ترجمة وإعداد : ســعدي يوســف
" ليســلي ستينتِن ، خرّيجة مدرسة الدراما بماساشوستس ( الولايات المتحدة ) ، أمضتْ أربع عشــرة ســنةً ، في دراسـةٍ ميدانيةٍ ، حقّـاً ، عن لوركا ، وفي العام 1989 أصدرت نتيجَ دراستها ، كتاباً في حوالي ستمائة صفحة من القطع
الكبير ، لمناسبة الذكرى المئوية للوركا ( وُلدَ العامَ 1889 ) .
وباعتباري ذا رِحلةٍ طويلةٍ مع الرجل ( لوركا ) ، يمكنني القولُ إن كتاب ستينتِـن ، فريدٌ ، أي أنني لم أجد مثيلاً له في الدأب
والتوثيق ، لا باللغة الإنجليزية ، ولا بالفرنسية . قد أظلمُ المؤلفةَ إذ أختار من موسوعتها الحميمةِ ما اخترتُ ، لكني أكتفي بأن
أعلن ، عن كتابٍ قد لا يسمعُ به أحدٌ ، في ظروفنا الثقافية المستعصية "
***
فجرَ الأحد ، السادس عشر من آب 1936 ، سقط مانويل مونتيسنوس ( زوج أخت لوركا ) برصاص مفرزة إعدامٍ فرنكويّـة . القسيس الذي تلقّـى الإعترافَ الأخير ، ذهب ، بنفسه ، إلى أسرة لوركا ، يخبرها بموته .
عـلِـمَ لوركا ، هاتفياً ، بما حدثَ . وبدأ آلُ روزاليس ( الذين استضافوا لوركا الخائف ) يقلقون عليه . وكان
أحد الكتائبيين حذّرهم من عمليات إلقاء قبضٍ جارية ، قد تشمل لوركا . وفكّـرت العائلةُ بنقله إلى مأوى أكثر أمناً ، ربما إلى دارة الموسيقيّ مانويل دي فايا ( كارمن ) ، بأعالي غرناطة .
حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر ، توقفت سيارةٌ بها ثلاثة ضباطٍ عند منزل آل روزاليس ، واتخذَ جنودٌ مسلحون بالرشاشات مواضع لهم على امتداد الشارع ، وفوق سطوح المنازل المجاورة ، وطوّقت قواتٌ إضافيةٌ الشوارعَ المحيطةَ . تقدمَ الضباطُ الثلاثةُ إلى مدخل المنزل ، وأعلنوا أنهم جاؤوا يقبضون على لوركا .
لم يكن في المنزل ، آنذاك ، من آل روزاليس ، سوى السيدة روزاليس التي واجهت رويث آلونسو ( الآمر ) وزميلَـيه ، رافضةً أن يأخذوا لوركا من منزلها ، وطالبةً أن تعرف سبب القبض عليه .
قال أحدُ الثلاثة : " مؤلَّـفاتُــه " .
السيدة روزاليس تشبّثت بموقفها ، وذكّـرت الضباطَ بانتماء عائلتها إلى الكتائب ، وأصرّت على إخبار زوجها وأولادها بالأمر ، هاتفياً . رضخَ رويث آلونسو . وخلال نصف ساعةٍ ظلت السيدة تحاول الإتصالَ بأحد أفراد عائلتها ، حتى تمكنت أخيراً مـن العـثور على ابنها ميغويل في ثُكْـنة الكتائب . استخدمَ رويث آلونسو السيارةَ لإحضار ميغويل ، وعاد الإثنان إلى المنزل بعد وقتٍ قصيرٍ ، صحبةَ رجالٍ آخرين .
لم يستطع ميغويل روزاليس ، أن يثني رويث آلونسو عمّـا اعتزمَ. وحين استفسرَ من آلونسو عن الذنب الذي اقترفه لوركا ، قال هذا : " لقد أضـرَّ بنا قلمُــهُ ، أكثرَ مما فعل آخرون بالمسدس " .
كان لوركا في أعلى المنزل ، وسمع المشــادّةَ حوله . وعندما تأكدَ من أنه سوف يعتقَــل ، ركع مع العمة لويزا ، أمام صورةٍ للقلب الأقدس ، وصــلّــى .
كان على شفا الإنهيار ، يرتعش ، ويبكي .
وحين غادرَ المنزلَ ودّع العمة لويزا والسيدة روزاليس . أمّـا اسبرانزا فقد قال لها :
" لن أعطيكِ يدي ، لأنني لا أريدكِ أن تظني أننا لن نلتقي ثانيةً " .
كان يرتدي سروالاً رمادياً غامقاً ، وقميصاً أبيضَ ، مع ربطة عنقٍ مُـرخاةٍ .
قاده رويث آلونسو خارج الباب ، وعبر الناصية ، إلى السيارة المنتظِــرة .
بعد مغادرته بدقائقَ ، اتصلت السيدة روزاليس هاتفياً بأسرة لوركا . وفي اليوم نفسه ذهب زوجها إلى والد لوركا. اسرع الرجلان إلى محامي العائلة ، لتدبير دفاعٍ قانونيّ ، في حال تقديم المتمردين ، لوركا ، إلى محاكمة.
***
أوصلت السيارة ، لوركا ، إلى بناية الحكومة المدنية في شارع دوكويسا ، لِـصقَ حدائق النباتات التابعة لجامعة غرناطة ، غير بعيد عن منزل آل روزاليس . جرى تفتيش لوركا ، واحتُـجِــزَ في مكتبٍ . وقد أكّــدَ له ميغويل روزاليس الذي رافقه في الرحلة القصيرة ، أنه لن يتعرض لأذىً .
في ما بعدُ ، وفي اليوم نفسه ، ذهب لويس روزاليس وأخوه خوزيه ، وهما عضوان قديمان في الكتائب ، إلى بناية الحكومة المدنية ، وطلبا تفسيراً لاعتقال لوركا . أُمِـرا بالإنصراف. ولاحقاً ، كان على لويس أن يوضح في وثيقة رسميةٍ قراره باستضافة لوركا في منزله ، مبيناً أن لا أحدَ اعتبرَ إقامةَ لوركا لديه " اختفاءً " ، وأن كثيرين من الكتائبيين يعلمون بإقامة لوركا لديه . دافعَ روزاليس عن أفعاله ، وأقسمَ على " الدفاع عن ديني وعلَـمي ووطني".
واضحٌ أنه كان ، وعائلته ، في وضعٍ دقيقٍ .
فبعد يومين من اعتقال لوركا ، تبرع لويس روزاليس بخاتمٍ إلى الكتائب ، وأهداهم أبوه هدية ثمينة من المصوغات والنقود الذهب " في سبيل الوطن " .
سُــمِـحَ لخوزيه روزاليس برؤية لوركا ، مساء السادس عشر من آب ، فأعطاه كارتون سجائر " جَـمل " .
وسأله لوركا أن يتبرع بمالٍ ، باسمه ، للكتائب . كما سُمح لأحد جيران آل روزاليس برؤيته ليوصل إليه بطانيات من السيدة روزاليس. وهناك شاهدٌ ثالثٌ رأى لوركا أثناء اعتقاله في بناية الحكومة المدنية ، يتذكر أنه كان صامتاً
باديَ الإمتعاض .
صباحَ الإثنين ، السابع عشر من آب ، دخلت أنجلينا كوردوبيّـا ، مربية كونجا غارثيا لوركا ، الغرفةَ الطويلةَ ذاتَ الأثاث النزرِ ، حيث كان لوركا محتجَـزاً تحت حراسةٍ مسلّـحةٍ .
قال لها لوركا : " أنجلينا ، أنجلينا ، لماذا جئتِ ؟ "
قالت له : " أمّـكَ أرسلتني " .
وقدّمت إلى لوركا سلّـةً فيها أومليت بيض وبطاطا ، وترموس قهوة ، وتبغ .
تفحّـصَ حارسٌ الطعام ، ليتأكد. لكن لوركا كان بلا شـهيّـةٍ . وغادرت أنجلينا مسرعةً .
ارتفعت درجة الحرارة كثيراً عصرَ ذلك اليوم ، لكن لوركا ظلّ محتجزاً داخل بناية الحكومة المدنية .
***
حسبَ شخصٍ في الجوار ، صادفَ أنه كان في الشارع ، صبيحةَ اليوم التالي ، أُخِـذَ لوركا من البناية حوالي الساعة الثالثة صباحاً ، من يوم الثلاثاء ، الثامن عشر من آب ، مغلولاً مع رجلٍ ثانٍ ، ديوكورو جالبندو جونثالث،
وهو معلمٌ أعرجُ كان اعتُـقِـلَ قبل ساعة .
وُضع الإثنان في سيارة ، مع سائق ، وحارسينِ ، وكتائبيّيـنِ .
انطلقت السيارةُ بالرجال السبعة ، في ظلام غرناطة ، نحو الطرف الشماليّ الغربيّ للمدينة ، وانعطفت في طريقٍ غير ممهّدٍ ، يلتوي بحدّةٍ ، صاعداً إلى السفوح الجرداء للسييرا نيفادا .
لم تكن الليلة ذات قمرٍ .
على مبعدة ستة أميال من غرناطة ، وعلى علوّ ثلاثة آلاف قدمٍ فوق مستوى سطح البحر ، توقّفت السيارة ، في قرية فيثنار ذات البيوت البيض ، عند قصرٍ من القرن الثامن عشر ، حُـوِّلَ إلى مركز قيادةٍ كتائبيّ .
وبعد انتظارٍ قصيرٍ ـ ربما لتسلّـم الأوراق ـ أُخذَ لوركا ورفيقه إلى مبنىً من الحجـر الأحمر ، أسفلَ فيثنار تماماً،
على حافة جُـرفٍ مفاجـيء .
حتى ذلك الشهر ، كان المبنى ( لا كولونيا ) يستعمَـل ملعبَ أطفالٍ صيفياً . لكن منذ الأول من آب استُخدِمَ زنزانةً للسجناء المحكومين .
جنودٌ ، وحراس ، وحفارو قبور ، وخادمان ، كانوا يسكنون الطابق العلوي من ( لا كولونيا ) .
احتُـجِـزَ لوركا في الطابق الأسفل . كان معه المعلم جالبندو جونثالث ، ومصارعا ثيران يساريّـان .
تلك الليلةَ ، كان الحارس الشابّ ، خوزيه خوفر تريبالدي ، يتولى نوبة الحراسة. قال تريبالدي للسجناء مطَـمْـئناً إنهم سيؤخذون اليومَ التالي ، للعمل في شقّ طريقٍ . قدّم له لوركا سجارةً ، وحاول أن يبدأ معه حديثاً ، مستفسراً إن كان بإمكانه صباح غدٍ الحصول على صحيفةٍ وتبغٍ . أجابه تريبالدي : نعم .
لكن ، بعد حينٍ ، أفصحَ تريبالدي للرجال الأربعة عن حقيقة الأمر.
لقد شعر ، باعتباره كاثوليكياً تقيّـاً ، أن واجبه يدعوه إلىيخبرهم بأنهم سوف يُـقتَـلون ، وبأنه يقدم لهم فرصةَ الإعتراف الأخير.
كان لوركا مصعوقاً : " لكني لم أفعل شيئاً ! " . هكذا صرخَ .
حاولَ أن يقول صلاةً . " أنت تدري . أمي علّـمتنيها. والآن نسيتُـها" . قال هذا باكياً . ثم تساءلَ : " هل سأكون ملعوناً ؟ "
قال له تريبالدي إنه لن يكون ملعوناً .
قُبَـيلَ الفجر ، أُخذ السجناء الأربعة من لا كولونيا ، في شاحنةٍ ، نحو سفحٍ عند المنحدَر ، حيث أشجارُ الزيتون ملتفّةٌ . تحت موضعهم بأميالٍ يمتدّ الفيغا . وعلى مبعدة مئاتٍ من الأقدام ، قرب قرية الفاكار ، خزّانُ ماءٍ عربي من القرن الحادي عشر ، فوينته غرانده ، وهو بالعربية : عين الدموع . قروناً ظلّ يزوِّد غرناطةَ ماءً .
لم تكن الشمس بزغتْ بعدُ ، حين سمع رفاقه قعقعة البنادق.
لقد أُعدِموا بالرصاص ، عند أشجار الزيتون .
وحين طلع النهار ، دفع حفارو القبور رفوشَـهم في التراب ، وشــرعوا في عملهم الصباحيّ .
لندن 27/2/2004