|
اختيار أوباما تغيير تاريخي .. ولكن
سليم يونس الزريعي
الحوار المتمدن-العدد: 2464 - 2008 / 11 / 13 - 03:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
خلافا لكل التوقعات التي كانت تقدر أن ثقافة العرق المُمَيز والأرقى سيكون لها الكلمة الفصل في اختيار الرئيس الأمريكي القادم ، فاجأ الشعب الأمريكي بتنوعه العرقي والثقافي والنفسي الجميع ، واختار باراك حسين أوباما ذو البشرة السوداء والأصول الإفريقية ، ليكون الرئيس الرابع والأربعين ، الذي سيقود هذه الدولة العظمى ، الولايات المتحدة الأمريكية لمدة أربع سنوات قادمة وربما لأكثر من ذلك . أمريكا تصالح نفسها ولا شك أن هذا الاختيار قد فاجأ الكثير من المراقبين ، كونه يعني في الشكل بداية المصالحة التاريخية لأمريكا مع تاريخها ، ولشريحة هامة من مواطنيها عانوا من الظلم والاستبداد ، وهو من ثم رسالة اعتذار عن منظومة الرق التي استهدفتهم طوال قرون ، وهو بهذا المعنى تحول تاريخي لا يمكن تجاهل أبعاده وآثاره الراهنة والمستقبلية في الواقع الأمريكي ، والتي ستعكس نفسها بالضرورة على مجمل مكونات المجتمع الأمريكي بألوان طيفه العرقية المختلفة .
ذلك أنه حتى وقت قريب كانت الأقليات العرقية وأولهم السود في أمريكا يناضلون من أجل المساواة ليس السياسية ، بل المدنية منها في ظل نظام ثقافي عنصري ومنظومة قيمية أخلاقية وسياسية شديدة التمييز ؛ تكرس عدم المساواة بين الأعراق المختلفة ؛ حتى على مستوى الحياة اليومية ، لتفرز نظم وقيم عنصرية " كريهة " ، تفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان ارتباطا بلون بشرته وعرقه .
وهي الثقافة والسلوك المستمد من تجربة تاريخية أوروبية مورست ضد الشعوب التي وقعت ضحية الاستعمار الأوروبي في أربعة أرجاء الدنيا طوال قرون ، فكان أن نقل ومثل المهاجرون الأوربيون الأوائل إلى أمريكا تلك الثقافة ، والتي كان عنوانها الإبادة المنظمة لسكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر ، في سابقة تاريخية ستظل تشكل أحد أكثر المحطات سوادا في التاريخ الأمريكي . حدث تاريخي ومن ثم فإن واقعة اختيار رجل أسود كرئيس للدولة الأمريكية ، هو حدث تاريخي في حد ذاته ، إذا ما أخذنا في الاعتبار التاريخ الأمريكي في مدياته القريبة والبعيدة ، بكل التميز والنظرة الدونية للآخر ، والتي كان أحد أبرز ضحاياها المناضل الأسود من أجل الحقوق المدنية مارتن لوثر كنج ، ذلك المناضل الذي تم اغتياله من قبل أولئك الذين أدمنوا ثقافة الكراهية وادعاء التفوق ارتباطا بلون البشرة والعرق .
ومع ذلك فإننا نقولها وبحذر شديد ؛ من أن هذا الاختيار إذا كان في الشكل يمثل حدثا تاريخيا ، وهو بالطبع غير مسبوق في أمريكا و في أوروبا أيضا ، إلا أن الدخول في تفاصيل ذلك ، قد يدفعنا على إعادة قراءة ما جرى والتريث في إطلاق الأحكام حول حقيقة تَخَلُّص " البيض " في أمريكا من إرثهم العنصري في التمييز بين مواطني الدولة الأمريكية على أساس العرق واللون ، ذلك أن تحليل أصوات الناخبين الذين اختاروا باراك أوباما ، يقول أن من كان وراء فوزه هم السود من أصول إفريقية أساسا ، وكذلك الأمريكيين من أصول لاتينية ، مع جماهير الشباب ، ومن أن الناخبين البيض كانوا النسبة الأقل التي منحته صوتها ، بما يعنيه ذلك من أن الأمريكيين من أصول أوروبية لا زالوا لم يستوعبوا بعد ، أن يكون ساكن البيت الأبيض رجل أسود .
غير أن ذلك لا يجب أن يقلل من حجم وتأثير هذا التغيير ، لأن من شأنه أن يحدث حركا وعلى كل المستويات ، وفي كل الاتجاهات السياسية والثقافية والنفسية والسلوكية داخل المجتمع الأمريكي ، وهو من ثم سيعطي ليس السود فحسب ؛ وإنما كل الشرائح الاجتماعية من أصول غير أوروبية المزيد من الثقة بالنفس ،وكذلك القوة والعزم من أجل مواجهة كل ما من شانه الحد من طموحهم كأمريكيين لهم نفس الحقوق والواجبات كأفراد متساوين . تجاوز اليوتيبا وهو بهذا المعنى سيعطي بعدا جديدا لمعنى المساواة بين الأعراق المختلفة التي تشكل نسيج الشعب الأمريكي ، ويشكل في الوقت نفسه رافعة ضرورية لكل المنادين بالمساواة في أمريكا والعالم ، بحيث يتساوى المواطنون فيما بينهم دون النظر إلى ثقافتهم أو عرقهم باعتبارها عائقا أمامهم ، ذلك أنه كان من قبيل " التجديف "لدى البعض ، أو " اليوتيبا " لدى البعض الآخر ، مجرد الحديث عن وصول رجل أسود إلى البيت الأبيض منذ بضع سنوات ، ولم تمض بعد بضعة عقود على ما لحق بمارتن لوثر كنج الذي كان ينادي فقط بالحقوق المدنية وليس رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية . ومع ذلك نعتقد أن ذلك ما كان ليتم لولا ؛أن هناك جملة من الشروط التاريخية ، قد وفرت ما يمكن القول أنه الوضع " الثوري " ـ ذا جاز القول بذلك ـ هو الذي مهد لهذا التغيير ، كونه شكل الشروط اللازمة في الزمان والمكان من أجل اختيار باراك حسين أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية ، ذلك أنه لولا نضج تلك الشروط لما كان بالإمكان على الأقل راهنا حصول ذلك الاختيار . الشروط الداخلية والخارجية ويمكن القول من بعد أنه لا يمكن للمراقب عزل ذلك الاختيار عن شروطه ومحدداته الداخلية ، أي المتعلقة بصميم بنية المجتمع الأمريكي ، وبين الشروط الخارجية التي تتعلق بالسياسة والاقتصاد والأمن الأمريكي ، وعلاقة كل ذلك بالعالم وبأمريكا كمجتمع ونظام سياسي ، ذلك أن العديد من العوامل الداخلية والخارجية ساهمت في خروج الانتخابات الأمريكية بهذا الشكل الذي خرجت به ، والتي أنتجت تغييرا يعتبر " ثوريا " في معنى الشكل ، لا أعتقد أنه يتعداه إلى الجوهر أي إلى جوهر النظام الأمريكي ببنياته المختلفة السياسية والاقتصادية الأمنية والنفسية .
فالانتخابات الأمريكية جرت في ظل بداية تراجع في دور أمريكا كقطب أوحد في العالم بعد ثماني سنوات بائسة من ولاية الرئيس الأمريكي بوش الابن ، كانت من أكثر السنوات بشاعة وعدوانية تجاه العالم ،" تمظهرت " خلالها وحشية النظام الرأسمالي ، وعدوانية النظام السياسي الأمريكي ، وهي العدوانية التي طالت العديد من الشعوب ، فجعلت من أمريكا ليس محل كراهية وحسب ، بل ومحل استهداف مباشر من مجموعات بشرية قدرت أنها قد تعرضت للظلم ، وأن واجبها مقاومة هذه العدوانية بكل الوسائل .
لتأتي الأزمة الاقتصادية التي هي نتاج ذلك النظام الرأسمالي المتوحش ، التي تبشر به الولايات المتحدة الأمريكية، شعوب العالم باعتباره " كلمة السر " على طرق الرفاه والتقدم ، ليعصف بالمجتمع الأمريكي نفسه هذه المرة ، في أسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد العظيم عام 1929 ، والذي كان أيضا نتاجا أمريكيا ، لتلقي بثقلها الحاسم على ملايين الأمريكيين ، الأمر الذي وضع النظام السياسي الأمريكي أمام أكثر من مأزق في الوقت ذاته نتيجة سياساته العسكرية والاقتصادية .
ومع ذلك لا يمكن تحميل كل تلك السياسات ، بما حملت من تهديد للأمن والسلم الدوليين سواء على صعيد الأمن العسكري أو الغذائي الذي ساهم في أزمة الغذاء العالمي على الرئيس بوش بمفرده ، بقدر ما يتحمل مسؤولية ذلك معه ، حزبه والمؤسسة الاقتصادية والمالية والعسكرية التي هي من يرسم السياسية في أمريكا ، حيث الرئيس لا يعدو أن يكون منفذا لتلك السياسات التي تقررها تلك المصالح .
ويبدو أن تلك المصالح قد أرادت في هذه اللحظة التاريخية ، بشكل أو آخر أن تزيل عن وجه أمريكا ما لحقه خلال ولايتي بوش الابن ، لذلك كان لابد من التغيير ، والتغيير هذه المرة بشكل جوهري ولكن في الشكل وحسب ، وإن كان هذا التغيير مع ذلك تاريخي بكل المعايير ؛ لذلك كان أوباما هو الحصان الأكثر ملائمة ومن كل الوجوه للمرحلة القادمة ، لعلة يستطيع أن ينجح في " تبييض " وجه أمريكا القبيح . ومع ذلك فننتظر ونر، ماذا ستقول المقبلات من الأيام في ذلك ؟
#سليم_يونس_الزريعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حماس تختزل المشروع الوطني في إمارة غزة
-
حماس: إنتاج التضليل
-
يسار امريكااللاتينية : نافذة للحلم والأمل
-
سوريا : صلابة القلعة من الداخل هي كلمة السر
-
العرّاب خدام : تغيير المواقع
-
الفوضى والفلتان : فتح تعاقب فتح
-
فتح وحماس : - الذات - بين الخوف والتضخيم
-
فتح وحماس : -الذات - بين الخوف والتضخيم
-
حماس : بين مصداقية الفعل والقول
-
دموع شارون والقطعان : وحملة العلاقات العامة
-
الخروج من الجغرافيا : على طريق الخروج من التاريخ
-
الإرهاب الصهيوني : يوحد المشهد الفلسطيني
-
ما أروعكم ياأطفال وطني
-
خطاب الجماعات الإسلامية : بين الواقع والمتخيل
-
الانكفاء من غزة : والفرح المؤجل ..
-
القوى الديمقراطية : ودور يبحث عمن يقوم به
-
حماس : والكلمة الأعلى
-
قضايا الحل النهائي : والسير معصوبي الأعين
-
حذار: من النفخ في شرارة الفتنة
-
حق العودة : وتصويب المفاهيم
المزيد.....
-
-أرض العجائب الشتوية-.. قرية ساحرة مصنوعة من كعكة الزنجبيل س
...
-
فيديو يظهر ضباط شرطة يجثون فوق فتاة ويضربونها في الشارع بأمر
...
-
الخارجية اليمنية: نعتزم إعادة فتح سفارتنا في دمشق
-
تصفية سائق هارب اقتحم مركزا تجاريا في تكساس (فيديو)
-
مقتل 4 أشخاص بحادث تحطم مروحية تابعة لوزارة الصحة التركية جن
...
-
-فيلت أم زونتاغ-: الاتحاد الأوروبي يخطط لتبنّي حزمة العقوبات
...
-
مقتل عنصر أمن فلسطيني وإصابة اثنين آخرين بإطلاق للنار في جني
...
-
بعد وصفه ضرباتها بـ-الوحشية-... إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب
...
-
أكاديمي إسرائيلي: بلدنا متغطرس لا تضاهيه إلا أثينا القديمة
-
كيف احتمى نازحون بجبل مرة في دارفور؟
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|