حبيب بولس
الحوار المتمدن-العدد: 2459 - 2008 / 11 / 8 - 01:32
المحور:
الادب والفن
أتساءل وبحرقة عن مستقبل أدبنا, أتساءل وقلبي حزين على مسيرة هذا الأدب, لأنني أرى تصرفات تصدر عن أدباء تشي بأشياء لا تليق بأدب ولا بأدباء. أتساءل مثلا كيف يمكن لأديب ما أن يغير مواقفه بين ليلة وضحاها؟ أو كيف يمكن له أن يغير رأيه في شيء ما دون أن يسمع أو أن يقف على الرأي المغاير؟ كيف له أن يتحيز لرأي كان يخالفه قبل ليلة وان يتنكر لرأي كان يحّرض له, دون أن يبرهن على هذا التحول بدلائل مقنعة, كيف؟ وكيف والمتوالية طويلة.
الإجابة عن هذه التساؤلات بسيطة.
يكون هذا الأديب مقتنعا تماما بما قرأ وموافقا الكاتب على رأي كتبه ولكن لمجرد أن يدعم رأي الكاتب أديب آخر هو في علاقة شائهة معه أو في عداوة ما, تنقلب قناعته وتصير ضد ما كان مقتنعا به والقضية هكذا تصبح قضية شخصية أو قضية علاقات وليست قضية علمية موضوعية تقوم على إثباتات. فهل صار الأدب يقوم على اعتبارات شخصية؟ بمعنى أن تغير الموقف المشار إليه سابقا يؤشر على أن المنطلقات جميعها والحكم على الأدب كلها تكون مرتبطة بتلك العلاقة.
وطالما أن العلاقة هي التي تقرر, لذلك لا نستغرب من الأديب أن يتلون وينافق ويداهن ويرائي, وهو في سريرة نفسه يعرف أن ما يقوم به مخالف لما يؤمن به, أو لما يدعي انه يؤمن به, ومن هنا ينصب هم هذا الأديب على التفتيش عن وسيلة للمناكفة او للإغاظة بشكل خفي مستتر لأنه يخشى ذلك علانية. " عدو عدوي صديقي ولكن صديق عدوي عدوي". هذا المعيار المضحك البعيد عن الموضوعية يصبح معياره في التعامل الأدبي. فهل يعقل ذلك؟ الأدب لا يقوم على علاقات شخصية ولا يقوم وفق أهواء مزاجية متقلبة. التعامل مع الأدب يجب أن يكون موضوعيا بحيث نقيسه بمقاييس ومعايير أدبية محضة بعيدة عن الرغبات الشخصية والانتمائية والعائلية وأقول ويدي ترتجف لأنني أخشى أن يكون الأمر كذلك, أو الطائفية, والأخيرة اشد إيلاما. "فصديق عدوي" يؤلمني أكثر لأنه من طائفة غير طائفتي. ولو كان الأمر مقلوبا لكان الأمر أسهل بمعنى أن التعصب الطائفي وللأسف, وآمل أن أكون مخطئا, صار يأخذ مكانا في الاعتبارات الأدبية والمقاييس العلمية, ومتى ما تسربت الطائفية البغيضة إلى مكان ما أفسدته ولأنها لا ترحم أحدا, حتما سينهار البنيان الذي بنيناه جميعا بدمع العين. هل صارت الطائفية أو العلاقة تغير في المفاهيم؟ وتجعل الأديب يضمر عكس ما يعلن؟ فيتظاهر بالانفتاح والديمقراطية وبالعلاقات المنفتحة ولكن إذا فحصنا تصرفاته ونبشنا في دواخله ونظرنا إلى تعصبه لرأي أو لمجموعة آراء مدفونة في داخله تخرج منه في لحظة ضعف أو غضب تنكشف أوراقه ويتعرى.
مؤسف, ولكن هذا هو الحاصل. وإلا كيف نفسّر تصرفات هذا الأديب المتناقضة؟ السريعة التقلب. كيف يمكن أن نفسر وقوفه إلى جانب رأي ما ورد في مقال ما, وفجأة ينقلب عليه لان شخصا آخر لا يطيقه أو لان مزاحمة أيّد ذاك الرأي؟ كيف نفسّر تصرفات أديب يهرول نحوك ويلهث وراء جملة تصدر عنك وفجأة يبيعك, حين يشعر أن النار ربما ستلحق به وتكويه, لذلك يبدا بتحضير العدة سلفا ليوهم الآخرين أن النار ستكون بسبب عداوة شخصية, مع العلم أن لا عداوة شخصية هناك ولا يحزنون.
انه العهر بعينه, وهذا التعاهر الأدبي بدا يسود علاقتنا مؤخرا وللأسف. ونحن نتساءل ومن حقنا: كيف يمكن للأديب الذي من المفروض أن يكون متسلحا برؤيا وبنظرية يصدر عنهما أن يكون بوجهين, وان يسير بيننا بوجه أبي ذر وبقلب أبي جهل؟ والمشكلة تأخذ بعدا أكثر تعقيدا حين يكون هذا الأديب المزاجي في منصب ما فيحاول جهده أن يبعدك عن المركز وان يدفع بك إلى الهامش ناسيا أن الناس أوعى بكثير من ذكائه وأنهم هم بالتالي الذين يقررون ما هو الغث وما هو الثمين. أو انه يحاول أن يقرّب من منهم في رأيه أو في اعتقاده اقل منه شانا في الأدب, كي يظل هو الأبرز, ناسيا انه مهما حاول لا بد أن يظهر الحب من الزؤان إذ " لا يبقى في الوادي غير حجارته" كيف يمكن لأديب أن يتظاهر بانتمائه إلى نظرية ترفض التعصب وتحاربه وهو في الوقت نفسه يخفي العكس؟ في الأدب لا توجد منطقة وسطى, فإما أن تكون مع وإما أن تكون ضد. والأمر مشروع, ولكن أن تكون مع وضد في نفس الوقت فهو أمر محيّر وغير مقبول بتاتا. وأديب من هذا النوع الذي وصفناه من الطبيعي انه لا يرى إلى عوراته, بل يرى دائما إلى عورات الآخرين إن وجدت, وان لم تنوجد اخترعها من خياله وألحقها بمن يشاء. فما يكتبه هو الأحسن والأفضل وهو لا يحتمل النقاش والويل لمن ينتقد. بينما حين يكتب غيره أو يقوم بمشروع أدبي ناجح ومقبول, يتلهف القراء لمتابعته فهذا شيء لا يستحقه, أو حين يأتي غيره برأي جديد صادق يقوم على نظرة واعية حرصا على الأدب وعلى مسيرته, يستخف به ويسخر منه ويقلل من شانه ويروج دعايات حول صاحب ذلك الرأي بغية إفشاله أو إلحاق الضرر به.
كنا سابقا نعلم أولادنا ونربيهم على احترام الأدب والأدباء على اعتبار أن الأديب من المفروض أن يكون نموذجا يحتذى, فهو مهندس الأرواح البشرية, ذلك لأنه يحث على خُلُق ويؤشر على الجرح في كتاباته, فهذه هي مهمته الأساسية التي أكسبته وما زالت تكسبه الاحترام. ولكن على ما يبدو صار الأدب اليوم شيئا آخر صار عهرا, تتحكم به أهواء شخصية وتقلبات مزاجية ولا يهم المستوى.
لقد صدق أديبنا الفلسطيني موسى الحسيني حين قال: "إن الأدباء بشر" ولكنه رحمه الله, لم يكن يتصور حتى في أسوأ أحلامه حين أطلق تلك الجملة انحدار البعض إلى هذا الدرك. فهو كان يقصد "بالأدباء بشر" أن للأديب عواطف ومشاعر وأحاسيس عليه أن يصدق في التعبير عنها, لا أن يتحايل عليها ويموهها, لم يكن يقصد أبدا أن للأديب الحق في التعاهر والتقلب والنفاق والحكم على الشيء من منطلقات هجينة على الأدب.
*"الإنسان علم صغير" قالها يوما إمام نثرنا الجاحظ, وكم صدق في ذلك, وأضيف مع استماحته العذر ومحير. وهذا هو الحاصل, لذلك أقول: "شيء ما عفن في مملكة الدنمارك", كما قال إمام المسرح "شكسبير" وهذا العفن صار من المفروض أن نجتثه من جسم حركتنا الأدبية, وان نستأصل الأعضاء التي أعطبها.
لنكن موضوعيين, صادقين مع أنفسنا ومع الآخرين, لنكف عن التهويش الأرعن الذي لا يفيد, فربما تنقلب الأيام فمن يدري, ومن يضمن؟ لنحاول أن نحكم على الأمور بنزاهة, لا بوسائل لا تليق بالأدب, هذا إذا أردنا النهوض بحركتنا الأدبية, وإذا أردنا لها أن تكون مثمرة تسير في المسار الصحيح, لا حركة شائهة معطلة تحكمها مزاجات وعصبيات وعصابات وعلاقات مشبوهة.
ارحمونا من هذا العهر, ولنكن جميعا جنودا في خدمة أدبنا.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .
[email protected]
#حبيب_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟