ليس الوضع الفلسطيني كالقشطة المغمسة في العسل أو آخر حلاوة كما يقول أخواننا المصريين , لكنه ورغم كل احزانه وسوداوية احتمالاته وحصاره الخانق من قبل اعداء الحياة والحرية يبقى كالزهرة التي تتحدى الريح ، فتصمد شامخة بوقفة العز التي تتقنها ، ثم تشتد الاوضاع صعوبة وتزداد حالة القهر والمعاناة والانفجارات الداخلية المترافقة مع التدخلات الخارجية. وفي هكذا وضع مظلم نجد أن هناك حالة تصاعدية في عدد الاعتداءات على الصحافيين والاعلاميين ومقارهم في قطاع غزة المحاصر. فقد قامت بوم الخميس الفائت مجموعة من المسلحين باقتحام مكتب وكالة الانباء التركية "اخلاص"، حيث دخل اثنان من المسلحين المكتب وهددوا العاملين فيه مطالبين باقفاله. ومعروف ان المكتب المذكور يقدم خدمات اعلامية وصحافية. وقبل هذه الحادثة جرت عدة حوادث قامت خلالها عصابات مسلحة بالاعتداء على مراسل قناة العربية سيف الدين شاهين في القطاع وكذلك على مقر مجلة الدار وعلى مراسل صحيفة الحياة الجديدة في غزة الزميل منير ابو رزق الذي كتب معلقا على الحادثة مقالة بعنوان يا قلم ما يهزك ريح. كل تلك الحوادث حصلت في فترة متقاربة جعلت الشكوك تبرز حول وجود جهات معينة وفاعلة في القطاع تقف خلف تلك العصابات وتقوم بتوجيهها. إذ ليس من المعقول ان لا تتعرف الاجهزة الامنية الفلسطينية المنتشرة في القطاع بكل تسمياتها ومسيماتها على العناصر المجرمة التي تقوم بمحاولة قمع الكلمة الحرة وتكميم افواه الصحافيين والاعلاميين.
هذه الاعتداءات على الصحافة والاعلاميين تدخل الوضع الفلسطيني في حالة من الارباك والحيرة، لأنها تترافق مع اعتداء طال رئيس الشرطة الفلسطينية في القطاع غازي الجبالي وحصلت عملية ضربه في عقر داره بمقر الشرطة الرئيسي في غزة. ثم ان تلك الاعمال المنفلتة والسائبة تجيء في ظل وضع فلسطيني يعاني فيه المواطن من غياب المؤسسات وانتشار الفوضى والعصابات المسلحة، ومن نزاعات سرية وعلانية بين القيادات والأجهزة الأمنية المحلية تتداخل فيها المصالح والمطامع والنفوذ والمحسوبيات والعشائرية والشللية والجهل والتخلف مع اليأس وفقدان الأمل بحلول جدية وجذرية للقضية الفلسطينية. كذلك تأتي في وقت يتحدث فيه شارون عن امكانية الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة وتفكيك مستوطنات واعادة رسم للخارطة في القطاع المحاصر من كل صوب. وقد تلت أحاديث شارون عن الانسحاب تصريحات فلسطينية عديدة منها من اعتبره هزيمة نتيجة المقاومة ومنها من قال انها مناورة جديدة سيترتب عليها ثمنا فلسطينيا في مكان آخر. بعد ذلك صدرت تصريحات تصعيدية من جانب مستشار الامن القومي الفلسطيني وجهها ضد حركة حماس بالذات، وفهم من تلك التصريحات ان الانسحاب من غزة اصبح وشيكا. ثم جاء لقاء التصالح بين الرئيس عرفات والعقيد دحلان ليؤكد ان هناك مرحلة جديدة قادمة لا بد من التحضير لها في القطاع، وتترافق تلك المرحلة مع ضغوطات تمارس على الرئيس عرفات من اجل تسليم الاجهزة الامنية لقادة من المرضي عنهم امريكيا واسرائيليا ، طبعا وبكل تأكيد فأن الوزير السابق محمد دحلان يعد احد ابرز تلك الشخصيات، فهو يتمتع بشعبية (عشائرية) في القطاع وله نفوذ عشائري وعلاقات امنية وحركية تعزز من فرص كسبه المعركة الفتحاوية والسلطوية في القطاع، لكنها قد تمكنه من القضاء على حماس واخواتها إلا بدعم مباشر من اسرائيل وامريكا.
هذه الاوضاع التي تداخلت فيها الامور بشكل عنيف تجعل العمل الصحفي في تلك البقعة من الارض اشبه بعملية انتحارية، فالايام القادمة تحمل خطر نشوب حرب داخلية فلسطينية ، حرب بين السلطة والمعارضة أو بين بعض السلطة وبعض المعارضة، او بين السلطة والمحسوبين عليها من عناصر فتح الغير راضين عن قيادتهم المركزية ويطالبون بعقد مؤتمرات تمهيدية وتحضيرية لعقد مؤتمر فتحاوي ينتخب قيادة جديدة. ورسالة الاستقالة الجماعية التي ذاع صيتها قبل فترة احدث هزة داخل فتح ولا زالت تتبعها هزات أخرى أقل منها حجما وقوة، فاستقالة قيادة شمال غزة في تنظيم فتح تجيء ايضا ضمن نفس المسلسل الذي نتحدث عنه ونتابعه عن كثب.
قد لا تكون هناك معارك جانبية في الوقت القريب لكن هذا لا يعني ان الحرب انتهت فالحرب بين الطامحين بزعامة فتح بعد ان اصبحت مؤسساتها عاجزة و شائخة. كما أن قيادتها غدت مترهلة ومتقادمة، مع غياب التنسيق الأمين بين جيلي الشيوخ والشباب في قيادة الحركة، هذا عزز من الفرص التي عجلت ببروز الخلاف بشكله العلني، فتمت ترجمته اعلاميا عبر رسائل الاستقالة التي جاءت عن طريق وسائل الاعلام، فأغضبت قيادة فتح وسمحت للصامتين بالتصريح عما يريدون. لقد كانت الرسالة ناقوس دق مسامع رموز في فتح والسلطة والمعارضة وفي الجانبين للإسرائيلي والامريكي وعند الجيران العرب الذين اعتادوا على حشر انوفهم في المسألة الداخلية الفلسطينية.
لا نعتقد ولا نشعر بقرب وقف الهجمات على وسائل الاعلام في القطاع ، فالعدوان على الصحافة جزء من العدوان على الوحدة الوطنية الفلسطينية والتماسك الداخلي للجبهة الفلسطينية العريضة ويؤدي دورا مبرمجا لاظهار ضعف السلطة الفلسطينية وغيابها مما يعزز من حجج الجانب الصهيوني الذي يصطاد في الماء العكر. هذه الجبهة الداخلية الفلسطينية الموحدة والمتماسكة كان من المفترض ان تكون بديلا منطقيا وطبيعيا وشعبيا للسلطة الفلسطينية المنهكة والمنهارة والتي قد يكون حلها افضل من بقائها على شكلها الحالي في الأوضاع الحلية. فتشكيل الجبهة الوطنية العريضة التي من مهامها قيادة ائتلاف فلسطيني عريض يجمع كل الشعب الفلسطيني بكل فئاته ضمن اطاره الوطني المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني كان ولازال مطلبا وطنيا ملحا لم تعره قيادة السلطة الفلسطينية اهتماما ولم تُفَعِلَه فصائل المعارضة الفلسطينية، بينما وقف الشعب الفلسطيني عاجزا في ظروفه المأساوية عن فرضه على الطرفين. هذه الجبهة الوطنية العريضة يصلح ان تكون ضمن اطار م ت ف لكن بشرط ان لا تكون المنظمة كما هي الآن مجرد أداة بيد السلطة لتمرير صفقاتها وما تريد تمريره من وراء ظهر الشعب. بل يجب ان تكون صالحة وان يعاد بناؤها بشكل ديمقراطي حقيقي وبطرق حضارية وعقلانية تتوافق مع المطالب الشعبية الفلسطينية ومع ما استجد في الوضع الفلسطيني منذ الانتفاضة الثانية وحتى يومنا هذا.
انتهى