في عام 1999 احتـفلت هيئـة الأمم المتحدة بمرور خمسين عاماً على إعلان شرعة حقوق الإنسان. وقد أصدرت وقتها مؤسسة شارل مالك بالتعاون مع مؤسسة نوفل للنـشر في بيروت وبالتزامن مع هذه المناسبة العالمية كتاباً حول قصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(1). يتضمن الكتاب التـفاصيل والمحادثات والجدالات التي دارت في اجتماعات هيئـة إعداد الشرعة, والتي دامت ثلاث سنوات ونيف, كما ينقلها الفيلسوف شارل مالك في أوراقه الخاصة وخطبه المختـلفة. يمثـل الكتاب تحليل المفكر مالك للـشرعة الأكثر إثارةً للجدل والأكثر عرضةً للآراء المتـضاربة في العالم العربي.
تأتي أهمية الكتاب برأيي من ناحيتين:
أ_ إنه توثيق رصين وقـيِّم عن جدالات حول حقوق الإنسان في مذكرات مفكـرٍ من الشرق. وبصرف النظر عن الآراء المتراوحة من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال حول الشرعة, يحق لنا برأيي أن نتذكر بفخر أنَّ الشرق العربي تمثَّـل في مناسبة عالمية كهذه وشارك في صنع شرعة تحفظ كرامة وحقوق الإنسان وتعرّفه ككائن قـائم بذاته, شرعة نحن بأمس الحاجة لها في محاولة إصلاح الأنظمة الشمولية وبناء المجتمع المدني. وطبعاً الفخر لا يجب أن يحل محل الأمل بأن يصير ما تعرضه أوراق مالك تحدياً لكل من مازال يعتقد أنه يمكن لإنسان منطقتـنا أن يظل محروماً من المواطنة الحقيقية بحجة التمسك بالـثوابت.
ب_ حتى تغدو شرعة حقوق الإنسان جزءاً من المشروع الإصلاحي الذي يبغي نهضة جديدة في العالم العربي, يحسن أن نـقرأ ما يقدمه الكتاب حول المنطلقات الفلسفية المتعلقة بغاية وجوهر الشرعة من وجهة نظر مثـقفٍ مشرقي. فمسألة حقوق الإنسان أكثر من شرائع وبنود قانونية, إذ تربض بين بنود الشرعة منطلـقات فكرية عميقة تتجاوز حياة الإنسان نحو الإنسان نفسه, وتتجاوز حقوقه اليومية نحو هويته الكيانية, وتتجاوز ماهيته كعضو في جماعة نحو ماهيته ككيان وجودي قـائم بذاته. وكما يقول مالك "الحرية هي الأحرار أنفسهم حيث وجدوا وحيث يوجدون" (ص.119)(2), هنا تكمن أهمية دور شارل مالك في الواقع: صراعه الحثيث, كباحثٍ يغلب عنده تحليل الفكر على براغماتية السياسة, لدفع أعضاء اللجنة المعدّة للشرعة للحوار حول المنطلقات الفلسفية وعدم الاكتـفاء بآلية الصياغة ومسألة التـشريع فقط. الكتاب مرجعٌ غني لفهم حساسية شرعة حقوق الإنسان . لأنَّ الدعوة لفهم ماهية الإنسان هي برأيي الـقيمة الحقيقية وراء شرعنَة حقوقه ككائن حي وكمواطن في مجتمع مدني, ولا إصلاح حقيقي لحياة أي امـة دون الانطلاق منها.
في هذه الدراسة سننظر في مسألة حقوق الإنسان في ضوء فهم شارل مالك من خلال نقطيتين: ماهية الإنسان, وعلاقـة الفرد بالمجموع.
من هو الإنسان؟:
يقول مالك في أوراقـه: " يوجد خطرٌ فعلي في اختلاط الأمور الدونية والخارجية في الإنسان مع ماهية الإنسان في ذاته" (ص. 152). ويجادل أنَّ نقطة الفصل في أي عمل لأجل الإنسان تكمن في تعريف " طبيعة الإنسان" أولاً. في الوقت الذي كانت معظم الوفود المشاركة في الصياغة تركِّز على آلية صياغة البنود المناسبة, كان مالك, كما نقرأ في الكتاب, يحاول أن ينبه إلى ضرورة الوصول إلى مفهوم عالمي حول ماهية الإنسان الذي يجب أن ينال حقوقه. وهو لا يتوانى عن الـقول أنَّ مجرد الاهتمام بحاجات الإنسان المادية أولاً وحصراً ما هو إلا رؤية منقوصة. فأي اعتراف بحقوق إنسانٍ غامض الطبيعة يجعل شرعة حقوقه زيفاً ورياء (ص.166).
أما من هو الإنسان في نظر د.مالك فهو الكائن الذي يفكر. "جوهر الإنسان عقله وضميره" (ص 214). وأي تهميش لحق الإنسان بمعرفة ذاته, ومعرفة حاجاته لاحقاً, يعني تحويله لشيء بلا عـقل (ص.221). هنا نرى خلفية فلسفية هامة جداً تستحضر فكر فيلسوف الوجودية الحديثـة مارتن هايدغر الذي يقول أنَّ الفرد يولد في العالم ويتجاوب مع اختباراته بالتـفكير(3). لا وجود للإنسان ما لم يكن وجوداً قـائماً على احترام عقله وضميره. ولا احترام لعـقل الإنسان إلا بإعطائه الحرية كي يكون ما يريد أن يكونه وما يحقق به جوهره كإنسان. لذلك, يقول مالك أنَّ أي شرعة تـنطلق من جوهر الإنسان وماهيته نحو حقوقه وواجباته يجب أن ترسِّخ حرصاً شديداً على حرية الكيان البشري " للصيرورة والتغيير" (ص. 127). هذا بدوره يعيدنا إلى تـشديد الفيلسوف أوليفر نورث وايتهيد, أستاذ مالك, على مصطلحات " الكينونة, التغـيُّر, الحدث", ويرينا نفس دعوته لحرية كل إنسان في تكوين ذاته(4). الشرعة التي تـنادي بحقوق إنسانٍ لا تؤمن أنه بجوهره حرٌ ليصير ما يصير وليصنع ويقبل ويختبر التغيير لهي شريعة تـنادي بحقوق كائنٍ غير الإنسان الحي. لذلك قبل أن نبحث كيف نعطي الإنسان حقوقه ونحدد مفردات تلك الحقوق يجب أن نعرف " أين ومتى بالفعل نكون أحراراً وأناساً حقاً؟" (ص. 168).
هذا المنطلق الفلسفي يخدمنا في واقـعنا المعاصر المتـلهف للإصلاح. من هو الإنسان العربي اليوم؟ من ينبغي أن يكون؟ ما معنى أنه كائن مفكِّر, حر, خلاَّق وقبل هذا ما معنى أنه بشر؟ ألا يدعو للأسف أنَّ ثـقافة الشارع العربي عن حقوق الإنسان مازالت شحيحة بعد مرور أكثر من نصف قرن على صياغة الشرعة؟ ألا يدعو للاستغراب والحسرة أنَّ جلَّ ما يعرفه ابن وابنة الشارع العربي عن حقوق الإنسان هو أنها شرعة صدرت عن الأمم المتحدة لا أكثر ولا أقـل, وأنَّ هناك بعض المنظمات العربية المحلية المعنية بمسألة حقوق الإنسان تعجز حتى هذه الساعة عن صنع أي تغيير فعلي ملموس في حياة الناس؟. منظمات تتراوح مصائر أعضاءها بين التهميش واللامبالاة بما تـقول في بعض الأنظمة في أحسن الأحوال وبين النفي والاعتـقال في أنظمة أخرى في أسوئها؟.
لم تصل أنظمتـنا المدنية والسياسية بعد إلى الاعتراف بأنَّ السؤال عن الذات ليس حكراً على الأنظمة أوأتباع السلطة أوالطبقة الغنية المتسلطة بل هو سؤال إنساني بدئي, يُفترَض بالإنسان في كافة قطاعات المجتمع المدني أن يفكر به قبل أن ينهمك بمسألة الهوية, والقومية, والطبقية, وباقي الانتماءات الضيقة. والأمر الأكثر صعوبةً في واقعنا العربي اليوم هو غياب المؤسسات والجهات الثـقافية والمدنية التي يناط بها في المجتمعات مهمة مساعدة الناس على التفكير والبحث المستمر بتلك الأسئلة الجوهرية عن ساحة العمل والبناء في الأنظمة العربية. من سيسمح للإنسان العربي برحلة عودة نحو ذاته في الألفية الثالثة؟ هل تساعده عـقولٌ تسلطية, إيديولوجية لا تؤمن بالعقل أصلاً؟ وكيف لأنظمة مازالت, كما يقول الراحل إدوارد سعيد, "تبرع في اضطهاد الشعوب باستمالة المثـقفين واحتوائهم في إطارها"(5) أن تساعد الإنسان في هذا الأمر المصيري؟ هل يساعد المواطنَ من يحسب نفسه على بعض اللذين مازلنا نسمعهم بين الفينة والأخرى يرفعون أصوات العداء لشرعة حقوق الإنسان ويعتمون عليها بحجة أنها خطاب مسموم يخفي وراءه إحدى محاولات الغرب الدائمة والمتجددة للهيمنة على الشرق؟ هل تساعده المنابر الفكرية الببغائية, والشعارات الحزبية والسياسية المهترئة, والجهود المادية والاقتصادية المحضة والحثيثة لبناء مشروع حداثة وإصلاح ووحدة صف عربي جديدة وهي كلها قد تكون, كما يقول مالك, بعيدة عن المثال الإنساني الصحيح؟(6) من هو الإنسان الـشرقي الذي يجد مناخاً حراً في تـقصي ذاته, أين نجد نموذجاً مقياسياً لهذه الصورة في بلدنا؟
"ما هو الجوهري في كون الإنسان إنساناً؟", هذا هو السؤال الفاصل بين معاملة شرعة حقوق الإنسان كمجرد تـشريع قوانيني محكوم بقبوله أو برفضه رسمياً وحكومياً وبالظرف التاريخي الذي أفرز هذا التـشريع, وبين معاملة الشرعة كإقـرار فكري ومواقـفي يعيد مراراً وتكراراً تذكير العالم بما طمسته سياسة العيش الميكافيللية أو الدولة الشمولية. المسألة تكمن في خطورة وقـوع الإنسان ضحية أطرافٍ تهمِّش جوهر الشيء على حساب الانهماك بالبحث عن الآليات المشروعة وغير المشروعة لتحقيق كرامة وحقوق مزعومة لكائنٍ هلامي القوام لا نعرف من هو. كما يقول مالك:
بصرف النظر عن أي تطبيق عملي, ألا يهمك أن تعرف أنَّ كرامتك كإنسان
تتألف من هذه وغيرها من الحقوق؟ و إذا أمعنت التوكيد أنَّ هذه المعرفة بحد
ذاتها لا تهمك, فاسمح لي أن أسرَّ أنَّ إنسانيتك ناقصة لأنَّ البشرية المنظمة تعرِّفك
بأنك ذو عـقل والعقل تهمه المعرفة (ص.221).
_ الفرد أم الجماعة؟:
يعكس الجدال حول علاقـة الفرد بالجماعة خلفية الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي الماركسي والرأسمالي الديمقراطي, والتي أثرت سياسياً وإيديولوجياً على النقاشات التي دارت في اجتماعات اللجنة المعنية بصياغة الشرعة. تطلعنا اوراق مالك على جدلٍ حامي الوطيس دار وقتها بين منطق "الفرد يتقدم الجماعة" ومنطق "الجماعة تـتـقدم الفرد". النقد الأساسي الذي تعرَّض له مالك, ومازالت الشرعة تواجهه في الشرق العربي, يتمثل في الخوف من أن تلغي مثـل تلك الحقوق دور الجماعة وتمهـد للفردية والفوضى, فتتجاهل قـداسة دور الشعوب ككيان اجتماعي محكوم بمبادئ وتـقاليد عظمى سامية تسير بالأمة نحو رجائها وأمنها وسيادتها على حساب الانتصار للفرد وفتح المجال لهيمنة شهواته وميوله الفردية الأنانية. نفس الجدل بدأ منذ ثلاث سنوات في سورية على شكل حوارٍ بين مؤيدي مفهوم المجتمع المدني الذي ينطلق من الفرد المواطن نحو المجموع الممثل بجهات سياسية وسلطوية معينة, ومفهوم المجتمع الذي ينطلق من المجموع ممثلاً بالقائمين على شؤونه وصولاً إلى الفرد ممثلاً بالمواطن الحر الفاعل, أو على شكل جدال حول بداية الإصلاح من الأعلى المركزي أم من الأسفل التعددي.
يقول شارل مالك, أنَّ البداية المنهجية لحل هذه الجدلية يجب أن تـنطلق من التـفريق بين الأمة كشعب مؤلف من كائـنات بشرية متموضعة في كيانٍ كامل الحقوق, وبين جهاز الحكومة/ الدولة الذي يسوس ويحكم تلك الأمة. ويبين مصيباً أنَّ هذا التـفريق القاعدي يخـلق مساحة لا غنى عنها لرؤية الأمة كجماعة من البشر وليس من الأدوات. وبالتالي يصبح نموها وتطورها وازدهارها كأمة بشرية مرتبطاً بنمو وازدهار مكنونها الأساسي, الإنسان نفسه, وليس جهاز السلطة أو نظام تداولها بحد ذاته. الدولة مجرد أداة تعايشية وتـنظيمية فقط ,تساعد الإنسان على اكتـشاف كينونته الحرة وتعطيه كل المعطيات المطلوبة والمتاحة ليلاقي الإنسان الآخر في سياق علاقـة نعبِّر عنها بما ندعوه حياة الأمة الواحدة. بذلك تولد الأمة من قلب تطور الإنسان كنتيجة لنموه الذاتي ولا تُـفترَض مسبقاً كتـشريع أو كمعطى إيديولوجي كوني يعزِّز ويبرر قيام سلطة حاكمة معيَّنة. " شخص الإنسان من أصله يتـقدم على أية مجموعة قـد ينتمي إليها سواء أكانت الطبقة, أم العرق أم الوطن أم أمته" (ص.132).
ليس المقصود من هذا الكلام أنَّ الفرد الإنساني يلغي الأمة أو ينفي ذات الجماعة. مالك يقول أنَّ "شخصانية" الإنسان تـتقدم على حضور الجماعة كـدولة. هذا معنى كلامه أنَّ "روبنسون كروزو غير موجود في الواقع" (ص. 132). فبهذه العبارة الدلالية يدحض مالك نموذج الفرد الديكارتي الـشائع منذ عصر التـنوير والذي يرى الفرد كائناً مفكراً مكتـفياً بذاته الواعية المشككة(7). يرفض مالك هذا المفهوم الفردي الديكارتي (Individualistic) ويطرح مفهوماً شخصانياً (Personal) يفترض في أساسه الفلسفي علاقـة جوهرية وحتمية بين طرفين, أي علاقة "أنا-آخر", بتعبير الفيلسوف مارتن بوبر(8). لذلك لا يقول أنَّ الـفرد يتـقدم على أية مجموعة, بل أنَّ " شخص" الإنسان يتـقدم على أية مجموعة. لا يؤمن بإنسان منعزل متمحور حول ذاته ولا يعتـقد أنَّ شرعة حقوق الإنسان فرصة لتعسُّف الفرد على مجتمعه واستهتاره بالعلاقـة مع الموجودات والمعطيات المحيطة. فالعلاقات والتواصل مع الوجود ضرورة وجوهر في كيان الإنسان(9).
ما ينبه إليه شارل مالك هو أنَّه لا يجب أن يذوب الأفراد في أتون الجماعات, مع أنَّ كينونة الأفراد تكتمل بالوجود في جماعة(10). الفرد أساس كل مجتمع وقـد سبق وجوده أي نظام اجتماعي, بما فيه وجود الدولة, والتي "وُجدَت لخدمته ولم يوجد لخدمتها" (ص. 63). لا يتحدث مالك عن الجماعة في تعريفها كمعطى بشري بالذات. إنه يهتم بعملية, بل وبمشكلة, حصر تمثيل وتجسيد حضور الجماعة بجهاز الدولة واختصار مفرداتها وثـقافتها بقاموس أبجدية وثـقافة السلطة. في الفكر الذي يماهي الأمة بالدولة ينمحي حضور الجماعة كمجتمع أفرادٍ من البشر وتتحول لجسم سياسي اقتصادي لخدمة السلطة ولا يبقى لها إلا الركود تحت رحمة الأدلجة. تصبح الأمة هي السلطة والسلطة الحاكمة أو المهيمنة هي ألف وياء الجماعة. يقول مالك أنَّ أبجدية الأمة والجماعة هي الإنسان الذي فيها وليس قواها السياسية والتـشريعية التي تطمس الفرادة و"الحرية الشخصية الحقيقية" (ص. 147).
هذا ينبهنا إلى ضرورة أن يتضمن أي مشروع إصلاحٍ وطني السؤال الجوهري التالي: أين ومتى بالفعل نكون أحراراً وأناساً حقاً؟ هل يتحقق هذا في الدولة التي تـفرض علينا جميعاً ما يجب أن نعتـقد, وكيف ينبغي أن نعيش, ولمن ننتمي وأية هويةٍ نحمل؟ أفي دولة تحدد لنا من هو العدو ومن هو الصديق؟ أم أننا نكون أحراراً وبشراً حين نعيش في جماعة تتجاوز في كينونتها وقـوامها حدود الخطاب السياسي والإيديولوجي للدولة, دون أن يعني التجاوز العداء أو النفي للأمة, أوحين نعيش في جماعة نستطيع فيها أن نرى مساحة " لإبراز طبيعة الإنسان الصحيحة, أي عقـله وروحه إلى المقدمة وحمايتها وتعزيز شأنها" (ص.166)؟ هل الحرية شيء يعطى للآخرين من طرف مرجعي معين؟ وهل الخلط بين الحرية والمسؤولية أمر مصيب فعلاً من حيث المفهوم الأساسي للحرية؟
هذا هو التحدي الأساسي والجوهري أمام أي مشروع إصلاح هدفه مواطن الأمة. "أيهما لأجل الآخر, الدولة أم الإنسان؟" (ص. 223). أيهما يعيش لأجل الآخر ومن يصنع الأمة , إنسانُ الوطن الحر أم نظام الدولة المبرمج الذي يعتقد أنه يستطيع أن يمنح الحرية أو أن ياخذها متى شاء؟ نحتاج إلى برنامج فكري جاد تجتمع حوله كل أطياف الأمة للحوار في أسئلة جوهرية مثـل: لماذا التمسك بالانغلاق والخوف من مساحة حرية وتـفرُّد وتغيير يمكن أن يتمتع الإنسان بها لا منةً من أحد بل لأنَّ تلك الأمور جوهرية في كيانه؟ أي مبرر يمنع التغيير الوطني الداخلي ويرى مصلحةً في أن لا يعامل المواطن كإنسان إلا بتأثير ضغوط وعوامل لا يقررها وليس له فيها رأي؟ ألأننا نعيش ظروفاً صعبةً ونتعرض لضغوطات جمـّة تـفرض الاهتمام بالأمن والحفاظ على وحدة الصف الإيديولوجية على حساب الحرية والتجدد؟ ألأننا نواجه وضع احتلالٍ ونتأمل بسلامٍ متعثَّرٍ كمن يلعب قرب فوهة بركان يغلي؟
يبدو لي أنَّ رأي شارل مالك بأنَّ "السلام والأمن في حد ذاتهما فقط [أي بمعزل عن الإنسان نفسه] شكلان تحريميان صارمان" (ص. 122). وكذلك قوله أنَّ "هناك سلام يحجب فقط صراعات داخلية فظيعة كما أنَّ هناك أمناً ليس بالأمن ولا ضمانة منه في النهاية" (ص. 123) رأيٌ يستحق التوقف عنده في أطروحة الإصلاح. إن الهدنة الوطنية والمرونة النسبية بين السلطة والمعارضة التي لا تـقوم على حوار المبادئ وحرية الاختلاف واحترامه, ماهي إلا ما يقول عنه الفنان زياد الرحباني " هدوء نسبي". والهدوء النسبي أمر مريح يتيح لأطياف الأمة فسحة أمل ومتـنفساً تستعيد فيه بعض عافيتها. ولكن, لا يجب أن تتحول الوحدة الوطنية والمرونة إلى نوعٍ مبطنٍ من التحريم الـقسري للحوار الجريء والمفتوح حول المواقـف التي يمكن أن يقود التعامل معها بعنف إلى الصدام.فلا رادع للفوضى وانفلات الأمور من عقالها إلا بإعادة الإنسان لتوازنه الضميري وإنسانيته البعيدة عن اللامبالاة والاستلاب وحب التملُّك.
يبين تاريخ العرب الحديث أنَّ الأمن الذي يقوم على الترهيب والتأديب وغسل الأدمغة, أو شرائها, لم يعزِّز إلا البغض والكراهية ولم يشعل إلا نار الحقد ورغبة الانتـقام الأعمى. كما يبين أنَّ ذهنية الأمن وفلسفة الثوابت التي انتهجتها العديد من الأنظمة العربية ومازالت لم تـنجح إلا في التحريم القـسري والعنيف (باسم الجماعة ومصلحة الجماعة) لأي نقد أو معارضة بنّاءة بحجة الوقاية من التأزم الداخلي . إلا أنها بهذا التحريم لم تهذب أوترشـد الإنسان أو تـشجعه على احترام الـقوانين وتطبيقها طوعاً. كما أنها لم تعلمه حمل المسؤولية والـقيام بالواجبات انطلاقـاً من أنه كائن مفكِّر يصل لصورته الحقيقية بالوعي والفهم وليس بالـقمع والفوضى والفساد.
لـقد حرم منطق الأمن وحالة الطوارئ الدائمة طبقة العامة من الانفتاح على الفكر الإنساني العالمي بشكل متوازنٍ وحرٍ, الأمر الذي لا يهدد أي بلد بل يطورها بنويوياً. صحيحٌ أنَّ سلطة الاستـنفار الأمني تغاضت عن أبناء النخبة الغنية المقربة من السلطة وعجزت بعض الأحيان عن منع بعض الأفراد الطموحين والمثابرين من أن يـنهلوا من مناهل الفكر والمعرفة الغربية, والتي اعتبرتها منطلقات النظام العقائدية مخالفة ومناقـضة في طروحاتها لشعارات الدولة الوطنية والـقومية. إلا أنَّ من افتـقر للحماية من هؤلاء دفع ومازال لـقاء رحلته المعرفية تلك أثـماناً غالية وبطرق مختـلفة سواء للأنظمة أو للمجتمعات العربية نفسها. في مقابل هذا, اختـنق السواد الأعظم من مواطني الشرق العربي بضيق الحاجات المادية والاقتصادية و بقي تحت رحمة الفرص التي تتيحها الدولة له لتأمينها. لذلك ينطبق ما يقوله شارل مالك عن الإنسان الذي يعيش ضحية خطط الحكومات الأمنية الاقتصادية المادية البحتة على الواقـع العربي اليوم: " كل اللذين يشددون على حقوق الإنسان وحاجاته الإقتصادية الأولية يضعون التوكيد على وجوده الحيواني وهذا ما يشير للمادية مها أعطيت من أسماء أخرى. المادية فلسفة شعبية لهذا الزمن يبدو من العسير معها الدفاع عن قضية الإنسان من حيث هو روح وعقل" (ص.165)
إنَّ وضع الإنسان تحت رحمة إيديولوجيا الدولة الاقتصادية الأمنية هو أحد الأسباب التي جرفت ابن/ ابنة الشارع العربي للبحث عن متـنفَّسٍ لطاقـة اليأس والغضب في طوفان التعصُّب والأصولية والعنصرية الشعوبية والجغرافية والـقومية والدينية. مع أنَّ المدارس الأصولية, مثل المدرسة الحنبلية مثلاً, ليست أقـوى وأهم المدارس الفـقهية فكراً ولا أكثرها رصانةً في الإسلام, إلا أنَّ كلام جورج طرابيشي لا يبدو بعيداً عن الصحة ولا قصياً عن واقـع الشارع اليوم آنَ ينوِّه أنَّ تلك المدرسة عبر الـتاريخ الإسلامي, وخاصةً المعاصر, كانت نسبياً الأنجح بالوصول للجمهور العريض مما يعطيها طاقـة تعبوية لم تتاح لأي مدرسة إسلامية أخرى(11). من هذا البعد أيضاً يمكن أن نفهم, كما يقول محمد سيد رصاص, "كيف يكون ابن تيمية في مجتمعنا المعاصر أقـوى من طه حسين مثلاً"(12). نسي الإنسان العربي كينونته المفكرة, الحرة والنقدية التي تتيح له الوقوف على مسافة متوازنة من ما يُلقى عليه من إيديولوجيات تتماها مع ما يسود في وعي الأمة, سواء جاءت من قـبل الدولة الأمنية أو من قبل المعارضة الأصولية. بات الخطر الحقيقي هو نسيان شخصانية الفرد وكينونته:
إنَّ خطر عصرنا هذا ليس أنَّ المجتمع لا محامين لديه للدفاع عن قضيته
خطر عصرنا الحاضر ليس أنَّ الدولة غير قوية بالقدر الكافي للدفاع عن مطالبها
أمام الفرد الإنساني, أمام الشخص. الخطر الحقيقي لعصرنا الحالي هو أنَّ المطالب
الاجتماعية تشكل خطراً قد يؤدي لإخماد أية حرية شخصية حقيقية (ص. 146).
دفاع مالك عن شخصانية الإنسان في الجماعة هامٌ جداً لدرئ خطر المماهاة بين الدولة أوالسلطة من جهة, وبين الجماعة كأمة من الناس المتـنوعين من جهة أخرى. ما يضمن الأمن والإصلاح فعلاً هو الإنسان الواعي لحريته وحقوقـه في صورتها الحقيقية, لأنَّ هذا الإنسان فقط هو من يعرف ما هي مسؤولياته ويفهم أنه كائنٌ له واجباتٌ يقدمها بالمقابل. نمت الأصولية بمختلف أنواعها في الشرق على أنقاض الحقوق المهدورة للإنسان بأن يكون ذاته. وعـقدة الأمن وإيديولوجية الثوابت ووحدة الصف الشمولية هي ما زاد حدة التوتر والغربة بين المواطن وواقعه, بينه وبين التاريخ. الأمر المحزن أنَّ النماذج الحية لفكرة التنوع المجتمعي الأساسية, التي تجسد فكرة المجموع الصحيحة واقعياً, أي الأسرة والجماعة الدينية (التي تلعب دوراً جوهرياً في كيان المجتمع الشرقي) والمدرسة والمتديات الثـقافية والمؤسسات المدنية الأخرى داخل الأمة قد فقدت دورها الفاعل وباتت عاجزة عن تـنمية الإنسان وبناء كيانه وكرامته بعد أن تماهت مع إيديولوجيا تمثيل الأمة بالدولة. صارت أدوات بيد السلطة لتعزيز منطق المصالح المُعمَّمة وزرع المنطلقات الشمولية لدرجة الغموض والسذاجة. ينطبق عليها قول مالك:
هذه المؤسسات الوسيطة التي تـقوم بين الدولة والفرد هي حسب اقـتـناعي
المصادر الحقـيقية لحريتـنا وحقوقنا. ومأساة العالم المعاصر هي أنَّ هذه الركائز
الحقـيقية للحرية مهددة بالانحلال. فالعائلة تعاني اضطرابات عنيفة والكنيسة في
موقـف دفاع والإنسان المعاصر بلا أصدقاء والحقيقة باتت خاضعة لمصالح نفعية[a]
(ص.168).
هناك فرق بين "الوجود" و"الحدوث" كما يقول وايتهيد(13). فعندما يكون الشيء موجوداً فهذا يعني أنه ثابت لا يتغير. في حين أنه إذا وُجدَ حدثياً فهناك إمكانية لتعرُّضه لاختبار معيَّن يدخله حالة حدثية أخرى, أي أنه قابل للتغيير. الإصلاح بدوره مفهوم حدثي يبدأ من الإيمان بأنَّ الإنسان نفسه "حدثي" ومتغير وديناميكي. حبس الشخص في زنزانة إيديولوجيا الجماعة دون اعتبار كينونته الحدثية, وحرمان الجماعة من أن تكون حدثية, يحولهما لمجرد أشياء عديمة الروح ويحرمهما التطور والنمو والتغيير. إن كان هناك ثوابت فهي تلك التي تـشكل الإنسان في جوهره, أي الثوابت التي لا يكون الإنسان بدونها إنساناً حقاُ. الإنسان شخص وليس فرد , كائن في حدث وليس في جماد.
_ خـاتـمة:
هل سيجد موضوع حقوق الإنسان مساحة تـفعيل أعمق وأكثر جدية في أنظمة العالم العربي السياسية؟ هل سيظهر جيل عربي جديد يكرِّس نفسه لموقف تاريخي ينزع عن الإنسان العربي تهمة اليأس والإحباط والضياع؟ هل سيجد الفكر الذي ينادي بتـقدُّم الإنسان على الدولة وسلطة الجماعة من يستجيب له في مخطط الدولة الإصلاحي, فتخرج شرعة حقوق الإنسان من الغبار ويُـطرَح دورها في تـشكيل المجتمع المدني للبحث بشكل جدي وعميق؟ عند البعض, هناك من بدأ يـقوم بهذا. بالنسبة لي, ما زال هذا السؤال بلا جواب. فمازالت حقوق الإنسان غريبٌ أو سائحٌ دخل بلادنا ولم يستوطنها. حتى في طروحات المعارضة الداعية لتأسيس المجتمع المدني مازالت مسألة حقوق الإنسان مجرد بند نظري فكري أو مجرد بيان يصدر تعليقاً على موقف حدثي ظرفي, دون أن تأخذ دورها المنهجي والفكري والثـقافي المركزي في صياغة خطة وطنية جادة لتأسيس هذا المجتمع المدني المصبو إليه. نأمل أن يتحقق هذا في الـقريب العاجل.
(1) المعلوف, رفيق, حبيب مالك, جورج صبرا, شارل مالك: دور لبنان في صنع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, بيروت: مؤسسة نوفل, 1998. جميع أرقام الصفحات الواردة في سبك المقال مأخوذة من هذا الكتاب.
(2) يذكرنا هذا بما يقوله الفيلسوف الوجودي الأول سورين كيركيكارد بأنَّ "الذات هي الحرية" و " الإنسان بدون إرادة [حرية] بتاتاً, ليس له ذات". راجع:
S. Kierkegaard, The Sickness unto Death, ( Garden City: Doubleday & Company, Inc, 1954), P. 162.
(3)
S.E.Stumpf, Philosophy: History And Problems, ( New York: Mcgraw_ Hill, Inc, 1994), P. 503.
يقول هايدغر أنَّ الإنسان يختلف عن أي كائنٍ آخر بقدرته على طرح الأسئلة المتعلقة به و بالكائن المطلق. كينونة الإنسان تتضمن وعياً للكيان (ص. 504).
(4)
A.E.Macgrath, The Blackwell Encyclopedia Of Modern Christian Thought, ( Oxford: Blackwell Publishers LTD, 1995), “Process Theology”, Pp. 472_473.
(5) إدوارد سعيد, صور الـمثـقف, (بيروت: دار النهار للنشر, 1996), ص. 33. يذكرنا كلام بروفيسور سعيد بما ينوِّه إليه برهان غليون في نقده لمشروع الحداثة العربية بأنَّ واحدة من أسباب فشل المشروع إمساك الدولة بمصير التحديث و فرض نفسها مصدراً وحيداً للشرعية و القوة. و هذا طبعاً يتحقق من خلال سيطرة السلطة القمعية و الإيديولوجية على مثقفي المجتمع. راجع :شمس الدين الكيلاني, " دولة النخبة, و نخبة الدولة: برهان غليون نموذجاً", من مجلة, الآداب, ع. 1_2, ك2_ش, 1999 , ص. 58 (56_63).
(6) في مقدمة ملفٍ حول نقد مشروع الحداثة العربية, الجزء الثاني, يقول مُعدّ الملف محمد جمال باروت: " يبدو نموذج الحداثة العربية أكبر عائقٍ أمام استملاك الحداثة الفعلية, فقد انتهى هذا النموذج إلى عكس الأهداف التي انطلق منها و استمد منها شرعيته فأعاد إنتاج ما عمل على تقويضه……. الحداثة الفعلية و إعادة إنتاجها مشروع تحررٍ لا مشروع سيطرة و مشروع تفتُّحٍ لا مشروع إقصاء و تهميش" (ص.39). يُنصَح بمراجعة هذا الجزء من الملف بما فيه من إسهامات هامة جداً قدمها كل من : محمد سيد رصاص, غريغوار مرشو, أحمد برقاوي و شمس الدين الكيلاني.( الآداب, ع. 1_2, ك2_ش, 1999 , ص. 39_ 63 ).
(7)يستخدم رينيه ديكارت نموذج روبنسون كروزو أيضاً ليقدم الإنسان الذي يقوم وجوده على "الأنا" المفكرة القائمة بذاتها في قدرتها على الشك. راجع البحث في فلسفة ديكارت و نصوص التأملية الخاصة في:
( Stumpf, Philosophy: History And Problems, Pp. 242_ 244). ( Diogenes Allen; Eric O. Springsted, Primary Readings In Philosophy For Understanding Theology, ( Louisville: John Knox Press, 1992), Pp. 117_125)
(8)راجع كتاب بوبر:
Buber, Martin, I And Thou, New York: Macmillan Publishing Company, 1987.
(9)لا ننسى أنَّ د. مالك درس فلسفة وايتهيد الذي يعرِّف الوجود بناءاً على منطق التواصل و الترابط. يقول وايتهيد أنَّ الترابط/ التواصل جوهر كل الأشياء:
Stumpf, Philosophy: History and Problems, P. 440.
(10)هذا ما يعتقده وايتهيد أيضاً. راجع:
Mcgrath, Blackwell Encyclopedia Of Modern Christian Thought, “ Process Theology”, Pp. 472_ 475.
(11) جورج طرابيشي, مصائر الفلسفة بين المسيحية و الإسلام, (بيروت: دار الساقي, 1998), ص. 87. يضيف طرابيشي أنَّ الطبيعة التبسيطية للعقائد
والشمولية جعل الحنبلية تتحول إلى ممثلة " الإيديولوجيا التوتاليتارية"
(12) يُرجع سيد رصاص حالة ازدهار الأصولية إلى فشل وسذاجة مشروع الحداثة العربية الفكري إذ اكتفى بالقشور و لم ينفذ إلى عمق التقاليد السائدة وينقدها: سيد رصاص,"نقد معايير الحداثة في الفكر العربي", الآداب, ص. 40 . ويتفق الكيلاني مع برهان غليون بأنَّ انفجار الأصولية في الوطن العربي مرتبط حتماً باستبدادية الدولة , مما حوَّل الأصولية إلى تعبيرٍ عن مأزق الهوية: شمس الكيلاني, " دولة النخبة, و نخبة الدولة: برهان غليون نموذجاً", الآداب, ص. 58_59).
[a]
(13) Stumpf, Philosophy: History and Problems, P. 442.