- الممثل الذي لا يستطع أن يتكلم بجسده لا يستطع أن يتكلم بلسانه.
منذ دلفت إلى أروقة أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد لفتت فرميسك مصطفى انتباه الأساتذه الفنانين، وبعد فترة قصيرة وجدت نفسها محاطة بالدوائر الضوئية الملونة، فما كان منها إلا أن تكرّس وقتها وحياتها لخشبة المسرح، وتنقطع إلى محرابها انقطاع الراهب إلى صومعة العبادة. وربما تكون فرميسك محظوظة أكثر من غيرها لأن سوانح الحظ قد وفرت لها فرصاً ذهبية للعمل مع مخرجين وفنانين كبار أمثال صلاح القصب، سامي عبد الحميد، عزيز خيون، عقيل مهدي، كاميران رؤوف، وأسماء أخرى لامعة في سماء المسرح العراقي المرصعة بالنجوم الساطعة. في مدينة ووبرتال الألمانية شاهدت عملها الأخير ( نالي أو نسيم الصباح ) ضمن الأعمال المسرحية المشاركة في مهرجان المسرح الكردي الثالث وقد أثار جدلاً كبيراً لأنه صُور داخل أستوديو فمزج بالنتيجة بين السينما والمسرح خلافاً لكل الأعمال المشاركة. وعلى هامش المهرجان قررت أن أحاورها، وأقلّب معها صفحات ذكرياتها الفنية والحياتية لأدعها تتوقف عند أبرز المحطات الأساسية في مشوارها الإبداعي، الذي لفت انتباه النقاد المسرحيين، والذي يمتد من كردستان ، مروراً ببغداد، وانتهاءً بألمانيا. في صالة هادئة من صالات مسرح الشباب في مدينة ووبرتال الألمانية دار بيني وبين فرميسك الحوار التالي:
• أنتِ متحدّرة من أسرة فنية تولي الأدب والفن اهتماماً كبيراً. هل لك أن تحيطينا علماً بالدوافع والمحفزات الذاتية والأسرية التي صنعت منك فنانة مسرحية مرموقة؟
- بدءاً لابد من الإشارة إلى أن والدي كان فناناً، فهو خريج معهد سنة 1957 . وكان مشرفاً فنياً، وقد رافقته منذ صغري إلى الكثير من النشاطات الفنية المدرسية التي أحببتها، وتعلّقتُ بها كثيراً، الأمر الذي حفّزني في السنة الأولى من المرحلة الدراسية المتوسطة لأن أشارك في النشاطات والاحتفالات المدرسية التي تُقام في المحافظات الشمالية. في عام 1983 شاركت في أول عمل مسرحي، وكان عمري آنذاك خمس عشرة سنة، لكنني مثلت دور امرأة عمرها ( 37 ) سنة. حبي الكبير للمسرح هو الذي دفعني لأن أختار دراسة فن التمثيل والإخراج المسرحي، وأكتشف عوالمه المحببة إلى نفسي.
• ما هي نقطة انطلاقتك الحقيقية كفنانة محترفة تسعى لأن تحفر اسمها جيداً في ذاكرة المتلقين؟
- أنا أعتبر بدايتي الحقيقية كفنانة محترفة هي منذ دخولي في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد عام 1985، إذ شاركت وأنا طالبة في السنة الأولى في بعض الأعمال المسرحية المهمة، ثم توالت المشاركات في السنوات اللاحقة. لقد اشتغلت مع د. صلاح القصب في مسرحية ( الملك لير ) وأُسند إليّ دور البطولة، وكنت أمثّل إلى جانب أستاذي الكبير سامي عبد الحميد. هذا الدور المهم أعتبره ثورة في حياتي الفنية لأسباب عديدة منها أنني طالبة في الصف الأول، ولا أجيد اللغة العربية، فضلاً عن وجودي إلى جانب فنان كبير هو أستاذي العزيز سامي عبد الحميد. لقد قبلت هذا التحدي الكبير مع نفسي ونجحت فيه. ثم مثلت أدواراً مهمة مع مخرجين كبار مثل الأستاذ الفنان عزيز خيّون في مسرحية ( لمن الزهور؟ ) إلى جانب الفنانة عواطف نعيم، وقد اشتركت هذه المسرحية في مهرجان المسرح العربي. وقد صعد د. مرسل الزيدي على خشبة المسرح، وقبّل يدي أمام الجمهور إعجاباً بأدائي وقال: ( فرميسك لا تجيد اللغة العربية ومع ذلك فقد أتقنت دورها وأدته بشكل رائع ) هذه المشاعر الحقيقية الصادقة كانت تمنحني القوة، وتدفعني للمجازفة وقبول الكثير من التحديات. كما عملت مع د. عقيل مهدي. واشتغلت مع الأستاذ حسين علي هارف في مهرجان منتدى المسرح في مسرحية لصلاح عبد الصبور، ونلت جائزة أحسن ممثلة دور ثانوي. وفي الفترة ذاتها اشتغلت مع الطلاب الأكراد في بعض المسرحيات الكردية، ومن الممثلين الكرد الذين اندمجت معهم في العمل رزكار، شمال عمر، ونيكار حسيب ومن بين المسرحيات التي قدمناها هي مسرحية ( في انتظار غودو ) لصموئيل بيكيت. ومن المصادفات الغريبة أنني أعيد قراءة مسرحية بيكيت الآن باللغة الألمانية بعد أن قدمناها على مسرح الستين كرسي أنا وصديقة لي، وكنا أول امرأتين تكسران تقاليد التمثيل لأن بيكيت نفسه لم يكن يحبذ هذه الفكرة. ثم عملت مع صديقي باسم عبد القهار في مسرحية ( عنقاء منبعثة ) وحصلت على جائزة أحسن ممثلة عام 1987. ثم سنحت لي الفرصة لأن أشترك في مسرحية ( لعبة الحلم ) مع د. صلاح القصب الذي أفدت من تجربته الإخراجية كثيراً، كما أفدت من مجمل معارفه العميقة في فن المسرح.
• ما هي حدود إفادتك من مفهوم مسرح الصورة الذي يشتغل عليه المخرج القدير صلاح القصب؟
- أنا لا أعتبر نفسي مخرجة لحد الآن، بل أشعر أنني مازلت طالبة في هذا المجال الكبير. تستطيع القول إن حياتي الفنية كلها هي عملية بحث مستمرة، غير أن تركيزي منصب حقيقة على التمثيل أكثر من الإخراج. فلا أستطيع أن أقول أنني ممثلة ومخرجة في آن معاً. أما حدود إفادتي من الدكتور القصب فهي كبيرة من دون شك، وأنا أظل مدينة لفضله الكبير الذي يطوّق عنقي.
• هل لك أن تتحدثي لنا عن أدوارك المتنوعة في الأعمال المسرحية الكردية، ومن هو المخرج الكردي الذي استطاع أن يفجر طاقاتك الفنية الكامنة في الأعماق؟
- لدي الكثير من الأعمال المسرحية الكردية. ففي عام 1987 اشتركت في مسرحيات ( الفانوس )، ( رحلة حسن )، ( الملك لير )، ( طائر البحر ) التي أخرجها جميعاً الفنان كاميران رؤوف. وربما تلاحظ أن أغلب المسرحيات التي مثلتها هي من إخراج كاميران رؤوف. وهذا يدلل على أنه المخرج الذي استطاع أن يمس أعماقي، ويفجر موهبتي الفنية. كنت أفهم ماذا يريد مني كمخرج، وكان يدرك ماذا أريد منه كممثلة. وهذا الانسجام هو الذي دفعني للتشبث به، مثلما دفعه للتمسك بي. كاميران رؤوف يعطي كل شيء حقه، فهو يعتني بالممثل، ويولي النص عناية خاصة، ويهتم بالديكور والمؤثرات الصوتية والبصرية، ويعطي حق الخشبة كاملاً. ولهذا فأنا أعتبر الفنان كاميران رؤوف مدرسة في التمثيل والإخراج. وهذا كلام لا مجاملة فيه، وأنا أعني ما أقوله بكل ما في هذه الكلمات من معنى. كما عملت مع مخرجين آخرين منهم الفنان بكر رشيد في مسرحية ( الأم الشجاعة ) و ( طائر البحر ).
• هل لك أن تتحدثي لنا عن دورك في مسرحية ( نالي أو نسيم الصباح ). وكيف تقمصت شخصية الشاعر الذي يعاني الغربة وهو في وطنه؟
- هذه المسرحية تتحدث عن معاناة شاعر كردي معروف اسمه ( نالي ) وكان يعيش في أيام البابانيين الذين حكموا كوردستان فترة من الزمن. وقد حدثت منازعة فيما بينهم بسبب الرغبة في السيطرة على المنطقة الأمر الذي دفع نالي إلى السفر خارج الوطن، في حين ظل صديقه الشاعر الآخر، الذي أديت دوره أنا، في الوطن. والمسرحية تعالج في كثير من جوانبها شوق نالي إلى وطنه، وحنينه إلى ذكرياته. أما صديقه الشاعر فقد عانى هو الآخر من لوعة الفراق، وألم الحنين إلى صديقه الغائب.
• يبدو أنك تميلين إلى التيارات المسرحية الكلاسيكية. ما موقفك من المدارس المسرحية الحديثة؟
- أنا أميل إلى التيارات الكلاسيكية فعلاً. فأنت إذا أردت أن تبني شيئاً فعليك أن تبني الأسس والدعامات على الأرض ثم تصعد بالبناء إلى الأعلى. المسرح له قواعد وقوانين صارمة، وعلينا أن نلتزم بهذه القوانين، وألا ندعها تنفلت كما في بعض جوانب مسرح الحداثة. المخرج كاميران رؤوف يمزج في طريقته الإخراجية بين الأسلوب الكلاسيكي والحداثي، وأنا في حقيقة الأمر أحب هذا المزج جداً. في مسرحية ( طائر البحر ) لم يكن الديكور معلقاً في الفضاء المسرحي، وإنما كان على الأرض، وهو عبارة عن قلب وشرايين. كنا نمشي على القلب، ونتحرك على الشرايين. أليس هذا مقترباً حداثياً في التمثيل؟ على أية حال حينما أمثّل أندمج في الدور الذي أؤديه إلى درجة كبيرة. وقد لا تصدّق إذا قلت لك أنني سقطت في الفراش لمدة ثلاثة أشهر مريضة بعد دوري في مسرحية ( نالي أو نسيم الصباح ) والسبب هو خوفي الشديد من الاضطراب أمام الكاميرا في داخل الأستوديو، وربما يؤدي هذا الخوف إلى فشل العمل كله. إن حياتي الفنية السابقة كانت كلها على خشبة المسرح التي تمنحني الحرية الدفء والحنان، وتغمرني بأحاسيس كثيرة لا أعرف كي أسميها.
• ما حصة لغة الجسد في أدائك المسرحي، وهل تعولين عليها إلى جانب اللغة المنطوقة؟
- إن لغة الجسد عندي هي لغة معبّرة، دالة تنطلق من الوعي والأحاسيس الداخلية التي أمتلكها. غير أنني أسعى إلى تدريب لغة الجسد يومياً من خلال التمارين المتواصلة. وأنا أقول بأن الممثل الذي لا يستطع أن يتكلم بجسده لا يستطع أن يتكلم بلسانه. كما أذهب أبعد من ذلك فأقول بأن لغة الجسد ينبغي أن تكون نابعة من وعي حاد، ومشاعر مرهفة، وأحاسيس ملتهبة. وأن الشيء الوحيد الذي يكبح لغة الجسد عندنا هو العادات والتقاليد الاجتماعية القاسية التي تشهر سيف العيب دائماً بوجه الممثلين والفنانين بشكل عام. وأعتقد أن لغة الجسد تتطور كلما استطعنا أن نحطم القيود ونتجاوز القوانين الاجتماعية الصارمة التي لا تعرف الرحمة.
• عبر تجربتك الفنية الطويلة نسبياً، ما هي أقرب الأعمال المسرحية إلى نفسك؟ أعني ما هو العمل الفني الذي استغور أعماقك كفنانة وإنسانة على حد سواء؟
- كل أعمالي المسرحية قريبة إلى نفسي من دون استثناء. وقد تعلمت من كل عمل مسرحي شيئاً ما. لذلك ففي عمل ذكرى جميلة، ومواقف لا أستطيع أن أنساها بسهولة. ثم أنني كما قلت في البداية مثلتُ مع عمالقة كبار، فكيف تريدني أن أميّز بين عمل وآخر؟ أنني أشبّه أعمالي المسرحية بأولادي الذين لا أستطيع أن أفرّق بينهم. لقد أحببت كل الأعمال التي مثلتها، وتأثرت بها جداً، وكنت أحلم بها في أثناء النوم حتى صارت هاجسي الأول والأخير لأن كل عمل كان يفجر جانباً من جوانب موهبتي الفنية.