أزهار الصفا
الحوار المتمدن-العدد: 2441 - 2008 / 10 / 21 - 05:56
المحور:
الادب والفن
كان يحفر في إحدى المقابر , في القرية , عندما مر من جانبه شابان , كانا يقومان بزيارة لصديقهما الذي يقوم ببناء "فيللا" له , خلف المقبرة , ودون معرفة مسبقة لهما بحفار القبور "فاتح" , قام أحدهما بتجميع ما يحتوي عليه فمه من لعاب , و بأقصى قوته بصق , و باتجاه فاتح ,متجها فمه . لم يعلم فاتح إن كان تصرف زياد هذا , تصرف عفوي أم مقصود , حاصة أن الحادثة هذه ليست أول مرة تحدث معه من قبل . فأكثر من شخص وجلهم يكونون بزيارة لنفس الشخص "سعيد" مالك الفيللا القريبة ... ظن فاتح أن سعيد يدفع زواره لأن يضايقوه , لذلك , قرر التقرب منه , عله يجد حلا مع الشبان , ويعرف سر البصقات المتتالية الموجهة صوبه .دون أن يعرفه أحد من أصحاب تلك البصقات , أو حتى يعرف من أين جاء, و من هو ,وما اسمه . وكل ما يعرفه فاتح أنه : مجرد مرور شاب من أمامه , ينظر إليه نظرة تصغير وتحقير , وفي أقل الحالات يتلافى وجوده .
وفعلا ... تقرب فاتح من سعيد و استغرب كثيرا ,لما وجد من طيبة قلب سعيد , و تواضع أخلاقه . على عكس زواره . وعندما سأله فاتح ,عن سبب تصرف أصدقائه أجابه :
_ أناس يركضون وراء المال ... ويعبدون ملاكه .!
توالت الأيام , وكلمات سعيد تنخر في ذهن فاتح مكانا لها , حتى جاء اليوم الذي عرف به فتاة تدعى سمية . أثبتت له صحة نظرية سعيد , فسمية فتاة باهر جمالها , و تسكنها الطيبة , و يتخذ الأدب من سلوكها ملجأ له . كانت تتردد على المقبرة , لزيارة قبر شقيقها الذي توفي في الآونة الأخيرة بحادث سير مؤسف . اشتعلت رغبة فاتح بالتحدث إليها , خاصة أنها عاملته بالأيام التي جاءت بها إلى المقبرة , بلطف بالغ , على عكس جميع زوار المقبرة , أو المارين منها . ذات يوم , اقتربت منه طالبة بعضا من الماء ,لترش القبر ... فرح فاتح وبينه وبين نفسه قال:
_" جاءت بقدميها عندي ".
ثم سألها :
_ ما قصتك و هذا القبر ؟؟
سبحت الدمعة في شطآن الحزن داخل محيط عينيها . وقالت:
_ كنا ننتظره حتى يكبر . كي ينتشلنا من الذل الذي أغرقنا الفقر به .
ووقفت ذاكرتها عند أعتاب أيام ماضية , تراقب من خلالها كيف كان جميع الشبان الذين يتقدمون لخطبتها , يرفضون الزواج بها , بسبب فقر حال أهلها , وسكنهم في بيت صغير , يغطيه لوح من "الزينكو" ويفترشه التراب , ويرثى للحياة فيه . وكم من شاب شده جمالها , وقتله سحر عينيها , وتراجع عنها عندما أدرك فقرها .
نظرت سمية إلى عيون فاتح , تلك العيون التي يملؤها الشعور ذاته ... الذل بسبب الفقر ... وقالت له , محاولة مبادلته بعضا من حاله :
_ عندما يكون الإنسان فقيرا , يهينه الناس دون أن يكترثوا بمشاعره , وكأنه بلا إحساس , فالناس لا يهابون الفقير مهما بلغت قوته . وبما أنه لا يملك المال ؛ فهو لا يعنيهم أمره , لأن المال هو السلطان .
اقتربت بكلماتها من جرح فاتح و آلامه , و لأول مرة في حياته , شعر بأن هناك طبقة تسمى الكادحين والفقراء , يجتمعون حول مائدة واحدة , ويأكلون من ذات الصحن , من المذلة و الإهانة , وعلى رأس هؤلاء , تقف سمية ,التي تسانده وتحترم مكانته , بالرغم من انعدام مكانة جيوبه .
عادت سمية إلى منزلها , دون أن يؤثر عليها فاتح ... أما هو : الذي عاد للحفر... ولا يزال يفكر بكلام سمية عقله , ومنطقها الذي يتظلل بحكمة عقلها الواعي ... وإذا بفأسه الذي زرعه بالأرض بضربة غل و وجع , يتحول إلى ضربة حظ وسعادة . و يصطدم بشيء ما يصدر أصواتا .فكر فاتح وللوهلة الأولى أنها أصوات جماجم تتكسر بفأسه , ارتعب و ابتعد عن المكان قليلا ,حتى هدأت نفسيته . ومن جديد عاود الحفر في نفس المكان , ليعرف سر الأصوات الصادرة هذه , حتى ظهر له سطح بني غامق , ذو لمعة لم يغسل التراب منها شيئا , سارع الحفر حتى استبان له أن ما في الأرض هو صندوق خشبي مقفل . قفز إلى داخل القبر و بإزميله , حدد مكان الصندوق من جميع الجوانب , وأخرجه –بصعوبة- وبدأ يمسح ما عليه من تراب . خرج من القبر حاملا معه الصندوق مندهشا بما وجد واتجه نحو غرفته بسرعة تفوق سرعة الريح ... وضع ازميله على القفل وبدأ يضرب رأس الأزميل بالشاكوش ,حتى فُتح القفل , وصُعق نظر فاتح بما وجد ... الصندوق ممتلئ بالمجوهرات الثمينة , من مصاغ و ذهب, و الماس .
بدل فاتح ملابسه واتجه نحو المدينة , وبالتحديد : إلى أحد تجار المجوهرات , ليتعرف أصل ما في الصندوق . وذُهل فاتح عندما أخبره التاجر بأنها مجوهرات حقيقية . و أنها ثمينة جدا .
خرج من عند التاجر , وجلس يريح قدميه ,على أحد المقاعد المزروعة بجانب أرصفة شوارع المدينة , يحتضن الصندوق بين يديه , ويتأمل ما به من مجوهرات , حتى سقطت عيناه على سوار , يخطف الأنظار ببريقه ...فانتشلته يداه , وانتشلت معه عدة قطع , قائلا مع نفسه :
_" هذه لا تليق إلا على جمال سمية ".
وضع ما أخرجه من الصندوق داخل محرمة قماش مطرز عليها ثلاث وردات حمر , و ربطها جيدا قبل أن يضعها بجيبه ويتجه صوب تاجر آخر يبيع عنده ما تبقى في الصندوق .
بعد وقت وجيز , خرج من عند التاجر يحمل كيسا ممتلأ بالنقود . فرحا سعيدا بما أنجزه ...نظر من حوله وهو يفكر مع نفسه: أين يذهب؟؟ وماذا سيفعل ؟؟. وأخيرا قرر : بعد أن أصبحت تنام السعادة في قلب أحلامه , لم يجد سوى للقرية التي أهانته موعدا معها , كي ينهي بعض الأعمال هناك . وأول هذه الأعمال : حديثا مع سمية , فبعد أن جاءت لزيارة المقبرة , فتح حديثا معها :
_ لو تقدمت لخطبتك , أتوافقين علي ؟
_ ولماذا أرفضك ؟ الإنسان الأصيل بأخلاقه وليس بعمله أو ماله.
_ وإن علمت بأنني ثري؟ أتصرين على قرارك أم تغيرين رأيك ؟؟
نظرت إليه بعيون تستخف كلامه وقالت :
_ طبعا لا أوافق لأنك حينها ستكون من الطبقات المتعالية التي تستمتع بإهانة الآخرين .
أُعجب فاتح بقناعة سمية ,تلك القناعة ,التي تنبع من تجربتها وخبرتها الطويلة بأهل قريتها المُنساقين وراء المادة وأهلها . و فعلا . قرر خطبتها ولكنّه أجل الموضوع إلى بعد إنجاز مهمة أخيرة , وهي : الطلب من سعيد بيعه الفيللا التي يبني بها . وأن يقوم سعيد بإخبار جميع زواره بأنها من الأساس ملك لفاتح .الشاب الشديد التواضع . الشديد الغنى . وافق سعيد على مطلب فاتح . الذي أصبح يمتلك الفيللا . كما أصبح يمتلك اهتمام عيون ونظرات و أحاديث الناس أنفسهم الذين كانوا يبصقون بجانبه عندما كانوا يمرون من أمامه في القرية . حينما كان فقيرا معدما .
في أحد الأيام المشرقة بهجتها على قلب فاتح . وبينما كان يقف مع سعيد و زياد الذي أهانه بأيام فقره. ابتسم سعيد واقترب من أذن فاتح هامسا:
_ الآن, أصبح لديك معجبين مثلي . ولن يضايقك هؤلاء الشباب , باحتقارهم لقيمتك . كما في السابق .
ابتسم فاتح ابتسامة صفراء وقال :
_ ولكن الفرق بيننا أنني أعرف معدن هؤلاء المنافقين الطامعين وأعرف جيدا صديقي من عدوي , ومن هو يحبني فعلا ومن هو يجاملني لمالي . ليس مثلك ولدت وفي فمك ملعقة من ذهب , ويحيط بك أناس وأناس لا تعرف قصدهم و مبتغاهم الحقيقي من صداقتك !!.
#أزهار_الصفا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟