي ستحدد مستقبلاً من يتولى السلطة .
وتفادياً للإلتباس ، لابد من طرح السؤال ، هل تستوي هذه العودة " الديمقراطية " التي ’يسوق لها الآن والشرعية الد ستورية السائدة ؟ .. بصيغة أخرى ، هل يمكن أن يجري حراك ، ديمقراطي مستقل في نطاق الد ستور الراهن ؟ .
تجربة الحراك المعارض في سنوات القرن الحالي المنصرمة على الأقل ، التي كانت تطرح فيها أطراف المعارضة الدعوات للنظام للمصالحة الوطنية والاصلاح السياسي ، وردود النظام عليها ، المنعكسة في لوائح المعتقلين والمقدمين للمحاكمات التعسفية والمجردين من الحقوق المدنية .. تقدم الجواب .
ومع ذلك يبدو أنه من المفيد التذكير بما تنطوي عليه " الشرعية الد ستورية " المزكاة من قبل ساركوزي في مسألة الديمقراطية . لم تتضمن المادة الأولى من الد ستور ، اعتباطاً ، مفهوماً خاصاً للديمقراطية ، حددته ب " الديمقراطية الشعبية " . ولم يأت هذا النص كي ينسجم مع المقاس المطلوب لحكم شمولي يزعم أنه يمثل ويقود الشعب ، لتكريس وجوده وا ستدامته ، وحسب . وإنما لنفي مفهوم الديمقراطية العام المحقق إنسانياً وحضارياً على مدار قرون من الصراعات الاجتماعية والسياسية والفكرية ، الذي يعطي الشعوب حق اختيار حكامها وتقرير مصائرها . ويدعم ما جاء في المادة 8 من الد ستور ، التي نصت على أن حزب البعث الحاكم هو " الحزب القائد للدولة والمجتمع " .. أي " القائد للشعب " ما جاء في المادة الأولى . وفي كلا النصين يختزل الشعب بالحزب .. ويختزل الحزب بالقائد .. الشخص . وتصبح كل الأمور تحت قيادة وفي خدمة الحزب القائد وقائده . لاسيما الأنشطة التعبيرية السياسية والثقافية والمجالات التمثيلية ، التي تدخل في نطاق الحراك المجتمعي " الديمقراطي " . بمعنى ، أن الديمقراطية الشعبية هي الديمقراطية التي تمارسها قطاعات وتيارات وأفراد في المجتمع ، ينبغي أن تكون في خدمة الحزب القائد .. والممثل .. للشعب . ثم جاء ميثاق " الجبهة الوطنية التقدمية " ليؤكد على ذلك .
وحسماً لكل تردد أو تعدد في الفهم لهذا المعنى في التجسيد العملي لديمقراطية سلطة الحزب القائد " الشعبية " فإن الحزب قد منح نفسه حق التمتع بالأكثرية في كافة الهيئات التمثيلية والجبهوية والشعبية ( مجلس شعب .. مجلس وزراء .. قيادة الجبهة .. مجالس محلية .. نقابات .. اتحادات .. جمعيات .. ألخ .. ) . أما الجيش فهذا أمر أناطه ، تحديداً مطلقاً ، بأمره ، وحرمه على القوى السياسية المعارضة والحليفة له على السواء ، تحت طائلة الحساب الصارم .
وا ستكمالاً للتجسيد المطلق للديمقراطية الشعبية " كانت " الجبهة الوطنية التقدمية " . وكان لقيام هذه الجبهة وانضواء القوى التي تحمل لافتات " تقدمية .. اشتركية .. قومية " تحت قيادة النظام نتائج سيئة على الطبقة السياسية السورية عامة بما فيها أحزاب الجبهة نفسها . إذ ما لبثت هذه الأحزاب أن تمزقت إلى أحزاب وكتل توزعت داخل الجبهة وخارجها . ما أتاح في المجال ، لإعطاء الأحزاب الجبهوية صفة " التقدمية " والتي خارج الجبهة صفة اليمينية والرجعية ، وأتاح في المجال أيضاً لاستباحة الحقوق الديمقراطية والإنسانية للمواطن .
وبذلك تكرس افتراق في الشكل والمضمون بين الديمقراطية والشرعية الد ستورية . إذ أصبحت هذه الشرعية جلاد الديمقراطية وسجانها ، وأصبحت المعارضة الوطنية الديمقراطية للنظام معارضة للشرعية الد ستورية . ومع تفريغ الديمقراطية الممثلة للقيم الحضارية المكتسبة من مضامينها الحقوقية والإنسانية ، وا ستبدالها " بشعبية " لاتمت للشعب بصلة ، تم تفريغ القوانين والمحاكم من مضامين العدالة ، وتمت المتابعة الحثيثة لإعادة بلورة العقل السياسي والمفاهيم السياسية ومناهج التربية التعليمية والإعلام والثقافة ، بما يحقق التعبير عن .. ويخدم الشرعية الدستورية اللاديمقراطية وا ستدامتها . ومع احتكار السياسة ضمن نطاق " الديمقراطية الشعبية " .. تكرس خيار واحد .. طريق واحد .. للنشاط السياسي " المشروع " هو الارتباط والإلتزام بالحزب القائد أو بأحد أحزاب الجبهة . ونشأت ثوابت في الحالة السورية المعاشة منذ نحو نصف قرن حتى الآن ، تؤكد ، أن لاسياسة في نطاق هذه الشرعية وملحقاتها حالة الطواريء والأحكام العرفية . وأن لا ديمقراطية في نطاق الشرعية الدستورية الراهنة . وأن بنية هذه الشرعية تتعارض وجودياً ، قبل رغبات الأفراد ، مع الديمقراطية .. فإما ا ستدامتها .. وإما الديمقراطية .
كل الجهود والأنشطة التي بذلتها وقامت بها المعارضة الوطنية الديمقراطية ، كانت تصب بالدرجة الأولى ، لاستبدال هذا الشكل من الشرعية الدستورية ، بشكل مغاير إنساني عادل تتساوى فيه حقوق وواجبات الجماعات والأفراد دون ا ستثناء أمام القانون ، وذلك لخلق أرضية أكثر ملاءمة لنهوض سياسي وطني ديمقراطي ، يوفر القدرات لنهوض عام في مختلف المجالات . وقد ا ستطاعت هذه المعارضة رغم أخطائها ، أن تصل إلى انتزاع اعتراف النظام بوطنيتها وبدورها ، ولو بأشكال وأوصاف انتقائية ومزاجية ، وأن تصل إلى اكتساب اعتراف خارجي بها ، وأخذت من خلال أنشطتها السياسية والحقوقية ، أن تحتل حيزاً ملموساً في مجالات الإعلام الإقليمي والدولي ، وأن ترتقي نسبياً على مستوى بناء الذات والتحالف .. ما يقدم الدلالة القاطعة ، على أنه لولا أخطائها ، التي لامجال هنا لتعدادها وتفصيلها ، لاسيما ، في تضخيم دور الخارج وإهمال دور الداخل ، وفي بنائها واعتمادها على الحراك النخبوي والليبرالي بديلاً للحراك الشعبي ، بكل ما يعنيه ذلك من رؤى فكرية و سياسية واجتماعية ، لكانت هي الآن ، في موقع يمكنها من أن تضع ساركوزي والرأي العام في الخارج أمام مسؤولية قراءة الدستور السوري بعيون أخرى . وكانت أ سست إلى حد ما ، أقله أفضل من الآن ، لمناخ انتزاع شرعية دستورية ديمقراطية ، وتجنبت الخيارات التراجعية المحرجة ، لتؤكد ا ستمرارها المادي .
الواقع الموضوعي الذي يستدعي بإلحاح وجود المعارضة مازال قائماً ، بل وأكثر من أي وقت مضى . وهذا يتطلب العودة إلى الخطوة الصح الأولى على طريق التغيير .. التغيير الوطني الديمقراطي الاجتماعي .. الذي من أولى أولوياته .. بناء الذات المعارضة من جديد بما يطلبق المهام التاريخية التحويلية الصعبة التي تواجهها .. بناء حراك شعبي وطني ديمقراطي شامل .. الذي هو وحده من يأتي بالشرعية الدستورية الديمقراطية .. ويأتي بانتخابات ديمقراطية شعبية حقاً ، تؤمن أكثرية شرعية لاستلام وتداول السلطة .. ليس من أجل السلطة بذاتها ، أو لتأمين مصالح تكتلات سياسية اقتصادية وحسب ، وإنما لاستخدامها لمصلحة بناء دولة قوية تلبي ا ستحقاقات حماية الوطن وازدهاره .. ولمصلحة المجتمع كله دون ا ستثناء
#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أوباما والتغييرعلى الطريقة الأمريكية
-
أزمة المعارضة وخيارات التجاوز ( 2 - 2 )
-
أزمة المعارضة وخيارات التجاوز - 1 -
-
- الرأسمالية والأخلاق - .. !! ..
-
ثورة أوكتوبر واللحظة التاريخية الراهنة
-
العودة إلى الشعب .. مرة ثانية
-
ذئاب اقتصاد السوق يهاجمون الحقوق العمالية
-
صناعة القمع الخارجة عن القانون
-
دمشق قبل باريس وموسكو
-
من - النقابية السياسية - إلى النقابية - الليبرالية - .. !! .
...
-
حول العدل والشرعية وحقوق الإنسان
-
ضد جدران الفصل العنصري الدولي
-
في أن ا ستعادة الجولان مسؤولية كل مواطن
-
المعارضة والمنعطف الجديد
-
سيدي إفني أكثر من قضية وطنية
-
الاستبداد والتحولات الاقتصادية الاجتماعية
-
شيء لايصدق .. حدث .. وقد يحدث بصورة أخرى
-
سوريا أمام منعطف جديد ..
-
لن تجلب روما الربيع لتصحر الغذاء العالمي
-
المشهد اللبناني الجديد .. أكثر من تسوية وأقل من حل
المزيد.....
-
كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
-
إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع
...
-
أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من
...
-
حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي
...
-
شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد
...
-
اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في
...
-
القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة
...
-
طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
-
الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
-
الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|