|
نحو الخلف
نيازي مصطفي
الحوار المتمدن-العدد: 2458 - 2008 / 11 / 7 - 09:35
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
فراغ ثقافي ما، خواء فكري. هذا هو الحال في بلادنا. ما جعل إنتباهي يتجه لتلك النقطة هو مروري الشخصي بتلك الحالة، أنا لا أحاول هنا أن أسقط حالتي علي المجموع، و لا أعمم نتائج ما أعلمه عن نفسي بل بصفتي مصري (لنأخذ مصر كنموذج ) أعاين ما يحدث الآن بداخلها أستطيع القول بحالة إنحسار للفكر و الثقافة و للمشاعر الوطنية داخل الشعب، المصري الآن لا يوجد في حيز تفكيره أي وجود حقيقي لمصر، (عدم) هو ما يطلق علي أبعاد محيطنا في مصر، و لكن لماذا هذا الفراغ الفكري و العلمي و ضعف الإنتماء؟، بداية نقول أن محيط الدولة بعد جغرافيته نستطيع أختزاله بشئ من التبسيط إلي محيط سياسي و إقتصادي و إجتماعي بالإضافة إلي الحياة الفكرية للشعب. أذا نظرنا إلي الحياة السياسية في مصر(كنموذج عن الحال العام للعديد من الدول) فنستطيع نشر نعيها بعد أن ماتت أكلينيكياً منذ أمد طويل حيث تحول الساسة من ممارسة الحكم بمفهوم رعاية المصالح العامة للشعب و تداول السلطة بما كان يسمي ب"حكم الشعب" (مع الأحتفاظ ببعض التدقيق لذلك المفهوم) إلي ممارسة القهر و الديكتاتورية .
أما عن الأقتصاد المصري و مستوي رفاهية الشعب فالقاصي قبل الداني يعلم ما يواجه الشعب المصري ،كنموذج، من خطر الموت جوعاً و هو ما يعبر و بصدق عن فشل نظام حكم رجال الأعمال الذي أبتدعه الحزب الحاكم في مصر، و الذين بدورهم قاموا و بشكل فاضح بتحويل مجري الحياة الإقتصادية في مصر بما يلائم زيادة رؤوس أموالهم و ثرواتهم علي حساب الغالبية العظمي من الشعب، حتي الأكاديميين الإقتصاديين لجأ العديد منهم إلي تبرير فشل النظام الحاكم و خلق الأسباب الواهية له بدلاً من كشف الحقائق ووضع الحلول و ذلك طالما أمنوا هم شر ذلك التدني الأقتصادي.
حتي الحياة الإجتماعية و الفكرية تجمدت تماماً، وذلك علي خلفية محاولة المثقفون و الناشطين الإجتماعيين الحقوقيين تبرير وجودهم كعناصر للحراك الإجتماعي و الثقافي و محاولة كسب تأييد الجماهير التي ما زالت للأسف تري فيهم مارقين عن العادات و التقاليد الشرقية بسبب دعواتهم المستمرة لتحرير الفرد من هيمنة الماضي و تراثه بل الأدهي وجود قاعدة شعبية ضخمة لدينا تتكلم عن كونهم خارجين عن الدين و ثوابته (مهرطقين) و ذلك كما كان يفكر الأوروبيين في عصور ما قبل النهضة. و يضاف إلي محاولة كسب التأييد الشعبي سعيهم إلي دفع تهم العمالة للقوي الأجنبية و تكدير السلم الإجتماعي و غيرها من عشرات التهم التي يلحقها بهم النظام الحاكم في مصر و غيره من النظم و من أساليب النظم الرجعية الناجحة أيضاً حث و دفع رجال الدين علي المتحررين منهم أو بصورة غير مباشرة عن طريق التغاضي عن تجاوزات رجال الدين، و ذلك لتأليب الرأي العام عليهم في ظل دولة ما زال رجال الدين فيها يستطيعون (كما في أوروبا في العصور الوسطي) تكفير من يشاؤون و ما يستتبع ذلك بالضرورة من أحكام تصل إلي القتل و أقلها التشهير بالفرد أجتماعياً و معاملته كصاحب العدوي الذي ينبغي الأبتعاد عنه و ما يصاحب ذلك من أضرار نفسية بليغة للناشط و المفكر.
في ظل هذا الجو الملوث يتحول المثقف و الناشط من الإهتمام بالقضايا الأساسية إلي الإنشغال بمطارديه من رجال الحكم و الدين و حتي من الشعب، وسط تسلق المنافقين و تصدرهم للحياة الفكرية و الإجتماعية، حتي أصبح من الصعوبة بمكان تمييز المثقف و الحقوقي الأصيل من المزيف وسط هذا الزخم من المتسلقين أشباه المثقفين الإنتهازيين من أصحاب القلم المنافق. و المثقف و الناشط الحقيقي يعلم هذا الخلط و تأتي محاولة إثبات وجوده الفعلي المخالف لغيره من أصحاب الفكر و القلم الرخيص، و لكن هذا الإثبات يحتاج لمن يعي الفرق، و هذا لا تجده في مجتمعاتنا حيث وسط الصراع الفكري عندنا دائمأ ما تتوه الحقائق و تشوه المعالم نتيجة لعدم وجود قاعدة شعبية واعية بما يدور من حولها، و لسبب آخر، و هو تدخل النظام الحاكم في بلادنا عن طريق بما يتبعه من مفكرين موالين و رجال دين رجعيين و إعلام موجه مازال تحت السيطرة و التوجيه لصالح من يريدون و من يواليهم ضد من يخالفهم بل و المؤسف أنه أحياناً كثيرة ما يتحالف الشعب بلا وعي منه علي الناشط أو المثقف نتيجة لوسائل الدولة في تأليب الرأي العام المسبق توضيحها.
و لكن ليس هذا حال المثقف أو الناشط الإجتماعي فقط بل هو حال الجميع في ظل حالة من الهيجان العام في دولنا لإثبات الوجود كإنسان أولاً و كمكانة علمية لأصحاب علم أو مهنة عندنا بما يمكن أن نطلق عليه" حجز مساحة إجتماعية ما" و هذا شئ بديهي لكل إنسان و في كل مجتمع في جميع مراحل حياة الإنسان علي هذا الكوكب و لكن الخلاف بين الماضي و الحاضر و بين التخلف و التقدم هو وجود قواعد واضحة للصراع الإجتماعي بما يضمن نبذ المعني العنيف لكلمة صراع إلي معني سلمي يدور فكرياً ووجود معايير لازمة و متساوية أمام الجميع للحصول علي وضع يتلائم مع ما يمتلكونه من ميزات و قدرات، و تلك القواعد و المعايير تضمن عدم الإحتكام إلي قواعد طبقية أو شرائع الغاب.
إثبات الهوية الإجتماعية المناسبة لكل شخص و طموحه المتناسب مع قدراته أصبحت تدور وسط حالة من الهرج و المرج حيث تنتشر بصورة غير طبيعية الألقاب العلمية و الفكرية بطريقة قد تدعوك للتساؤل : لماذا نحن متخلفون علميا ً و حضارياً عن الغير ما دمنا نحمل كل هذا الكم من العلماء و المفكرين الذي قد نتخيل أنها تتجاوز نسبتهم في الشعب النسبة الموجودة في أكثر الدول تقدماً و رقي.
في الواقع هي هويات علمية ورقية، مثبتة و ممنوحة في دولنا من قبل هيئات ووسط نظام تعليمي فاشل لأفراد لا يملكون حتي الحد الأدني من المؤهلات اللازمة لحمل ذلك اللقب العلمي أو هذا. مناخ علمي فاسد قد يدفع في الكثير من الأحيان أصحاب القدرات الحقيقة و المؤهلات العقلية و المواهب من اليأس من نيل حقهم الطبيعي العلمي و الإجتماعي وسط هذا الكم الهائل من الألقاب التي يحصل عليها الجميع بلا أدني مجهود. ووسط جو عام من الفساد و الرشوة حيث الأمثلة أمام أعين الجميع منهم، من فشل الغالبية من المفكرين و المثقفين في الحصول علي فرصهم الأجتماعية و أستحقاقاتهم العلمية وسط معيار وحيد للنجاح و هو الرشوة أو عدم مناهضة ما يحمله من فكر لخط سير النظام الحاكم . و أنا لا أغالي إذا قلت أن غالبية المصريون الحاملون لمؤهلات علمية لا تعبر بحق عن مكانتهم العلمية بل هي في الغلب هويات ورقية لا تساوي قيمة الورق الذي كتبت عليه، قليل هم من تتطابق هوياتهم الفكرية الورقية مع ما يحملونه فعلاً من قيمة علمية.
في ظل هذا الفساد السياسي و الإقتصادي و القهر الإجتماعي و الهرج العلمي نستطيع أن نرصد ملامح هروب للخلف من قبل مجتمعاتنا و شعوبنا في ظل اليأس الإجتماعي إلي مرحلة (ما قبل الإجتماع) و هي مرحلة باكورة تكوين البنيات الأساسية و الأسباب لقيام الجماعة البشرية في ظل الأحتياج المتزايد إلي الآخر و النمو الفكري المتنامي للفرد، و في بداية هذه المرحلة كان الفرد لا يري في نفسه أي أختلاف عن ما يحيط به من أحياء، فالفرد وقتها كانت كل أحتياجاته تتركز في الطعام و الشراب و تلبية غرائزه الطبيعية، لا يعلم شئ عن عن تميزه عن الأحياء الحيوانية الأخري و لا عن تميز كل فرد بشري عن الأخر، و في مراحل تلك الفترة تتطور العقلية البشرية نتيجة التجمع مع الآخر حيث يقوم فيها كل فرد بناءاً علي قدراته و إمكاناته و مجهوده بحجزالحيز الإجتماعي المفترض له تبعاً للمعايير المتساوية و القواعد الواضحة، و في بلادنا أختفت تلك المعايير و القواعد للأسف (أو لم توجد من الأساس) فعدنا (أو مازلنا) إلي (في) مرحلة لم يكن يدري فيها الإنسان أنه إنسان.
- الآن هنا ماهي أنجح وسائل الأرتقاء الإجتماعي في مجتمعاتنا ؟
الرشوة ستكون إجابة صحيحة.
الولاء التام للنظم الحاكمة إجابة صحيحة أيضاً.
الحظ و الصدف إجابة صحيحة أحياناً.
لا قواعد و لا شروط ، مجرد فوضي.
و لكن هل يمكن تخيل بنية سلمية للفرد و بالتالي للمجتمع الذي يتخذ من الفرد العماد الأساسي في تكوينه، بكل تأكيد لا، حيث يسود الفساد و آلياته من رشوة و حكم جبري وحيث ضمور القواعد الأخلاقية مقابل نمو سرطاني للحيوانية، في تلك الظروف و الفرد في مجتمعاتنا يري الآخر في العديد من الدول ينال أكثر مما يحلم به هو، و يحيط به ما يحيط، لا مجال أمام الفرد عندئذٍ غير الإحباط و اليأس و الإنتقال من الحلم بحياة أفضل يوظف فيها ما يمتلكه من قدرات إلي مجرد محاولة البقاء علي قيد الحياة و توفير الطعام و الشراب و المسكن "إن وجد" و "الجنس "إن وجد.
هذه هي أحلام الفرد عندنا ما دام لا يمتلك آليات الفساد كالرشوة و غيرها ، مجرد توفير حاجاته الفطرية الغرائزية التي لا تختلف عن أهداف و أحتياجات الفرد البدائي في مرحلة ما قبل الدول أو حتي ما قبل العشائر و القبائل و هي حاجات الإنسان في بوادر وجوده علي هذا الكوكب، طعام و شراب و مسكن و تكاثر لحفظ النوع، أهداف للحياة حين لم يكن يعلم الإنسان أنه هناك أهداف أخري تسير جنباً إلي جنب مع الأهداف الغريزية. أهداف تتجاوز حيوانيته، حين لم يتكون بعد لدي الفرد الوعي بأنه كائن أرقي من ما يحيط به من أحياء أو حتي جمادات و بأنه يستطيع أن ينتج فكرياً و يكون هناك هدف سامي لحياته بالإضافة لبقاءه حياً و حفظ نوعه بالتكاثر.
قد يري البعض، و لهم شئ من الحق في ذلك، أن حالة التقهقر للجنس البشري في العقد الأخير نحو البدائية الغريزية نستطيع أن نعممها بعض الشئ حتي علي الدول الأكثر تقدماً و لكن بدرجات متفاوتة و أحياناً و في بعض النقاط تكون شديدة التفاوت، و ذلك في ظل عودة سريعة للإقطاع و البربرية الفكرية.
نظرة حيادية علي بلادنا كمثال كبير علي هذا التراجع سترينا حجم الوهن الحضاري و التراجع لعادات القرون الوسطي تحت ستار الدين و العادات و التقاليد ، تكفي هذه النظرة لرؤية القهر، نظرة ترينا حجم الصمت المهين للشعب.
قبل أحتياجنا لحكم رشيد أو ديمقراطية نحتاج أساساً لشعب ذو وعي ثم نحتاج لدولة ثم بعد ذلك حكم رشيد.
#نيازي_مصطفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيتهم و بيوتنا
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|