أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جورج حداد - اميركا بعد 11 ايلول 2001















المزيد.....



اميركا بعد 11 ايلول 2001


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 2446 - 2008 / 10 / 26 - 09:56
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


Iـ الامبريالية والارهاب
يوم 11 ايلول 2001 تعرضت الولايات المتحدة الاميركية لمجزرة مروّعة، فاقت في "إرهابيتها" عملية احراق الرايخستاغ الالماني في 1933، التي قام بها الهتلريون من اجل إحكام قبضتهم على المانيا تمهيدا للحرب، كما فاقت في "غدريتها" وعدد ضحاياها البشرية الهجوم الياباني المفاجئ الذي حطم الاسطول الاميركي في بيرل هاربر سنة 1941، والذي ادى الى جر الولايات المتحدة الى الحرب العالمية الثانية. وقد شـُبهت هذه الضربة المفاجئة، التي ستؤرخ بها بداية القرن الواحد والعشرين، بـ"الزلزال". واجمع المحللون، من مختلف الاتجاهات، بأن التاريخ السياسي الاميركي خاصة، والدولي عامة، بعد هذا اليوم، لن يعود ابدا الى ما كان عليه قبله.
وتتقاطع في هذه المجزرة عدة أبعاد، مرتبطة فيما بينها بشكل لا ينفصل. الا انه يمكن، في معرض التحليل الموضوعي، تلخيصها في بعدين اساسيين هما:
أ ـ البعد الانساني، الاخلاقي ـ السياسي؛
ب ـ والبعد العملاني المركـّب، المتمثل في الاهداف والنتائج الستراتيجية والسياسية والاقتصادية.
ومن الطبيعي أن اهتمام العالم كله قد تركز منذ البدء على محاولة معرفة الطرف، او "حلف" الاطراف، الذي قام بهذه المجزرة، لأنه على هذا الجواب يتوقف تحديد خط المسار العام للاحداث العالمية اللاحقة، المرتبطة او المتأثرة، مباشرة او غير مباشرة، بالسياسة الاميركية. وقد اصدرت الادارة الاميركية للحال بعض "اللوائح"، على رأسها الشيخ اسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان". وقامت الحملة على افغانستان تحت هذا العنوان. ثم بدأت تتوالى "لوائح" و"تلميحات" جديدة، لاطراف وبلدان جديدة. ولكنه من الواضح ان معرفة الطرف المقصود ليس بهذه البساطة، وان الادارة الاميركية إما انها لم تكن تعرف بعد "العنوان النهائي الصحيح"، أو انها كانت تعرف ولا تقول كل ما تعرف. وهذا ما يجعل السؤال عن "هذا العنوان" عاما. وقبل مقاربة الجواب على هذا السؤال، لا بد اولا من النظر في البعدين الانساني والعملاني، لهذه المجزرة.
المنابع "الحضارية" للارهاب
لقد وقف العالم كله مذهولا امام هول الخسائر البشرية والمادية التي نتجت عن هذه الضربة المفاجئة، التي أودت بحياة عدد كبير من الناس الابرياء، يبلغ عدة آلاف، حسبما أعلنته السلطات الاميركية المسؤولة.
ولا شك ان مهندسي هذا "الزلزال"، كي يقوموا بمثل هذا العمل بالتحديد، وضد هذه الاهداف بالتحديد، وبهذا "الدم البارد" اذا صح التعبير، وبهذا التخطيط والدقة "العلميين" والستراتيجيين، لم يكونوا يهدفون فقط الى "القتل في سبيل القتل"، بل هم قد استخدموا الصدمة الناجمة عن البعد الانساني المروّع للضربة، كوسيلة للوصول الى اهدافهم العملانية المتوخاة.
ومن جهة ثانية، فإذا كان الشعب الاميركي قد عبـّر بصدق عن فداحة المصاب الاليم الذي حل به، فإنه من الصعب "اتهام" الادارة، والطبقة السائدة عامة، في اميركا، أنه يهمها الجانب الانساني من الضربة بحد ذاته، بقدر ما يهمها مصالح الامبريالية الاميركية واستعادة هيبة زعامتها الدولية، التي ضربت في الصميم. وهي أيضا تستخدم الضحايا الاميركية البريئة، كقميص عثمان، ذريعة للتوصل الى اهدافها العملانية.
وهذا الاستخدام للكائن الانساني، وحقه في الحياة، كـ"رهينة سلبية"، يضحى بها، أو يتاجـَر بها، أو ـ في أحسن الحالات ـ لا يؤبه لها، في الصراعات، من قبل مختلف الاطراف، يجعل من الضروري التوقف عند البعد الانساني، بشكل خاص، قبل الانتقال لتحليل مختلف جوانب هذه الضربة، وتداعياتها، التي بدأت بالحرب على افغانستان، ثم العراق، ولا ندري كيف ستتفاقم، وأين ومتى ستنتهي.
في البدء علينا ان نلاحظ ان هذا النوع من "البشارة" الذي تعمدته القوة التي تقف خلف هذه العملية، إن لـ"إثبات وجودها الفاعل"، وإن للوصول الى اهدافها، عبر الدم والنار والدمار وهلع "يوم القيامة"، ليس شيئا جديدا في تاريخ البشرية، بل هو شيء نموذجي ونمطي و"طبيعي" تماما، في ولادة وممارسة اي قوة دولية، سواء كانت دينا او مذهبا، او حزبا كبيرا او حركة جماهيرية، او دولة كبرى وحتى وسطى وصغرى، وسواء كانت "خيـّـرة" او "شريرة".
ومجزرة 11 ايلول 2001 ، بكل ضخامتها وفظاعتها ولاانسانيتها، وإن كانت تحدث لأول مرة في اميركا، البعيدة تقليديا عن مثل هذه الاخطار، ليست هي العملية الارهابية، او المجزرة، الاولى، التي تهز الضمير الانساني، والحياة السياسية الدولية برمتها، او لهذه الدولة او الامة او تلك. فبها تتكرر سلسلة المآسي الانسانية للمجازر، المعروفة تماما، في ألمانيا وأميركا اللاتينية وافريقيا الجنوبية والجزائر وفلسطين ولبنان والعراق وفيتنام وغيرها وغيرها، التي تشهد على القسوة والوحشية من قبل الانسان ضد أخيه الانسان، من جهة، وعلى الحقد واليأس، اللذين يوصل اليهما الظلم والتمييز الاجتماعي والديني والقومي جماعات واسعة من الناس في كل مكان، من جهة اخرى. ولا تختلف هذه المجزرة عن غيرها من المجازر، سوى في أنها حدثت ضد اميركا بالذات، فقامت كل هذه الضجة ضد العنف والارهاب، نظرا للمكانة المميزة لاميركا في النظام الدولي الراهن، القائم على التمييز بين البلدان والشعوب.
وظاهرة الارهاب برمتها، هي مظهر من مظاهر العنف في المجتمع الانساني والدولي، ولا يمكن التصدي لها ومعالجتها الا في هذا السياق العام.
والعنف بوجهيه، اي العنف الذي يمارس من قبل طرف معين، او ضده، او كليهما معا، بكل ما يرافق ذلك من وجوه القسوة والوحشية، في جانب، والبطولة والتضحية، في جانب آخر، هو الى الآن "المولدة القانونية" التاريخية الرئيسية للظاهرات المجتمعية. وفي هذا برهان وجودي، على ان الانسان لم يتأنسن بعد الى درجة التسامي الروحي الكافي، على الحيوان الذي نشأ عنه.
ولا شك أن الاديان، والمدارس والتيارات الايديولوجية العامة، كانت، على الدوام، بمثابة المعبـّر عن، والموجه، للسلوك الانساني، الفردي والجماعي، وللصراعات المجتمعية. واذا تجردنا عن جانبها اللاهوتي والفكري ـ المثالي البحت، وأخذنا الانعكاسات والتأويلات والتطبيقات الواقعية والعملية، فيمكن القول إنها، بشكل عام، كانت تمثل، بصرف النظر عن اصولها، حالة ملتبسة، تدعو، من جانب، للخير والسلام بين الناس، وتبرر، من جانب آخر، "بحق" و"بغير حق"، ممارسة العنف ضد "الأغيار" و"الكفار" و"المشركين" وشتى أنواع "الاعداء"، وذلك أيضا باسم الخير والسلام، بموجب قوانين "العين بالعين والسن بالسن"، و"الشر بالشر والبادئ أظلم"، و"دفع شر أكبر بشرّ أصغر"، و"انصر اخاك ظالما او مظلوما"، و"التمدين"، و"حفظ النظام"، وغيرها من القوانين الاخلاقية والسياسية التي تستخدم بحق، او يساء استخدامها، تبعا للطرف والظرف والهدف. وفي "العهد القديم"، الذي قدس الحياة الانسانية وأوصى "لا تقتل..."، دعوات صريحة لإبادة "الآخرين". وكانت الفئات المعينة تنتقل، بين مرحلة تاريخية واخرى، واحيانا كثيرة خلال حياة انسانية واحدة، من النقيض الى النقيض، اي من مواجهة الظلم والعدوان، الى ممارستهما، باسم الايديولوجية الدينية والفكرية ذاتها. فاليهود، مثلا، الذين ـ حسبما تقول توراتهم، هربوا من بطش فرعون، وجاؤوا الى فلسطين بـ"وعد يهوه"، بطشوا هم أنفسهم بشعبها القديم الاصيل، وأغرقوه، "باسم الرب!" ـ ربهم! ـ، في بحر من الدماء والدموع، تماما كما فعل ويفعل الصهاينة اليوم، الذين جاؤوا مع الاستعمار "التمديني" الى فلسطين، حاملين "وعد بلفور". والمسيحيون الذين كان لهم الصليب رمز فداء، جعله "الصليبيون" والمستعمرون رمزا للغزو والوحشية. والمسلمون الذين بدأوا اصحاب رسالة مضطهدين ومجاهدين ضد ارباب الاصنام، والاكاسرة والقياصرة، اصطـُنعت لهم أصنام جديدة، كالمماليك والسلاطين العثمانيين وجميع اصحاب الطغيان والفتن والعمالة والدكتاتورية، الذين ولغوا ويـَلـِغون في دماء الشعوب العربية والاسلامية ذاتها، مثلما يفعل الاعداء وأكثر. والشيء ذاته يقال عن الرأسمالية والاشتراكية والعنصرية، وعن تاريخ فرنسا وبريطانيا وروسيا واميركا الخ. فـ"لا جديد تحت الشمس" على صعيد التاريخ "الحضاري"، الذي لا تزال تسوده قسوة ووحشية العنف، بوجهيها "المبرر" و"غير المبرر"، "الانساني" و"اللاانساني".
وليس في هذا اي تبرير للعنف والوحشية، والارهاب والحروب، بل هو مجرد اعتراف بالحقيقة، وتقرير امر واقع، علينا ان نواجهه بعين العقل، بعيدا عن الانفعالات وردود الفعل، التي تبعدنا عن فهم حقائق الواقع، ولا تقـرّبنا منه.
"التحضـّر" الامبريالي
والنظام الرأسمالي الامبريالي المعاصر، القائم على التمييز الاجتماعي والإتني والديني والقومي والعنصري، ، بكل ليبراليته وديمقراطيته الاستنسابية والمجتزأة، وبكل الجوانب الايجابية للعولمة، كـ"ثورة الاتصالات"، والفهم الانساني لـ"القرية الكونية"، الخ، لا يمثل انقلابا نوعيا معاكسا لهذه القاعدة التاريخية، بل هو يكرسها، بأفضح ما يكون من العري و"الشفافية". وبالرغم من البناء الشامخ لهيئة الامم المتحدة، المستظل بتمثال الحرية في نيويورك، فلا يزال العنف، والعنف المضاد، وفي سياقه الحروب والثورات والدكتاتوريات والقمع والمجازر والارهاب، هو العلامة المميزة في العلاقات الوطنية والاقليمية والدولية، المركبّة والمتناقضة، الانتاجية – الاستغلالية، التعاونية – التناحرية، وهو الذي يبرز، بوصفه الشكل الرئيسي لـ"ضبط" و"تنظيم" تلك العلاقات.
لقد حققت الانسانية انجازات كبرى على مستوى العلوم والثقافة، وفي مجرى النضال الطويل والدامي لأجل التحرر، الداخلي والخارجي، ولأجل دقرطة المجتمعات، وأنسنة العلاقات الاجتماعية والدولية، وتحقيق المساواة بين البشر، وإحقاق حقوق الانسان والامم، وعلى رأسها حق الحياة، الفردية والاجتماعية والوطنية، الحرة والكريمة. ولكن على الرغم من ذلك، ومن الدور "التقدمي"، من زاوية نظر الموضوعية التاريخية، للحركة "التوحيدية"، الوطنية والعالمية، للرأسمال، وصولا الى العولمة، فإن العنف لا يزال هو "اللغة الاولى السائدة" في العلاقات بين البشر. ذلك أن الرأسمالية، وفي عهدها الامبريالي "الأرقى" و"الاكثر تطورا"، لا تستطيع (الا بأن تلغي نفسها، ليحل محلها نظام اجتماعي انساني فعلا، شكلا ومحتوى)؛ – لا تستطيع ان تغيّر جوهرها الاصلي، القائم على استغلال واضطهاد الانسان لأخيه الانسان.
وأبرز مثال صارخ على ذلك، هو أن "صناعة الموت"، المتمثلة في سباق التسلح، لا تزال هي الوظيفة "الاجتماعية!" و"الانتاجية!" الرئيسية للدولة المعاصرة. ويأخذ هذا المثال صورته العبثية المجنونة، في التسلح فائق التفوق، ولا سيما الفضائي الآحادي الجانب، من قبل الولايات المتحدة، أقوى دولة في العالم بلا منازع، بعد انهيار المنظومة السوفياتية ونهاية الحرب الباردة. فالدولة الاميركية تتخذ من تفوقها العسكري المتزايد، مرتكزا لفرض ارادتها على دول وشعوب العالم بأسره، ومحاولة تفصيل المجتمع الدولي، بالقوة، على قياس المصالح الضيقة للطغمة المالية الاحتكارية العليا المتحكمة فيها.
لقد قامت القبائل "الهمجية" فيما مضى: الجرمان والهون والمغول والتتار، بمهاجمة وتدمير "مراكز الحضارة" في روما وبغداد وغيرها. وكان احد الاسباب الجوهرية لذلك هو التفاوت الكبير في الثروة، وما ينتج عنه من عبثية سوريالية في العلاقات بين الجماعات البشرية، حيث كانت تلك القبائل تكابد شظف العيش، في حين ان الطبقات السائدة في "المراكز الحضارية" كانت تختنق بالتخمة والبذخ، الى درجة تحويل الانسان ـ العبد الى وسيلة تسلية، كمصارعين لا قيمة لحياتهم كبشر، يدفعون الى قتال وقتل بعضهم بعضا أو يلقون للوحوش (فقط لمجرد الفرجة والتسلية)، أو تحويله الى قطعان من العبيد والحريم والخصيان، تباع وتشترى وتقتنى كالحيوان، في حدائق وقصور الملوك ـ الآلهة، وسيوف "الدين" وبعض أمراء "المؤمنين".
واليوم، ولتأكيد سيادتها على العالم، فإن اميركا ـ روما الجديدة ـ تنفق "جزءا يسيرا" مما تنهبه من هذا العالم المسود، مقدار ألوف مليارات الدولارات (فقط!)، على التسلح المجنون، في وقت يعيش فيه مليارات المخلوقات البشرية في مستوى ادنى مما كان عليه "الهمج" قبل مئات السنين، وفي وقت يهاجم فيه التصحر والجفاف بلدانا وشعوبا بأسرها، بسبب عدم الاستخدام العادل والرشيد للثروات الانسانية، ويفتك فيه مرض الايدز ـ الذي يشتبه بأن الذي اطلقه هو المختبرات العسكرية الاميركية ـ بعشرات الملايين من الفقراء في افريقيا خصوصا. وبدلا من استخلاص العبر اللازمة من هذا التبذير التسليحي المجنون، يفكر المنظـّرون الغربيون العنصريون في الطرق "العلمية" الكفيلة بإيجاد "الحلول النهائية" للسكان "الفائضين عن الحاجة" في البلدان الفقيرة.
إن الاساس الاجتماعي لهذا الانحراف الانساني، الذي تقوده اميركا في العصر الحديث، هو الافتراق التناحري المتزايد، بين دينامية "حياة" الرأسمال، الآيلة الى التمركز الرأسمالي العالمي المكثف والضيق، الذي يبدو معه الهرم الكوني واقفا على رأسه، وبين دينامية الحياة البشرية، الآيلة الى التنوع والتعدد والغنى والاتساع، ضمن وحدة انسانية مركبـّة ومتفاعلة. وهذا ما يطال جميع الشعوب والجماعات الانسانية، بما فيها الجماعات الشعبية والشرائح المثقفة والمتنورة داخل الولايات المتحدة بالذات.
ولقد وضع الكثير من القوانين والشرائع والاتفاقات، لتقنين العنف "الشرعي"، ومنع العنف "اللاشرعي"، بما فيه الارهاب، والحد منه ولجمه. ومع ذلك، فإن المجتمع الرأسمالي المعاصر قد تقدم "تقنيا"، اكثر منه انسانيا، في تقنين العنف، والحد منه، بل انه – من زاوية نظر معينة – تقدم في ذلك "تقنيا"، وتخلف انسانيا، بحيث ان الامن والاستقرار، بمعناه الواسع، الجسدي والاقتصادي والغذائي الخ، اصبح اكثر فأكثر امتيازا للأغنياء والاقوياء، فالاغنى والاقوى، على حساب الفقراء والضعفاء، فالافقر والاضعف. ونظرة الى "خريطة العنف" في المجتمع الدولي ككل، وفي داخل كل مجتمع على حدة، ترينا بوضوح، أنه بمقدار ما تزداد الجماعات والشعوب والاقاليم، الافقر والاضعف، اكتواء بنار العنف وآثاره المدمرة، بالمقدار ذاته تزداد الجماعات والبلدان والاقاليم الاغنى والاقوى، تمتعا نسبيا بالامن. وبالمقارنة مع المجتمعات القديمة، القبلية مثلا، حينما كان يتم اللجوء الى العنف ضد الابرياء، كأخذ الثأر من اي فرد من افراد عشيرة الجاني، وبصرف النظر عن فظاعة هذه الجريمة التي يؤخذ فيها البريء بجريرة ذنب لم يرتكبه، فقد كان هناك نوع من التكافؤ في التسلح وفي المستوى القتالي والصراعات، بين مختلف الجماعات والاتنيات الخ. اما في المرحلة المتقدمة للرأسمالية، فقد اصبح العدوان على الشعوب الضعيفة يمثل مجازر رهيبة شبه مجانية. ووصل الامر في ايامنا الراهنة الى حد التباهي بـ"الحرب النظيفة" – على الطريقة الاميركية – التي لا يقتل فيها من المعتدين سوى قلة قليلة، بينما يقتل ويشوه ويشرد عشرات ومئات والوف الالوف من المدنيين الابرياء من "الاعداء" الاضعف والافقر، وبحيث تدمر البنى التحتية وموارد الحياة لبلدان وشعوب بأسرها، ويجري اعادتها عشرات ومئات السنين الى الوراء، دون ان يرف جفن للقادة والطبقات السائدة في البلدان المعتدية الغنية والقوية. ولعل قولة الرئيس الاميركي الاسبق ريغان "إننا سنعيد الفيتناميين الى العصر الحجري"، تمثل المـَعلـَم الاخلاقي الرئيسي للأولترا ـ امبريالية المعاصرة "المنتصرة!".
ومما يسهل هذه الجرائم الكبرى بحق الانسانية، عملية التعتيم الاعلامي الواسع، وتشويه وتنصيف وإخفاء الحقائق عن الشعوب، بما فيها شعوب البلدان المعتدية التي تكون آخر من يعلم، لأن المجرمين الكبار الاغنى والاقوى، الذين يمسكون بالعصا الغليظة للعدوان المكشوف في خارج بلدانهم، ، والقمع المستور والمكشوف داخل تلك البلدان، هم أنفسهم الذين يمسكون بالعصا السحرية للإعلام الماكر المنحاز، الموجه على الطريقة الغوبلزية المحدَّثة اميركيا.
وقد ظهر، للمثال، مدى انزعاج "الدمقراطية الاميركية" من الإعلام الموضوعي نسبيا، الخارج عن نطاق مواصفات "النظام العالمي الجديد"، في الموقف الاميركي الداعي للتشكيك بقناة "الجزيرة" القطرية، لأنها تجرأت ونقلت، الى جانب جميع البيانات والتصريحات والمقابلات مع المسؤولين الاميركيين، كاملة غير منقوصة، بعض بيانات الشيخ بن لادن وتنظيم "القاعدة"، وكذلك صورا للاطفال والمدنيين والقرى والاحياء الفقيرة في افغانستان والعراق، الذين ذهبوا ضحية "الاخطاء" الاميركية التي لا اصلاح لها.
المسؤولية التاريخية
والقوى المتسلطة في البلدان الغنية والقوية، ولا سيما في اميركا، هي التي تتحمل المسؤولية الاولى عن استمرار "التشريع الفعلي" و"التكريس الاخلاقي" للعنف، والارهاب، وبأبشع صوره، على النطاق الدولي برمته. وهذا ما تؤكده الوقائع على هذا الصعيد. ويكفي ان نتوقف عند بعض منها:
1ـ من الجانب الاخلاقي والسياسي والاقتصادي والانساني، فإن الغرب الاستعماري والامبريالي، وعلى رأسه اميركا، لا يريد، حتى هذا التاريخ، ان يعتذر، وأن يعوض لشعوب الشرق المظلوم تاريخيا، عن حقبة الاستعمار والعبودية، التي قتل فيها ملايين الهنود الحمر (الذين كانوا هدفا غير مقصود لمخططات الغزو الاستعماري للشرق، استمرارا للحملات الصليبية، والذين هم "شرقيون" تماما بالمظلومية وبالسحنة معا)، والتي اصطيد فيها وقتل واستـُرقّ عشرات ملايين "العبيد" الافارقة، وغزيت واستـُعبدت شعوب آسيا وافريقيا التي تعد بالمليارات. وفي حين ان الدول الغربية نهضت وتطورت واغتنت، على حساب النهب والاستغلال الفظيع للشرق، لمئات السنين، ولا تزال الى اليوم "تنعم" بـ"الخيرات" التي أفاضها عليها الاستعمار القديم والحديث، فإن بلدان الشرق، الغارقة في ديون النصب الدولي، تقف على ابواب البنك الدولي او صندوق النقد الدولي، مستجدية بعض القروض، التي لا تعدو كونها قيودا تكبيلية جديدة ووسيلة لمزيد من النهب لتلك البلدان والشعوب المظلومة.
كما ان اميركا قامت، خلال الحرب العالمية الثانية، بضرب هيروشيما وناكازاكي بالقنبلة الذرية، كما قام الحلفاء الغربيون بتدمير مدينة درسدن الالمانية، حيث أبيد في هذه الجرائم ضد الانسانية مئات الألوف من السكان المدنيين، بدم بارد، بدون أي ضرورات عسكرية حقيقية. وكانت الحجة اجبار اليابان وهتلر على الاستسلام. اي ان "الدمقراطيات" الغربية استخدمت وسيلة القتل الجماعي للمدنيين اليابانيين والالمان، من اجل اهدافها الستراتيجية، تماما كما استخدم هتلر "المحرقة" ضد ملايين الروس والبولونيين واليهود العزل.
ولكن المانيا اعتذرت لليهود، ودفعت التعويضات لاسرائيل، من اجل تضليل اليهود البسطاء، وتسخيرهم مع الصهيونية لارتكاب "الهولوكوست" ضد الفلسطينيين والعرب، المتواصل منذ ستين سنة. اما اميركا والحلفاء فلم يجدوا ما يعتذرون عنه، بخصوص هيروشيما وناكازاكي ودرسدن وابادة الهنود الحمر والاستعباد والاستعمار. علما ان اليهود هم حوالي عشرين مليون نسمة، في حين ان الشعوب التي وقعت ضحية للعنف الاستعماري والامبريالي تشكل اكثر من تسعة اعشار البشرية. وفي هذا تمييز عنصري لااخلاقي متماد، ضد الغالبية الساحقة من سكان المعمورة.
وحتى هذا التاريخ ترفض اميركا خاصة التحريم الكامل والشامل لاسلحة الدمار الشامل التي تريد احتكارها، وترفض توقيع اتفاقية كيوتو حول البيئة والمناخ، مما يهدد الكرة الارضية بأسرها، واتفاقية تحريم الالغام المضادة للافراد، ومحكمة مجرمي الحرب، وغيرها الكثير من الاتفاقات، مكرسة بذلك دوس المبادئ الاخلاقية الاولية، التي لا يمكن بدون تكريسها واحترامها مكافحة الارهاب.
وان دولة اسرائيل، الحليف الستراتيجي لاميركا و"واحة الدمقراطية" في الشرق الاوسط، قد قامت على اكتاف المنظمات الارهابية الصهيونية التي ارتكبت ابشع المجازر ضد الفلسطينيين، وشردت منهم أربعة ملايين انسان، و"تحارب" المواطنين المدنيين العزل بأحدث وأفتك الاسلحة الاميركية، وهي تستبيح قتل الكتاب والشعراء والشخصيات الاجتماعية والسياسية، بوصفه سياسة رسمية للدولة، التي يقف على رأسها جزارون محترفون، كشارون وامثاله، الذين يقوم الرؤساء الاميركيون باستقبالهم في البيت الابيض، الامر الذي لا تفسير لـه سوى اعطاء "كارت بلانش" اميركي للارهاب الاسرائيلي، أيا كان الهدف من هذا "التفويض بالقتل الجماعي".
2ـ ان القوى الدولية المتسلطة، وعلى رأسها الاميركية، لا تكتفي بعدم الوقوف ضد استخدام العنف بشكل عام وبدون تمييز، بما في ذلك ابشع اشكال الارهاب، بل هي عمليا "تديره شرعيا" بالطريقة التي تناسب مصالحها. فيتم اللجوء الى القوانين والاتفاقات والاعراف الدولية ضد الاطراف "المشاغبة"، حتى لو كان الامر يتعلق بالدفاع عن شخص واحد معارض او "منشق"، قتيل او سجين او ملاحق. (وللمثال: ففي وقت سابق اقامت اميركا ضجة كبرى وافتعلت ازمة دولية مع روسيا، من اجل تسهيل خروج "المنشق اليهودي الصهيوني" شارانسكي من روسيا). اما في ما عدا ذلك، فإن غالبية الانقلابات العسكرية الدموية، وأنظمة الحكم الاستبدادية، والمجازر التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين، من اميركا الجنوبية، الى اوروبا الشرقية، الى افريقيا، الى الشرق الاوسط، وصولا الى آسيا الوسطى والشرق الاقصى، فهي قد تمت وتتم بتدبير الاجهزة والدوائر الخاصة الاميركية والغربية. ويتم تنظيم حملات ابادة الجنس، التي تستخدم فيها الاسلحة المحرمة دوليا، وكافة اشكال الحصار والتجويع ومنع الادوية، تحت ستار الشرعية الدولية، كما جرى ضد الشعب العراقي، لاجل السيطرة على نفط الخليج وممراته، بحجة مواجهة صدام حسين، وكما يجري الآن ضد الشعب الافغاني، الذي يراد تحويل اراضيه الى قاعدة للسيطرة على النفظ والغاز في حوض بحر قزوين، بحجة مطاردة اسامة بن لادن. ومن اكثر الامثلة التاريخية مأساوية، واحتقارا للعقل البشري، هو الوضع "القانوني" للشعب الفلسطيني، الذي لم "تشفع له" عشرات القرارات الدولية التي صدرت لصالحه، والتي بقيت حبرا على ورق منذ ستين سنة الى الآن، بفضل "سياسة المكيالين" التي تفرضها اميركا والغرب الامبريالي على العالم.
وإن "درس" بطرس غالي هو عبرة لمن يعتبر، على هذا الصعيد. فالامين العام السابق للامم المتحدة هو مسيحي قبطي مصري، وزوجته يهودية، وثقافته فرنسية، وقد شغل منصب رئيس منظمة الفرانكوفونية. وجده، وكان يدعى ايضا بطرس غالي، كان وزيرا في عهد الاحتلال البريطاني لمصر، وقد اغتاله الوطنيون المصريون، لاتهامهم اياه، بحق او بغير حق، بالعمالة للانكليز. وحينما انتخب امينا عاما للمنظمة الدولية، كان ذلك من ضمن الرضا الاميركي عنه خاصة، وعن السياسة المصرية عامة، الموالية لاميركا والغرب. وبمثل هذه السيرة، فإنه لا توجد "ثغرة" بحجم خرم الابرة يمكن النفاذ منها "لاتهام" بطرس غالي بالتعاطف مع "التعصب الاسلامي" او "الارهاب"، بل على العكس تماما. ومع ذلك فقد جرى طرده من الامانة العامة للامم المتحدة، بشكل مشين، لاصحاب هذا الطرد وليس لـه، وذلك بإرادة اميركية آحادية. حيث ان 14 من اصل 15 عضوا في مجلس الامن الدولي كانوا يؤيدون التمديد لـه في هذا المركز. فقط السيدة اولبرايت، المندوبة الاميركية حينذاك، رفضت. وخضع مجلس الامن لارادتها. و"جريمة" بطرس غالي حينذاك، التي جلبت عليه الغضب الاميركي، انه "لم ينس" انه انسان، و"لم يخجل" انه عربي، فـ"تجرأ" على طلب تحقيق دولي في مجزرة قانا اللبنانية (قانا الجليل المكرسة في الانجيل)، التي ذهب ضحيتها اكثر من مائة قتيل، بينهم ثلاثون طفلا، ومئات الجرحى من المدنيين اللبنانيين، بفعل القصف المتعمد من قبل الجيش الاسرائيلي لمقر الامم المتحدة في جوار البلدة، الذي سبق لهؤلاء المدنيين المساكين ان احتموا به، خوفا من القصف الاسرائيلي لبلدتهم. وكان تعليل الجيش الاسرائيلي لهذه المجزرة أنها كانت "خطأ". ورفضت اميركا التحقيق في هذا "الخطأ". وبطردها بطرس غالي "قالت" اميركا للعالم كله كم تساوي بنظرها "شرعية" الامم المتحدة و"شرعة حقوق الانسان"، التي اسهم مندوب لبنان شارل مالك في صياغتها سنة 1946.
3ـ لـ"تعزيز" سياسة القوة والبطش والارهاب، تلجأ القوى الدولية المتسلطة الى تطبيق سياسة الارهاب الاقتصادي، لاجبار الدول الاخرى عامة، والدول الضعيفة والفقيرة خاصة، على الخضوع لمشيئتها ومصالحها، عن طريق كماشة تقديم او منع المساعدات والقروض، وفرض الحصار، وشتى اساليب الترهيب والترغيب. وعن هذا الطريق تحصل على "الصمت" حيال الكثير من الجرائم التي ترتكب، وإغماض العين حيال عدم تطبيق قرارات الشرعية الدولية، غير المرغوبة، وتأمين "الاصوات" لدعم القرارات والسياسات المرغوبة والمفروضة.
4ـ اذا ثبتت التهمة على تنظيم بن لادن، بأنه مشارك بالعمليات الارهابية في اميركا، وبصرف النظر عن الامكانيات والحوافز الخاصة بالقائمين بها، وهو ما يجب التوقف عنده على حدة، فإن الاجهزة الخاصة الاميركية هي التي تتحمل حرفيا ومباشرة المسؤولية الرئيسية عن ذلك، ليس فقط من حيث "التقصير" المثير للريبة، بل اولا لان هذه الاجهزة على وجه التحديد هي التي اضطلعت بدور الحاضنة لتنظيم بن لادن، الذي نشأ وترعرع واشتد ساعده برعايتها وحمايتها، قبل ان تختلف معه.
الارهاب الاصغر والارهاب الاكبر!
في هذا العرض السريع للبعد الانساني، الذي ينبغي النظر من خلاله الى مجزرة 11 ايلول 2001 في اميركا، يتبين:
اولا ـ أن المنبع "الاخلاقي" والسياسي الاساسي للارهاب، بوصفه احد مظاهر العنف في المجتمع المعاصر، انما يكمن في صميم نظام الرأسمالية والهيمنة الامبريالية.
ثانيا ـ ان مجزرة 11 ايالول 2001 انما تنبع من هذه المنبع ذاته مباشرة: إما كشكل من اشكال الصراع داخل المعسكر الامبريالي ذاته، تذهب ضحيته الجماهير البريئة. وإما كرد فعل على التسلط الامبريالي، بالطرق و"الاخلاق" ذاتها التي زرعتها الامبريالية، ولا تزال تتعهدها وترعاها، في العالم كله، ولا عجب ان تحصد اخيرا ما زرعته اولا.
ولا يبدو ابدا ان الامبريالية، الاميركية خاصة، التي سبق لها هي نفسها أن اطلقت "الروح الشريرة" للارهاب، بما فيه ارهاب "القاعدة" و"طالبان"، تريد حقا القضاء عليه و"تجفيف منابعه"، الموجودة في "حوزتها" اصلا. بل ان العكس تماما هو الصحيح. فهي تريد، باستنفاد أغراضها منه، "تجديده" و"تطويره". وها نحن نرى بأم العين كيف يجري، بحجة "مكافحة الارهاب"، "تجفيف" الدمقراطية وعسكرة المجتمع، في اميركا، وتبرير "ارهاب الدولة العظمى"، الذي يراد بواسطته ـ اذا أمكن ـ خطف الكوكب الارضي بأسره، لصالح الطغمة الاحتكارية الاميركية العليا، برافديها الانكلو ـ ساكسوني واليهودي ـ الصهيوني.
ـ ـ ـ
II ـ جدلية الكفاح ضد الامبريالية
والموقف من الشعب الاميركي
للرد على مجزرة 11 ايلول 2001، رفعت الادارة الاميركية شعار "الحرب على الارهاب"، ودعت الى تكوين "حلف دولي" يقف الى جانبها، على قاعدة "من ليس معنا فهو مع الارهاب". وهو نسخة طبق الأصل عن الشعار الاميركي السابق للحرب الباردة "من ليس معنا فهو ضدنا". واستصدرت من مجلس الامن الدولي قرارا غير محدد المعالم، تعمل لاستخدامه حسب مصالحها، كسيف مسلط فوق رؤوس جميع الدول والاطراف "غير المرضي عنها". وقد باشرت بترجمته على الارض، من جانب واحد، في الحرب الظالمة على الشعب الافغاني الفقير، بحجة الحرب على منظمة "القاعدة" وجماعة "طالبان"، وبإصدار "لوائح الاتهام والتجريم" ضد ما تسميه "دولا شريرة" و"قوى ارهابية"، بما فيها المقاومة الوطنية والاسلامية المشروعة ضد الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية والعربية. ثم بدأت الحملة الشعواء على العراق، التي انتهت باحتلاله، وهي تضع العالم امام خطر حروب اقليمية جديدة، لا يمكن التنبؤ بنتائجها المدمرة على شعوب المنطقة والعالم بأسره. وهذا يعني، في الظاهر على الاقل، أن هذه الادارة لم "تعلم" ولم "تتعلم" شيئا من "اليوم الرهيب"، الا ما تريد هي أن "تعلمه" وأن "تتعلمه"، وفقط في سياق ما تريد ان تعمله. وهذا ما يفسر جزئيا عدم الكشف عن التحقيقات في ما جرى في 11 ايلول، واستخدامها انتقائيا، كذريعة لتغطية وتبرير خطوات الادارة الاميركية.
ويتضح اكثر فأكثر أن "الحلف الدولي" الذي دعت اليه الادارة الاميركية، انما هو "حلف اميركي"، مفروض حتى على أقرب حلفائها، وأن "الحروب" التي تشنها، انما هي ايضا "حروب اميركية"، مفروضة على الآخرين جميعا.
فمكافحة الارهاب ليست شأنا اميركيا وحسب، بل هي مسألة عالمية تفترض قبل كل شيء التوافق على تعريف الارهاب قانونيا وسياسيا وعسكريا، كشرط مسبق لمواجهته الشرعية المشتركة. ولكن الادارة الاميركية تتعمد التفرد في رفع شعار مكافحة الارهاب، بمفهومها الخاص، وعلى طريقتها الخاصة. وهذا يدل ان هدفها ليس مكافحة الارهاب بحد ذاته، بشكل عام، أينما كان، ومن اي طرف كان. بل انها، بتصنيف الارهاب بشكل استنسابي، واستغلال هذا الشعار لمواجهة اطراف معينة، التي تريد، وحيثما وكيفما تريد، انما تهدف الى فرض "الزعامة" الاميركية الكاملة والمطلقة على النطاق العالمي بأسره.
بمثل هذا النهج، تضع الادارة الاميركية نفسها في جانب، و"بقية" العالم كله، "الصديق" كما "العدو"، في جانب آخر.
المسـألة المركزية!
ان هذه العنجهية تطرح للتساؤل، بحدة لم يسبق لها مثيل، مصداقية "التحالفات"، وطبيعة "الندية" و"الاستقلالية" و"الاحترام المتبادل" وما أشبه، في العلاقات بين اميركا وبين غيرها من القوى "العظمى" ودول العالمين الاول والثاني القوية والغنية. وهذه مسألة في منتهى الاهمية.
أما المسألة الاكبر، فهي التي تتعلق بالبلدان الفقيرة والضعيفة والنامية، المستعمـَرة وشبه المستعمـَرة السابقة، وفي مقدمتها البلدان العربية والاسلامية، التي لا تزال تواجه الاحتلال الاسرائيلي الغاشم، و"الانتشار!" العسكري الاميركي على اراضيها، خلف المحيطات، بعيدا آلاف الكيلومترات عن اميركا، مما يذكـّـر تماما بـ"سياسة الاساطيل!" الاستعمارية الكلاسيكية.
فهذه البلدان هي التي تمثل الهدف المباشر لهذه الهجمة الامبريالية الجديدة، لفرض استمرار ومضاعفة النهب المريع لخيراتها، وإذلال شعوبها، في ظل الجزمة العسكرية الاجنبية. والنفط والغاز الطبيعي هما "مكافأة جزئية" وحسب. وتسعى الادارة الاميركية لتأليب "الحلفاء!" معها في هذه الهجمة، مقابل بعض "الحصص" الموعودة، على ان تحتفظ هي طبعا بحصة الاسد.
ولا يكاد يحتاج الى برهان ان هذه الهجمة قد بدأت قبل 11 ايلول 2001 بسنوات. ولكن مجزرة ايلول الاميركية هذه اعطتها ذريعة وزخما جديدين، ورفعت من وتيرتها الى أقصى حد. وهي تتم تحت شعارات عنصرية مثل "صراع الحضارات" و"الحملة الصليبية"، جنبا الى جنب القوانين وعمليات القمع الاستثنائية ضد "أبناء الجارية"(1) في اميركا خاصة.
.......................................................
(1) "أبناء الست وأبناء الجارية"، مثل شعبي عربي يعبـّر عن استنكار التمييز بين الناس الذين، حسب التعبير القرآني، خلقهم الله سواسية كأسنان المشط. ونشير بهذا التعبير الى التدابير التمييزية ضد العرب والمسلمين وأبناء العالم الثالث، في الولايات المتحدة الاميركية.
.............................................
وفي الوضع المأساوي الذي نتج عن مجزرة 11 ايلول، فإن جهابذة الإعلام والستراتيجية الاميركيين وجدوا من المناسب، بالمنطق الاميركي البراغماتي المعهود، التلطي خلف جثث الضحايا البريئة، والتساؤل: لماذا يوجد مثل هذا الكره لأميركا؟
وهم يحاولون قلب الحقائق التاريخية، واتهام "الآخرين" بالتعصب، والعنصرية، والرغبة في تدمير اميركا خاصة، بدون سبب آخر، بل فقط لأنها "الأغنى" و"الافضل" و"الاكثر دمقراطية"!
وبصرف النظر عن التحدي والاستفزاز والنية العدوانية في هذا التساؤل، لا بد ان نلاحظ هنا أنه بعد انهيار المنظومة السوفياتية، وانقضاء مرحلة "الحرب الباردة" السابقة بين المعسكرين "الغربي" و"الشرقي"، حاول الستراتيجيون الاميركين انفسهم تسويق فكرة الأحادية القطبية الاميركية "ما بعد السوفيات". ولكن هذه الهجمة الاميركية الجديدة بحد ذاتها تبين بما لا يقبل الشك ان هذه "الأحادية القطبية" ليست سوى خرافة. وإلا، لو كانت هذه الأحادية موجودة فعلا، فلماذا هي ضرورية هذه الهجمة!؟
واذا تجردنا جدلا عن المعايير الستراتيجية "الكلاسيكية" لتعريف "القطبية"، نجد ان شكلا جديدا من الصراع الدولي يذر قرنه. وهو يتمحور حول العلاقة المتناقضة بين "القطب" الاميركي، و"الحلفاء!" المتجرجرين وراءه، من جهة، وبين العالم العربي والاسلامي ومعه غالبية بلدان العالم الثالث، من جهة ثانية. ويتضح يوما بعد يوم ان هذه العلاقة على وجه التحديد تصبح اكثر فأكثر المسألة المركزية الاولى في العلاقات الدولية، التي يتوقف عليها من الان فصاعدا مصير العالم.
وفي ظروف بلدان العالم الثالث المظلومة والمهانة، ولا سيما البلدان العربية والاسلامية، فإن المواجهة الدولية الجديدة تطرح أمام شعوبها، بشدة لا سابق لها، مسألة الموقف من الدول الامبريالية، في "ارتباطها" مع شعوبها. وتتخذ هذه المسألة اهمية استثنائية فيما يخص الامبريالية الاميركية، من جهة، والشعب الاميركي، من جهة اخرى.
والحركات التحررية في هذه البلدان، أيا كانت الايديولوجية الفكرية والدينية لكل منها على حدة، تقف الآن موضوعيا، جميعها بدون استثناء، امام مسؤولية تاريخية، سياسية ومبدئية، قومية وانسانية شاملة، لطرح وممارسة الاجابة عن هذه المسألة.
النظرة الانعكاسية السلبية
وهنا لا بد من الوقوف امام حقيقة تاريخية لا يمكن تجاهلها: في مجرى النضال لأجل التحرر من التسلط الاجنبي، وبنتيجة المراحل الطويلة من مختلف اشكال الظلم والاستغلال والقمع والمجازر البشعة، نشأت لدى شعوب جميع البلدان الفقيرة والمظلومة نظرة انعكاسية سلبية واسعة الانتشار، تقوم على العداء المسبق لأي بلد الامبريالي، ككل، اي دولة وشعبا معا. وساعد على تكوين هذه النظرة مزيج من عاملين سلبيين هما:
الاول ـ المستوى الثقافي والسياسي "الخام" لدى قطاعات واسعة من الجماهير الشعبية. وهذه الحالة هي نتيجة طبيعية ملازمة للفقر المدقع والبؤس الاسود والأمية الواسعة. وهي كلها من "المآثر التاريخية" التي يتحمل مسؤوليتها الرئيسية حرفيا، مباشرة وغير مباشرة، "العدو الاجنبي"، بشخص الظاهرة الاستعمارية والامبريالية، التي هي أسوأ "ممثل" لـ"وطنها!" ولـ"شعبها!".
والثاني ـ الانحراف الشوفيني في الوعي السياسي لدى قطاع واسع من المعارضين والمناضلين، المثقفين وأنصاف المثقفين، من مختلف الاتجاهات والانتماءات. وهذا الانحراف ليس قبـْـليا، ناشئا عن الثقافة "العدائية!" الخاصة لتلك الشعوب، كما يدعي منظـّرو الامبريالية حول "صراع الحضارات!"، بل هو انحراف بـَعـْـدي، ناشئ تماما وبالتحديد عن التماس "اللاحضاري" الخاص بالامبريالية. وبالتالي فهو ليس نتاجا لاي حضارة كانت، شرقية او غربية، اسلامية او مسيحية الخ، بل نتيجة منطقية مفهومة للممارسة الامبريالية، كرد فعل وتعبير سلبيين عن الحقد واليأس الناشئين عن الظلم التاريخي الفظيع الذي تقوم عليه هذه الممارسة.
ان الفقر المادي، الذي يسحق اوسع الجماهير الشعبية في هذه البلدان، يشكل المادة الملتهبة الاساسية فيها. ولكن بالنسبة للانتلجنتسيا، بمن فيها بالاخص حَـمَـلـَة الايديولوجيا الدينية ذات الجذور التاريخية والشعبية العريقة والواسعة، فإن أبشع أشكال الظلم، الذي "يتجسد" في هذا الفقر المادي، هو "الظلم المعنوي والروحي"، المتمثل في امتهان وتحقير الشخصية القومية والحضارية للشعوب والجماعات الدينية والاتنية المضطهدة. ويتبدى ذلك بشكل خاص في الحملة الظالمة على الاسلام عامة والعروبة خاصة، منذ ايام بطرس الناسك، "ملهم" الحروب الصليبية، حتى "الحملة الصلبية" الجديدة للادارة الاميركية الحالية.
ويتخذ "الشعور بالظلم" طابعا انفجاريا لدى هذه الفئات، عند قيامها بالمقارنة بين الماضي الحضاري والمادي لبلدانها وبين حاضرها البائس. ففي عهود استقلالها، كانت هذه البلدان تتمتع بازدهار نسبي، واحيانا بازدهار ساطع. اما في العهد الراهن فهي تتميز بالتخلف والانحطاط والتبعية، الناتجة بشكل رئيسي عن آليات التعامل معها من قبل الغرب الامبريالي، وعلى رأسه اميركا. ذلك ان الاساس الذي قام عليه هذا التعامل لم يكن حضاريا ومتوازنا، كي لا نقول عادلا، بل أنانيا ضيقا، مرائيا، عدائيا، غدريا واغتصابيا، تبلور في نظرة حاقدة واستعلائية تقوم على "مبادئ" التمييز: الديني والقومي والعنصري.
والنظرة الانعكاسية السلبية، لدى الشعوب والجماعات المظلومة تاريخيا، نحو البلدان الامبريالية، كدول وشعوب معا، بكل ما يترتب عليها من مواقف وسلوكيات، ضد المواطنين المدنيين لـتلك الدول، انما هي بالضبط ردة فعل، وصورة معكوسة عن النظرة والتعامل الامبرياليين، وتدخل ضمن نطاق "التعصب الديني المضاد" و"الشوفينية المضادة" و"العنصرية المضادة".
وتكون هذه النظرة الانعكاسية أشمل وأعمق وأبرز، بمقدار ما يبدو المجتمع المدني "المعادي!" "غير مبال"، و"لا يهتم" بشكل فعـّال لما يقع من قبل "دولته"، وباسم "قوميته" او "دينه"، ضد الشعوب والجماعات المظلومة. وتصبح هذه النظرة اكثر عدوانية، بمقدار ما يبدو هذا المجتمع، وإن في الظاهر، "مؤيدا" " و"مجندا" في السياسة العدوانية لـ"دولته".
انه لمن الضروري، لصالح الانسانية جمعاء، البحث الحقيقي عن الدوافع والقوى الفعلية الاساسية التي تقف خلف احداث 11 ايلول، التي ذهب ضحيتها ألوف المدنيين الاميركيين الابرياء. وهو ما لا يزال محاطا بسرية عميقة، وشكوك أعمق حول "تواطؤ ضمني" و"مشاركة" من قبل اجهزة ومراجع اميركية وصهيونية. حيث يرى محللون كثيرون ان الدور الفعلي لتنظيم "القاعدة" في هذه الاحداث لا يزيد عن دور "غطاء" و"ذريعة"، مما يذكر بمسرحية حريق الرايخستاغ من قبل النازيين الالمان في 1933 (حيث اعتقل احد شاب شيوعي هولندي بسيط واتهم بعملية الحريق، واعتقل غيورغي ديميتروف الامين العام للكومنترن، واتهم الكومنترن بتدبير الحريق. وجرت محاكمة لايبزيغ الشهيرة، ولكن النازيين فشلوا في اثبات التهمة على "الاممية الشيوعية" وانقلبت المحاكمة ضدهم). وقد ازدادت هذه الشكوك مع تعيين "لجنة عليا خاصة" لـ"كشف(!) غوامض" احداث 11 ايلول، برئاسة هنري كيسنجر بالذات، احد اكبر عتاة الامبرياليين الاميركيين الصهاينة.
لكن، وأيا كانت الايادي الخلفية المحركة لتلك الاحداث، والدور العربي ـ الاسلامي الفعال او "الديكوري" فيها، اذا صدق ان بعض الشبان العرب المسلمين قد اشتركوا في هذه العملية كاستشهاديين، حسب قناعاتهم، فلا يكاد يحتاج الى برهان أن الحوافز الايديولوجية، الدينية ـ السياسية، لهؤلاء الشبان، تدخل بشكل واضح في اطار مثل هذه النظرة الانعكاسية السلبية الى اميركا.
وتتبين هذه النظرة بوضوح ايضا في المظاهر العدائية التي جرت، فور وقوع المجزرة في اميركا، في بعض البلدان العربية والاسلامية، التي تقع يوميا ضحية العدوان الصهيوني ـ الاميركي. حيث قامت بعض الاوساط الشعبية ذات الوعي "الخام" ايضا، بالتعبير عفويا عن "فرحتها" و"شماتتها" بما جرى، بدون تمييز بين اميركا كشعب، واميركا كسياسة امبريالية.
وقد قام الشيخ بن لادن بـ"أدلجة" هذه النظرة الانعكاسية السلبية، بكل "ممارساتها" و"تعبيراتها"، الى حد أنه برر قتل "كل رجل اميركي"، لمجرد أنه "دافع ضرائب" لدولته، علما ان هذا "الاميركي" يمكن ان يكون "معارضا" او مسلما او من اصل عربي او افريقي او آسيوي الخ.
"الشيطان الاكبر!"
وتجد هذه النظرة السلبية انعكاسها ايضا، في الفهم "الشعبوي" السطحي والخاطئ لشعار "اميركا الشيطان الاكبر"، الذي سبق واطلقه الامام الخميني رحمه الله. وهذا الفهم السطحي ينزلق ايضا الى اتخاذ موقف سلبي من الشعب الاميركي نفسه، مما يدخل موضوعيا تحت مفهوم "العنصرية المضادة"، حتى ولو كان ينطلق ذاتيا من ردود فعل ومواقف أولية، معادية للظلم والعدوان والاحتلال.
واذا أجرينا مقارنة بين الموقف من الدولة الاميركية، ومن غيرها من الدول الامبريالية الكلاسيكية، نجد ان الوعي التحرري اللاعنصري، في بلدان "العالم الثالث" ظل "قاصرا" نسبيا، و"أضعف"، و"اكثر عدائية"، في ما يخص النظرة الشعبية العامة الى هذه الدولة. والسبب في ذلك هو وجود انطباع عائم واسع الانتشار حول نشوء وتكوين الدولة الاميركية يمكن تلخيصه بما يلي:
1 ـ إن اميركا "الجديدة!" نشأت من الاساس كدولة استعمارية استيطانية ـ اغتصابية، عن طريق قتل السكان الاصليين، والاستيلاء على اراضيهم، وجلب العبيد للعمل فيها في خدمة "السيد الابيض".
2 ـ إن ظاهرة الامبريالية هي الأصل في وجود، واستمرار وجود، الدولة الاميركية المعاصرة. ولا تاريخ انساني حقيقي لهذه الدولة خارج تاريخ هذه الظاهرة. اي ان اي دولة استعمارية اخرى لم تنشأ من الاساس كدولة استعمارية، بل تحولت فيما بعد الى دولة استعمارية؛ اما اميركا فنشأت من الاساس كدولة استعمارية، وبالاستعمار تحولت الى دولة.
3 ـ إن "الحضارية الاميركية" هي "حضارية" تقنية ـ براغماتية، تفتقد السبب الاساسي لوجود الحضارة، وهو جوهرها وغائيتها الانسانيين. وبالتالي فهي ظاهرة "حضارية" ادواتية، استعمالية، قد تخدم وقد لا تخدم الحضارة الانسانية الحقيقية العامة. وحتى هذا التاريخ، فهي لا تزال تخضع للجوهر "الاصلي" لوجود الدولة الاميركية، اي استعماريتها وامبرياليتها.
من زاوية النظر هذه، تبدو الدولة الاميركية وكأنها دولة فاقدة للشرعية الوطنية الخاصة التي تمتلكها الدول الامبريالية الاخرى، اي تبدو كـ"اسرائيل كبرى" نموذجية، محققة فعلا، فقط على قاعدة الاغتصاب والابادة والاستعباد والاستعمار. بحيث تبدو اسرائيل ذاتها بصورة تكرار قزمي تراجي ـ كوميدي، لاضخم "تراجيديا قومية" في تاريخ الانسانية، التي تمثلها التراجيديا الاميركية. ولـ"الأسف" أن السياسة الخارجية الاميركية، مأخوذة بمجملها، وكامتداد لـتاريخها الاستعماري ـ العنصري "الداخلي"، تعزز باستمرار هذا الانطباع.
وفي بعد نفسي ـ تاريخي، يقدم هذا تفسيرا إضافيا لتمسك الطغمة الاميركية العليا باسرائيل. فهناك دوما "حبل سُـرّي" بين المصالح المشتركة والمتبادلة، والادعاءات "الدينية" او "القومية" الغيبية، لدى مختلف القوى العنصرية، التوسعية والتسلطية.
ولون البشرة الابيض لا يبرئ العنصريين الانكلو ـ ساكسون "الاميركيين!" ولا يعطيهم اي امتياز فوق ـ انساني. بل على العكس. فهم ليس فقط لا يشذون عن "القاعدة" الاستعمارية ـ العنصرية المشتركة، بل اكتسبوا "عن جدارة" مكانة "المعادل العام" لهذه "القاعدة". وفي دفاعهم اللامنطقي عن الصهيونية واغتصاب فلسطين، انما يجسدون عقلهم الباطن، الذي يدفعهم غريزيا ومصلحيا لتبرير عنصريتهم الخاصة، واغتصاب اميركا ذاتها، عبر تبرير ودعم كل عنصرية اخرى "صديقة".
الطريق الخطأ!
ولكن بالرغم مما في هذا كله من أساس واقعي لخطأ التقديرات، ومع الاعتراف بخصوصية نشأة أميركا ـ الدولة، من ضمن الفوارق الموضوعية بين مختلف الظاهرات الاستعمارية والامبريالية، فإن المفهوم السطحي، "العنصري المضاد"، حيال الشعب الاميركي، لا يستند الا الى بعد واحد من تكوين الدولة الاميركية، هو تحديدا البعد الاستعماري والامبريالي. وهو لذلك مفهوم مجتزأ وناقص. وبهذا العيب التأسيسي، فهو يفسح المجال واسعا للخطأ.
والتجربة التاريخية تثبت ان مواجهة العنصرية الاساسية والأصلية، أي الامبريالية، لا يمكن ان يكون عن طريق "العنصرية المضادة". ففي الحساب الاخير لن يقود هذا الطريق الا الى:
1ـ تشويه وجه الحركات المناضلة، وتسهيل وصف النضال الوطني والشعبي المشروع ضد المعتدي والعدو الغاصب بغير حقيقته، وإظهاره بمظهر صراع "حضاري"، "ديني"، "قومي"، "عنصري" الخ، "متساو في العدوانية" من قبل الطرفين. والتفسير الاعتباطي وحيد الجانب لمفهوم "الارهاب" هو دليل صارخ على ذلك.
2ـ توفير الذرائع للعنصرية الاصلية، الامبريالية، في حال قوتها، لتبرير نفسها، وتشديد قبضتها وعملياتها "الانتقامية" و"التأديبية".
3ـ تحفيز هذه العنصرية الاصلية، في حال ضعفها، لـ"تطوير" نفسها، وتقديم "التنازلات"، وايجاد "الحلول الوسط"، تمهيدا لـ"التفاهم" مع العنصرية "الانعكاسية"، أي "العنصرية المضادة"، من موقع استتباع الاخيرة للاستعمار الجديد والامبريالية المتجددة باستمرار. (مؤخرا عادت الامبريالية الاميركية للمفاوضات مع "الطالبان"، حتى بغير رضى أجرائها الصغار امثال حميد قرضاي. وليس من المستبعد ان تعود قريبا للتعامل مع فلول "الصداميين" في العراق، برضى او بغير رضى الطالباني والبرزاني والمالكي وما اشبه).
التواعي المترابط
ولكن من خلال تراكم التجربة التاريخية، فإن عددا متزايدا من حركات التحرير المنظمة، وقطاعات متسعة من الجماهير الشعبية المناضلة، في البلدان المظلومة، أخذت منذ زمن طويل تميز بين سياسة الدولة، وبين الشعوب في البلدان الامبريالية. ويتم ذلك في مجرى العملية التاريخية، المترابطة والمتواصلة، لبلورة وعي الجماهير والمنظمات المناضلة، في البلدان الظالمة والمظلومة على السواء. حيث ان ارتفاع مستوى الوعي لدى كل فئة، ينعكس ويؤثر في وعي الفئة الاخرى، ويسهم في ارتفاعه. ويمكن ان نسمي هذه العملية: التداعي المتبادل للوعي المترابط لشعوب تلك البلدان. او، بتعبير لغوي عربي بسيط: التواعي المترابط لهذه الشعوب.
وقد تجلى هذا النضج التاريخي، في وعي القوى والجماهير الشعبية المناضلة، في مختلف البلدان الظالمة والمظلومة، وإن بنسب متفاوتة، تبعا للظروف المحددة. وفي هذه العملية، فإن النضال التحرري للشعوب المظلومة يضطلع بدور رئيسي في إيقاظ شعوب البلدان الظالمة وتوعيتها على حقيقة الصراعات القائمة، وعلى دور السلبية في "السماح" بوجود واستمرار الظلم، الذي يبدأ بها هي ذاتها، قبل ان ينتقل الى الشعوب المظلومة. كما ان نضال المعارضة التقدمية والشعبية في البلدان الظالمة، وتضامنها مع الشعوب المظلومة، لهما دور مهم جدا في رفع مستوى الوعي الشمولي وأساليب نضال هذه الشعوب، مما يسهم في تأكيد عدالة وحضارية قضيتها، وفي تحريرها.
ونسوق على ذلك ثلاثة أمثلة تاريخية:
1 ـ معارضة الحركات الشعبية والمثقفين في اميركا، للحرب الظالمة على فيتنام. وكان لذلك دور هام في فضح وهزيمة الغزو الاميركي لتلك البلاد، ومن ثم نشوء ما يسمى "عقدة فيتنام". كما كان لـه دور لا يقل اهمية في التأسيس لنظرة فيتنامية انسانية الى المجتمع المدني الاميركي.
2ـ تلاقي الكفاح الوطني للجماهير الافريقية ، مع تطلعات القوى التقدمية والانسانية في "مجتمع البيض" في افريقيا الجنوبية، لإسقاط نظام التمييز العنصري البشع، الذي كان يسمى "الابارتيد". وهذا ما اتاح الفرصة التاريخية لتحرير "مجتمع السود" من التمييز، وفي الوقت ذاته لم يؤد الى طرد "الجماعة البيضاء"، بل الى استمرار وجودها في البلاد، على قاعدة الانتماء الوطني ـ الانساني. وعلى هذا الاساس قامت في هذه البلاد دولة وطنية موحدة، مستقلة ودمقراطية، على انقاض الدولة العنصرية السابقة.
3ـ المعارضة "الشعبية الاسرائيلية" الواسعة للاجتياح الصهيوني للبنان سنة 1982. وهذا ما أسهم موضوعيا في الارتفاع بمستوى فهم الطابع السياسي والستراتيجي للصراع، ومستوى الممارسة القتالية للمقاومة الوطنية والاسلامية للاحتلال. وقد تبدى ذلك بالاخص في ضبط النفس وتجنب، الى اقصى حد ممكن، تعريض المدنيين الاسرائيليين لردود الفعل، بالرغم من كل الارتكابات الوحشية التي قام بها المحتلون ضد البنية التحتية الحياتية والمدنيين اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين البائسين في لبنان. وهذا التباين في اساليب المواجهة، بين المقاومة اللبنانية وبين الفاشية الاسرائيلية، اسهم من جهته في "تعرية" أكبر للاحتلال الاسرائيلي، داخل اسرائيل بالذات، مما عجل في هزيمته التاريخية في لبنان.
"الشمشونية الفلسطينية"
ولا بد هنا من التوقف قليلا عند تجربة الكفاح ضد اسرائيل، وبعض "الادوات اللغوية" التي أفرزتها، أخذا بالاعتبار:
اولا، الاهمية الدولية المباشرة لهذه التجربة، نظرا للارتباط العضوي بين المواجهة الاقليمية الفلسطينية والعربية مع اسرائيل، والمواجهة العالمية عامة، والعربية والاسلامية خاصة، مع الامبريالية الاميركية والصهيونية.
ثانيا، تعرض المقاومة الوطنية الفلسطينية خاصة، وحركات التحرير العربية والاسلامية عامة، للافتراءات المتواصلة من قبل آلة الكذب الجهنمية، الاميركية ـ الصهيونية. وهو ما تفاقم بشكل خاص بعد مجزرة 11 ايلول، ولا سيما باستغلال التشابه "الشكلي" بين العمليات الاستشهادية ضد اسرائيل، وما اشيع عن العمليات في اميركا، وهو تشابه ربما كان صُـدفويا، وربما كان مفتعلا ومقصودا بحد ذاته، لتسعير العداء ضد الشعوب العربية والاسلامية عموما، ولتشويه وضرب المقاومة الفلسطينية والعربية والاسلامية ضد اسرائيل خصوصا.
فمنذ اكثر من خمسين سنة وفلسطين ترزح تحت احتلال استعماري اجنبي غاصب، وشعب المسيح يصلب كل يوم على أيدي النازيين الجدد ـ الصهاينة، بدعم كلي من الامبريالية الاميركية. والمجتمع الدولي لا يزال عاجزا عن وقف هذه الجريمة المستمرة بحق الانسانية. وأصوات السلام في المجتمع الاسرائيلي لا تزال ضعيفة جدا نسبيا، امام الصوت العنصري البشع الطاغي حتى الآن على هذا المجتمع، في ما يشبه الوضع في المجتمع الالماني ايام النازية.
وهذا الوضع المأساوي المتفاقم يدفع قطاعات شعبية وسياسية واسعة، اسلامية وعلمانية، يمينية ويسارية، قطرية وقومية، تقدمية ومحافظة، الى اليأس من امكانية التوصل الى تحقيق ادنى متوجبات العدالة الانسانية، بالاعتماد فقط على طرق النضال الكلاسيكية، وعبر قنوات الشرعية الدولية. وكانت النتيجة المنطقية لذلك تبني خط العمليات الاستشهادية. ومنذ وقت طويل نسبيا، أقر الجزارون الاسرائيليون، "الانسانيون" جدا، بعجزهم عن مقاومة هذا الاسلوب النضالي، الذي سبق وولد في مقاومة الاحتلال في لبنان، والذي وصفوه بـ"الجنون"، لانه ـ حسب تقييماتهم ـ لا شيء يمكن ان يوقف "مجنونا يطلب موته".
وتسمي الصحافة المغرضة والسطحية، في اسرائيل والغرب الامبريالي، العمليات الاستشهادية بأنها ارهابية "انتحارية". وهذا "التفسير" المحرَّف، يقدم "خدمة سيئة" للجمهور الاسرائيلي والغربي المعني، لأنه يخفي عنه الحقيقة الموضوعية، ويعيقه في عملية اجراء تقييمه المستقل والعقلاني للاوضاع. ذلك انه يوجد تناقض تام بين مفهومي العملية الاستشهادية والانتحار، على غرار التناقض بين المفاهيم الخاصة بالعديد من "الادوات اللغوية المتجاورة" الاخرى، مثل الصراحة والوقاحة، البطولة والاجرام الخ.
فالعملية الاستشهادية تشبه الانتحار شكليا وحسب، ولكنها ـ في الحافز وطريقة الممارسة والهدف ـ لا علاقة لها من قريب او بعيد بمفهوم الانتحار، بل هي تختلف عنه جذريا في كل الابعاد: نفسيا، اخلاقيا ودينيا، سياسيا واجتماعيا، طريقة العنف الممارس وعسكريا. وهذه العملية هي عملية نضالية وقتالية خاصة، بكل معنى الكلمة.
والقائمون بهذا "الانتحار" ليسوا مهووسين بلهاء مباعين، أو مصابين بالانحطاط النفسي، كما تصورهم الدعاية الامبريالية ـ الصهيونية الفارغة. بل هم أناس عاديون جدا، أصحاب قضية وطنيا وقوميا، ومؤمنون دينيا. وبهذه الصفات، فهم آخر من يمكن ان يفكر بالانتحار او يؤيده.
والجماهير الشعبية المناضلة والمؤمنة ذاتها، تعتبر الانتحار نوعا من الانهزامية وطنيا، وخطيئة كبرى وكفرا دينيا. ولكنها تنظر الى الاستشهاديين بأنهم ليسوا مقاتلين شجعانا وحسب، بل وشبه قديسين. وترى ان العملية الاستشهادية هي شكل اعلى من اشكال النضال القائم على التصميم الذي لا يقهر، ليس على "الانتحار"، بل على النصر، عبر صراع الارادات، الذي يجسده التهديد الرمزي والمباشر بالتدمير المتبادل.
وهذا الخط القتالي، في آفاقه ومفاعيله العسكرية والاقتصادية والسياسية والاخلاقية والنفسية، يمثل ميزة تفوق ستراتيجي، تبدو امامها كل القوة الامبريالية ـ الصهيونية فعلا كـ"نمر من كرتون". وهو يحمل ابعادا صدموية، تقلب المعادلات الستراتيجية رأسا على عقب.
الاتهام المقلوب!
ولكن لخداع الرأي العام العالمي، تحاول الاوساط الامبريالية والصهيونية ان تربط بين اسلوب العمليات الاستشهادية، التي تسميها "ارهابية"، وبين "احتمال!" استعمال اسلحة الدمار الشامل من قبل هؤلاء "الارهابيين المجانين!".
وقد عبّـر الداعية الاميركي الصهيوني توماس فريدمان عن هلع حقيقي من امكانية ان يقوم "مجنون" ما، بحمل وتفجير "قنبلة قذرة" ما، في اي "مكان" ما.
ولا شك ان الطغمة الاحتكارية العالمية، المعادية للجنس البشري بأسره، هي "المبادرة" الى امتلاك واستخدام الاسلحة "القذرة" والمحرمة، وارتكاب المجازر ضد المدنيين الخ. ويكفي ان نشير الى بعض ما تتعرض له حاليا ثلاثة شعوب عربية:
ـ استخدام الاسلحة المحرمة في العدوان المتواصل على العراق، بدءا من "عاصفة الصحراء"، مما اصاب عشرات الآلاف من الجنود الاميركيين والانكليز انفسهم، ناهيك عن مئات الالوف من الضحايا من الاطفال والمدنيين العراقيين، الذين يتزايد عددهم كل يوم.
ـ قيام اسرائيل بزرع حقول من الالغام ضد الافراد في الاراضي اللبنانية المحتلة سابقا، والامتناع حتى الان عن تسليم خرائط تلك الحقول. وهذا ما يؤدي لوقوع الضحايا المدنية باستمرار، ويحرم لبنان من استخدام تلك الاراضي.
ـ واخيرا لا آخرا، الاستباحة الاسرائيلية اليومية شبه الكاملة لارض وحرمات وحياة ودماء الشعب الفلسطيني.
وفي محاولاتها المستميتة لقلب الحقائق، واتهام حركات التحرير بامكانية ارتكاب الجرائم التي ترتكبها هي نفسها فعلا كل يوم، فإن الطغمة الاحتكارية العالمية انما تدافع عن نفسها، وتسعى لتبرير جرائمها هي بالذات. وهي لن تكون منزعجة ابدا، بل على العكس سيخدمها ذلك تماما، اذا ما انزلق بعض خصومها لاستخدام احد الاسلحة "القذرة"، كما أخطأ وفعل النظام العراقي السابق اثناء الحرب العراقية ـ الايرانية، وحظي بـ"الصمت" الاميركي ـ الصهيوني حينذاك.
والسبب "بسيط" جدا، وهو: بالرغم من كل الجعجعة الاعلامية ضد اسلحة الدمار الشامل، فإن الهدف الستراتيجي لهذه الطغمة، هو، من جهة، تكريس "شرعية" احتكارها لهذه الاسلحة، ومن جهة ثانية، ليس تحريم، بل التعميم الفعلي، ولكن الخاضع لسيطرتها، لانتشار واستعمال الاسلحة "القذرة"، التي تمتلك هي بالذات ترسانتها الاعظم، وتجد فيها فرصتها الفريدة وسلاحها الأمثل، للابادة والاخضاع، باقل ما يكون من "الكلفة" واكثر ما يكون من الفتك والارهاب الجماهيري.
الكانيبالية العصرية
وهذا ما يجعل من "الطبيعي" تماما ان تكتسب هذه الطغمة "بجدارة" صفة "زمرة كانيبالية"(1) جديدة، تبعث الى الوجود الكانيبالية البدائية القديمة، بشكل عصري، "حضاري"، معولم.
............................
(1) cannibalism : أكل الحيوان لمثله، ومنه أكل البشر للبشر.
....................................
لقد عاشت مختلف الاقوام، في مراحل مختلفة، هذا النوع من السلوك البدائي الهمجي. ولكن الكانيبالية البدائية وموروثاتها القديمة كانت لها "ضروراتها" و"اخلاقياتها" التي يمكن تلخيصها في بدائية وعي الذات، المتداخلة مع نوازع صراع البقاء لدى الانسان القديم: الجوع، الجهل، الخوف من الغريب، الانتقام من الغريم، من جهة، ومن جهة ثانية: التكاتف، وتقديس الجنس الجماعي والذات الاعلى، عن طريق "التضحية" بالأبناء والابكار والعذارى و"المشاركة" في "إكرام" الموتى الاقربين بأكلهم، الخ. ومن زاوية نظر معينة، فإن الكانيبالية البدائية كانت تمثل مسلكا مشتركا لكل "الجماعة" المعينة، الهدف منه المحافظة على نفسها بمواجهة "الاغيار".
لكن المجتمع البشري، على العموم، قد تجاوز الكانيبالية البدائية، كما حرمتها الاديان "السماوية"، بحيث تم استبدالها بـ"الاضاحي" و"القرابين"، تقديم "الهدايا"، تبادل "القبل" الخ.
اما الكانيبالية المعاصرة، فمن المهم التأكيد انها لا تمثل اي جماعة انسانية معينة بالذات: شعبا، او قومية، او مذهبا دينيا، وإن كانت تستند الى هذه او تلك من الآليات الامبريالية الشوفينية، "القومية" او "الدينية". بل هي ظاهرة "نخبوية"، لا تتجاوز من حيث العدد بضع مئات من الضواري الامبرياليين العالميين، المصابين بمرض "جنون العظمة"، الذين يتحكمون بمصائر المليارات من البشر، بما في ذلك أبناء "شعبهم" أو"دينهم" ذاته.
انطلاقا من ذلك يمكن الاستنتاج ببساطة ان هذه "النخبة الطفيلية الكانيبالية" لا تمتلك اي مبرر وجود "انساني"، حتى بمقاييس الكانيبالية البدائية ذاتها، التي هي "براء" كليا منها! اما "المبررات" الاقتصادية والسياسية والاخلاقية لوجود هذه الزمرة، فتكمن فقط في التزاوج السفاحي بين "الاخلاق" العنصرية والأسس التمييزية للنظام الرأسمالي المتوحش.
وقد اصبح وجود هذه "النخبة" او "الزمرة"، بحد ذاته، "جريمة واعية ضد الانسانية، في سبيل الجريمة ذاتها". وهو يمثل النقيض الذاتي الذي يهدد الوجود البشري بأسره، بأكبر خطر يمكن ان يتهدده، وهو خطر "الاختيار" بين: عمليات الابادة الجماعية، او العبودية الشاملة لهذه "النخبة"، تحت ستار ما يسمى "النظام العالمي الجديد".
الوسيلة والغاية
لكن كل هذا، على فداحته، لا يعني الدفع باتجاه الموافقة الميكانيكية على تقليد الامبريالية والصهيونية في "كسر جميع الحواجز" الاخلاقية والانسانية للصراع، والسير بخط العمليات الاستشهادية الى نهايته القصوى، أي الإفناء المتبادل العبثي، تبعا للقاعدة القتالية ـ الاخلاقية اليهودية الشمشونية القديمة "عليّ وعلى اعدائي، يا رب".
والمقاومة الوطنية والاسلامية، الفلسطينية خاصة، وحركات التحرير الوطني للشعوب العربية والاسلامية عامة، التي "امتلكت" دون منازع هذا "السلاح الستراتيجي الجماهيري"، تتحمل بشكل كامل المسؤولية التاريخية في استعماله بالطرائقية العقلانية، الخاضعة للاهداف الاساسية للتحرير، التي، بمقدار ما هي اهداف وطنية خاصة، فهي في الوقت نفسه وفي القدْر نفسه اهداف انسانية شاملة.
ان التاريخ البشري ينوء بالنتائج المفجعة للسياسة الديماغوجية القائمة على "مبدأ": الغاية تبرر الوسيلة(!). وهي السياسة التي انتهجتها ولا تزال تنتهجها كما الامبريالية والصهيونية والفاشية، كذلك الستالينية والاستبدادية "العربية" و"الاسلامية" الخ. وقد اثبتت تجربة جميع الشعوب، ولا سيما الشعوب المناضلة من اجل التحرر الوطني، انها هي الخاسر الاكبر من مثل هذه السياسة، التي تبرر شتى الانحرافات والجرائم، سواء منها التي ترتكب ضد "الشعب الخاص" أو"الشعب المعادي"، باسم الاهداف الوطنية والانسانية النبيلة. فالوسيلة هي جزء لا يتجزأ من الغاية. وفي الحساب الاخير فإن نبل الغاية لا يشترط وحسب، بل هو نفسه مشروط حتما بنبل الوسيلة.
وبالرغم من امتلاك واستعمال اسلحة الدمار الشامل والاسلحة "القذرة" والمحرمة، من قبل الدول الامبريالية بما فيها اسرائيل، لا بد من الاعتراف أنه يوجد، حتى الان، تحفظ اساسي عام، لدى الغالبية الساحقة من حركات التحرير، اذا لم يكن كلها، على "اغراءات" احتمال استعمال الاسلحة "القذرة".
كما يوجد حرج حقيقي، في غالبية الاوساط الوطنية والاسلامية المعادية للامبريالية والصهيونية، حول بعض اشكال الممارسات الكفاحية، ولا سيما عبر العمليات الاستشهادية، التي تطال احيانا المدنيين في ظروف غير مبررة.
ان المجرمين الارهابيين الكبار، الكانيباليين الامبرياليين والصهاينة، هم الذين يدفعون كرها قطاعات واسعة من الجماهير الفلسطينية والعربية والاسلامية المسحوقة والمهانة الى اليأس السياسي والى انتهاج هذا الخط الشمشوني.
وهذا هو بالتحديد ما يفسح المجال نسبيا، امام الابواق الامبريالية والصهيونية، لذر الرماد في العيون واتهام حركات التحرير الوطني، ولا سيما المقاومة الشعبية للاحتلال الاسرائيلي، بالارهاب.
ان الجماهير الشعبية المناضلة، وقواها المنظمة، لن تتخلى عن اسلوب الكفاح الستراتيجي، الذي تمخضت عنه الروح الكفاحية المتفانية والعبقرية القتالية الشعبية، والمتمثل في العمليات الاستشهادية. ولكنها ستهتم حتما بـ"تطويره" سياسيا، نفسيا وعسكريا. وبالرغم من كل فظاعة الممارسات الامبريالية، والاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية، وخصوصا في شكل "المستعمرات" (التي تسمى تضليلا "مستوطنات")، والمرارة الناجمة عن الدعم الاميركي المفتوح لاسرائيل، لا بد ان نلاحظ ان هناك مستوى ملحوظا من ضبط النفس لدى المقاومة الوطنية والاسلامية الفلسطينية، وان الاستفادة من "التجربة اللبنانية" في المقاومة هي على "جدول اعمال" ساحة النضال الفلسطيني خاصة، وغيرها من ساحات النضال ضد الامبريالية والصهيونية عامة.
وبمقدار ما تزداد وتتوضح معارضة الاحتلال والعدوان في صفوف المواطنين الاسرائيليين، واستطرادا الاميركيين، ستزداد باطراد عقلنة اساليب المقاومة المشروعة والعادلة للشعب الفلسطيني، ولجميع الشعوب العربية والاسلامية المناضلة، بما في ذلك اسلوب العمليات الاستشهادية، باتجاه التصدي للمؤسسات والآليات (الميكانيزمات) الاحتلالية والعدوانية للصهيونية والامبريالية، والاقتناع أكثر فأكثر بأصْـوبية "تحييد" المدنيين في المجتمع "المعادي"، كشرط ضروري لإبراز وتأكيد عدالة القضايا الوطنية، وحتمية انتصارها.
الحرية لا تتجزأ!
ان العامل الذاتي، المتمثل في المنوِّرين والقادة والتنظيمات ذوي التفكير الانساني الشمولي، يضطلع بدور مقرِّر في عملية التواعي المترابط لشعوب البلدان الظالمة والمظلومة. ولكن هذا الدور ليس كشفا ذهنيا منفصلا وقبـْـليا، حيال الواقع، قد يكون وقد لا يكون، تبعا لتجليات "الذات" المفكـِّرة. بل هو جزء لا يتجزأ من الواقع، بوصفه اكتشافا فكريا انعكاسيا لـه. وهو حتمي تاريخيا، ولكنه يتقدم او يتأخر زمانيا، تبعا للظروف، كأي اكتشاف آخر. وبالتالي، فإن العامل الذاتي في هذه العملية هو في الوقت نفسه جزء لا يتجزأ من العامل الموضوعي، بوصفه أداة تعبير واعية له، اي للواقع التاريخي، الاجتماعي ـ الانساني، الذي تتم فيه هذه العملية. وهذا الواقع يشمل، فيما يشمل، الحقائق الاولية التالية:
آ ـ ان كل أمة، وشعب، وأتنية، في كل بلد، بما في ذلك جميع البلدان الامبريالية والاستعمارية، ومنها طبعا اميركا واسرائيل، هي في الاساس ظاهرة تاريخية حضارية، انسانية في الجوهر، اي في المحتوى الاساسي والطابع الشمولي لوجودها. فلا وجود لـظاهرة "شعب"، "أمة"، "اتنية" الخ، هو او هي، امبريالية او استعمارية الخ، قبـْـليا، جوهريا وكليا ً، بالمعنى "القومي ـ العنصري الخاص". مثل هذا التصنيف "العنصري المضاد" يتعارض مع حقيقة الوجود الانساني، ويدحضه تاريخ البشرية القديم والحديث.
ب ـ لا وجود ايضا للظاهرة الامبريالية او الاستعمارية الخ، "الاصلية"، "الخالصة"، بالمعنى "الوطني ـ الاقليمي الخاص". فليس هناك بريطانيا استعمارية بذاتها دائما، وولايات متحدة اميركية امبريالية بذاتها دائما، وهند أو اميركا جنوبية مستعمرة وتابعة بذاتها دائما. وليس هناك غرب ـ مركز بذاته دائما، وشرق ـ طرف بذاته دائما، الخ. فهذه الظاهرة تنبع من ظروف تطور المجتمع البشري، مأخوذا في كليته الجيو ـ سياسية والجيو ـ ديموغرافية. وهي ظاهرة "وطنية خاصة نسبية"، ناشئة عن وخاضعة لاوضاع شرطية "انسانية شاملة مطلقة". وبالتالي فإن كل من ظاهرات الاستعمار والامبريالية والظلم القومي والديني الخ، هي مرحلة من مراحل التحقق الذاتي المتعرج، والتطور الذاتي المتناقض، للمجتمع البشري ككل، اي ليس فقط في النطاق الوطني الخاص لكل بلد على حدة، بما فيه المجتمع "الامبريالي!" الخ، بل اساسا في الارتباط العضوي الارتكازي لـ"المجتمع الوطني"، كل مجتمع وطني على الاطلاق، بالمدى الاجتماعي العالمي بأسره.
وبكلمات اخرى فإن ظاهرة الامبريالية هي نتاج تاريخي عام، لمسار عالمي شامل، غير مختص، "قوميا"، "دينيا" الخ، بأمم او شعوب او اتنيات بعينها. أما المسار "الوطني الخاص" لهذه الظاهرة، وإن كان جزءا محوريا، قطبيا، بالنسبة لهذا البلد او ذاك، في هذه المرحلة او تلك، فهو يبقى جزءا متفرعا، خاضعا للمسار العالمي العام. وهذا ما يفسر "تبادل ادوار" الغزو والظلم والاستعمار الخ، فيما بين مختلف الاتنيات والاقوام والبلدان الخ، في مختلف المراحل التاريخية؛ حيث يتحول المظلومون الى ظالمين، وبالعكس.
نستخلص من ذلك أن هدف كل نضال تحرري حقيقي واع ليس استبدال ظلم بظلم، واستعمار باستعمار الخ، وليس القضاء على، او عزل، او الانعزال عن "شعب" او "قومية" او "اتنية" البلد المعتدي والظالم، بل هو التحرر الشامل من ظاهرة العدوان والظلم، ايا كان شكله ومحتواه الشوفيني والايديولوجي، القومي والديني الخ. ذلك ان التحرير الحقيقي هو الذي يرتبط ارتباطا عضويا متبادلا بتحرير كل اتنية وشعب وامة من الأنظمة الاستعبادية والامبريالية "الاجنبية" و"الخاصة". وتلك مهمة تاريخية شاملة تخص جميع الشعوب والاتنيات والاديان، ولا يمكن ان تستكمل الا بأن تشمل مجتمعات البلدان الظالمة ايضا.
ج ـ ان الامبريالية هي ظاهرة اقتصادية ـ "ثقافية" ـ سياسية ـ عسكرية، ثانوية وعرضية، في حياة الانسانية. وهي ظاهرة مشروطة، مرحلية ومحدودة تاريخيا، ولا تمثل، بل على العكس تتعارض مع المصلحة الاساسية، الوجودية، لشعوب وأمم واتنيات البلدان الامبريالية ذاتها.
وهذه الظاهرة كانت ولا تزال دائما ظاهرة ضيقة، فئوية، طبقية، تنحصر ليس فقط في "جزء" وحسب من ضمن الشعب المعني مثلا، بل ايضا وأساسا في جزء "مفروض" عليه. وإن آلية الهيمنة الامبريالية التي تتجه للسيطرة والسيادة على البلدان والشعوب الاخرى، ما هي سوى "امتداد خارجي" للهيمنة المحققة من قبل ذلك "الجزء" الضيق، اولا، على "شعبه" ذاته، الذي يعتبر ضحية له مرتين:
ـ مرة لكونه مستعبدا للطغمة الاحتكارية المسيطرة عليه، عن طريق الاكراه والتضليل، عنفيا واقتصاديا، ايديولوجيا ودينيا، سياسيا واعلاميا.
ـ ومرة لكونه، عن طريق عناصر الاكراه والتضليل ذاتها، التي تصل ذروتها في "اللوثة" العنصرية، القومية او الدينية، يجري تسخير وتجنيد أبنائه لتحقيق السياسة العدوانية، وتحويل بلده الى "ركيزة وقاعدة انطلاق" لاضطهاد وذبح ونهب وإذلال الشعوب الاخرى، التي لم يسبق لها ان تعرضت له بأي اذى.
وهذه الحالة السابقة، القـَبْـلية، المتمثلة في امكانية، ثم في واقع، تضحية الامبريالية بـ"الذات الوطنية الحرة" لـ"شعبها الخاص"، هي الشرط المسبق الذي امكن (ويمكن) به للامبريالية ان تخرج من حدودها "الداخلية"، اي "الوطنية"، وأن تتحول الى ظاهرة "خارجية"، اي "دولية". وبالتالي، فإن الامبريالية توجد "في الداخل"، "وطنيا"، قبل ان توجد "في الخارج"، "دوليا". وهي، كإمكانية اولا، وكواقع ثانيا، لا يمكن ان تكف عن الوجود نهائيا، "دوليا" فقط. حيث أنه لا يمكن التوصل الى هذا الهدف الحتمي التاريخي الا "دوليا" و"وطنيا" معا، في عملية جدلية مترابطة واحدة موحدة.
نخلص من ذلك الى الاستنتاج:
أن كل الشعوب، في البلدان "السيدة" كما وفي "المسودة" على السواء، هي "ضحايا"، بهذا الشكل او ذاك، لهذا المسار العالمي الشامل، الذي يطال الجميع بدون استثناء، والذي انتج ظاهرة الامبريالية. ولكن كل شعب له مواقعه ومواقفه وظروفه الخاصة، في مواجهة هذه الظاهرة. وهو ما يتحتم على جميع القوى السياسية ذات المصلحة، ولا سيما القوى الرئيسية المناضلة، أن تتفهمه، وأن تأخذه بالاعتبار، في ستراتيجيتها وتاكتيكاتها، سواء وعت ذلك في الوقت المناسب، أم تأخرت في هذا الوعي.
وأن شعوب البلدان الامبريالية هي، في المبدأ والاساس، ليست حليفا وحسب للشعوب المظلومة، بل ويتوقف عليها هي على وجه التحديد، في نهاية المطاف، تصحيح الانحراف الامبريالي في المسار التاريخي لبلدانها، وتخليص نفسها "وطنيا" من هذا الانحراف، كفعل أخير ضروري لتخليص الانسانية جمعاء، ونهائيا، من الويلات والصراعات، الناجمة مباشرة او غير مباشرة عن ممارسة الامبريالية، ومن التهديد، الكامن والواقعي، المتمثل بوجود هذه الظاهرة الطفيلية المرحلية، المعادية للمجتمع البشري بأسره.
ـ ـ ـ
III ـ المسألة الاميركية
عرف المجتمع الاوروبي خاصة والدولي عامة تعبير "المسألة اليهودية". وهو يعني : 1 ـ مشكلة اليهود مع المجتمع الذي يعيشون فيه؛ و 2 ـ مشكلة المجتمع، اي مجتمع وطني، والمجتمع الدولي عامة، مع اليهود الذين يعيشون فيه.
وبهذا المعنى تماما نستخدم هنا تعبير "المسألة الاميركية" لوصف مشكلة اميركا مع المجتمع الدولي، ومشكلة المجتمع الدولي مع اميركا.
تحظى الدولة الاميركية لدى شعوب العالم الثالث، ولا سيما في العالمين العربي والاسلامي، بأسوأ سمعة حظيت بها اي دولة امبريالية اخرى. ويعود ذلك الى ثلاثة اسباب رئيسية:
الاول ـ الوصمة الاصلية التي تحملها الدولة الاميركية، والمتمثلة في "خصوصية" ولادتها ونشأتها في ما سمي "العالم الجديد"، كنتيجة لأكبر وأبشع عملية غزو وإبادة واستعباد، استعمارية ـ عنصرية، في التاريخ، ذهب ضحيتها عشرات ملايين الهنود الحمر والزنوج، في ارتكابات وحشية تذكـّـر بجحيم دانتي، وتتضاءل عندها كل الجرائم الكبرى المرتكبة منذ أيام جنكيز خان حتى أيام هتلر.
الثاني ـ وراثة هذه الدولة بالتحديد لتركة النظام الاستعماري التقليدي بعد انهياره في "العالم القديم"، و"تجديدها" آلية الهيمنة الاستعمارية ـ الامبريالية الدولية، بزعامة اميركا ولمصلحتها.
الثالث ـ الحلف الجهنمي الخاص، القائم بين الطغمة الاحتكارية الاميركية، وبين الطغمة المالية اليهودية العالمية، نواة ومحرك الاخطبوط الصهيوني ـ الماسوني العالمي والامبريالي العالمي.
ان هذه الاسباب الرئيسية، وما يتفرع عنها من اسباب ثانوية، وبما ارتبط بها وما لا يزال ينتج عنها من مآس انسانية، اجتماعية وقومية ودينية الخ، لمئات البلدان، هي التي تجعل مليارات البشر، ولا سيما بين الفقراء والمظلومين والشريحة الاكبر من مثقفي "العالم المهمّـش"، ينظرون الى الدولة الاميركية في صورة رأس الامبريالية العالمية، بكل شرورها، وكأنها التنين الفظيع الذي تصوره رؤيا يوحنا.
الصدام مع "الاسلام"
ومن الجانب الاسلامي، السياسي والديني، فإن الزعيم الاسلامي الايراني ـ العالمي، الامام الراحل آية الله الخميني، عبّـر عن هذه الصورة، بتشبيه نموذجي لاميركا بأنها "الشيطان الاكبر"!
ولإدراك مدى اهمية وخطورة هذا الموقف الراديكالي من اميركا، الذي ألقى ظلا سلبيا متزايد النمو على الوضع الدولي عامة، كنتيجة للتردي المتزايد للعلاقات الاميركية ـ الاسلامية، من المعبّـر إلقاء نظرة سريعة، كمثال وحسب، على تجربة العلاقات الاميركية ـ الايرانية.
ان النظام البائد في ايران، ونعني نظام الشاهنشاه، كان يعتبر في وقته "الصديق الاول" والركيزة الرئيسية لاميركا في منطقة الخليج العربي ـ الفارسي، ذات الاهمية الاستثنائية دوليا. وكان ذلك النظام، في ارتباطه "المميـّز!" مع اميركا، يستند الى قاعدة اسلامية واسعة، بمواجهة التيار الوطني والعلماني والشيوعي، داخل ايران، و"الخطر السوفياتي" والمد القومي العربي خارجها. وكانت هذه الاوضاع الايرانية "المؤاتية"، تتزامن مع ظروف دولية ايجابية جدا لاميركا، تتمثل في هزيمة النازية وانهيار النظام الاستعماري القديم وتقدم اميركا لاحتلال مركز زعيمة ما سمي "العالم الحر". وبذلك كانت اميركا حينذاك تمتلك، لا نظريا وحسب بل واقعيا ايضا، فرصة تاريخية كي تترجم عمليا مناداتها الديماغوجية بالدمقراطية وحقوق الانسان والشعوب، وكي تنتهج في ايران سياسة تعاون "مابعد استعمارية" و"مابعد امبريالية"، تغيـّر من صورتها البشعة امام الشعوب الايرانية وغيرها من شعوب العالم الثالث.
ولكن الذي حدث هو العكس تماما. حيث تأكد بالتجربة ان صورة "الاميركي البشع" لم تكن ذكرى تاريخية سوداء، عفـّى عليها الزمن، بل هي واقع مستمر، "متكيف" و"متطور". واذا كان الاستعمار القديم هو السبب الاول للعداء الشعبي الايراني لبريطانيا، فإن "الصداقة(!) الاميركية" التي حلت محله، هي التي اصبحت العامل الرئيسي لتحفيز ونشر وتشديد تيار العداء الشعبي الكاسح لاميركا، بما في ذلك في اوسع الاوساط الاسلامية التي كانت في السابق مهادنة او موالية لاميركا، والتي انقلبت في غالبيتها الساحقة ضدها. وكان من النتائج المنطقية لهذا التطور للاحداث ظهور وتفوق "الخمينية"، وانتصار الثورة الاسلامية في ايران، وليس العكس. اي انه ليست "الخمينية" والتيارات الاسلامية هي التي اوجدت العداء لاميركا في ايران وغير ايران، بل ان العداء لاميركا هو الذي اوجد التربة الخصبة لظهور "الخمينية" وغير "الخمينية".
واليوم يتكرر المشهد ذاته، بتفاصيل اخرى، ولكن بمزيد من التراجيدية ـ الكوميدية المركـّبة، في بلدان الخليج العربية ذات الانظمة التقليدية الموالية لاميركا، التي كانت تجمع بامتياز بين ركيزتين لوجودها هما: "الصداقة الاميركية" و"الالتزام الاسلامي". فـ"بفضل"هذه "الصداقة" بوجه خاص، فإن هذه البلدان، الشعوب اولا ومن ورائها الانظمة ايضا، تقف اليوم امام مفترق الاختيار الصعب: إما "اميركا" او "الاسلام"!
من الضد الى الضد
إن هذا "الفشل" الخاص للدولة الأميركية في تغيير "صورتها الاصلية"، وما ينتج عنه من استعداء "أصدقائها" انفسهم، يبدو متعارضا مع التغيير المتواصل الحاصل في "صورة" البلدان الاستعمارية السابقة، الاوروبية الغربية. واميركا تلتقي في هذا "الفشل" مع الدولة الاسرائيلية فقط. وهذا هو بالضبط ما يفسح المجال واسعا امام نشوء النظرة التمييزية المضادة، الشوفينية القومية أو الدينية، المعادية لاميركا كدولة ومجتمع معا، باعتبارها ظاهرة امبريالية موحدة، تماما كالنظرة التمييزية المضادة لاسرائيل، كدولة ومجتمع معا. وهذه النظرة هي التي يستند اليها ما يمكن تسميته "الجناح البنلادني" في التيار الاسلامي، لتبرير وتشريع محاربة وقتل "كل رجل اميركي".
وانها لعبرة تاريخية كبيرة لاميركا خاصة وللعالم عامة، ان هذا الجناح بالذات، كما تشير الدلائل الظاهرة حتى الان، قد "نقل البندقية من كتف الى كتف"، وتحول من "الحرب مع الاميركان" بدون حساب، الى "الحرب ضد الاميركان" بدون تمييز.
فهذا التحول، بتداعياته التي لا يمكن التنبؤ بها منذ الان، يمثل هزيمة ستراتيجية للسياسة الدولية الاميركية، لما يعبّـر عنه من عملية تحول اسلامي شامل ضد هذه السياسة. ولكن، بالمقابل، فإن النظرة التمييزية المضادة ضد الشعب الاميركي، غير المسؤول اصلا عن سياسة دولته حتى وهو مضلل، انما تقدم خدمة ستراتيجية ايضا، للامبريالية الاميركية، بتسهيل استمرارها في تضليل "شعبها" ودفعه للالتفاف مكرها حولها.
وأصحاب هذه النظرة التمييزية يخطئون في تشخيص المجتمع الاميركي بمجمله كـ"عدو"، تماما كما كانوا هم أنفسهم يخطئون في تشخيص الدولة الاميركية بمجملها كـ"صديق". ومثلما ان قتالهم الى جانب الاميركان في السابق لم يكن يمثل حقيقة الموقف الشعبي العربي ـ الاسلامي الاوسع من الدولة الاميركية، فإن نظرتهم التمييزية الحالية ضد الشعب الاميركي لا تمثل ايضا حقيقة هذا الموقف.
وهذا ما يستدعي بإلحاح الرد على تلك النظرة، ولا سيما عن طريق تحليل الظاهرة الامبريالية الاميركية وعلاقتها بالمجتمع الاهلي الاميركي.
اميركا واميركا!
مع التأكيد على خصوصية نشأة الدولة الاميركية، وبدون التقليل من دور السياسة الاميركية المطبقة في تشويه وجه الشعب الاميركي، لا بد من التأكيد على ان الحقائق الرئيسية، المتعلقة بنشوء الظاهرة الاستعمارية والامبريالية في المجتمع البشري، تنطبق ايضا تماما على الدولة والشعب الاميركيين.
ليس من شك، كما اسلفنا آنفا، ان الدولة الاميركية نشأت بنتيجة عملية الغزو والابادة والاستعباد. ولكنه سيكون من السذاجة المفرطة، التي تثير الشكوك في نهاية المطاف، تصوير الامور على ان الهجرة الى اميركا، اقتصرت فقط على الغزاة، بحيث تبدو الدولة الاميركية كظاهرة شاذة تماما عن جميع دول العالم، بوصفها دولة غزاة وحسب. فالواقع التاريخي الذي لا يمكن لاحد نكرانه ان الهجرة الشعبية الواسعة الى اميركا، كانت هي المكون الرئيسي للشعب الاميركي. وبذلك فإن "الانتقال" الى اميركا يمكن اعتباره شكلا من اشكال الهجرات الكبرى للشعوب، التي لا يمكن لاي عاقل "ادانتها" ادانة عامة، بالرغم مما رافقها من أشكال الغزو والحروب العدوانية.
فخلافا لأي تصور آخر، فإن مجتمع ما سمي في حينه "العالم الجديد"، ومنذ اللحظات الاولى لنشأته فور "اكتشاف!" اميركا، انما نشأ كامتداد "طبيعي" لـ"العالم القديم" بكليته، وكجزء لا يتجزأ من هذا العالم، بكل ايجابياته وسلبياته.
انطلاقا من ذلك يمكن أن يـُـرى بوضوح ان المجتمع الاميركي، كأي مجتمع في اي بلد امبريالي آخر، ينقسم الى قسمين رئيسيين، مترابطين ـ متعارضين، هما:
اولا ـ القسم التسلطي: وهو يمثل الطبقة الرأسمالية عامة، والطغمة الاحتكارية خاصة.
بهذا القسم يرتبط أساسا نشوء الدولة الاميركية "الجديدة"، تماما كما يرتبط عادة نشوء اي دولة بالطبقة السائدة فيها. ومع ذلك فهو قسم أقلـّوي، كأي قسم مماثل في أي دولة اخرى، طبقية عامة، وامبريالية خاصة.
والخامة البشرية الاساسية لنواة هذا القسم هي الشريحة الطبقية العليا الانكلو ـ ساكسونية. وقد التصقت به بشكل واسع في بداية القرن العشرين، دون ان تندمج، الطغمة المالية الصهيونية.
ولكن، بالرغم من كل عنصريته وجرائمه التاريخية الخاصة ضد الانسانية، فهذا القسم كان ولا يزال يختص بـ"عقب أخيل" اساسي، وهو: أنه قسم "مستورد"، "مهاجر"، "غير اصيل"، "مغتصب". وأنه ليس وريثا "لارض وطنية تاريخيا"، و"لتاريخ وطني حضاريا"، ولسلطة سياسية واجتماعية "وطنية"، "شرعية تاريخيا"، مثلما يمكن أن تدعي عادة الاقسام المماثلة في الدول الامبريالية "الكلاسيكية".
وبحكم هذه "الضريبة الخاصة" لنشأته، وبالرغم من كل قوته وغناه الاسطوري، فإن هذا القسم لا يزال غير متجانس ومفكك: "عائليا"، "قوميا"، "عرقيا"، "دينيا" الخ، اكثر من اي طبقة رأسمالية، وطغمة احتكارية، مماثلة، في اي دولة رأسمالية او امبريالية اخرى. وهذا ما جعل الطبقة السائدة الاميركية، غير "الكلاسيكية" بالمقارنة مع "شقيقاتها" في الدول الاخرى، أكثر "براغماتية" منها بما لا يقاس، الى درجة يمكن معها القول ان "البراغماتية" هي اولا "صناعة اميركية".
وبنتيجة ذلك تميز هذا القسم بميزتين رئيسيتين:
ـ1ـ ان براغماتيته، المدعومة بالغنى والقوة و"الحصانة الجزيرية" الللآنيـّة، جعلته، بالمقارنة مع اي قسم مماثل، اكثر "جرأة" او "وقاحة" مصلحيا، في مواجهة سائر الطبقات والجماعات والدول والشعوب، بما في ذلك "حلفائه"، وأكثر اندفاعا لفرض نفسه على "الآخرين"، ولا سيما "الاكثر كلاسيكية".
ـ2ـ ان "عدم الكلاسيكية"، والتفكك الذاتي، والجرائم العنصرية الخاصة الخ، جعلت هذا القسم، في المقابل، اكثر ضعفا، من اي طبقة سائدة مماثلة، في مواجهة "شعبه الخاص"، وأكثر اضطرارا لتقديم التنازلات لـه، واكثر اعتمادا على التضليل والديماغوجية، لتمرير مصالحه الاحتكارية، وسياسته العدوانية. وليس من الصدفة وضع تمثال الحرية كرمز للولايات المتحدة الاميركية. وأن يستمر الى الآن بالوجود حق امتلاك السلاح الفردي، كمظهر من مظاهر حق المواطن في الدفاع عن حريته وكرامته. وعلى العموم فإن القوى السياسية الاميركية المتسلطة تحرص بشكل خاص، اكثر من غيرها من الفئات المشابهة في الدول الاخرى، على التغني دوما بأن اميركا هي بلد الحرية والحقوق الانسانية.
وهذه المفارقة، الاميركية الخاصة، تمثل في الواقع "حجر رحى" في عنق الطبقة السائدة، تضطر لتحمـّـله، وتحاول على الدوام التخلص منه.
ثانيا ـ القسم الشعبي: وهو يمثل الاكثرية الساحقة من المواطنين الاميركيين.
وبهذا القسم يرتبط تكوّن الشعب الاميركي "الجديد!"، من خلال عملية مخاض تاريخية عسيرة، مستمرة الى اليوم.
والخامة البشرية لهذا القسم تتألف في الاساس من مواطنين من مختلف البلدان، كانوا ضحية للاقطاعية والانظمة الاستبدادية والرأسمالية والعبودية والاستعمار.
فبالاضافة الى "بقايا" الهنود الحمر، سكان البلاد الاصليين، الذين أبيدت وطردت أغلبيتهم الساحقة، واصبح من تبقى منهم اقلية ضئيلة جدا في الولايات المتحدة، تعود جذور الغالبية الشعبية الساحقة من "الاميركيين الجدد" الى ثلاثة روافد رئيسية:
آ ـ هجرة العاطلين عن العمل، و"فائض" السكان من الفلاحين المنهوبين والمفقرين، وفقراء وصعاليك المدن الاوروبية، والموجات المتواصلة من مختلف الاصقاع من الباحثين عن فرص جديدة للحياة، بعد ان ضاقت بهم السبل في اوطانهم الاصلية.
ب ـ هجرة جماعات واسعة من المعارضين والثوريين والمثقفين، من الأوروبتين الغربية والشرقية، وكذلك من مختلف البلدان الاخرى، الهاربين من الاستبداد والحروب وقمع الثورات والانتفاضات، ومن الاضطهاد القومي والديني الخ.
ج ـ عشرات ملايين "الافارقة الاميركيين"، الذين تم صيدهم كالبهائم في "المجاهل" الافريقية واسترقاقهم لـلعمل في بناء "العالم الجديد". وهؤلاء هم من تبقى على قيد الحياة، من أضعافهم من اخوتهم البؤساء، الذين ماتوا تحت السياط، في الطريق الى "جنة الحضارة البيضاء".
ويدخل في هذا النسيج الشعبي عشرات الملايين من ابناء المستعمرات وشبه المستعمرات السابقة، بمن فيهم الملايين من ذوي الاصول العربية أو الانتماء الاسلامي (من غير "الزنوج الاميركيين").
الدمقراطية الاميركية
اذا كان القسم الاول، التسلطي، هو السائد في اميركا، فإن القسم الشعبي هو الذي، بشكل رئيسي، طبع المجتمع الاميركي بطابعه، وجعل منه، اكثر من اي "مجتمع امبريالي" آخر، مجتمعا مدنيا دمقراطيا مفتوحا، لـه تاريخ عريق في النضال التقدمي والدمقراطي والانساني.
وربما يكفي ان نقدم على ذلك المثالين البارزين التاليين:
ـ1ـ بالرغم من الجوهر الواحد للنظام الاستعماري والامبريالي، في كل مكان، فإن الطغمة الاميركية المتسلطة لم يكن بامكانها ان تسير بنفس الخط الاستعماري التقليدي، الذي انتهجته الدول الامبريالية الاخرى، في الغزو والهيمنة على آسيا وافريقيا. بل بالعكس، فإن السياسة الامبريالية لهذه الطغمة اتخذت صورة مفارِِقة "معادية" شكلا للاستعمار التقليدي. والسبب الرئيسي في ذلك هو ان غالبية "الجماهير البيضاء" ذاتها في اميركا، ذات الاصول الاوروبية، كانت مسبقا معادية للاستعمار، بالشكل التقليدي التاريخي الذي كان معروفا به. فالهجرة ذاتها لهذه الجماهير، و"تأمركها" ذاته، كانا بشكل عام يمثلان عملية "قطع"، حتى المعاداة، مع نظام الاستعمار التقليدي، الذي كان سائدا في اوروبا. واذا تجردنا، جدلا، عن العديد من العوامل الاخرى، فإن هذا العامل بالذات قـد تجسد، اول مـا تجسد، وبشكل واضح جـدا، في "حـرب الاستقلال" الاميركي عـن الامبراطورية البريطانية (1775ـ1783).
وهذا المثال يبين ان معاداة الاستعمار هي مكوِّن اساسي في وعي المواطن الاميركي العادي، بمن في ذلك غالبية السكان البيض. وهذا ما يشكل عائقا دائما في وجه السياسة الرسمية الامبريالية الاميركية.
ولكن هذا "العائق الداخلي" المعادي للاستعمار امام الطغمة الاميركية المتسلطة، المتمثلة في البدء بالشريحة الانكلو ـ ساكسونية، ومن ثم الطغمة الصهيونية، لم يكن من الممكن ان يدفعها الى التخلي عن مصالحها الاحتكارية، وتغيير جوهرها. الا انها كانت مضطرة دائما للتربص، والتحايل، و"تغيير جلدها"، وتغليف اهدافها بالشعارات المضللة المعادية للاستعمار، والمنادية بالحقوق والحريات الفردية وحقوق وحريات الشعوب، وانتهاج سياسة تقديم "المساعدات" الاقتصادية والعسكرية و"الانسانية" و"الثقافية"، وعقد وتشكيل المعاهدات والاحلاف "الحرة" الخ.
وهذا ما دشن قيام آليات "الاستعمار الجديد" (نيوكولونياليزم)، الذي يعود للامبرياليين الاميركيين "الفضل" الاول في "اكتشافه" والمبادرة الى تطبيقه. وهو ما اخذت الدول الامبريالية والاستعمارية الاوروبية "تقلده" فيما بعد، متخلفة عن الاميركيين اكثر من قرن. وقد مضى اكثر من قرن آخر حتى بدأت مفاعيل "الاستعمار الجديد" تنكشف على نطاق واسع، ويتبين أنها أبشع بما لا يقاس من الاستعمار القديم المفضوح. وفي المرحلة التاريخية الراهنة، يتمثل "الاستعمار الجديد" بأبشع أشكاله "المطورة" في عولمة الرأسمال الاحتكاري العالمي، بنواته الاميركية ـ الصهيونية.
ولكن بالرغم من كل "مآثر" الطغمة الاحتكارية الاميركية مع شريكتها الصهيونية، فإنها ترتعد من امكانيات انفضاحها امام جماهير الشعب الاميركي.
ـ2ـ إن التمييز العنصري ضد الزنوج هو من اكبر لطخات العار في التاريخ الامبريالي الاميركي، الغارق في العار. ولكـن النضال ضـد العنصرية، فـي اوساط البيض أنفسهم، هـو علامة مضيئة فـي تاريخ الشعب الاميركي. واذا تجردنا، جدلا ايضا، عن العديد من العوامل الاخرى، فإن هذا العامل قد تجسد، اول ما تجسد، في الحرب الاهلية الاميركية (1861ـ1865)، التي كان احد اهم اهدافها تحرير الزنوج من اشكال العبودية الاستعمارية القروسطية الفظة.
ولا بد من الملاحظة هنا ان المحور الرئيسي للعملية الدمقراطية في اميركا، هو بعدها الانساني، المتمثل اولا في النضال ضد العنصرية. واذا اجرينا مقارنة بين تاريخ المسألة العنصرية في جنوب افريقيا، حيث ان البيض هم اقلية، وبينها في اميركا، حيث ان السود هم اقلية، لادركنا اهمية العامل الدمقراطي العريق، في المجتمع الاميركي.
وهذا المثال يبين أن معاداة العنصرية هي مكوِّن اساسي ثان في الوعي الانساني والدمقراطي للمواطن الاميركي العادي، بمن في ذلك ايضا غالبية السكان البيض.
وقد تصاعد النضال الشعبي الدمقراطي في اميركا بدرجة كبيرة، في اعقاب الحرب العالمية الاولى، أول مجزرة امبريالية عالمية على هذا النطاق، وخصوصا بعد انتصار الثورة الاشتراكية وإسقاط حكم الاستبداد القيصري في روسيا في 1917. ومن ثم في ظروف استشراء الازمة الاقتصادية العامة للرأسمالية في 1929ـ1933. وكان يمكن لتطور هذا النضال ان يسهم في تحقيق تغيير جذري في مجرى التاريخ العالمي، من خلال تغيير مجرى التاريخ الاميركي.
ولكن "المجتمع الشعبي" الدمقراطي المناضل في اميركا عاد فـ"انتكس" بشدة امام "مجتمعها الامبريالي" الرجعي، في حقبة الانحراف الستاليني والبيروقراطي في النظام السوفياتي. لأن هذا الانحراف بالذات شكـّل "خيبة امل" تاريخية، وأدى الى إضعاف القوى الوطنية والدمقراطية في العالم اجمع، بما في ذلك الاميركية، التي كانت على صلة رحمية، مباشرة وغير مباشرة، بقضايا التحرر الوطني، الدمقراطية، العدالة الاجتماعية والاشتراكية. وقد ادى هذا الانحراف في النهاية الى افلاس النظام السوفياتي، ومن ثم سقوطه الذاتي. وعلى مدى عقود، استفادت القوى اليمينية الاميركية حتى الحد الاقصى من الخط المنحرف في النظام السوفياتي، ولا سيما أخيرا من سقوطه المفجع، لتبرير تشديد قبضتها على "مجتمعها". الا انها بطبيعة الحال لم ولن تستطيع خنق التقاليد الدمقراطية المتأصلة بعمق في اميركا. والدمقراطية هي التي ستقول كلمتها الحاسمة في النهاية، رغم ارباب الماكارثية الجديدة.
الحليف الستراتيجي
ان المهمة الرئيسية لاجهزة الاعلام الديماغويجية، المنسـَّـقة مع آليات القمع المستور والمكشوف، هي محاولة طمس الوجه الحقيقي للمجتمع المدني الاميركي، وتشويه دمقراطيته الانسانية. وهي تحاول، بالمقابل، ان تضفي عليه مظاهر خارجية خادعة، تغريبية ـ فوقية، حيال المجتمعات الاخرى، ولا سيما حيال البلدان الفقيرة والمظلومة والمهانة.
ولكن التركيبة السكانية للمجتمع المدني الاميركي، وتقاليده الدمقراطية، تجعله في الواقع على النقيض من ذلك تماما. وهو يمتلك كل المقومات والامكانات الموضوعية والذاتية لأن يلعب دورا تحرريا تاريخيا، على النطاق العالمي بأسره، في النضال ضد آليات والاعيب وممارسات الامبريالية المعولمة، وبالاخص رأسها الاميركي ذاته، ولفرض ارادته على الادارة الاميركية، من ضمن "اللعبة الدمقراطية" ذاتها.
والاصول الشعبية والتقدمية والثورية، لغالبية الاميركيين البيض أنفسهم، الى جانب الاصول "الغيـْرية"، "الملونة" والعرقية والاتنية والدينية، لغالبية أبناء الشعب الاميركي المعاصر، تمثل ارضية موضوعية صلبة وواسعة جدا، لاكتساب جماهير هذا الشعب، بشكل مباشر وفعـّال، الى جانب القضايا التحررية العادلة، لمختلف الشعوب المناضلة وحركات التحرير في العالم. وهو ما يعبر في الوقت نفسه عن المصالح الاساسية الجوهرية للجماهير الشعبية والانتلجنتسيا الاميركية، في مواجهة الطغمة الاحتكارية الاميركية، التي تستفيد من "إنجازاتها" و"فتوحاتها" ومواقعها الخارجية، وتستقوي بها، لتعزيز تضليلها وتسلطها واستغلالها لـ"شعبها الخاص".
واليوم، في أوج قوتها وجبروتها، تقف الطغمة الامبريالية الاميركية على حافة الهاوية. فهي قد أوصلت سياستها القائمة على الديماغوجية والتضليل والكذب الى نقطة الذروة، التي لا تحتاج معها الا الى دفعة عادية، حتى يبدأ الانحدار. ويكفي ان نذكر كيف يتحول ـ وبشكل معيب، لا يليق حتى بواحد عيدي أمين(1) ـ ممثلو الدولة الاعظم في العالم، الى محام فاشل صغير للجزارين الهتلريين الجدد في اسرائيل. وأخشى ما تخشاه هذه الطغمة الآن، هو وعي المجتمع الاميركي لحقيقتها، وخصوصا ادراك طبيعة الهيمنة الصهيونية على اميركا، ضد المصلحة الوجودية للشعب الاميركي. واصبح يُـرى بوضوح "استيقاظ" "عقدة فيتنام"، التي هي "عقدة اميركية" بامتياز، ولكن بصورة نوعية جديدة، لا يكفي معها فقط الانسحاب من "الورطة الخارجية"، لأن الورطة هذه المرة هي داخل اميركا، اكثر مما هي خارجها.
............................................
(1) دكتاتور جزار صغير سابق في اوغندا البائسة، اتهم بالكانيبالية.
..................................................................................
وهذا ما يقتضي، من القوى والاوساط المعادية للامبريالية والصهيونية، أن تتخلص من تأثيرات النظرة الانعكاسية السلبية، الانفعالية المسبقة، ضد "كل من هو اميركي". لأن هذا الموقف السطحي، "المفهوم" ولكن غير المبرر، يقدم، وإن غالبا بدون أي قصد عنصري بالذات، خدمة "موضوعية" للطغمة الاحتكارية الاميركية. فهو "يساعدها" على الاستفراد الكيفي بتضليل الشعب الاميركي، من خلال التلطي خلف ضحاياه البريئة، التي تحمل هي بالذات المسؤولية الاولى عن سقوطها، تماما مثلما هي مسؤولة عن سقوط اي ضحية للامبريالية والصهيونية في اي مكان في العالم.
كما يقتضي أيضا، وبشكل خاص، بذل الجهود الضرورية لايصال الصوت الحقيقي للشعوب المظلومة، الى المجتمع المدني الاميركي، وايجاد "اللغة المشتركة" معه، باعتباره حليفها الستراتيجي الاول في النضال ضد الامبريالية الاميركية والصهيونية.
أميركا و"عقدة فيتنام"!
بعد مجزرة 11 ايلول 2001، وبشكل أعم بعد كل ضربة تلقتها الدولة الاميركية داخل او خارج حدودها، جرى ولا يزال يجري الحديث عن عجز اميركا عن تحمل الخسائر البشرية في ارواح مواطنيها، المدنيين والعسكريين، في المواجهة مع "الاغيار". ويبني مختلف الاطراف، "الاعداء" و"الاصدقاء"، استنتاجاتهم ومواقفهم، تبعا لفهم كل طرف لطبيعة هذه "النقطة ضعف" الاميركية.
عقـدة "وطنية"
والواقع ان هذه "العقدة" تتناقض ظاهريا مع التاريخ الخاص، الداخلي والخارجي، لاميركا، الذي هو مليء بالعنف؛ بدءا بإبادة الهنود الحمر، واستعباد وابادة ملايين الزنوج الافارقة، وحرب الاستقلال عن بريطانيا، والحرب الاهلية بين الشمال والجنوب؛ وانتهاءً بمشاركتها في العديد من الحروب والحملات الخارجية، الدولية والاقليمية.
كما انها تتناقض مع "نمط الحياة الاميركية" ذائع الصيت. حيث ان نسبة ارتكاب الجريمة في اميركا هي من اعلى، اذا لم تكن الاعلى، في العالم. و"ثقافة!" العنف، التي تعكس صورها السينما والتلفزيون والروايات والقصص الخ، بما فيها الخاصة بالاطفال، هي "السلعة" الاكثر انتشارا في "سوق التربية(!) الاميركية".
وفي دولة تسود فيها البراغماتية، وذات هوية قومية ملتبسة قيد التشكـّـل، من الخفة غير المقبولة القول ان السبب الرئيسي لهذا الخوف هو "وطنية" زائدة لدى الطغمة الاميركية السائدة، تبز بها مثيلاتها في الدول الغربية الكلاسيكية، ولا سيما الامبريالية منها. ومن زاوية النظر - "الوطنية" - هذه، فإن العكس تماما هو الصحيح. حيث ان الطغمة المتسلطة الاميركية تتميز بالكوسموبوليتية والعدمية(1) الوطنية، اكثر من اي طغمة مثيلة في العالم. وهذا ينطبق بشكل خاص على جناحها الصهيوني، الذي يمتلك من النفوذ الواسع في هذه الدولة، ما يمكن معه التشكيك التام بحقيقة "الهوية الوطنية الاميركية". وهذا الخوف الاستثنائي انما يمثل لا علامة قوة وميزة، بل علامة ضعف ـ نقيصة "وطنية"، تتجسد بشكل نموذجي في هذه "العقدة" الخاصة، النابعة من الاوضاع البنيوية للدولة والمجتمع الاميركيين.
...................................
(1) Nihilism : العدمية، او النهليستية (المورد).
.................................
وبالرغم من كل التاريخ والحاضر الداميين، والتقاليد العسكرية، و"الاخلاق!" العنفوية التي "تؤلـّه" القوة، لاميركا "الجديدة!"، فإن الطغمة السائدة فيها، تعاني بشدة من هذه "العقدة". ويبلغ لديها الخوف على هذا الصعيد درجة لامنطقية، لا مثيل لها في اي دولة استعمارية وامبريالية أخرى. وربما لا نبالغ في القول إن هذا الخوف يصل أحيانا حد الهلوسة النفسية والسياسية.
وأي مراجعة لتاريخ الدولة الاميركية بعد تشكلها، ولا سيما منذ "إطلالتها الكبرى!" على المسرح الخارجي منذ الحرب العالمية الاولى، ترينا أن هذه "العقدة اللامنطقية" من الخوف المبالغ فيه على "مواطنيها"، مما قد يتعرضون له في مواجهة "الاغيار"، كانت دائما تنعكس على السلوك الستراتيجي لهذه الدولة، بمختلف الاشكال المتناقضة: حينا بإظهار التردد و"الجبن" المفرطين. وحينا باستخدام القسوة المفرطة. وغالبا بـإبداء "التخبط"، غير اللائق بدولة عادية، فكيف بدولة اعظم! ويكفي ان نشير الى بعض الأمثلة وحسب:
ـ1ـ التردد والتأخر في خوض الحربين العالميتين الاولى والثانية، وفي فتح الجبهة الثانية في الاخيرة.
ـ2ـ استخدام القنبلة الذرية ضد السكان المدنيين في اليابان.
ـ3ـ "الفرار" العسكري من بلدين صغيرين ضعيفين، كلبنان والصومال، في 1983 و1993، بعد أن تعرضت قوات المارينز، التي "لا يشق لها غبار"، لضربتين عاديتين تماما، من مقاتلين محليين عاديين تماما.
ـ4ـ القصف المريع بأفتك الاسلحة، بما في ذلك استخدام الصواريخ "الذكية" والقنابل عديدة الاطنان والنابالم واليورانيوم المنضب، وتسميم الارض والمياه، وتدمير البنية التحتية والملاجئ وحتى قرى القش والطين البائسة، وقتل ملايين وملايين المدنيين العزّل الفقراء، والتهديد باستعمال القنبلة الذرية ذاتها، في كوريا، وفيتنام، والعراق وغيرها، وأخيرا لا آخرا في افغانستان، وذلك بدون أي مبرر عسكري، مباشر أو غير مباشر.
ـ5ـ التناقض غير المقبول، وغير المفهوم في ابسط مقاييس المنطق، الذي يتبدى في موقف اميركا من الصراع العـربي - الاسرائيلي. فهي تتمسك باحتكار دور "راعي السلام" الاول في المنطقة، وفي الوقت ذاته تأخذ على عاتقها تمويل وتسليح اسرائيل حتى الاسنان، وتتحمل مسؤولية إعطاء النازية الصهيونية "كارت بلانش" لذبح الشعب الفلسطيني، وتقويض السلطة الوطنية الفلسطينية، وتهديد سوريا ولبنان والعراق وايران وغيرها من دول المنطقة. وكل ذلك تحت شعار مكافحة ما يسمى "الارهاب"، الذي هو ليس شيئا آخرا سوى مقاومة شعبية مشروعة، كنتيجة وردّة فعل على الارهاب الأصلي والفظيع للستراتيجية الامبريالية – الصهيونية، القائمة على العدوان والاحتلال واستعباد الشعوب.
وقد تبدت هذه "العقدة" بالامس بشكل خاص في العداء الرُهابي للشيوعية، الذي كان فيه كابوس "الروس قادمون!" يقض مضاجع القادة الاميركيين، الأمنيين والعسكريين والسياسيين. كما يظهر اليوم بشكل صارخ في ردود فعل ممثلي النظام الاميركي و"إيديولوجييه"، على مجزرة 11 ايلول2001، ولا سيما في زلات لسان المسؤولين البارزين، حول "الحملات الصليبية"، وغير ذلك من أعراض الكوابيس "العربية والاسلامية!". وهذا ما احرج بشكل مثير أقرب حلفاء اميركا انفسهم في جميع أنحاء العالم (باستثناء اسرائيل طبعا)، وخصوصا انظمة البلدان العربية والاسلامية الموالية تقليديا للغرب.
مفتاح "الباب العالي"
لقد شاركت اميركا فيما مضى في معارك وحروب خارجية كثيرة، كانت رابحة على العموم، وبأقل ما يكون من الخسائر. وهذا المعطى التاريخي كان يسدل حجابا خادعا على هذه "العقدة"، دون ان يمكنه إلغاء وجودها. ويتأكد ذلك بطريقة منطقية "بسيطة" وواضحة، في المقارنة بين اميركا وبين غيرها من الدول الاخرى، الكبرى والصغرى، سواء كانت في وضع المنتصر او المهزوم، التي واجهت مثلما تواجه اميركا أو أكثر، وتحملت اضعاف اضعاف ما تحملته من الخسائر. حيث لا نجد مثل هذه "العقدة"، بـ"طبعتها الاميركية الخاصة"، الا في اميركا وحدها.
وكانت الهزيمة الاميركية في حرب فيتنام نقطة تحول لظهور هذه "العقدة الاميركية" على السطح. ولذلك سميت هذه الظاهرة "عقدة فيتنام". ولكن هذه التسمية "الخارجية" لا تلغي، بل هي بحد ذاتها تؤكد بشكل صارخ الطابع الاميركي الخاص لهذه "العقدة". فالفيتنام كانت بلدا مستعمرا، صغيرا، فقيرا وضعيفا، وبدرجة لا يمكن معها المقارنة بينها وبين جبروت الامبراطورية الاميركية. وقد تحملت فيتنام، في الحرب ضد الغزاة الاميركيين، خسائر بشرية ومادية هائلة، اكثر بكثير مما تحملته اميركا، كميا، وأكبر بما لا يقاس، نسبيا. ومن وجهة نظر الحساب "البسيط" للقوة العسكرية والاقتصادية والسياسية، كانت اميركا قادرة على متابعة الحرب، وسحق وإبادة الفيتناميين بأكثر مما فعلت، على فظاعة ما فعلت. ومع ذلك فقد انسحبت تجرجر اذيال الهزيمة. والسبب هو: بالرغم من تفوقها الكاسح، وقدرتها على متابعة الحرب حتى آخر فيتنامي، فإن اميركا لم تكن ـ وفي استنتاج منطقي تعميمي ـ ليست مستعدة ذاتيا لتحمل الخسائر في ارواح "مواطنيها" على أيدي "الأغيار"، حتى في مواجهة شعب صغير وفقير وضعيف كالشعب الفيتنامي، او اي شعب آخر أصغر او اضعف او افقر منه . وهذا هو بالتحديد "ســر" هذه "العقدة الاميركية".
وخلال ربع القرن الممتد بين هزيمة فيتنام وبين احداث 11 ايلول 2001، كانت "عقدة فيتنام" تشكل محورا رئيسيا في السياسة الاميركية، داخليا وخارجيا، وذلك ليس فقط بوجهها المباشر، بل كذلك، وبالاخص، بوجهها غير المباشر. وقد تمثل ذلك، على مستوى الدولة، في السعي المتواصل لـ"الإبراء" من الأعراض الخارجية لهذه "العقدة"، التي "طفت" وتفشت بعد حرب فيتنام. اما على مستوى المجتمع، فيتمثل في مظاهر "التبرؤ" وشجب الممارسة الامبريالية الاميركية في الخارج، والنضال الدمقراطي ضد مقوماتها الداخلية الأصلية، التي تعتبر هذه "العقدة" احد مظاهرها. وكان هذا ولا يزال يملي ما يمليه من عوامل الضغط على مراكز القرار في الدولة، وعوامل التأثير في تكوين مواقف مختلف قطاعات المجتمع المدني، في اميركا.
وجاءت حرب الخليج الثانية، او ما يسمى "عاصفة الصحراء"، لـ"تساعد" الادارة الاميركية نسبيا في محاولة "العزل الفضائي" لهذه "العقدة"، عن جذورها الداخلية الاميركية، وتصويرها بشكل وهمي، خادع ومؤقت، بأنها لم تكن سوى عقدة استثنائية معزولة، محصورة في النطاق "الخارجي" وحسب، وفي حالة محددة وحسب. وفي الواقع، لم يتعد ذلك كونه محاولة بائسة لقلب الحقائق رأسا على عقب، والتعزي المزيف بإعطاء "الامتحان الفيتنامي" خصوصية "سحرية" غير قابلة للتكرار!!
وعلى هذا الاساس الواهي، اتيح للطغمة الامبريالية الاميركية التظاهر أنه بامكانها "الإبراء" من هذه "العقدة"، عن طريق تحقيق الانتصارات العسكرية الكاسحة في الخارج، بالاستناد الى التكنولوجيا "الفضائية" المتطورة، التي تكفل لها أدنى حد ممكن من "الاحتكاك البشري" المباشر مع "الأغيار" ـ الكوابيس. وهذا بالاضافة الى تأمين حاجز "ضروري" من التعمية الاعلامية للداخل، يجري معها قسمة العالم الى "من هو معي" و"من هو ضدي"، على اساس صيغة مبتذلة لممايزة "الخير والشر"، تستغل فيها بشكل معكوس اسطورة "قايين" وهابيل" التوراتية، تماما كما فعلت وتفعل الاوليغارشية اليهودية في كل تاريخها العنصري، التي كانت ولا تزال تستغل مآسي اليهود البسطاء، التي تتحمل هي مسؤوليتها الاولى، لتحقيق مصالحها الفئوية الضيقة، بالاشتراك مع جميع انظمة الاستبداد والاستعمار التي التصقت بها.
ولكن مجزرة نيويورك في 11 ايلول، وبصرف النظر عن هوية وأهداف الاطراف التي نفذتها، والتي تقف خلفها، والتي تستفيد منها، هزت الدولة والمجتمع الاميركيين في الصميم، واحدثت تحولا نوعيا في تمظهر "عقدة فيتنام" الاميركية، حيث وضعتها بشكل صارخ في سياقها الواقعي، وأظهرتها على حقيقتها بأنها: ليست مجرد ظاهرة جزئية "خارجية"، ذات انعكاسات داخلية، بل هي اولا وبالاساس ظاهرة كلية، داخلية "وطنية"، خاصة بالدولة والمجتمع الاميركيين، وذات امتدادات خارجية.
وقد كان تحليل هذه "العقدة الاميركية" النموذجية، قبل 11 ايلول 2001، محدودا في اطار جزئي، كعنصر مهم لفهم السياسة الاميركية، الخارجية بشكل خاص. أما بعد هذا التاريخ فقد اصبح يُـرى بالعين المجردة ان هذه "العقدة" تمثل ليس فقط "حجر الاساس" للسياسة الخارجية الاميركية، بل تمثل ايضا، قبل كل شيء، "الركن الرئيسي" للنظام الامبريالي الاميركي ككل، وبالتالي "المفتاح الرئيسي" لـ"الباب العالي" لما يسمى النظام العالمي الجديد.
من هذا المنطلق، فإن فهم هذه العقدة اصبح يبدو بوضوح كشرط رئيسي مسبق ليس فقط لفهم السياسة الداخلية والخارجية الاميركية، ولتحديد الموقف من الدولة الاميركية، وطرق التعامل معها، بل كذلك، وبالاخص، لفهم طبيعة المجتمع المدني الاميركي، والتمييز بينه وبين امبريالية "دولته"، واخيرا تحديد طرق التعامل معه بمعزل عن، وضد، هذه الامبريالية.
وهذا يتوقف اساسا على تحليل المصالح التاريخية المتناقضة لكل من الدولة المعاصرة، والشعب، الاميركيين، انطلاقا من ارتباطها العضوي مع:
ـ مجمل التركيبة الداخلية للدولة والمجتمع الاميركيين.
ـ العلاقات الخارجية المتداخلة لمؤسسات الدولة، من جهة، ولمختلف فئات ومؤسسات المجتمع المدني الاميركي، من جهة اخرى.
الطبقية والعنصرية
ما هي الأسس والخلفيات البنيوية ـ المصلحية، "الوطنية"، الخاصة بـظاهرة "عقدة فيتنام" الاميركية؟
ان التحليل المنطقي البسيط ذاته يعطينا بادئا ذي بدء تفسيرين رئيسيين:
الاول ـ "شوفيني طبقي"(1)، وهو ينشأ عن الخوف "الطبيعي" من التضحية بالنفس، لدى أبناء الطبقات المالكة، المتميزة والمرفهة.
........................
(1)Chauvinism : الشوفينية، اي المغالاة او التعصب في الوطنية، بالمعنى السلبي. وقد وسعنا استخدام التعبير هنا ليشمل "الطبقية" و"العنصرية".
........................
والثاني ـ "شوفيني عنصري"، وهو يتمثل في حرص الطبقة السائدة في البلد الامبريالي على حياة "بني جلدتها".
وهذا التفسير المزدوج انما يدل على الاستعلاء "الطبقي ـ العنصري" المركـّب، الخاص بالطبقات السائدة في امثال هذه الدولة. فهي، اولا، تحرص على عدم المخاطرة بحياة "أبناء الطبقة الخاصة". وهي، ثانيا، تسعى بمختلف السبل لتوفير "بني جلدتها" قدر الامكان، والاحتفاظ بهم لاستخدامهم بشكل رئيسي كأدوات لممارسة دور "السيادة" في النطاق الخارجي. وهذا يعني واقعيا: لا سيادة الشعب "الامبريالي" عامة، بل سيادة تلك الطبقات تحديدا، على "الأغيار"!
وهو تفسير حقيقي تماما ينطبق، بدون استثناء، وإن بأشكال مختلفة، على جميع الدول "السيدة"، والطبقات والمجتمعات الاغنى والاكثر رفاهية، من ايام الامبراطورية الرومانية القديمة، حتى ايام "روما" الاميركية الجديدة.
و"المنطق الخاص" لهذه الشوفينية "الطبقية ـ العنصرية" المركـّبة يقود تلك الطبقات السائدة للعمل للتعويض عن هذا "النقص"، او "النقيصة"، بطريقتين لاإنسانيتين ـ لاأخلاقيتين:
الاولى ـ مع العمل لتطوير اسلحتها، كي تكون ذات فعالية حربية متفوقة على الدوام، تلجأ تلك الطبقات الى تجاوز جميع "اخلاق الحرب" المعروفة، واستخدام اشد الاسلحة فتكا، والاسلحة المحرمة، حيث لا ضرورة عسكرية لذلك، وكذلك الى ارتكاب الجرائم ضد الانسانية، بحيث يتحول القتال الى عمليات قتل سادي لامسؤول ومجازر وحشية.
الثانية ـ تقوم تلك الطبقات تقليديا بتطبيق الستراتيجية الطبقية – العنصرية التقليدية، القائمة على القتال بواسطة "العبيد" و"سكان الارض الاصليين" ذوي "المرتبة الادنى"، بما في ذلك ابناء المستعمرات والبلدان المحكومة ذاتها، التي تتعرض للعدوان والفتح والهيمنة. وقد صار الشعار الاميركي حول "فيتنمة" الحرب، أي مقاتلة "الفيتناميين بالفيتناميين، "الأغيار بالأغيار"، "الأعداء بالاعداء"، رمزا نموذجيا لذلك.
وكمثال، كانت افغانستان ساحة فريدة لتطبيق هذا النموذج: حيث اعتمدت اميركا في البداية على "المجاهدين"، ومعهم الشيخ بن لادن وتنظيم "القاعدة" و"الافغان العرب"، في محاربة السوفيات والحكم الافغاني الأسبق الموالي لهم. ثم اعتمدت على "الطالبان" بمساعدة "الافغان العرب" لاقامة "النظام الطالباني" بدلا من حكم "المجاهدين" الذين لم يكن مرضىً عنهم تماما من قبل اميركا، بسبب "استقلاليتهم" النسبية حينذاك. واخيرا لجأت الى "تحالف الشمال"، المؤلف من "مجاهدين" سابقين من الطاجيك والاوزبك، ومن بقايا الملكيين، لمساعدتها في تأمين غطاء فولكلوري لعملية "الحرب الصليبية العظمى!" على "الارهاب الدولي!". وقد بدأت بالقضاء على نظام "طالبان" السابق، الذي كانت هي ذاتها بمثابة "قابلته القانونية" الحقيقية، ولكنه تحول الى "عبء" عليها، ثم الى "عدو" لها. ولا ندري الان كيف ستنتهي مساعيها لتصفية "اصدقائها القدماء": الشيخ بن لادن و"القاعدة" و"الافغان العرب"، وكأنهم "آخر الموهيكان!"(1). وهذا يطرح على بساط البحث ضرورة تطوير الوعي الوطني ـ الدمقراطي للشعوب المغلوب على امرها، حتى لا تكون مختلف فئاتها وفصائلها "مطايا غبية" لشتى انواع الطامعين، الامبرياليين وغيرهم.
.....................................................
(1) رواية "آخر الموهيكان"، للكاتب الاميركي جيمس كوبر (1789ـ1851)، خلدت اسم هذا الشعب الذي، كغيره من شعوب الهنود الحمر، محقته "الحضارة!" الاستعمارية الانكلو ـ ساكسونية.
.....................................................
الامبريالية التقليدية
حتى هذه النقطة، فإن النظام الاميركي "يتساوى"، على هذا الصعيد، مع غيره من الانظمة "الامبراطورية" المشابهة، بحيث تبدو "عقدة فيتنام" ظاهريا كعقدة "خارجية"، تتعلق فقط بالصراعات والحروب "الخارجية" للدولة الامبريالية، واستطرادا الاميركية، وردود فعلها عليها، وطريقة "معالجتها" لها.
ولكن هذا بالواقع هو جزء وحسب، وبالتحديد الجزء "الخلفوي"، الأقل اهمية، مع كل أهميته، من حقيقة "عقدة فيتنام" الاميركية بالذات. أما الجزء الآخر، الأهم، فهو بالضبط الجزء "الداخلي" الاميركي. وهذا يعود الى "خصوصية" التركيبة التسلطية للدولة الاميركية.
فالدولة الاستعمارية والامبريالية "العادية"، "النمطية"، تقوم، في البعد الاجتماعي ـ الانساني المركـّب، على تقسيمين رئيسيين:
الأول، داخلي ـ طبقي: وفيه تسيطر الطبقة المالكة على الثروة الطبيعية، ووسائل الانتاج، والسلطة السياسية بأدواتها "الحقوقية" و"العنفية". وبذلك تسود على "شعبها"، الذي ينتمي عادة، بأغلبيته، الى العنصر "العرقي" او "القومي" او"الاتني" ذاته، الخاص بالطبقة السائدة ذاتها.
الثاني، خارجي ـ عنصري: وفيه يسود "المتروبول" (البلد ـ الام) الاستعماري والامبريالي، بوجهه "العرقي" او "القومي" و"الاتني" المحدد، على بلدان واتنيات وشعوب وأمم اخرى، "غيْـرية"، بالمدلولات العنصرية، القومية، الوطنية والدينية.
وبالطبع ان هذه الدولة، كظاهرة تاريخية، بمختلف أبعادها ووجوهها، لا يمكنها ان تكون، او ان لا تكون، الشيء نفسه، في الوقت نفسه، وفي المكان نفسه. وبالتالي، إذا كانت دولة ٌ "قومية" و"وطنية" محددة، في مرحلة تاريخية محددة، استعمارية ً وامبريالية، "للخارج" و"في الخارج"، فهي حتما ستكون الشيء نفسه ايضا، "للداخل" و"في الداخل".
ولكن واقعية المسار التاريخي نفسه تحتم وجود اختلاف نوعي بين الوجهين، "الداخلي" و"الخارجي"، لهذه الظاهرة الدولويّـة المرحلية، التي هي بذاتها طفيلية ومعادية لجوهر الترابط الانساني للمجتمع البشري:
ـ في الداخل، تقوم هذه الدولة اولا على آلية التقسيم التمييزي الطبقي، في اطار "الوحدة" القومية والوطنية.
وبفعل هذه الآلية، تستولي الطبقة السائدة في "المتروبول" على "حصة الاسد" من "ثمار السيادة" على الامم والشعوب والاتنيات الاخرى. أما "شعبها الخاص" فيحصل على الفتات، من "عائدات" هذه السيادة، المنسوبة الى "قوميته" أو"وطنيته" أو "اتنيته" او "دينه". وفي المقابل، فهو يتحمل جميع الخسائر المعنوية والمادية، التي يدفعها من قيمه الانسانية، من كرامته الذاتية والقومية والوطنية، من دماء ومعاناة رجاله ونسائه وأبنائه، واخيرا وليس آخرا من مصالحه المادية ولقمة عيشه. وكل ذلك في سبيل الاحتفاظ بهذه "السيادة" المشؤومة، الغريبة عن حقيقته، والمحكومة تاريخيا بالزوال.
ـ أما في الخارج، فهي تقوم اولا على آلية التقسيم التمييزي العنصري، التي تتمكن فيها قوة غازية اجنبية، تتزيا بهوية "قومية" او "اتنية" او "دينية" معينة، من تحقيق سيادتها بالقوة على امم وشعوب واتنيات اخرى، فتستبد بها وتنهبها وتستغلها، بدرجة "لاانسانية" مضاعفة، قياسا على معايير القمع والاستغلال ضمن نطاق العلاقات "القومية" او "الاتنية" او "الدينية"، "الداخلية الخاصة" لـ "الاسياد".
وبفعل هذه الآلية، وفي حال الاستمرار المستقر لهذه الظاهرة، يصبح "الخارج" التابع مركز قوة وقاعدة انطلاق اضافيين، للطبقة المتروبولية السائدة، لتشديد قبضتها اكثر في "الداخل" على "شعبها" ذاته.
فبالاضافة الى الجوانب الاستغلالية والقمعية والسياسية "التقليدية"، فإن احد اخطر اشكال تشديد الهيمنة التمييزية الطبقية "الداخلية"، في ارتباطها مع التمييز العنصري "الخارجي"، هو ان "عائدات" النهب المضاعف للامم والشعوب والاتنيات المظلومة تسهم، في "داخل" البلد "السيد" قبل غيره، في تعميم الانحطاط الاخلاقي والفساد والمفاهيم التسميمية لـ"المجتمع الاستهلاكي"، الذي يهدف الى تحويل الانسان "الطبيعي" الى حيوان او ربوط(1) ذي بعد واحد وحيد "مبرمج"، انتاجي ـ استهلاكي - لاإرادوي، بحيث تسود العبودية الصنمية لثلاثية: النقود، السلعة والسلطة.
.........................................
(1) الـرَّبوط – robot : الانسان الآلي (المورد).
........................................
وأخيرا فإن النتيجة الاقتصادية ـ الاجتماعية لهذه العملية الاستغلالية الطبقية ـ العنصرية المركـّبة، هي التعمق الاسطوري للهوة ليس فقط بين "المستعمـِـرين" و"المستعمـَرين"، بل كذلك بين حفنة ضئيلة من كبار الغيلان ـ الاحتكاريين، الذين يصبحون اباطرة حقيقيين، وبين عامة الشعب في البلد "السيد" ذاته. بحيث ان كل السلطة تتركز في ايدي تلك الحفنة الاوليغارشية وأجرائها. ويتم ذلك تحت ستار خادع من البحبوحة النسبية، لقطاع محدود من المجتمع "السيد"، يطلق عليه التعبير الضبابي "الطبقة الوسطى"، بالمقارنة مع مستوى المعيشة البائس للجماهير الشعبية الواسعة. وفي المقابل تظهر، كـ"ثقل موازن" حتمي، فئة واسعة، متزايدة باستمرار، من "فائض" السكان "الزائدين عن الحاجة الاستعمالية" للرأسمال الاحتكاري، شديدي البؤس والمنبوذين اجتماعيا، الذين يعيشون في مستوى لا يمكن مطلقا المقارنة بينه وبين مستوى المعيشة الملوكية للحيوانات المدللة للأغنياء.
وبنتيجة ذلك كله، تفقد الرابطة العرقية والقومية والاتنية والدينية اللاارادوية، والمواطنية المتساوية الشكلية، والدمقراطية النسبية المبتذلة، اي محتوى حقيقي لها.
وفي هذه الحال فإن التحرر الحقيقي "الداخلي" للجماهير الشعبية في البلد "السيد"، من البؤس المادي والروحي الناتج عن الممارسة و"الثقافة!" المدمـّجتين للصنمية الرأسمالية وللعنصرية، يصبح مرتبطا عضويا بتحرر الامم والشعوب والاتنيات المستعمَـرة والمظلومة "في الخارج".
امبريالية داخلية
كل هذا ينطبق طبعا على الدولة الاميركية، مثلها مثل اي "امبراطورية" استعمارية وامبريالية اخرى. الا ان هذا ليس كل شيء، بل ليس هو الشيء الاساسي بالنسبة لظاهرة "عقدة فيتنام" الاميركية، التي يمكن اعتبارها ذات خصوصية مميزة.
فالدولة الاميركية هي دولة استعمارية ـ امبريالية "عادية" و"نمطية" تجاه البلدان والشعوب الاخرى، كأي دولة مشابهة. ولكنها، بالاضافة الى ذلك، بل بالأصح قبل كونها كذلك، فهي نفسها تقوم، سكانيا وعنصريا، وبالتالي "قوميا"، "وطنيا" و"شعبيا"، على تركيبة استعمارية ـ امبريالية "داخلية"، فيما بين عناصرها المكــِّونة بالذات.
وهذا ما يجعل اميركا "تختص" بكونها تقوم ليس على شكلين فقط، بل على ثلاثة اشكال رئيسية من التقسيم التمييزي بين الناس، وهي:
أ ـ التمييز الداخلي الطبقي التقليدي العام، الموجود في كل المجتمعات الاستغلالية.
ب ـ التمييز الخارجي العنصري التقليدي العام، الموجود في كل الانظمة "الامبراطورية".
ج ـ التمييز الداخلي العنصري، الخاص بنظام الدولة الاميركية.
ومع هذا التقسيم "الاميركي الخاص"، يمكن ان نميز، في داخل اميركا، ليس فقط اجتماعيا بين طبقتين رئيسيتين، مالكة واحتكارية، عاملة وشعبية، بل وكذلك سكانيا بين كتلتين عنصريتين "قطبيتين"، وكتلة ثالثة "رمادية" خاضعة للاستقطاب بينهما. وهذه الكتل هي:
ـ1ـ الكتلة "البيضاء" الانكلو ـ ساكسونية، بالاضافة الى الطغمة اليهودية الصهيونية، التي التصقت بها في اعقاب الحرب العالمية الاولى. وهذه الكتلة العنصرية "الثنائية"، اذا صح التعبير، تقدم في وقت واحد "الاطار البشري" الرئيسي للطبقة الرأسمالية الاميركية، بشكل عام، ولنواتها الاوليغارشية الاحتكارية الامبريالية، بشكل خاص.
ـ2ـ كتلة "السود والملونين". وهي ليست لها اية صلة ترابط "عنصري" تأسيسي مع الظاهرة الامبريالية الاميركية. بل هي، على العكس، كانت ولا تزال "اول ضحية عنصرية" لتلك الظاهرة الداخلية أساسا، التي "تطورت"، في الزمان والمكان "الاميركيين الخاصين"، قبل ان يمكنها التحول الى ظاهرة خارجية.
ـ3ـ أما الكتلة الثالثة التي سميناها "رمادية"، اخذا بالاعتبار الواقع البراغماتي المصطنع للمجتمع الاميركي، فهي كتلة البيض "الآخرين"، اي غير الانكلو ـ ساكسون والصهاينة. وهي أشبه شيء بمؤخرة احتياطية للكتلتين السكانيتين الرئيسيتين، وتخضع، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، لمؤثرات الاستقطاب بينهما.
وبوجود هذا التقسيم الخاص للمجتمع الاميركي، فإن الفرز الطبقي "العادي"، "النمطي"، وما ينتج عنه من ظهور أقلية اوليغارشية سائدة، واكثرية جماهيرية مسودة، يصح على الشعب الاميركي بأسره، بمختلف كتله العنصرية. ولكنه يصح بشكل مضاعف على الكتلة الثانية، "السوداء ـ الملونة"، وبدرجة اخف على الكتلة البيضاء "الرمادية". ذلك أن هذا الفرز يتداخل ويتفاعل بشكل عُـنفوي، حرْفيا ومجازيا، "قانونيا" و"غير قانوني"، مع التقسيم العنصري، الذي يمثل التقسيم الاهم والاخطر في اميركا، بمختلف الابعاد، بما في ذلك البعد الاجتماعي، الطبقي ـ الاقتصادي.
وبنتيجة ذلك فإن الجماهير، "الاميركية" غير البيضاء خصوصا، وغير الانكلو ـ ساكسونية والصهيونية عموما، التي وقعت ولا تزال ضحية للتمييز العنصري، مثلها مثل جماهير البلدان المستعمَـرة والتابعة، تحولت بنتيجة ذلك الى جماهير شبه ـ مستعمَـرة في "داخل وطنها!" بالذات، خاضعة لـ"امبرياليتها الوطنية" بالذات!
وهذا يعني ان النظام الاميركي لا يمثل فقط، مثله مثل اي نظام امبريالي آخر، نظاما "شوفينيا طبقيا" استغلاليا في الداخل، و"شوفينيا عنصريا" امبرياليا في الخارج، بل يمثل نظاما خاصا مركـّبا، "استغلاليا ـ امبرياليا"، "طبقيا ـ عنصريا"، في داخل اميركا بالذات، قبله في خارجها.
ولتبيان هذه الخصوصية الاميركية، لنجر مقارنة بسيطة بين "الامبراطوريتين" الاميركية والبريطانية، بوصف الاخيرة تعتبر تاريخيا النموذج الاصلي للبلد الرأسمالي، من جهة، وللبلد الاستعماري ـ الامبريالي، من جهة ثانية:
إن العلاقة بين الطبقة الاميركية السائدة، ذات النواة والاغلبية الانكلو ـ ساكسونية ـ الصهيونية، وبين ـ بالاخص ـ "مواطنيها" من الجماهير الشعبية للكتلة السكانية السوداء والملونة، لا يمكن ان تقاس او تشبـّه، بشكل مباشر وبسيط، بعلاقة "الطبقة الرأسمالية" في بريطانيا مع "الطبقة العاملة والجماهير الشعبية" فيها، بوصفها فقط علاقة استغلال اقتصادي، طبقية ـ لاعنصرية. بل الأصح ان يتم قياس وتشبيه هذه العلاقة - الموقف بعلاقة "الدولة البريطانية" مع الجماهير الشعبية الكادحة في "المستعمرات السابقة والبلدان التابعة"، اي بوصفها، اولا، علاقة الاستعماريين بالمستعمَرين، والامبرياليين بالتابعين، التي يقوم عليها الإذلال الانساني المبني على التمييز العنصري، كشرط مسبق للنبذ الاجتماعي والنهب والاستغلال الاقتصادي المضاعفين.
الهوية القومية والوطنية الملتبسة
من هنا ان "عقدة فيتنام"، بمعناها المجازي العام، لدى مختلف الدول الامبريالية، تبدو بوصفها "عقدة سيادية" في العلاقة مع الشعوب "الغيـْرية"، دون ان تمس أحادية "الشخصية القومية" او "الهوية الوطنية" للدولة المعينة.
اما بالنسبة لاميركا، فإننا امام شخصية "قومية" أو"وطنية" لاأحادية، ملتبسة ومتناقضة، في عملية تكوينها بالذات. وهذا ناشئ عن "انكسار" وتناقض البعد العنصري لتشكـُّـل ظاهرة الاستعمار والامبريالية في اميركا.
والطبقة السائدة في اميركا تحاول على الدوام، ولكن عبثا، طمس هذه الخصوصية، والظهور، تجاه "العالم الخارجي"، بالمظهر الزائف لـ"دولة قومية اميركية!" ذات "وحدة وطنية اميركية!".
الا ان الواقع يبين انه يوجد حقا "مواطنية اميركية" و"تشكيلة دولوية اميركية" ، ولكنه ليس هناك "أمة" او "قومية" اميركية موحدة، بل "أمم" أو"قوميات" "اميركية!" مختلفة ثقافيا وتاريخيا. ويبدو بوضوح، لكل مراقب عادي، ان هذه التشكيلة الدولوية الاميركية تضم "شعبا مركـّبا" يتألف، أساسا، من "شعبين متعارضين": "استعماري" و"مستعمـَر"، "امبريالي" و"تابع".
وبالتالي فإن "عقدة فيتنام"، في نسختها الاميركية، ليست شيئا آخرا سوى تعبير سياسي ـ ستراتيجي مرحلي عن الازمة التاريخية لـ"الهوية القومية والوطنية" للدولة والشعب الاميركيين:
ـ فالدولة الاميركية "الجديدة!"، بأساس تكوينها التاريخي، المستمر الى اليوم بفعل نظامها الشوفيني المتداخل، "الطبقي - العنصري"، ليست "دولة كل الشعب الاميركي"، بل هي دولة امبريالية، منقسمة قوميا، تهيمن فيها الى الآن العنصرية "البيضاء"، الانكلو ـ ساكسونية ـ الصهيونية. وبالتالي، فهذه الدولة، بصفتها الامبريالية، وحتى تحقيق تغيير تاريخي لهذه الاوضاع، هي حصرا وعلى وجه التحديد دولة هذه العنصرية "البيضاء" المهيمنة فيها.
ـ اما غالبية الشعب الاميركي، ولا سيما بشخص الكتلة السكانية "السوداء والملونة"، فهي تتألف، تاريخيا وراهنا، من مواطنين من "درجة دنيا"، "أغيار"، يمثلون "شعبا اميركيا آخرا!"، هو في الواقع "شعب" ـ ضحية، شبه مستعمـَر وخاضع، "داخليا"، مثله مثل أي شعب اخر في "العالم الثالث"، ضحية للاستعمار والامبريالية، "خارجيا". واذا تجاوزنا جدلا الحدود الدولوية، الجغرافية والقانونية الشكلية، فإن هذا "الشعب الاميركي الاخر!" ليس في الحقيقة والواقع سوى جزء لا يتجزأ من "العالم الثالث"، تاريخا ومصيرا.
وبالرغم من كل "شطارة" الاعلام الاميركي، وتزيين الادارة الاميركية ببعض الوجوه "الملونة" الديكورية، فإن هذا لا يغير في الواقع شيئا، اكثر مما غيرت فرقة الحرس المغربي الخاص للدكتاتور الاسباني السابق فرنكو في طبيعة الاستعمار الاسباني للمغرب، او اكثر مما غير المتعاونون مع الاحتلال الاسرائيلي في لبنان وفلسطين، من طبيعة هذا الاحتلال. فوضع الكتلة السكانية "الملونة"، ذات "الجنسية الاميركية!"، هو اشبه ما يكون بوضع "حاملي الجنسية" في بريطانيا او فرنسا، من ذوي الاصل الهندي، الباكستاني، الجزائري، الفيتنامي وغيرهم من ابناء المستعمرات البريطانية والفرنسية السابقة. وهو يشبه بشكل عجيب وضع "الاسرائيليين (!) العرب"، داخل الدولة الاستعمارية الاسرائيلية، من حيث اشكال التمييز العنصري، النبذ الاجتماعي و"الحضاري!"، الاذلال الانساني والاستغلال الاقتصادي المضاعف، التي يتعرضون لـها على جميع الاصعدة والمستويات.
وفي نضالها لأجل تحررها الذاتي، والحصول على حقوقها الدمقراطية والانسانية، عن طريق تصفية العنصرية التي تقوم عليها، بالاساس داخليا، الدولة الامبريالية الاميركية، فإن هذه الكتلة السكانية المستعبدة والمظلومة تقع على عاتقها، موضوعيا وتاريخيا، مهمة القضاء، من الداخل، على الطابع الامبريالي لهذه الدولة.
اما وضع الكتلة السكانية البيضاء "الرمادية" في اميركا، فهو أشبه شيء بوضع اليهود "الشرقيين" والروس في "دولتهم!" اسرائيل، التي تحتل مركز الهيمنة الرئيسية فيها "اليهودية الغربية"، الاكثر ارتباطا عضويا بالطغمة المالية الصهيونية العالمية.
ماقبل "فيتنام"
ومن هنا ان "عقدة فيتنام"، ببعدها "الخارجي" العام، يمكن سحبها بالتساوي على جميع الدول "الامبراطورية"، بما في ذلك اميركا. إلا انها، في النطاق الاميركي لوحده، تجسد مركـّبا استثنائيا لثلاث عقد "قومية" و"وطنية" خاصة:
الاولى ـ "عقدة الحقد والخوف الباطن من العقاب"، وهي عقدة خاصة لدى العنصريين الانكلو ـ ساكسون، لما سبق وارتكبوه، خصوصا، ضد الهنود الحمر والسود والملونين، من لحظة تكوّن الدولة الاميركية "الجديدة!"، ولا زالوا يرتكبونه حتى يومنا هذا. وهذه العقدة "تتبلور" و"تتجدد" يوميا، في استمرار و"تحديث" نظام التمييز العنصري داخل اميركا، بالارتباط مع توسيع، "تطوير" و"تحسين" الممارسة العنصرية للهيمنة الاميركية في الخارج.
و"تتفاعل" هذه العقدة و"تتعمق"، عبر "تداخلها" مع "عقدة احتقار الآخر والخوف منه"، الخاصة بالطغمة المالية الصهيونية، بعد "التصاقها" بالعنصرية الانكلو ـ ساكسونية. علما ان هذه العقدة الاخيرة المضافة تنشأ عن الدور "الخاص" للطغمة الصهيونية، الذي هو بالاساس دور استغلالي طفيلي "لااميركي"، يرتبط عضويا مع دورها الفئوي ـ الكوسموبوليتي العالمي، في نهب واذلال مختلف الشعوب.
الثانية ـ "عقدة الشعور بالذنب"، لدى الانتلجنتسيا والجماهير الشعبية الاميركية "البيضاء" واليهودية، كانعكاس لما ارتكبته وترتكبه الطغمة الاحتكارية العنصرية، الانكلو – ساكسونية – الصهيونية، باسم "هويتهم" "القومية"، العنصرية والاتنية.
الثالثة ـ "عقدة الشعور بالظلم والدونية"، لدى "المجتمع الاسود والملون" في اميركا، الذي كان مستعمـَرا بأبشع أشكال الاستعمار في الماضي، والذي تنطبق عليه كل مواصفات المجتمع شبه ـ المستعمـَر حاليا. وهذه العقدة تفرض على هذا المجتمع "الاميركي!" المظلوم والمنبوذ في "وطنه!"، ان يكون باستمرار متحفزا للدفاع الذاتي عن حقه الطبيعي في الوجود الانساني الكريم.
وهذا "الواقع القومي" المركـّب الاستثنائي للدولة الاميركية "الجديدة!" يكشف تماما الطابع الاصلي، "الوطني" الخاص، لـ"عقدة فيتنام" الاميركية. والاوليغارشية العنصرية الانكلو ـ ساكسونية ـ الصهيونية، المتحكمة حتى الآن بهذه الدولة، وفي معاناتها المرَضية من هذه "العقدة"، انما تخشى دائما، اكثر ما تخشاه، ان يؤدي الاصطدام مع "القوى المعادية" الخارجية، الى "كشف" هذه العقد الاميركية الخاصة، وفضح أزمة "الهوية القومية والوطنية" الاميركية الملتبسة، وبالتالي الى تلاقي نضال غالبية الشعب الاميركي ضد هيمنة هذه الاوليغارشية، بوجهها الطبقي ـ العنصري في "الداخل"، مع نضال الامم والشعوب والاتنيات "الغيْـرية" ضد هيمنة هذه الاوليغارشية ذاتها، بوجهها الامبريالي ـ العنصري في "الخارج".
الموهيكان عائدون!
ان المصابين بالامراض النفسية الاجتماعية، من "النخبة" او من الحثالة، المبهورين بـسطحيات "نمط الحياة الاميركي"، والداعين المبتذلين لـ"النظام العالمي الجديد"، و"ايديولوجيي الوجبات السريعة" المنادين بـ"صراع الحضارات" و"نهاية التاريخ" و"الامبريالية الجديدة" و"النظام الاستهلاكي"، يحاولون ان يقنعوا انفسهم بأن هذه الحقائق الاميركية قد اصبحت "في ذمة التاريخ". ولكن، لسوء حظهم، وحظ جميع "اسياد العولمة" أكلـة لحوم البشر الجدد، فإن العكس تماما هو الصحيح:
فاليوم، مضى اكثر من خمسمائة سنة على "اكتشاف!" (إقرأ: استعمار) اميركا، التي عوملت كـ"ارض بلا شعب، لشعب بلا ارض!"، مثلما فعل الصهاينة لاحقا في فلسطين. خلال هذه المدة، وبفضل "التمدين (!)" العنصري الابيض، لم يتبق مثلا من شعب الموهيكان الذي ذكرناه آنفا، سوى بضع مئات من "المخلوقات" يعيشون، كواحد من الاجناس الحية المهددة بالانقراض(!)، في "محمية ستوكبريدج" في ولاية وسكونسن.
ولكن بالرغم من كل العنصريين القدامى والجدد، فإن هذا لا يعني ان ظاهرة الهمجية "الطبيعية" (أي العنصرية) في الجنس البشري، قد انتصرت الى الأبد على الطبيعة ـ الأم، في صورتها الانسانية ـ الاجتماعية، التي تتكون من تنوع عناصر الجنس البشري. كلا أبدا! فالطبيعة، كجوهر كلي متصعـِّد، تدخل فيه الحقيقة الانسانية، المنسجمة مع قوانينها التطورية، هي دائما المنتصرة بذاتها.
ولعله عبرة لمن يستطيع ان يعتبر، ان عدد "الملونين" الان في اميركا يكاد يعادل او يزيد على عدد الاميركيين البيض. ولن تنتظر البشرية خمسمائة سنة اخرى، هي عمر اميركا "الجديدة!"، بل لن تمضي سوى بضعة عقود، حتى تصبح الكتلة الدمغرافية الانكلو ـ ساكسونية بأجمعها، ومعها كل الصهاينة، اقلية في اميركا.
ان العنصرية، بالمعايير الداروينية المزيفة، هي الارضية "الطبيعية ـ الاجتماعية" للامبريالية. وبالانتصار العسكري على الهتلرية، تلقت العنصرية ضربة زلزالية. ولكن على الرغم من هذا النصر التاريخي، للانسان على الهمجي، فإنه لم تتم التصفية النهائية للعنصرية، بفعل سبب رئيسي هو: استمرار "سيادة الرجل الغربي الابيض" في "البيت الانساني".
أما الآن، ومع المواجهة الشاملة للامبريالية العالمية، بنواتها "المحورية" الاميركية ـ الصهيونية، فإن العنصرية بدأت تواجه "ازمة وجود" كلية. ومثلما ان الشعب الالماني لم يرهن وجوده المصيري بوجود النازية، فإن الكتلة السكانية الاميركية البيضاء واليهودية لن ترهن وجودها المصيري بوجود الامبريالية والصهيونية، و"روحهما": الرأسمالية. وهذا "التاريخ المستمر"، منذ ماقبل وفي مابعد 11 ايلول 2001، هو ما يدفع وسيدفع اكثر فأكثر الجماهير الشعبية والمثقفين الشرفاء، من الاميركيين البيض واليهود، للتميـّز أكثر فأكثر عن العنصرية، بمظهريها الابشع في التاريخ الحديث: الامبريالية المعولمة والصهيونية.
وستراتيجية "الهروب الى الخارج"، المتمثلة في "حرب تكنولوجيا الفضاء" و"الارض المحروقة"، التي تشنها اليوم العنصرية الانكلو ـ ساكسونية، والصهيونية، خصوصا ضد الشرق، وعموما ضد جميع "الاغيار" و"الملوّنين" في العالم، لن تنقذها من الهزيمة، حتى بفعل العامل"البسيط"، الطبيعي ـ الديموغرافي، داخل اميركا واسرائيل، وخارجهما، بل هي ستعجل في هذه الهزيمة!
والعنصريون الاميركيون الانكلو ـ ساكسون، اصحاب "امجاد" "صيد" ومحق وإذلال الهنود الحمر والزنوج، واليابانيين والفيتناميين والافغان والمسلمين الخ، مثلهم مثل الصهاينة، اصحاب "امجاد" "صيد" ومحق واذلال الفلسطينيين واللبنانيين والعرب، يصبحون اكثر فأكثر محاصرين بـ"الملونين"، داخل اميركا واسرائيل وخارجهما. وكل جبروتهم، مع كل بطشهم النازي، لا يمكن ان يستر رعبهم المتزايد وهم يرون، كما في الكوابيس، "الموهيكان قادمون!" في كل وجه "ملوّن" بنور الشمس، الطبيعية والانسانية.
ـ ـ ـ
IV ـ الأبعاد المصلحية والسياسية للصراع
لا شك ان الخلفيات الاساسية للعلاقات والصراعات الاجتماعية، في المدى الوطني والعالمي على السواء، هي التي تفعل فعلها، في الحساب الاخير، في "توجيه" تلك العلاقات والصراعات. ولكن ذلك يتم، في الحياة المعاشة، عبر ـ خصوصا ـ الأبعاد المصلحية والسياسية المباشرة.
فقد مرت حتى يومنا هذا ألوف السنين من التاريخ المدرَك للبشرية. وشهدت هذه الاحقاب الطويلة "نزول" الرسالات السماوية، وظهور وانتشار الافكار التنويرية والمبادئ الاخلاقية والمدارس الفلسفية والعقائد الانسانية، والتنامي المتواصل لعامل الوعي والمناقبية في حياة الانسان. ومع ذلك، "للاسف!"، فإن العامل الروحي، بمعناه الانساني المجرد او "السماوي" المجسد او المطبق انسانيا كما يفهمه الدينيون الصادقون، لم يزل بعيدا عن ان يكون هو العامل المقرر، في حياة المجتمعات، بدون الحافز المادي ـ الوجودي، المتعلق بمعيشة الانسان وحياته. بحيث ان الوعي يمر بالميزان البسيط، الفردي والجماعي، لحساب الربح والخسارة، ماديا، والبقاء او عدم البقاء على قيد الحياة، والسلامة الشخصية، وجوديا. و"العالم الجديد!" لم يكن سوى "امتداد" لـ"العالم القديم". و"نمط الحياة الاميركية" لم يفعل سوى "تطوير" هذا الواقع "المادي المبتذل".
وهذا ما ينطبق بشكل خاص على "عقدة فيتنام" الاميركية، التي لا يمكن فهمها بشكل صحيح، دون النظر اليها على ضوء البعد المباشر، المصلحي والسياسي "اليومي"، اذا صح التعبير، الذي تتحقق الخلفيات الاساسية عبره، في الظروف الاعتيادية، بشكل غير مباشر، كمرحلة ضرورية للتراكمات التي تسبق التحولات النوعية.
فمهما كان التحوّط من "عقدة فيتنام" كبيرا، فإنه لا يكون، في الحساب الاخير، وفي أي مواجهة جادة، هو العامل الحاسم. والتجربة التاريخية القديمة والمعاصرة تثبت ان جميع الدول الاستعمارية والامبريالية هي مضطرة، في نهاية المطاف، للقتال بـ"مواطنيها"، حتى تستطيع ـ اذا استطاعت ـ ان تربح معاركها وحروبها، او ان لا تخسر مواقعها، "الخارجية"، وأن تحافظ في الوقت ذاته على السلطة "الداخلية" لطبقاتها السائدة.
وهي لذلك تنجر للهزيمة، كقاعدة عامة، في حروب التحرير، مهما كان تفوقها، الاقتصادي والعلمي والعسكري، على الشعوب المظلومة، الضعيفة والفقيرة. والهزيمة هنا لا تعني، كقاعدة عامة ايضا، الهزيمة العسكرية بالمعنى التقليدي للكلمة. بل هي تتمحور اساسا حول مفهوم الهزيمة الستراتيجية ـ السياسية العليا، حينما ـ وخصوصا عبر الخسائر المادية والمعنوية التي يتحملها ـ يدرك شعب البلد الاستعماري والامبريالي مساوئ سياسة العدوان التي تنتهجها دولته، ويفرض ارادته بالتخلي عن هذه السياسة.
وهذا ما يجعل الدول الاستعمارية والامبريالية تعاني خشية دائمة على سياستها التوسعية في الخارج، من مواطنيها انفسهم، قبل غيرهم. لأن ميزان "الفوائد" و"الاضرار"، ومن ثم "مواقف" هؤلاء المواطنين، هو الذي يقرر، في الحساب الاخير، الاستمرار، أم لا، بهذه السياسة العدوانية، ولا سيما الحروب.
ولذلك فإن هذه الدول تفعل كل ما بوسعها لـ"إقناع" "مواطنيها" بـ"حسنات" الاستعمار والامبريالية، عبر تأمين "الفوائد" و"المصالح" المباشرة لهم، وتقليل "خسائرهم.
ميزات وتناقض الديماغوجية الاميركية
ان النظام الاستعماري والامبريالي الاميركي، وانطلاقا من خصائص نشأته ذاتها، المرتبطة اولا بـ"جزيريته القارية" المتميزة، دخل خلال تاريخه "الحافل"، في حروب ومعارك كثيرة، سياسية واقتصادية وعسكرية، خارجية، كانت رابحة ـ كخط عام. وقد استمر هذا "الخط البياني الصاعد" للنظام الاميركي، في الوقت ذاته الذي سارت فيه الدول الاستعمارية والامبريالية الاخرى في "خط هابط". وقد انعكس ذلك على حياة "المواطن" الاميركي "النمطي"، واساسا الابيض الانكلو ـ ساكسوني، بتحقيق اكبر ما يكون من المكاسب لـه، مقابل اقل ما يكون من الخسائر. وبفعل "المنطق التاريخي" افرز هذا "المسار الاميركي المتميز" ظاهرتين اميركيتين خاصتين، مترابطتين ـ متناقضتين، وهما:
الاولى: بالاستناد الى "الوقائع" البراغماتية، "الصحيحة" بـ"عائديتها" و"فوائدها" المادية النسبية للمجتمع الاميركي، توفرت للادارات الاميركية لفترة طويلة، امكانية "استثنائية" لتضليل "المواطن النمطي" الاميركي حول "تفوق" السياسة الخارجية خاصة، ومن ثم الداخلية، لدولته. وقد ساعدها على ذلك بوجه خاص العملية المعقدة لـ"وراثة" الامبراطوريات الاستعمارية السابقة، التي مثلت احدى القنوات "التاريخية" لهذا "التفوق".
فالولايات المتحدة الاميركية ولدت، كدولة، عبر عملية تحررية تمثلت في "حرب الاستقلال". ولكن في المحصلة التاريخية لمسار الدولة الجديدة، وبفعل عيوبها الولادية الاغتصابية ـ الاسترقاقية، فهي لم تكن مؤهلة للتحول الى دولة متحررة وتحررية فعلا، تسهم بمثالها المبكر في القضاء على وجود النظام الاستعماري والامبريالي. وكل ما فعلته هو أنها "وقفت في منتصف الطريق"، وقامت بـ"تجديد" هذا النظام: فتحت وبزخم شعارات الاستقلال والحرية، فإن النظام الاستعماري والامبريالي "الجديد"، الذي مثلته اميركا ـ الفتاة نموذجيا، ولد "من رحم" النظام الاستعماري والامبريالي "القديم"، الذي مثلته بريطانيا ـ العجوز نموذجيا. وقد تمت عملية "الوراثة"، أي التوسع العالمي للنظام الاستعماري والامبريالي الاميركي "الجديد"، على حساب النظام الاستعماري والامبريالي "القديم"، تحت وبزخم الشعارات ذاتها. وهكذا أتيحت "تاريخيا" للادارات الاستعمارية والامبريالية الاميركية المتعاقبة، امكانيات "استثنائية"، من جهة، لخداع الشعوب ضحايا الاستعمار التقليدي، ومن جهة ثانية، لـ"إقناع" "المواطن النمطي" الاميركي، بأن سياستها الاستعمارية والامبريالية الفعلية، التي تبدو ظاهريا انها "تسير بعكس التيار"، انما تقوم "على الضد"، أي على "معارضة الاستعمار" و"الدفاع عن الحريات وحقوق الشعوب"، وأنها سياسة "مؤيَّـدة" و"مطلوبة" من قبل الشعوب الاخرى.
وهكذا اصبحت الديماغوجية والكذب العام وسياسة المقياسين هي السائدة في طريقة تقديم السياسة الخارجية لـ"المواطن النمطي" الاميركي. واصبح هذا "المواطن" مخدَّرا، او "منوّما مغناطيسيا"، "مقتنعا سلفا" بـ"صحة" السياسة الخارجية لدولته، و"محصـّنا" تجاه "المؤثرات الخارجية" غير المرغوبة! وبالتالي اصبح لـه "عالمه الاميركي الخاص"، "المختلف"، المتجاهل الى حد كبير، والجاهل الى حد اكبر، لبقية العالم. وأصبح ينظر لعالم "الغير" بعين "اميركية" خاصة، "مكسورة" الرؤية الواقعية.
وفي هذا "الاقتناع المسبق المضلــَّل" نوع من "التطمين" المؤقت غير المضمون لـ"عقدة الخوف" لدى الطغمة الانكلو ـ ساكسونية ـ الصهيونية، ونوع من "التعويض الوهمي" المؤقت غير المضمون لـ"عقدة الشعور بالذنب" في الوسط الشعبي الاميركي "الابيض"، و"عقدة الانتفاض" في الوسط الشعبي الاميركي "الملون".
الثانية: ان"ميزة" هذه "العائدية" الاستثنائية للسياسة الخارجية الاميركية، وضعت "المواطن النمطي" الاميركي، في مرتبة استيهام مصطنعة، بوصفه "المحرر"، "المنقذ"، "السوبرمان"، "المتفوق" على اي مواطن آخر في العالم، الاستعماري والامبريالي، المستعمَـر والتابع، على السواء. ولكن من خلال "منطقها الداخلي" بالذات، فإن هذه "الميزة" جعلت هذا "المواطن النمطي" ذاته، "المأخوذ" بها، اكثر تطلبا، ماديا ومعنويا، واكثر حساسية، حيال السياسة الخارجية لدولته.
فمن جهة، اصبح اقل استعدادا، من "المواطن النمطي" لأي بلد استعماري وامبريالي آخر، لتحمل الخسائر المادية والبشرية، وكذلك المعنوية، من حيث "السمعة" و"الاحترام"، المرتبطين بالراحة الشخصية، كما بتأمين تفوق العلاقات والمصالح في الخارج.
ومن جهة ثانية، اصبح اكثر استعدادا، مسبقا، لرفض ومعارضة اي سياسة خارجية "خاطئة"، بمعنى "مكلفة"، أي ذات عائدية "ضعيفة"، او بدون عائدية، او خاسرة، خصوصا اذا كان فيها ملامح ممارسات استعمارية ولاانسانية فاضحة، يدفع هو بالنتيجة "ثمنها" المادي والمعنوي، "خارجيا"، وتساعد على "نكء الجراح" وتحريك الخلفات العنصرية لـ"عقدة فيتنام"، "داخليا".
وهكذا اصبحت الادارة الاميركية نفسها رهينة ديماغوجيتها وإعلامها الكاذب الخاصين، فيما يتعلق بالخارج. وهذا ما دفعها الى اقامة سد عالٍ من التمويه التضليلي بين سياستها الداخلية، وسياستها الخارجية. وهذه "ميزة" خاصة اضافية للنظام الامبريالي الاميركي.
فالعلاقة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية لكل دولة استعمارية وامبريالية اخرى، كانت دائما تبدو اكثر مباشرة. اذ انه من الضروري لكل دولة استعمارية وامبريالية العمل لتعبئة "جمهورها الوطني" تعبئة مباشرة وصريحة حول سياستها التوسعية الخارجية، تحت شعارات "الصليبية" او "المدى الحيوي" او "التمدين" او شتى الادعاءات الاقليمية "التاريخية" و"الدينية" و"القومية" و"الوطنية" الخ، بحيث كانت السياسة الخارجية تبدو بالعين المجردة على حقيقتها كاستمرار للسياسة الداخلية. وهذا هو الاساس "الاجتماعي ـ السياسي ـ القومي" لولادة التيارات الشوفينية والفاشية والنازية في اي بلد استعماري تقليدي.
الانفصام الاميركي
اما في الحالة الاميركية، فهناك اختلاف "نوعي"، اذا صح التعبير. حيث ان العلاقة بين السياستين الداخلية والخارجية، تبدو ظاهريا لا كتحقـّق مترابط ومتكامل، داخلي وخارجي، لمسار سياسي واحد، بل ـ ومن خلال "الرؤية المكسورة" للديماغوجية المركبـّة ـ وكأنها علاقة "غير مباشرة" و"غير عضوية" لمسارين سياسيين مختلفين. وبنتيجة ذلك فقد اصبحت السياسة الخارجية في نظر "المواطن الاميركي" تبدو كحالة "منقطعة"، "مستقلة"، "موازية" و"مضافة"على السياسة الداخلية. وقد ادى هذا الوضع الملتبس الى نتيجتين متفارقتين:
اولا ـ إن السياسة الخارجية الاميركية اصبحت تتحكم بها طغمة كوسموبوليتية اولترا ـ امبريالية، "تتغرب" اكثر فأكثر عن "اميركيتها"، خصوصا بعد ان اصبحت "معززة" بالصهيونية الدولية التي لا تعني اميركا لها شيئا الا كـ"مغارة لصوص"، تماما كما كان يعني "الهيكل" للتجار الفرّيسيين الملعونين، حسب المعتقد المسيحي. ولا تشعر هذه الفئة بأي حاجة لـ"تنوير"، و"تعريف"، و"تعبئة" "المواطن النمطي الاميركي" حول سياستها الاستعمارية في الخارج. بل على العكس، هي توغل في تضليله وتمويه تلك السياسة، لتظل يدها طليقة تماما.
ثانيا ـ "بفضل" الديماغوجية الاميركية ذاتها، وبمقدار الإيغال فيها، وعلى الضد تماما من اهدافها المباشرة، فإن "المواطن النمطي الاميركي" اصبح أكثر فأكثر يفتقد عنصر "الوطنية" الشوفينية الاستعمارية، كما هو الحال بالنسبة للبلدان الاستعمارية والامبريالية التقليدية. ومع الاضطرار للقتال بواسطة "ابناء بلدها"، فإن اي دولة استعمارية وامبريالية لا تستطيع، بدون هذا العنصر، الاستمرار في السياسة العدوانية التوسعية، مهما كانت قدرتها على التمويه والتضليل، لأنها في النهاية ستنفضح. واميركا لا تستطيع ان تشذ عن هذه القاعدة. وفي عصر "ثورة المعلومات"، التي تكاد تجعل العالم "صفحة مفتوحة" امام الجميع، والتي تسهم فيها الديماغوجية الاميركية بدور مميز، بقصد استغلالها الى اقصى الحدود، فإن الطغمة الاولترا ـ امبريالية ـ الصهيونية تندفع "بمحض ارادتها" لأن تضع في يد "المواطن النمطي الاميركي" طرف الانشوطة التي تلف حول عنقها.
أميركا مستعمرة صهيونية
وقد ساعد على تكوين هذا الوضع الاميركي الاستثنائي "الجزيرية القارية" للدولة الاميركية. فعلى أساس هذه الخصوصية نشأت نظرية ما يسمى "العزلة الاميركية"، التي هي نظرية وهمية وكاذبة، في الحساب الاخير، الا انها "واقعية"، كغيرها كثير من الاكاذيب والاوهام الكبرى، التي تدخل في تركيب "الوعي" و"الاقتصاد" و"السياسة" و"الحرب" الخ. وبموجب هذه النظرية خـُدّر "المواطن النمطي الاميركي" بـ"وعي وطني" وهمي، يقوم على اساس خاطئ وكاذب ومغرض، يقول "إن اميركا ليست بحاجة الى العالم"، بل "إن العالم هو بحاجة الى اميركا".
وربما لا نخطئ اذا قلنا إن هذا "المبدأ" المزيف يعتبر الركن الاساسي في "مبرر وجود" و"تركيبة" السياسة الخارجية الاميركية، التي يمكن تشبيهها بـ"انعكاس مقلوب" لـنظرية "العزلة الاميركية". فكوسموبوليتية الطغمة العليا لأي دولة استعمارية وامبريالية اخرى، تبدو "بشكل طبيعي" كامتداد "خارجي" للشوفينية "الوطنية" الاستعمارية والامبريالية، وبالتالي كتعبير عن "حاجتها ’الوطنية’ للعالم". واذا شئنا التشبيه، فهي تبدو كهرم دولي جالس، قائم على "قاعدة وطنية". أما كوسموبوليتية الطغمة الاستعمارية والامبريالية الاميركية فتبدو، داخليا، كمحور قائم بذاته، بدون "قاعدة شوفينية" تقليدية، وبشكل "معزول" عن الحاجة "الوطنية الاميركية". وتبدو، خارجيا، كهرم دولي واقف على رأسه، وقائم على "نقطة ارتكاز" اميركية، يمكن "نظريا" ـ وعلى قياس نظرية "العزلة الاميركية" ذاتها ـ ان تستغني عنه.
وقد بلغت الكوسموبوليتية الامبريالية الاميركية، "المقلوبة" رأسا على عقب، ذروتها، في الوضع المميز الذي تحتله الطغمة المالية الصهيونية العليا، في تركيبة النظام الامبريالي الاميركي، منذ ان نقلت مركز قيادتها الدولية من بريطانيا، الى اميركا، بعد الحرب العالمية الاولى. فهذه الطغمة تمتاز بثلاث صفات اساسية هي انها: "منغلقة"، "لاوطنية" و"غير مخلصة"، حتى في ارتباطها بالاجنحة الاخرى للاوليغارشية الامبريالية الاميركية. ومن ثم فهي "اميركية" في المظهر والهوية القطرية، ولكنها "لااميركية" في الجوهر والانتماء الذاتي. وبكلمات اخرى، فهي "اميركية" بمقدار ما تستخدم الدولة والمجتمع الاميركيين، من جهة، وارتباطاتها الكوسموبوليتية غير الاميركية، من جهة اخرى، لتحقيق مصالحها واهدافها الخاصة، الفئوية الضيقة.
واذا اردنا ان نقارن بين استعمار اي بلد اخر، وبين الاستعمار الاميركي (بالمعنى العام، الامبريالي ـ التسلطي، لا التقليدي وحسب، لمفهوم الاستعمار)، فإن الاول يبدو ـ اذا صح التعبير ـ كـ"استعمار وطني" (انكليزي، فرنسي، برتغالي، الخ)، اما الاستعمار الاميركي فيبدو كـ"استعمار استعماري" وحسب، "استعمار عار ٍ"، مجرد من اي غطاء "وطني" الا بالاسم.
وحتى على المستوى "الانساني"، اذا صح التعبير، فإننا نجد، بصفة عامة، ان القادة الاستعماريين الاسرائيليين إياهم، وقبلهم الانكليز والفرنسيين والالمان الخ، كانوا ـ كقاعدة ـ "وطنيين"، يقاتلون هم وأبناؤهم (بالمعنى الحرفي) لأجل "قضيتهم". اما القادة الاستعماريون الاميركيون، ومنهم رؤساء جمهورية، فهم ـ كقاعدة ـ يختبئون في الملاجئ، ويتهربون من الخدمة العسكرية، او "يخدمون" في المؤخرة البعيدة الخ. لأنه لا احد يمكن ان يضحي بنفسه وحتى ماديا في سبيل "الاستعمار لأجل الاستعمار".
وبذلك يبدو، من وراء كل اشكال "الوعي الوطني" المضلـّـل، حول "الاستقلال الاميركي" الوهمي، ان الشعب الاميركي، قبل غيره من الشعوب، هو محكوم ليس فقط من قبل الطغمة الامبريالية الكوسموبوليتية "الاميركية الوطنية"، بل هو، فوق ذلك، وقبل ذلك، مستعمـَر فعلا من قبل قوة امبريالية اجنبية، لأنه محكوم فعلا وبالاخص من قبل الجناح الصهيوني "الغريب"، الذي تعود لـه، حتى الآن، الكلمة الاولى في اطار الطغمة الاستعمارية والامبريالية الاميركية.
وبنتيجة هذا الوضع الالتباسي، فإن "المواطن الاميركي" هو "غير مهيأ" كفاية، و"معرض للصدمة"، اكثر من اي "مواطن" في أي بلد امبريالي آخر، في حال اكتشف ليس فقط حقيقة السياسة الخارجية لدولته، بل كذلك حقيقة التركيبة "اللاوطنية" للنظام الاستعماري والامبريالي في بلاده.
وهذا هو السبب الرئيسي في جعل الادارة الاميركية تخشى على "مواطنها" من تقديم التضحيات، لأنها تخشى من "صدمة التضحية"، التي تدفع "المواطن النمطي الاميركي" للتحرر من سلبيته حيال السياسة الخارجية لدولته، ولبدء التفكير بحقيقة هذه السياسة والمسؤولين عنها.
ابعد من اميركا!
بصرف النظر عن أي تحليل سياسي ـ عملياتي لأحداث 11 ايلول 2002، التي "لا ندري!" لماذا تغلـّفها السلطات الاميركية بهذا القدر من الغموض، فإن السياسة الاميركية حتى، بل خاصة، وهي تتظاهر فرّيسيا امام شعبها بـ"الحياد والموضوعية" خارجيا، فإنها لا تستطيع ان تخدع الشعوب المعنية، ضحية هذا "الحياد" و"الموضوعية". وهي، بهذه السياسة ذات الوجهين، تخلق لشعبها موضوعيا، وفي كل مكان تتدخل فيه، "قوة كامنة معادية"، التي يأتي وقت لا يمكن فيه ضبطها، كما يمكن فيه لأي "طرف ثالث" او "عامل ذاتي" استخدامها. ونذكر هنا شهادة صحفي بلغاري، عايش الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، حيث شاهد بأم عينيه المجزرة التي ارتكبت ضد أبناء الشعب اللبناني واللاجئين الفلسطينيين، على يد الجيش النازي الاسرائيلي، وبالدعم الكامل من قبل اميركا، تحت شكل "الحياد" بين الضحية والمجرم، المسلح بالاسلحة الاميركية المتطورة والمحرمة دوليا. حيث يورد هذا الصحفي، دعاء أم لبنانية لثمانية اطفال، وهم يختبئون في الملجأ: "ادعو الله ان تقوم الطائرات والدبابات والبوارج الحربية بإلقاء القنابل على اميركا. فقط اذا ذبحوهم هم ايضا، فقط وقتها سيفهمون ما يجري لنا"(1). هذا ما نطقت به هذه الام اللبنانية الخائفة على اولادها من القنابل الاميركية، باليد الاسرائيلية، في وقت كان فيه الشيخ بن لادن يحارب مع اميركا. فهل كانت هذه الأم "تتآمر" حينذاك على اميركا، و"تخطط" لارسال اولادها كاستشهاديين ليضربوا اميركا في 11 ايلول 2001؟ ـ كلا! ولكن بالتأكيد ان الاطفال ابناء هذه الام قد شبوا الان، وهم يكرهون اميركا تماما مثل كرههم لاسرائيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إيفو غارفالوف، حرب أخرى ايضا، بالبلغارية، صوفيا، 2002، ص 42.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي المرحلة المعاصرة، فإن الطابع المعولم للرأسمالية الاحتكارية، وسلطتها الفعلية الدولية، لم يعد يسمح بـ"ترف" الفصل الصوري المصطنع بين السياستين الداخلية والخارجية لاميركا، كما لغيرها. ولم يعد يسمح، خاصة، بعدم الاهتمام الكافي من قبل الشعب الاميركي بالسياسة الخارجية لدولته، التي تجر عليه، وعلى جميع شعوب العالم، من الافعال وردود الافعال، ما قد يصل الى حد الكوارث الافظع من 11 ايلول 2001 في اميركا، الناتجة عن سياسة ليس هو، ولا اي من الشعوب الاخرى، مسؤولين عنها.
ولم يعد بالامكان بعد اليوم النظر، في اميركا، الى "عقدة فيتنام" كمسألة خارجية فقط، حيث ان مجزرة 11 ايلول 2001 كشفتها تماما كعقدة داخلية مباشرة. ومن هذا المنطلق لا يجوز بعد اليوم ان يبقى الإعلام الاميركي يعكس قضايا العالم، بشكل غير موضوعي، من زاوية مصالح المسيطرين على هذا الاعلام، وخصوصا الصهاينة، لا من زاوية نظر الشعوب والجماعات المعنية، اصحاب تلك القضايا بالذات. كما لا يجوز ان تبقى الدمقراطية الاميركية قناعا للهيمنة الامبريالية، وأن تكون الانتخابات الاميركية، التي يتقرر فيها من هو "السيد الاول" للعالم، أشبه شيء بكرنفال للتسلية، تتراقص فيه صور المرشحين للرئاسة على صدور الراقصات الفاتنات، في عالم ثلثا سكانه يعيشون تحت خـط الفقر، و20 بالمائة منهم يتضورون أو يموتون جوعا، "بفضل" السيادة الاميركية على هذا العالم.
وبقدر ما أن "الكارثة الوطنية" الاميركية يوم 11 ايلول 2001 هي كبيرة، فستكون كارثة اكبر منها امكانية طمس الاسباب الجوهرية التي قادت اليها، خصوصا عبر قرع طبول الحرب ضد الشعوب الفقيرة والمظلومة، كالشعب العراقي والشعب الافغاني، الذي سبق لـ"مجاهديه" ان صدقوا "صداقة" اميركا، وحاربوا السوفيات بمساعدتها، فكان لـه المصير البائس الذي أخضع لـه سنين طويلة، والذي يستمر الى اليوم.
وبالرغم من ذلك، ومع انه لم يجر حتى اليوم اي تعريف قانوني وسياسي واضح لمدلول تعبير "الارهاب"، والتفريق بينه وبين الحالات المرتبطة بالمقاومة المشروعة ضد الاستعمار والاحتلال الاجنبي، يزداد اكثر فأكثر التوافق على الموقف الاخلاقي الذي يرفض التعرض للمدنيين الابرياء والمؤسسات المدنية، بالقتل والايذاء والضرر.
وبناء على هذا التوافق "العرفي" والقانوني، وأساسا السياسي ـ الاخلاقي، فإن الغالبية الساحقة من المنظمات والهيئات والدول، بمن فيها غير مؤيدة، ومعادية، للسياسة الامبريالية الاميركية، ابدت تعاطفها الصريح مع الشعب الاميركي حيال المأساة التي حلت به، بدون ان يعني ذلك حكما تأييد السياسة الاميركية في مواجهة ما تسميه هي "الارهاب"، او الانضمام للحلف الاميركي "المعادي للارهاب!". وأيا كانت الحوافز، الصادقة او النفعية، لدى كل طرف او دولة على حدة، فلا بد من الاشارة الى ثلاث قناعات، أخلاقية ـ سياسية، للتعاطف مع الشعب الاميركي:
الاولى، عدم تحميل هذا الشعب، مسؤولية "خطايا" وارتكابات الطبقة السائدة في دولته. فالتحرر من الهيمنة الامبريالية الاميركية، لا يمكن ان يتم في مواجهة مع الشعب الاميركي، بل هو سيتم، على العكس تماما، بالتعاون مع هذا الشعب، ذي التقاليد الدمقراطية والنضالية والانسانية العريقة، وذي المصلحة الاساسية، في الحساب الاخير، بالتخلص من هذه الهيمنة. فهي التي تجعل منه، رغما عنه، وبوعي او بغير وعي، موضوع استغلال واداة مسخـّرة في يد الطغمة الاحتكارية، المتحكمة بمصائره ومصائر سائر الشعوب.
الثانية، ضرورة عدم تبرير "الارهاب المضاد" ضد المدنيين، على الطريقة اليهودية الشمشونية، الذي تلجأ اليه بعض الجماعات اليائسة، لان ذلك قد يعني الغرق – بقوة رد الفعل – في "المنطق الارهابي" للقوى المتسلطة ذاتها. انه لمن المفهوم ان لجوء بعض اطراف المقاومة الى بعض الاعمال اليائسة التي تصيب المدنيين في "الطرف المعادي" هو نتيجة للاحتلال والظلم الخ، وان ازالة النتيجة مرتبط بازالة السبب. ومن المفهوم ايضا ان هذا الاسلوب يخلق نسبيا ما يسمى "توازن الرعب"، و"يساعد" المعتدين على اعادة النظر في حساباتهم. ومع ذلك فإن "الارهاب المضاد" الذي يصيب المدنيين بشكل مقصود يساعد، في المحصلة النهائية، على تبرير المنطق العنصري الذي يقوم عليه الاستعمار والامبريالية، وإعطاء مزيد من "الحجج" والذرائع للقوى المستبدة في العالم، وعلى رأسها الامبريالية الاميركة والصهيونية، لتستير وجهها البشع، داخليا وخارجيا، لمواصلة ومفاقمة سياسة ارهاب الدولة، الرسمي والسري، تحت ستار "الرد على الارهاب" و"مكافحته".
والثالثة، التأكيد الضمني والمباشر أنه قد آن الاوان منذ زمن طويل للشعب الاميركي "أن يعرف". فلو كان الشعب الاميركي "يعرف" حقا السياسة الخارجية، خاصة، لدولته، لكان من المرجح ألا ّ تحل به مثل هذه المأساة. وقد آن الأوان للسياسيين والاعلاميين الاميركيين الانتهازيين لان يخجلوا من الاستمرار في خداع شعبهم، وإخفاء الحقائق عنه، وتخديره بخرافة "الحلم الاميركي"، وتعطيل تفكيره بالإعلام المضلـِّل المعلـّب، الذي يقدم اليه على طريقة وجبات الأكل السريع. فلم يعد مسألة ترف سياسي او جمل "دمقراطية" فارغة، القول بأنه "من حق" و"من واجب" الشعب الاميركي الاطلاع على الحقائق، في كل ما يخص التعامل الاميركي ـ العالمي.
ولا بد اخيرا من التأكيد أن حل "عقدة فيتنام" الاميركية يكمن، في نهاية المطاف، في تحرر الشعب الاميركي نفسه، من الطغمة الامبريالية ـ الصهيونية التي تنيخ اولا على صدره.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دولة -اسلامية- في كوسوفو بدلا من دولة -عربية- في فلسطين!!؛
- ثورة اكتوبر: المنارة الاكبر في تاريخ البشرية!
- نشر الصواريخ الاميركية في بولونيا: اميركا تخسر المعركة قبل ا ...
- العقوبات ضد روسيا: سلاح معكوس
- كرة الثلج... من القوقاز... الى أين؟
- الصراع الاوروبي الاميركي على جيورجيا والمصير المحسوم لسآكاش ...
- روسيا واميركا: الحرب السرية الضارية
- اميركا تتلقى لطمة جديدة(!!) من اذربيجان
- جيورجيا: -حرب صغيرة-... وأبعاد جيوبوليتيكية كبيرة!!
- الامن العالمي و؛؛الامن القومي الاميركي؛؛
- جورجيا: قبضة الخنجر الاميركي الصهيوني التركي في خاصرة روسي ...
- وروسيا تخرق -اتفاقية يالطا- وتمد -حدودها- الى حدود اميركا
- -عملية باربروسا- الاميركية: وهذه المرة سينقلب السحر على السا ...
- -حزب ولاية الفقيه- والمسألة الشرقية
- فخامة الجنرال
- مطب السنيورة، و-الارصاد الجوية- الاميركية!؛
- -حلف بغداد- يطل برأسه مجددا: من انقره -الاسلامية!-؛
- كوميديا الدوحة وأيتام دجوغاشفيلي
- حزب الله و-فخ الانتصار-!
- المشكلة السودانية


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جورج حداد - اميركا بعد 11 ايلول 2001