|
التّواصل في العلاقات العامّة والخاصّة؛ الجزء الأوّل: التّواصل والحوار والجدليّات
عزالدّين بن عثمان الغويليّ
الحوار المتمدن-العدد: 2441 - 2008 / 10 / 21 - 06:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الإهداء: أوّلا إلى ابنتي مها، وثانيا، إلى كلّ الذين يتبادلون النـّـعوت القبيحة ضمن النـّـقاش. سؤال: مارأيكم في فلسفة التـّـواصل هذه؟ تمهيد: لست أبالغ عندما أقول إنّ الخطاب العربيّ والإسلاميّ، في جميع مجالاته وتطبيقاته، لا يعترف بالآخر ويقمع صوته لأنّ القمع هو ما يحكمنا؛ لهذا ارتأيت أن أحاول شرح التـّـعقيد المتعلـّـق بالتـّـواصل في العلاقات الشـّـخصيّة وفي شبكات التـّـواصل المجتمعيّة وأن أقدّم للقارئ وجهة نظر جدليّة يُـعبـّـر عنها بمصطلح "الجدليّات العلاقتيّة" (1) وهي مقاربة جدليّة من خصائصها الإلتزام بمبادئ التـّـناقض والتـّـكامل (في نفس الوقت) والتـّـطبيق العملي (praxis) (بدل التشبـّـث بالإيديولوجيا) والمجموعيّة (totality). هذه المقاربة تعتمد نظريّا على المذهب الحواريّ (dialogism) الذي وضع لبناته الأولى الرّوسيّ ميخائيل باختين في القرن الماضي. الحواريّة العلاقتيّة التي أقترحُها تشدّد على الكائنات كذوات اجتماعيّة، كمعارضات متعدّدة الأصوات وليس كتناقضات ثنائيّة. الفكرة التي نجدها وراء هذا المفهوم هي الطـّـموح إلى التـّـغيير الدّائم في الأفراد والجماعات وليس إلى التـّـجميع المبهم أو الاصطناعيّ أو التـّـوفيقيّة السّطحيّة. وسأشرح الحواريّة والجدليّة في العلاقات الشـّـخصيّة وروح الحواريّة التي لا يمكن أن نتبيّنها في مقاربة حواريّة منعزلة عن غيرها من وجهات النـّـظر الإيديولوجيّة التي تدخل الحواريّة الجدليّة في حوار معها. الحواريّة الجدليّة التي أقترحها تتمحور ببساطة حول تطبيقات المعرفة والمهارات بطريقة مجدية من أجل النـّـهوض بفكرنا عبر الحوار. وإذا كانت الحواريّة نابعة من نظريّات النـّـقد الأدبيّ، كما قلت، وتعني خصائص الخطاب (الكلمة والنـّـصّ والعمل الأدبيّ إلخ) التي تحيلنا على مجموعة من العلاقات الموجودة بين أنواع خطابيّة عديدة (سياسية، إيديولوجيّة، اجتماعيّة، دينيّة إلخ) فإنـّـها تحتوي على مفاهيم أساسيّة تـُـستعمَل في علم النـّـفس وفي دراسات التـّـواصل والعلاقات العامّة والخاصّة.
في البداية، لنتساءلْ: هل يمتلك العرب خطابا يستند إلى نظريّات متينة في التـّـواصل؟ لكي لا نسقط في التـّـشاؤميّة الهدّامة يجب ألاّ ننكر وجود فكر عربيّ لكنّه مازال يتلجلج ويبغي الخروج من التـّـعتيم والمصادرة المضروبين عليه إلاّ أنّ الحالة التي عليها التـّـواصل العربيّ ونظريّات التـّـواصل العربيّة لا تجعلنا نحسّ بالرّاحة وتفسّر انجذابنا نحو السّعي إلى صياغة تفكير جديد ديالكتيكيّ قائم على نظرة جديدة للتـّـواصل والعلاقات التـّـواصليّة. ولكي نفعل ذلك لابدّ لنا من التـّـعرّف على مبادئ المقاربات الحواريّة الجدليّة ولكي نفلح في صياغة برنامج تواصليّ مرتبط بأهدافنا الآنية والمرحليّة والبعيدة يجب على تفكيرنا أن يتقدّم من الحوار الأحاديّ نحو الثـّـنائيّ فالتـّـعددّيّ (monologic, dualistic, dialogic). هذه الأنواع الثـّـلاثة من التـّـفكير تحكم التـّـواصل والعلاقات وتمثـّـل أطرا تنظيميّة للعلاقات العامّة والخاصّة موجودة في المجتمعات بطرق متفاوتة. في حقيقة الأمر الحواريّة تحكم الذات والعلاقة والمجتمع وتحدّد ما يسمّى "الكفاءة التـّـواصليّة" وهي الإختصاص واللـّـياقة التـّـواصليّين. الحواريّة التـّـعدّدية هي البديل ولكنـّـها ليست نهائيّة أو إيديولوجيا جامدة أو ثابتة لأنـّـنا لو اعتبرناها نهائيّة (لا تقبل التـّـغيير) جعلناها تتناقض مع لانهائيّة التـّـغيير التي هي خاصّيتها الأساسيّة. الهدف من هذا النـّـصّ هو وضع مجموعة من القواعد والمبادئ الحواريّة، مستقاة من نظريّات التـّـواصل، تساعد على إعادة التـّـفكير في قضايانا الأساسيّة المتعلـّـقة بعلاقاتنا الشـّـخصيّة والعامّة وبأهدافنا المختلفة.
ليعلم القارئ أنّ كلماتنا قد شـُـيّدتْ انطلاقا من حوارات لا نهائيّة شملت عديد الأطراف ولكنّ التـّـفكير الأحاديّ والثـّـنائيّ المتغلفل فينا يمنعنا من تقبّل هذه الحقيقة. اللـّـغة التي نستعملها لم تنزل علينا من السّماء كما يعتقد وإنـّـما وضعها البشر في إطار تفاعلهم اليوميّ وفي إطار إنشاء المعاني ومعاني المعاني. ولعلّ القارئ يعلم أنّ الكتابة تتـّـخذ أشكالا متعدّدة فقد تكون سطحيّة وقد يتوخـّـى الكاتب تحليلا عميقا لمحتوى الموضوع الذي يتناوله، وأنا لن أكتفي بالإختزاليّة بل سأعرض إلى جوانب الموضوع كلـّـها وسأعرض نظريّات ميخائيل باختين لأنـّـها تمثـّـل أسس الأفكار التي أطرحها هنا والتي تشكـّـل الحواريّة.
التـّـفكير الجدليّ والتـّـواصل:
لا شكّ في أنّ الثـّـقافة الشـّـعبيّة مليئة بالمتناقضات لكنّ النّاس يعتقدون أنّ الأفكار التي يعبّر عنها المجتمع من خلال الأمثال والقصص والطـّـرائف تحتوي على حكمة وتبصّر. لهذا السـّـبب يدعو الباحثون إلى ضرورة اتـّـباع المناهج العلميّة في البحث الإجتماعيّ قصد التـّـوصّل إلى حقائق متعلـّـقة بالمجتمع وثقافته، غير أنّنا نرى أنّ المتـناقضات الموجودة في الأفكار المحمولة تجسّد العمليّات الإجتماعيّة المتعدّدة الأوجه التي تحكم الحياة الإجتماعيّة. وهذا لا ينفي إيماننا بأنّ كلّ مشروع بحثيّ يجب أن يركـّـز على التـّـعقيد والفوضى الذين يطبعان الحياة الإجتماعيّة ليس بهدف الفرز والإقصاء وإنـّـما من أجل فهم ميكانيزمات الفوضى ذاتها قصد معالجتها. هذه الغاية لا تتحقـّـق إلاّ باتـّـباع مقاربة جدليّة للحياة الإجتماعيّة والثـّـقافيّة تستند إلى الإيمان بأنّ الحياة الإجتماعيّة تركيبة ديناميكيّة معقـّـدة من التـّـناقضات دائمة التـّـفاعل لها تاريخ ونسب (أي أصل). تلك المتناقضات متشابهة في نظرتها للعالم ولكنّها تختلف في خصائصها النـّـظريّة. العلاقة بين المتناقضات يُعبّر عنها بمصطلح "الجدليّة العلاقتيّة" (Relational Dialectics)، وعلى النـّـقيض من المادّية الجدليّة الماركسيّة، لا تتـّـخذ الجدليّة العلاقتيّة التـّـناقضَ الإقتصاديّ بين مالكي وسائل الإنتاج والعمّال المجرّدين من الملكيّة كمحور مركزيّ لها وإنـّـما تنطلق من الفكرة القائلة بأنّ الحياة الإجتماعيّة موجودة بفضل الممارسات التـّـواصليّة التي بواسطتها يمنح النـّـاس لوجودهم عددا لا محدودا من النـّـزعات أو التـّـوجـّـهات. الحياة الإجتماعيّة، من وجهة نظر الحدليّة العلاقتيّة، تصبح حوارا متواصلا تطغى عليه "تعدّدية صوتيّة" (polyphony) تشارك فيها أصوات جدليّة متصارعة من أجل الإنتشار. ذلك الصّراع ينبئ عن الصّراعات المستقبليّة أيضا.
بما أنـّـنا نتحدّث عن الحواريّة كآداة في التـّـواصل فإنّ ما يلفت اهتمامنا هو ما في التـّـواصل من علاقات مثل الصّداقات والرّوابط العائليّة وغير العائليّة والرّوابط بين الجماعات؛ هذه كلـّـها تمثـّـل العلاقات التـّـواصليّة الخاصّة والعامّة التي قد تحوي شذوذا وانحرافات ومفارقات تجعل التـّـواصل سقيما. الإشكاليّة التي تشير إليها بعض الدّراسات للعلاقات تتمثـّـل في كيفيّة المحافظة على استقلاليّة كلّ طرف في علاقة التـّـواصل وعلى مساحته الخاصّة من دون الإضرار بالعلاقة نفسها. نوعيّة العلاقة لا تقتصر فقط على المطالب والإحتياجات وإنـّـما على الإعتماد المتبادل لأطراف العلاقة على بعضهم البعض. ما أنا بصدد شرحه هو أنّ العلاقة التـّـواصليّة منظـّـمة حول التـّـفاعل الدّيناميّ للنـّـزعات المتضاربة؛ هذا الإفتراض يشكـّـل دعامة الجدليّة التـّـواصليّة العلاقتيّة التي أقترحها هنا والتي لا يُفترض أن تكون علاقة خالية من التـّـناقضات لأنّ التـّـناقض جزء لا يتجزّأ من العلاقة نفسها. الجدليّة العلاقتيّة ليست نظريّة لأنـّـها تفتقر إلى مقوّمات النـّـظريّة ولا تزعم أنـّـها تقدّم مجموعة من المفاهيم الشـّـموليّة وإنـّـما هي مجموعة من الأفكار المستمدّة من التـّـواصل (communication) والمذهب الحواريّ (dialogics).
التـّـناقض وهو أساس الجدليّة العلاقتيّة عادة ما يوصف بأنّه سلبيّ ويدلّ على عدم اتـّـساق في التـّـفكير والفعل لكنّ الحقيقة هي أنّ التـّـناقض متجذر في الحياة الإجتماعيّة وليس دليلا على الفشل أو عدم الكفاية أسواء في الفرد أم في النـّـظام الإجتماعيّ. التـّـناقض هو الذي يولّد التـّـغيير. التـّـناقض الجدليّ يُـقارَن أحيانا، بصفة اعتباطيّة، ببعض المفاهيم الموجودة في نظريّة صراع الأدوار التي تقول إنّ الصّراع ينشأ عندما يواجه الشـّـخص ترقـّـبات متضاربة غير متماشية مع دوره أو عن ترقـّـبات متنافسة حول دور أو مجموعة من الأدوار. من وجهة النـّـظر الجدليّة كلّ طرفين متناقضين يدخلان في علاقة تواصليّة يخوضان صراعا موجودا في صميم العلاقة الحواريّة نفسها، أمّا نظريّة صراع الأدوار فلا تعتبر الصّراع ملازما للعلاقة الخاصّة وبالتـّـالي تختلف النـّـظرتان عن بعضهما البعض: ـ نظريّة الجدليّة التـّـواصليّة قائمة على فكرة التـّـضادّ الذي هو خاصّية اجتماعيّة ثقافيّة في حين أنّ نظريّة الأدوار لا تعتبر الصّراع موجودا بالقوّة أو ضروريّا. ـ نظريّة صراع الأدوار تعتبر التـّـناقض سمة سلبيّة أمّا نظريّة الجدليّة التـّـواصليّة فتعتبره إيجابيّا، وهو عبارة عن تفاعل بين قوى متضاربة لا سلبيّة ولا إيجابيّة وإنـّـما هي ضروريّة بصفة مطلقة للتـّـغيير والتـّـقدّم. ـ نظريّة صراع الأدوار تقول بثبات النـّـظم واستقرارها أمّا نظريّة الجدليّة التـّـواصليّة فتقول بديناميّة النـّـظم التـّـواصليّة وانسياب العمليّات التـّـواصليّة التي تؤدّي إلى التـّـغيير عبر ذلك الصّراع. المتناقضات، في العلاقة التـّـواصليّة وفي كلّ العلاقات، هي عبارة عن تضارب بين نزعات مختلفة وبين خصائص الظـّـواهر المتعارضة والموحّدة في نفس الوقت أي التي تنفي بعضها البعض بصفة تبادليّة وتوحّد بعضها بالبعض الآخر. التـّـعارض لا يحدث إلاّ بين نزعتين على الأقلّ أو بين خصائص ظاهرتين متعارضتين. عندما تكون الخصائص غير مندمجة وغير متكاملة بصفة نشطة فإنّ بعضها ينفي البعض الآخر بصفة متبادلة. وليس هناك متعارضات متشابهة فقد ميّز المفكـّـرون الذين تبنـّـوا الجدليّة في تفكيرهم بين المتعارضات السـّـلبيّة والمتعارضات الإيجابيّة (انظر مثلا ألفريد آدلر، 1927، وكذلك ماريانثي جورغوغودي، 1983) (2) إلاّ أنّ وصف المتعارضات بالإيجابيّة والسّلبيّة يُـعتبر وصفا غير واضح ولذلك نحن نفضـّـل استعمال مصطلحي "متناقضات معرّفة منطقيّا" و"متناقضات معرّفة وظيفيّا". المتناقضات المعرّفة منطقيّا هي المتناقضات السـّـلبيّة التي تأخذ شكل "ألف" ولكنّها ليست "ألف" فمعارضتها تتمثـّـل في وجود بعض الخصائص وغياب بعض الخصائص الأخرى. على سبيل المثال "الحبّ" المناقض للتـّـصريح "عدم الحبّ" يكون تناقض معرّف منطقيّا في علاقة ما أي من خلال خاصيّة عدم الحبّ وهي غياب لخصائص معيّنة تتمثـّـل في كلّ شيء معارض لخصائص الحبّ. وعلى النـّـقيض من هذا، الخصائص المعرّفة وظيفيّا تكوّن معارضات إيجابيّة إذ تأخذ "ألف" شكل "باء" حيث مجموعتان من الخصائص المتناقظة وظيفيّا أي أنّ كلّ مجموعة متعارضة وظيفيّا مع المجموعة الأخرى وتنفيها. على سبيل المثال "الكراهيّة" مجموعة من الخصائص تعارض ونتفي "الحبّ" ولكلّ منهما وظيفة تنفي الأخرى.
المتناقضات المعرّفة منطقيّا تسهل دراستها أمّا المتناقضات الوظيفيّة فهي معقـّـدة. بما أنّ الباحث لا يستطيع التـّـعرّف على النـّـفي المنطقي بسهولة (ألف ليست ألف) كأساس لتعريف التـّـعارض فإنّه يبذل جهدا في تبيان أنّ ألف ليست باء، وبذلك يلجأ إلى تبيان وظيفتي ألف وباء. ما يشكـّـل التـّـعارض الوظيفيّ في سياق ما (ونحن نتحدّث هنا عن سياق التـّـواصل) وفي الثـّـقافة وكذلك في فترة زمنيّة ما قد يكون تعميما وقد يتـّـخذ شكلا آخر عمّا هو موجود فعلا. وتكمن الصّعوبة الأخرى في التـّـعارض المعرّف وظيفيّا في كون المتعارضات الوظيفيّة تعمل بشكل ثنائيّ؛ عدد كبير من المتناقضات الوظيفيّة قد تكون نشطة في صلب التـركيبة التـّـناقضيّة في نفس الوقت. التـّـركيبة التـّـناقضيّة لكلّ ظاهرة تأخذ شكلا له قطبان متعارضان ومتفاعلان. البحث عن الحقيقة الذي هو مطمح كلّ فيلسوف ومفكـّـر يجعل الباحث ينتاول خصائص الحقيقة لتبيان ماهيتها وماهية غير الحقيقة وفي خضمّ هذه العمليّة يتعرّف على متعارضات جدليّة متناقضة ولكنّها تعيش مع بعضها البعض في ثنائيّات تحدّد الموضوع: اليقين وعدم القدرة على التـّـنبّؤ، اليقين والمحيّر، اليقين والمثير وهكذا دواليك. ولعلّ القارئ قد فهم أنّ الباحث ينطلق من التـّـعرّف على المتناقضات المعرّفة منطقيّا ليصل إلى المتناقضات المعرّفة وظيفيّا حسب المنهج الجدليّ في البحث. كلّ ظاهرة بالتـّـالي تمثـّـل مجموعة من العناصر المتناقضة أو تركيبة معقـّـدة من المتعارضات. التـّـعارض ضروريّ ولازم في كلّ علاقة تواصليّة وفي كلّ علاقة خاصّة أو عامّة ولكنّه لا يمثـّـل ظروفا كافية للتــّـناقض فالمتعارضات تكون متـّـحدة في كلّ ظاهرة ومستقلـّـة عن بعضها البعض.
ما ذكرته عن العلاقات الجدليّة يقودني إلى الحديث عن وحدة المتناقضات. الوحدة الجدليّة في التـّـواصل وفي كلّ علاقة تحدث بطريقتين أساسيّتين: أوّلا، كلّ النـّـزعات المتعارضة، في الحياة الإجتماعيّة، تفترض وجود الآخر الذي يمنحها معنى. المتحاور لا يستطيع أن ينفي وجود الآخر لأنّه هو الذي يعطيه معنى أي يمنحه ذاتا. هذا ما يُـعبّر عنه بوحدة الهويّة فكلّ مجموعة من المتناقضات لها هويّة لا يمكن إبصارها إلاّ من خلال هويّات المتعارضات الأخرى. مفهوم الحقيقة، على سبيل المثال، لا يمكن إبصاره إلاّ من خلال المتعارضات المنطقيّة والوظيفيّة الأخرى التي تشكـّـله ومن دون معرفة الحقيقة تنتشر اللاّحقيقة والفوضى وعدم القدرة على التـّـكهـّـن، ومن دون الحقيقة نعرف اللاّحقيقة والفوضى وعدم القدرة على التـّـنبّؤ لأنّها كلـّـها متناقضات تكوّن الحقيقة. المتعارضات الجدليّة موحّدة عمليّا كأجزاء معتمدة على بعضها البعض ومندمجة في تركيبة معقّدة كما قلت، لكنّ كلّ مجموعة تناقضيّة مستقلـّـة وتعطي هويّة للمجموعة الأخرى. يكفي القارئ أن يفكّر قليلا في تركيبة علاقيّة تفاعليّة ليدرك أنّ ليدرك أنّ التـّـرابط العلاقيّ بين الأجزاء يوحّد في حين أنّ كلّ جزء مستقلّ بذاته. أمّا السّؤال الذي قد يطرحه كلّ قارئ فهو التـّـالي: كيف نطبـّـق هذا التـّـنظير على العلاقة التـّـواصليّة؟ الجواب ليس بالعسير: كلّ علاقة تواصليّة تمثـّـل نزعات مختلفة متناقضة كلّ نزعة تشكـّـل نقضا وظيفيّا للنـّـزعة الأخرى ولكنّ كلّ نزعة تستمدّ استقلاليّتها من عمليّات النـّـفي التي تتضمّنها العلاقة التـّـواصليّة. إلاّ أنّ الاستقلاليّة الذاتية وكذلك التـّـرابط العلاقتي، تشكـّـل وحدة متمثـّـلة في الإعتماد المتبادل. الارتباط بالآخر عمل ضروريّ في بناء الذات والهويّة التي تجعل الفرد مستقلاّ (أنظر هاربرت ميد 1934). كلّ ترابط علاقتيّ يمكن صياغته في مقدّمات منطقيّة تكون تنيجتها الوجود المستقلّ لأطراف العلاقة كهويّات منفردة (أنظر لوشيانو لاباط، 1979 Luciano l Abate ). وهكذا ففي كلّ تعارض تنفي المتعارضات بعضها البعض لكنّها تحافظ على استقلاليّتها وبذلك تحافظ على استمراريّة العلاقة التـّـواصليّة.
ومن خصائص العلاقة التـّـواصليّة (وكلّ علاقة) التـّـفاعل بين القوى المتضادّة. ومن السّهل جدّا الخلط بين الجدليّة الثـّـنائيّة والجدليّة التـّـعدّدية في علاقة التـّـواصل وفي كلّ علاقة لأنّ المقاربتين تشدّدان على التـّـناقض لكنّهما يختلفان كلـّـية. المقاربة الثـّـنائيّة تقول بوحدة الأضداد ولكنّها تنظر إلى العلاقة أو الظـّـاهرة على أنّها علاقة ثابتة لا تتغيّر تنظر إلى كلّ ظاهرة ككينونة منعزلة أي موجودة بالتـّـوازي مع ظواهر أخرى وبذلك تتجاهل التـّـفاعل بين العلاقات والظـّـواهر. أمّا نحن فننظر إلى العلاقة التـّـواصليّة كتركيبة معقـّـدة تتفاعل فيها مجموعات مختلفة من الأضداد وكلّ مجموعة مستقلـّـة عن غيرها ومتـّـحدة معها في نفس الوقت. كلّ تعريف جدليّ يعرّف ظاهرة ما كتركيبة من مجموعتين متوازيتين هو تحليل ثنائيّ، وهو تحليل قاصر، في نظرنا، ولذلك لا نأخذ به. تحليلنا الجدليّ لا يعمل بطريقة "هذا وذاك" وإنـّـما يتـّـبع طريقة أسميتها "المعويّة" (من حرف الجرّ مع) التي تعبّر عن التـّـفاعل بين الأضداد الذي نجده في كلّ علاقة وفي كلّ ظاهرة. التـّـغيير يحدث بفضل المتناقضات لأنّ التـّـفاعل بين المتناقضات المتـّـحدة يخلق نظاما دائم الإنسياب والتـّـغيّر. التـّـغيّر خاصيّة أساسية في النـّـظم الإجتماعيّة أمّا التـّـوحّد الذي تحدّثنا عنه فيساعد على استقرارها. التـّـغيّر لا ينفي الاستقرار وإنـّـما تتغيّر العلاقات والظـّـواهر والحالات الإجتماعيّة من حالة مستقرّة إلى حالة أخرى مستقرّة عبر التـّـفاعل الجدليّ للأضداد.
التـّـفكير الجدليّ كما سأطبـّـقه على عمليّة التـّـواصل:
المقاربة الجدليّة التـّـعدّدية التي أطرحها هنا تفترض تفاعلا جدليّا تعدّديا يصنع التـّـغيير عبر الإختلاف والتوحّد. ويمكن التـّـعرّف على هذا التـّـفاعل من خلال العلاقات العلـّـيّة أو السـّـببيّة ويمكن التـّـمييز بين نوعين من العلـّـية: العلـّـية المجدية والعلـّـية الصّورية الذين تحدّث عنهما أرسطو أسواء كان التـّـغيّر لا نهائيّا أو غائيّا (teleological). العلّية المجدية لأرسطو هي العلاقات العلـّـية السّابقة والتـّـابعة أي العلاقة الأصليّة وما تفرز من علاقات أخرى ناجمة عنها، وتسمّى بعلاقة السّبب والنـّـتيجة. وقد تكون هذه العلاقة في اتـّـجاه واحد، ألف تنتج باء، أو علاقة انعكاسيّة، كلّ من ألف وباء أنتج الآخر وتمّ إنتاجه من طرف الآخر. أمّا السّبب الصّوريّ لأرسطو فيشير لنمط من العلاقة موجودة بين عدد من الظـّـواهر هي النـّـمط والشـّـكل والحدود والتــّـنظيم الدّاخليّ وهذه كلـّـها انسياب الأحداث التي تنتج عن تفاعل الظـّـواهر. وعلى غرار العلـّـة والنتيجة تـُـعنى العلـّـية الصوريّة بتفاعل الأنماط الظـّـاهراتيّة واتـّـحادها وبالنـّـسق الذي يتـّـخذه انسيابها في الزّمن وكيفيّة تغيّر الأنماط المكوّنة للظـّـاهرة. في العلـّـية الصّوريّة لأرسطو كلّ ظاهرة ليست سببا في وجود أيّة ظاهرة سابقة ولذلك فهي صوريّة. ويمكن توسيع فكرة أرسطو بتقسيم العلـّـيات إلى علـّـيات أوّلية وعلّيات ثانويّة؛ كلّ العلّيات على أختلاف أنواعها تتفاعل معا وتتعايش في النـّـظم الإجتماعيّة، أمّا العلـّـيات الأوّلية فهي العلـّـيات التي تحدّد تغيّر علـّـيات أخرى وتؤثـّـر في وجودها وتطوّرها. الماديّة الجدليّة مثلا ترى التـّـناقض موجودا بين البروليتاريا والبرجوازيّة في إطار صراع الأضداد؛ التـّـمييز بين العلـّـيات الأوّلية والعلـّـيات الثـّـانويّة يفترض تمييزا بين تمييزا بين المنطق العلـّـيّ السـّـابق والتـّـابع بهدف تصنيف التـّـناقضات التي لها الأهمّية الكبرى والتـّـناقضات الأقلّ أهمّية. هذه الجدليّة التـّـعدّدية تجعلنا نزكـّـز على العمليـّـات الفرديّة والجماعيّة وأنماطها التـّـفاعليّة التـّـاريخيّة الفيزيقيّة وبيئتها الزّمكانيّة.
هكذا ننظر إلى العلاقة التـّـواصليّة على أنـّـها تركيبة معقـّـدة منخرطة في تفاعل مستمرّ يمكن تبيّن أنماطه الإنسيابيّة في الزّمن. ويتمحور التـّـفكير الجدليّ أيضا حول الغائيّة ولانهائيّة حالات الأشياء. مسألة اللاّنهائيّة في العمليّات الجدليّة اختلف حولها المنظـّـرون فمنهم من يقول بأنـّـها لانهائيّة في جوهرها ومنهم من يقول إنـّـها غائيّة في جوهرها. المقاربة الغائيّة تفترض أنّ التـّـغيّر يخدم الحالات النـّـهائيّة للأشياء أي الأهداف النـّـهائيّة؛ الظـّـواهر تنجذب بطبيعتها نحو حالة نهائيّة مثاليّة إلى حدّ ما. أمّا الجدليّة اللانهائيّة فلا تفترض توجّه الظـّـواهر نحو حالات نهائيّة فحسب بل تؤمن بأنـّـها تتضمّن تغيّرات كمّية ونوعيّة تدفع النـّـظام نحو حالة جديدة أو وضعيّة زمكانيّة مختلفة. النـّـموذج الغائيّ في التـّـحليل يتكوّن من فرضيّة وفرضيّة مضادّة واستنتاج (Thèse; Antithèse; synthèse) ويتمثـّـل في التـّـسامي بالمتناقضات المتفاعلة أي بمنحها مكانة رفيعة. في نقطة ما من الزّمن قطب ما أو خاصّية ما لمجموعة تناقضيّة مهيمنة (الفرضيّة) تحرّك التـّـغيّر النوعيّ ممّا يؤدّي إلى هيمنة الظـّـاهرة المضادّة في نقطة لاحقة من الزّمن؛ هذه المجموعة المضادّة هي القطب المضادّ الذي صار مهيمنا يشغّل بدوره تغيّرا نوعيّا إلاّ أنّ هذا التـّـغيّر النّوعيّ قد أحدثه فعليّا تفاعل القطبين معا. لنضرب مثالا على ذلك من العلاقات العائليّة: تصوّر زوجين يشعر كلّ منهما بالإعتماد المتبادل على بعضهما البعض في اللتزاماتهما العلاقتيّة (الحالة الأصليّة)، قد ينشأ في نقطة زمنيّة ما وضع ذو اتـّـجاه غائيّ في هذه العلاقة يتمثـّـل في ميل أحد الطـّـرفين أو الطـّـرفين معا إلى التـّـمتـّـع بنوع من الإستقلاليّة. هذا الوضع هو القطب الثـّـاني للعلاقة الجدليّة إذ يُـترجم إلى أفعال ذات اتـّـجاه غائيّ (الحالة المضادّة) ممّا يفرز صراعا يتمّ حلـّـه عبر إيجاد وضع ثالث يكون نتيجة للقطبين معا هو الحالة المترتـّـبة أو النـّـاتج. الاستقلاليّة والتـّـوحّد في العلاقة العائليّة يدعمان بعضهما البعض بطريقة تبادليّة عبر التـّـعارض وفي نهاية المطاف يتمّ التـّـسامي بالحالة النـّـاتجة أي تغليبها واعتبارها الحالة السـّـليمة لأنـّـها تمكـّـن الطـّـرفين من التـّـعايش في ظلّ الإختلاف. في هذه الحالة قد يسمح الزّوج لزوجته مثلا بزيارة صديقاتها وفي المقابل تسمح له بتقضية الوقت في المقهى أو بارتياد الحانة مرّة في الأسبوع. إلاّ أنّ المفكـّـرين الجدليّين يرفضون هذه الجدليّة الغائيّة ويقولون باللاّنهائيّة الخطـّـية والدّوريّة للتـّـغيير الذي يأخذ شكل الزّنبرك أو النـّـابض (spring, ressort) وهو السـّـلك الحديديّ الملتوي الذي يستعمل كدافع أو كرافع في الأدوات الميكانيكيّة. نموذج اللاّنهائيّة الجدليّة للتـّـغيير الذي أقترحه هنا يتمثـّـل في التـّـغيير اللانهائيّ للنـّـزعات المتعارضة في العلاقات التـّـواصليّة. التـّـغيّر اللاّنهائيّ أو المتواصل قد يكون درويّا (cyclical) أو خطـّـيا (Linear) أي أنّه يأخذ أنماطا شكليّة متكرّرة متشابهة كمّيا ونوعيّا في النـّموذج الخطـّـيّ وغير متشابهة في النـّـموذج الدّوريّ. وفي كلا النـّـموذجين تؤكـّـد الأطراف في علاقات مدّ وجزر ودفع وجذب ولهذه العمليّات أنساق متفاوتة بحيث تصبح بعض الظـّـواهر مهيمنة على غيرها. لكنّ الهيمنة تكون ظرفيّة إذ تهيمن ظواهر أخرى فتتكرّر عمليّات التـّـغيير. وبما أنّ النـّـموذج الدّوريّ مستحيل لأنّ كلّ دورة مختلفة عن سابقاتها فإنّ التـّـغيّر يكون بالأحرى مزيجا لتغيّر خطـّـيّ ودوريّ في نفس الوقت.
والآن أتحدّث عن البراكسيس وهو التـّـطبيق العمليّ للجدليّة التواصليّة التي أنا يصدد عرضها. البراكسيس مبدأ كلّ علاقة تواصليّة وكلّ علاقة بصفة مطلقة؛ النـّـاس على خشبة المسرح الإجتماعيّ يضظلعون بوظيفة التـّـواصل والإختيارات التـّـواصليّة التي تجعلهم لاعبين مهمّين في النـّـظم الإجتماعيّة أو في عوالمهم الإجتماعيّة (أنظر غي دي بور Guy Debord). النـّـاس يتفاعلون عبر نزعاتهم المتناقضة التي تحدّد أفعالهم التـّـناقضيّة؛ بعض نزعاتهم تكون رجعيّة أي تجذب إلى الوراء وبعضها يجذب إلى الأمام لكن ممّا لا شك فيه هو أنّ أفعالهم التـّـواصليّة تحكمها النـّـظم المعياريّة والممارسات المؤسّسية التي تضبط كلّ التـّـحرّكات التـّـواصليّة. وأنا أشير بهذا إلى الدّين ومختلف القيم والإيديولوجيّات التي تعيّر العمليّات التـّـواصليّة وتضع لها حدودا حيث يقول المثقـّـف: "أنا لا أتحاور مع فلان لأنـّـه رجعيّ أو لأنّ فكره تابع". النّاس لاعبون في الحياة التـّـواصليّة التي تمكـّـنهم من تنظيم حياتهم وتناقضات نزعاتهم تحدّد أفعالهم التـّـواصليّة كما قلت. وكلّ حدث تفاعليّ يمتاز بكونه فريدا من نوعه يحدث في إطار زمكانيّ ويحدّد التـّـفاعل التـّـواصليّ المستقبليّ أو الذي يليه.
البراكسيس يسلـّـط الاهتمام على التـّـطبيقات الملموسة التي بواسطتها ينتج اللاّعبون الإجتماعيّون المستقبل من أحشاء الماضي والحاضر. وليس ثمّة فهم واحد للبراكسيس فالماركسيّة مثلا تراه متمثـّـلا في الصّراع من أجل وسائل الإنتاج (تطبيق اقتصاديّ)، أمّا الخط الجدليّ الذي أقترحه فيعتبره متمثـّـلا في نزعات عدّة ينتجها الواقع الإقتصاديّ والثـّـقافيّ والتـّـواصليّ في نفس الوقت وليس فقط الإقتصاد. البراكسيس تصنعه العلاقات والإختيارات التـّـواصليّة وكذلك الأوضاع الجدليّة التي يعيشها اللاّعبون (أوضاع اجتماعيّة، سياسية، اقتصاديّة، ثقافيّة... ) تحدّد توجـّـه التـّـواصل. لقد قلت إنّ النـّـاس في الوطن العربيّ لا يحسنون التـّـواصل والأحزاب السّياسيّة لا تعرف التـّـواصل المجدي لأنّ الأوضاع التي نعيشها لا تشجـّـع على التـّواصل أو بالأحرى تعوقه. وفي الفقرة الموالية اتحدّث عن الخاصّية الرّابعة للعلاقة التـّـواصليّة ألا وهي الكلـّـية أو المجموعيّة.
المجموعيّة خاصيّة تـُـفهم في علاقتها بظاهرة التـّـواصل، وفي منظورنا الجدليّ لا تعني الكمال أو الشـّـموليّة ولذلك أفضّل تسميتها بالمجموعيّة. المجموعيّة هي مجموع الخصائص اللاّنهائيّة للأنماط التـّـواصليّة المستمرّة والعابرة وبالمجموعيّة أعني تجمـّـع الخصائص المتفاعلة في الظـّـاهرة أي في نمط سياقيّ ترابطيّ يمثـّـل نموذجا واضح المعالم، فيه متناقضات متفاعلة باستمرار. السّياق هو الكيفيّة التي يها تنتظم أطراف التـّـواصل في العلاقة التـّـواصليّة وفي تفاعل نزعاتهم التي يكون لها نسقا معيّنا. كلّ هذه العناصر مجتمعة (الأطراف المتضادّة، العلاقة، شكل العلاقة، شكلها، نمطها، نسقها، صراع وتوتـّـر جدليّ...) تشكـّـل كلاّ ديالكتيكيّا من العناصر المتضادّة ومتاهات متضادّة، وقد عبّرت عنها بالمجموعيّة.
أمّا الخاصّية الخامسة للعمليّة التـّـواصليّة فتتمثـّـل في الإعتماد المتبادل لمجموع العناصر المتضادّة في العمليّة التـّـواصليّة؛ العمليّة التـّـواصليّة تشكـّـل عقدة متغيّرة باستمرار من العناصر المتضادّة التي تتفاعل فيما بينها وتحدّد علاقتها ببعضها البعض وجودَها. جدليّة العقدة، كما ألمحت، أدخلت مفهومين جديدين في الجدليّة: الأوّل يتمثـّـل في التـّـمييز بين المتضادّات الأساسيّة والمتضادّات الثـّـانويّة، والثـّـاني يتمثـّـل في التـّـناقضات الدّاخليّة والتـّـناقضات الخارجيّة. التـّـناقض الدّاخلي يحدث داخل حدود النـّـظام التـّـواصليّ أمّا التـّـناقضات الخارجيّة فتحدث خارجه لكنّها تؤثـّـر فيه. استحضر في ذهنك علاقة تواصليّة في صلب عائلة ما؛ قد تحدث نتاقضات داخليّة بين الزّوج والزّوجة وبين الزّوج وابنه وبين الزّوجة وابنتها وبين الأخ وأخته أمّا التـّـناقضات الخارجيّة فقد تحدث بين الزّوج وعائلة زوجته أو بين الزّوجة وعائلة زوجها... وجهة النـّـظر الجدليّة التي أتحدّث عنها تفترض تفاعلا بين المتضادّات الدّاخليّة والخارجيّة التي تترابط فيما بينها بطريقة ديناميّة، وكلـّـها تتأثـّـر بمعايير المجتمع حتـّـى أنّ الأطراف المتحاورة أو التي تدخل في علاقة تواصليّة تواجه متاهات تواصليّة. تأمـّـل مثلا تناقضات حركة حماس وحركة حماس: الرّئيس محمود عبّاس يقدّم أدلـّـة مقنعة يمكن تلخيصها في إيمانه بأنّ الحكومة الفلسطينيّة لا تشكـّـل قوّة جبّارة قد تعارض القوى العظمى وبالتـّـالي يحرص على التـّـفاوض مع إسرائيل انطلاقا من العمل على تحقيق مصالح شعبه. أمّا حماس فترفض التـّـفاوض مع إسرائيل لأنـّـها لا تؤمن بشرعيّتها. كلا المقاربتين مقبولتان منطقيّا ولذلك تضعان أطراف العلاقة التـّـفاوضيّة أو التـّـواصليّة (حماس وفتح) في متاهة تواصليّة.
وفي ختام هذا العنوان أذكر في عجالة الخاصّية الأخيرة للعلاقة التـّـواصليّة وهي السياقيّة (contectualism)؛ كلّ عمليّة تواصليّة تقع في سياق معيّن يتمثـّـل في خصوصيات العمليّة التـّـواصليّة وهذا ينطبق على كلّ الظـّـواهر والنـّـظم الإجتماعيّة إذ أنّ العوامل المتضادّة تتكاتف لتؤدّي إلى التـّـغيير المستمرّ وإلى البراكسيس الذي هو التـّـطبيق العمليّ للجدلية. وتحت هذا العنوان أوضحنا خصائص الجدليّة كما ننوي استعمالها في تنظيرنا لنوع جديد من التـّـواصل في وطننا العربيّ الذي لا يعرف للعمليّة التـّـواصليّة سوى صوتا واحدا مهيمنا وذلك أمر رسّخته فينا الأنظمة القمعيّة الحاكمة.
الجذور التـّـاريخيّة للجدليّة:
تطوّرت الجدليّة لتتـّـخذ شكلين من المعاني؛ الشـّـكل الأوّل أنطولوجيّ أو وجوديّ والثـّـاني أبيستيمولوجيّ أو معرفيّ. الجدليّة كوجود تتمثـّـل في النـّـظرة إلى الواقع كتفاعلات بين القوى المتعارضة أمّا الجدليّة الإيبستيمولوجيّة فتعني منهجا في التـّـفكير (والبحث) بواسطته يتمّ التـّـوصّل إلى استنتاجات عبر معالجة التـّـضارب بين الأستدلالات والحجج ومختلف الرّؤى. علم الوجود يدرس طبيعة وواقع الوجود والعلاقة بين نماذجه الأساسيّة وهو فرع من الميتافيزيقيا يسأل لماذا وكيف توجد الكينونات وكيف نصنّفها في تقسيم هيرارشيّ يبرز التـّـشابه والإختلاف. ويعود علم الوجود وكذلك علم دراسة المعرفة إلى فلاسفة اليونان القدامى لكنّ الجدليّات التي نجدها في دراسات التـّـواصل (communication studies) مستقاة أساسا من الدّراسة النـّـقديّة للمعرفة ومن علم البلاغة بالتـّـحديد، وفي القديم كانت تعني الجدليّة فنّ المناقشة والمناظرة (الحجاج) والحوار. في الفلسفة اليونانيّة القديمة، منهجُ الاكتشاف العقليّ يتمّ عبر المنهج الجدليّ في الاستدلال (dialectical method of argument) الذي هو ضرب من الحوار. كتب استاذ العلوم الاجتماعيّة مايكل بلـّـيش (Michael Billig)، الذي يعمل حاليا في مجال علم النـّـفس الاجتماعيّ، في كتاب جماعيّ عنوانه "متاهات إيديولوجيّة" (1987) (3) أنّ السّفسطائيّ بروتاغوراس كان أوّل من تحدّث عن أنّ كلّ مناظرة (أو حوار) تشمل خطــّـين متناقضين من الاستدلال. إلاّ أنّ سقراط وأفلاطون يـُـعتبران صاحبيْ النـّـظريّة الجدليّة، وقد رأيا أنّ الجدليّة هي البحث عن الحقيقة عبر الحوار العقلانيّ أو الاستدلال العقلانيّ الذي يمكـّـن من حلّ التـّـناقضات الاستدلاليّة أي المتعلـّـقة بالحجج والأدلـّـة (argumentative contradicttions)؛ ذلك ما تجسّده محاورات سقراط التي وضعها أفلاطون.
الجدليّة نجدها في فلسفات ديكارت، سبينوزا، كانط، روسّو، وآخرين؛ لكنّ عالم الإجتماع الكنديّ داميك ميركوفيتش في كتابه "الديالكتيك والتـّـفكير الإجتماعيّ" (4)، 1980، يقول إنّ الديالكتيك أصبح يعبّر عن نظرة فلسفيّة للعالم مستقلـّـة، خلال القرن التـّـاسع عشر، في كتابات الفيلسوف الألمانيّ جورج فيلفالم فريدريش هيغل وفي أعمال تلميذه كارل ماركس، وقد استمدّ هيغل جدليّته من جدليّة الفيلسوف الإغريقيّ هيراكليتوس (5) وذلك كما ذكر أستاذ الدّراسات الجرمانيّة والدّينيّة روبارت ويليامز (1989). وبما أنـّـنا ننظـّـر هنا للجدليّة التـّـواصليّة فلابدّ من الإتيان على مفهوم الجدليّة بشيء من التـّـفصيل. لقد أصبحت الجدليّة سيّئة السّمعة مع صعود الوضعيّة في العلوم الاجتماعيّة ومع ربطها بالحتميّة في الفلسفة وجعلها تعبّر عن دوغمائيّة متصلـّـبة في مختلف العلوم الإنسانيّة؛ لهذه الأسباب يتحاشى الكتـّـاب استعمالها.
إلاّ أنّ جدليّة فريدريش هيغل تقع في صلب مثاليّته الفلسفيّة، وقد آمن بأنّ العقل أو الفكر هو القوّة الخلاّقة وراء العالم الطـّـبيعيّ والقوّة الدّافعة للتـّـاريخ. أعمال هيغل وخاصّة منها "علم المنطق" (1812) و"ظاهراتيّة العقل" (1910) تقدّم فلسفة مهتمّة بتطوّر الوعي. وفي هذين العملين عُـني بأنطولوجيا الواقع الذي هو مظهر أو إبراز للعقل؛ كلّ محسوس، حسب فلسفته، إنّما هو جزء لا يتجزّأ من كلـّـية تتمثـّـل في منظومة غير المحسوسات. وعلاوة على ذلك، كلّ شيء منخرط في عمليّات حركة وتقدّم وتغيّر مستمرّة أسماها هيغل الصّيرورة (Becoming)، وهي طريقة في الوجود. الحقيقة، عند هيغل، هي الوقوف على التـّـرابط بين الأشياء وعلى كيفيّة انسياب الظـّـواهر في حركتها؛ حسب وجهة النـّـظر الفلسفيّة الهيغليّة صوّرت الفلسفات المعاصرة له الظـّـواهرَ ككينونات مستقلـّـة نهائيّة ثابتة وعبّرت عن ذلك الوضع بمصطلح "الوجود" (Being). عوضا عن ذلك، يؤكـّـد هيغل أنّ إدراك الظـّـواهر منظـّـم حول مبدإ اللاّشيء (Nothing). الإدراك حسب هيغل هو أن نبصر أنّ إدراكنا الحسّيّ للشـّـيئ مشروط بالوعي بما هو غير موجود (غير محسوس) إلى جانب إدراك أنّ كلّ شيء في حالة من التـّـقلـّـب المستمرّ أو الإنتقال إلى شكل جديد عبر التـّـفاعل بين ظاهرة ما ونقيضتها. الوعي عند هيغل هو التـّـاليف بين الوجود واللاّشيء أو فهم التـّـناسب والتـّـلاؤم بين الظـّـاهرة ونقيضتها وهما صيرورة الأشياء.
الصّيرورة عند هيغل هي الحقيقة العليا والواقع الأعمق من سطحيّات الأشياء الثـّـابتة، وسواء دلـّـت الصّيرورة على ارتقاء الوعي لدى الفرد أو على تطوّر المعرفة في المجتمع فإنّ هيغل اعتبرها الانكشاف الغائيّ لفكرة الرّوح (Geist) التي هي أصل النّظام العقلانيّ الملازم للكون. التـّـضمينات اللاّهوتيّة للرّوح، حسب هيغل، واضحة جدّا إذ أنّ الصّيرورة عنده عمليّة متسامية تمكـّـن الإنسانيّة من معرفة مخطـّـط الله في الكون. ولتلخيص فكرته أقول إنّ مهمّة الفلسفة الهيغليّة تتمثـّـل في المضيّ إلى ما وراء وجود "الوجود" أي نحو وجود "الصّيرورة" من أجل تحقيق معرفة "الفكرة" أو "الرّوح" عبر السّموّ الواعي للعقل. الوجود واللاّشيء ليسا بظاهرة سلبيّة عند هيغل وإنـّـما هما ظاهرة أساسيّة في تحقيق أعلى درجات الوعي بالصّيرورة. وحتـّـى اليوم يُنظر إلى عمل هيغل على أنـّـه بحث كلاسيكيّ هو في جوهره تعبير منظـّـم عن جدليّة الافتراضات المتناقضة وعن التـّـغيير والكلـّـية أو المجموعيّة إلاّ أنّ فلسفة هيغل عُنيت بالعقل والوعي في علاقتهما بالتـّـجربة الاجتماعيّة بطريقة غير مباشرة فقط. هذه المهمّة أي ربط الوعي بالتـّـجربة الاجتماعيّة اضطلع بها كارل ماركس وإلى اليوم مازالت هذه القضيّة محلّ تنظير.
استعمل ماركس جدليّة هيغل كأساس لجدليّته الخاصّة المتعلـّـقة بالنـّـظام الرّأسماليّ والمعروفة بالمادّية الجدليّة. المادّية الجدليّة صاغها في سنة 1887 جوزيف ديتزغن (Joseph Dietzgen) وهو دبّاغ اشتراكيّ قامت بينه وبين ماركس مراسلة إبّان وبعد فشل ثورة 1848 في ألمانيا. ولقد تحدّث ماركس عن المفهوم المادّي للتـّـاريخ الذي أسماه فريدريش أنجلز "المادّية التـّـاريخيّة" لكنّ كلاّ من ماركس وإنجلز لم يستعمل أبدا تسمية "المادّية الجدليّة". وفي المجلـّـد الأول من "رأس المال" كتب ماركس متحدّثا عن جدليّته: "منهجي الجدليّ ليس فقط مختلفا عن المنهج الهيغليّ ولكنّه أيضا النـّـقيض المباشر له. بالنـّـسبة لهيغل العمليّة الحياتيّة لعقل الإنسان، أي عمليّة التـّـفكير التي حوّلها هيغل إلى موضوع مستقلّ تحت تسمية "الفكرة"، هي خالق العالم الواقعيّ (demiurgos)، والعالم الواقعيّ هو فقط الشـّـكل الظـّـاهراتيّ الخارجيّ للفكرة. بالنـّـسبة لي، على العكس من ذلك، المثاليّ لا شيء آخر عدا العالم المادّي منعكسا من طرف العقل الإنسانيّ ومُـترجما إلى أشكال من التـّـفكير... عند هيغل، الدّيالكتيك واقف على رأسه؛ يجب أن يُـقلب من جانبه الايمن إلى فوق مرّة أخرى حتـّـى لو اكتشفنا النـّـواة العقلانيّة داخل الصّدفة (أو القوقعة)" (رأس المال، الكتاب الأوّل ص 20) (6).
انتقد كارل ماركس الفلسفة الهيغليّة القائلة بأنّ العالم متمحور حول الوعي والعمليّات الإدراكيّة التي بواسطتها يصبح الجوهر المثاليّ للرّوح معروفا. رأى ماركس أنّ هذه الفلسفة إيديولوجيا محافظة وظيفتها إدامة اضطهاد العمّال من طرف مالكي وسائل الإنتاج والقوى الماديّة التي تمتلكها. وفي حين سلـّـم ماركس بقدرة البشر على التـّـوصّل إلى الوعي بذواتهم وأوضاعهم فقد أكـّـد على أنّ هذا الوعي متجذر في حياة المضطـَـهَـدين اليوميّة التي هي وجودهم المعرّف طبقيّا وليس موجودا في عالم المُـثــُـل المستقلّ إلى حدّ ما عن العالم المادّيّ. الشـّـيئ المركزيّ في حياة المضطهدين هو الإنتاج لأنّهم يحتاجون إلى الأكل والسـّـكن واللـّـباس وغير ذلك غير أنّ تنظيم وسائل الإنتاج أي ملكيّتها من قبَل البرجوازيّة أدّى إلى تقسيم العمل ثمّ إلى اغتراب العمّال لأنّ أنشطتهم الإنتاجيّة أصبحت مجزّأة. تقسيم العمل أدّى إلى الاستغلال لأنّه جعل الملكيّة الفرديّة لوسائل الإنتاج ولرأس المال تتركـّـز في يد الأقلـّـية البرجوازيّة. لكنّ البشر لديهم القدرة على الوعي وإمكانيّات التـّـفكير في أوضاعهم التي يحكمها الإضطهاد ممّا يؤدّي بهم إلى بناء أوضاع مادّية جديدة تحرّرهم من الإضطهاد.
نظريّا، المادّية الجدليّة توفـّـر نظرة عامّة عن العالم ومنهجا خاصّا في البحث في الظـّـواهر الاجتماعيّة. المبدأ الأساسيّ فيها هو أنّ كلّ شيء مادّيّ، في طبيعته، وأنّ التـّـغيير يحدث من خلال صراع الأضداد. بما أنّ كلّ شيء يحتوي على عناصر متضادّة فإنّ الحركة الذاتية للنـّـظم تحدث آليا. صراع القوى المتعارضة يؤدّي إلى التـّـغيير والتـّـقدّم والنـّـموّ حسب قوانين محدّدة. استعمال تلك القوانين في تحليل التـّـاريخ يسمّى المادّية التـّاريخيّة وتحت هذا المذهب يُـنظـَـر إلى كلّ ما هو اجتماعيّ سياسيّ فكريّ على أنّ له أساسا اقتصاديّا متمثـّـلا في البنى الإقتصاديّة القائمة إذ أنّ الكائنات البشريّة تـُـنشئ أشكال الحياة الاجتماعيّة كاستجابة للإحتياجات الاقتصاديّة فقط. البنى الإقتصاديّة تقسّم النـّـاس إلى طبقات والطـّـبقة التي تسيطر على وسائل الإنتاج هي التي تستغلّ باقي الطـّـبقات ومن هنا ينشأ الصّراع الذي يصنع ديناميّة التـّـاريخ. الماديّة الجدليّة قائمة على الحتميّة التي تجعل التـّـاريخ يتـّـبع بالقوّة حركة لا مجال للحياد عنها. وقد ذكر الكنديّ داميك ميركوفيتش (1980) المذكور آنفا أنّ ماركس كان أوّل باحث يقدّم مقاربة منهجيّة اجتماعيّة علميّة متمثـّـلة في الديالكتيك وبذلك نزع الديالكتيك من ميدان العقل والمثل الهيغليّ ليضعها في صلب الواقع الاجتماعيّ الماديّ. ومن خلال إعادة الصّياغة لمفهوم الجدليّة كظاهرة اجتماعيّة اقتصاديّة شرح بطريقة منظـّـمة مفهوم التـّـطبيق العمليّ للجدليّة (البراكسيس). لكنّ المفكـّـرين نقدوا نظريّة ماركس لكونها مقاربة ميكانيكيّة، دوغمائيّة، ولم تأخذ بعين الاعتبار الإجراءات التي تتـّـخذها البورجوازيّة من أجل الإبقاء على هيمنتها. وكما سنرى تحت العنوان الموالي، عبّر ميخائيل باختين عن هذه الشـّـواغل في مقاربته للجدليّة التي أسماها "الحواريّة" (dialogism).
ميخائيل باختين والحواريّة:
كان المفكـّـر والفيلسوف الرّوسيّ ميخائيل باختين أوّل من وضع المذهب الحواريّ الذي كان واحدا من القوى النـّـظريّة أو الفكريّة في القرن العشرين (انظر كتاب "المذهب الحواريّ" لميايكل هولكويست وكذلك كتاب البلغاريّ الفرنسيّ تزفيتان تودوروف "ميخائيل باختين: المبدأ الحواريّ") (7) لكنّ فكر باختين معروف خاصّة في الأوساط الأدبيّة حتـّـى أنّ الكثير من الكتـّـاب يصنـّـفونه كناقد أدبيّ وليس كفيلسفوف. وفي حين يحظى فكره الفلسفيّ والإجتماعيّ بالإهتمام في العالم الغربيّ فإنّه ظلّ مجهولا في وطننا العربيّ؛ جون شوتـّـر، على سبيل المثال، وهو أستاذ جامعيّ متخصّص في التـّـواصل ويدرّس بجامعة هامبشير الجديدة، تحدّث في مقال له عن البنائيّة الإجتماعيّة (Social Constructionism) في فلسفة باختين (8). في السّويد مثلا تبنـّـت الحكومة برنامجا بحثيّا، لازال جاريا حتـّـى اليوم، هدفه الوقوف على دور الحوار وكيفيّة إدارته بهدف تطبيقه في التـّـعليم وهو برنامج متأثـّـر بفكر الفيلسوف لودفيغ فيتغنشطاين أمّا الأنظمة العربيّة فتبحث في كيفيّة تجهيل المواطن العربيّ لكي تبقى في السـّـلطة أبد الدّهر. الحواريّة أرض غير مألوفة للمفكـّـرين العرب لأنّ السـّـلطة الأتوقراطيّة التي تحكمهم لا تعترف بالحوار. كتب باختين كلّ أعماله في العشرينات والثـّـلاثينات من القرن الماضي فأغضب الإتـّـحاد السّوفييتي الذي أبعده وحكم عليه بالتـّـهميش مدى الحياة. لم يكن باختين شيوعيّا ولذلك نقد تصلـّـب المادّية الجدليّة وعمل على تعويضها بجدليّة تعدّدية تضمن التـّـغيير والتـّـقدّم.
ما لاحظه مايكل هولكويست المتخصّص في فكر وفلسفة باختين (1986) هو أنّ الحواريّة عنده يختلف فهمها من باحث لآخر ولذلك فإنّ كلّ المذاهب الحواريّة التي تمّ التـّـنظير إليها تختلف كلّية عن بعضها البعض. هذا التـّـنوّع لن يُـفاجَـا به باختين فيما لو بُعث حيّا لأنّه يؤمن بأنّ معنى النـّـصّ لا يكمن في النـّـصّ ذاته وإنـّـما في التـّـفاعل بين كلمات الكاتب والقارئ. وبالرّغم التـّـنوّع في النـّـظر إلى فكر باختين فإنّ كلّ الدّراسات التي عُـنيت بفكره آمنت بمركزيّة الحواريّة في كلّ أعماله (Clark, Katerina, and Holquist. Mikhail Bakhtin. 1984). كان باختين ناقدا للأحاديّة الحواريّة ولجعل التـّـجرية الإنسانيّة أحادية في اللـّـسانيات المهيمنة وكذلك في الأدب وفي الفلسفة وفي النـّـظريّات السّياسيّة كما نقد النـّـظريّات التي قلـّـصت كلّ شيء لانهائيّ مفتوح وكلّ شيء متعدّد المنشإ (hétérogène) في طبيعة الحياة الإجتماعيّة إلى مفاهيم مغلقة حتميّة جبريّة كلـّـية شموليّة دوغمائيّة. الحياة الإجتماعيّة ليست عمليّات مغلفة أحاديّة الصّوت (univocal) ولكنّها نابعة من تفكير أحاديّ أمّا بالنـّـسبة لباختين فهي عمليّات يحكمها الحوار المفتوح. وليعلم القارئ أنّ كثيرا من أعمال باختين أكـّـدت على أنّ الرّواية كنوع أدبيّ إنّما هي شكل من أشكال الخطاب نظر إليه باختين على أنـّـه تعبير حواريّ مثاليّ خاصّة كما طبّقه الرّوائيّ الرّوسيّ فيودور دوستويوفسكي. لن أتعرّض إلى النـّـقد الأدبيّ عند باختين لأنّه غير متعلـّـق بالموضوع الذي أكتب فيه ولكنّي أقول إنّ مفهوم باختين للحواريّة مفهوم ثريّ معبّأ بالمعاني المتعدّدة.
جوهر الحوار عند باختين هو التـّـميّز أو الإختلاف من ناحية والإنصهار من ناحية أخرى في حوارات أخرى. هذان الخاصّيتان (الإختلاف والإنصهار) يحدثان في نفس الوقت. كلّ الأطراف التي تدخل في حوار أو التي تؤسّس حوارا فيما بينها تحتاج إلى الدّمج بين وجهات نظرها وأفاقها النـّـظريّة وكذلك إلى الحفاظ على خصائص وجهات نظرها المتفرّدة وآفاقها، وبهذه الطـّـريقة يشكـّـل الحوار وحدة عمليّة (براكسيس) تتمّ من خلال التـّـعدّدية الصّوتية التي تسعى إلى بلوغ هدف منشود. الحوار متعدّد الأصوات على عكس المونولوج الذي هو أحاديّ الصّوت، وتمتاز التـّـعدّدية الصّوتيّة بوجود صوتين متميّزين أو مختلفين على الأقلّ يضمنان صيرورة حواريّة تمتاز بكونها وحدة كلـّـية من أصوات مختلفة (التـّـوحّد في الاختلاف). أمّا إذا طغت على الحوار دوغمائيّة لا تقبل بوجهة نظر الطـّـرف الثـّـاني فإنّ الحوار يصبح ثنائيّا حيث يسير كلّ فكر في اتـّـجاه معاكس للفكر الآخر. هذه الحالة لا تؤدّي سوى للتـّـصادم وبذلك لا يتمّ التـّـقدّم ولا يحدث التـّـغيير. اعتبر باختين جميع العمليّات الإجتماعيّة ناتجة عن وحدة تجمع نزعات مختلفة تعاني من التـّـناقضات، مليئة بالتـّـوتـّـرات، كلّ عناصرها تتحرّك نحو الوسط أو المركز (centripetal). هذه الكلمة الإنجليزيّة تـُـرجمتْ إلى "جابذ" أو "مندفع نحو المركز"؛ على القارئ أن يعلم، إذا، أنّي أستعمل مصطلح "قوّة جابذة" أو قوّة مندفعة نحو المركز" لأشير إلى مختلف العناصر الحواريّة التي تشكـّـل قوى مائلة نحو المركز لكنـّـها قد تكون منجذبة نحو المركز من طرف قوّة مركزيّة أخرى. هذا ما يسمّى "العلاقة" في الدّراسات التـّـواصليّة: وجود عدّة أطراف أو عناصر تكوّن قوى مندفعة نحو الوسط أو تتحرّك باتـّـجاه المركز وليس نحو الدّاخل، وبذلك تكوّن وحدة المتضادّات (على القارئ أن يستحضر في ذهنه بتلات الزّهرة إذ هي متحلـّـقة حول مركز جميل جذاب). القوى الجابذيّة الموحّدة (centripetal forces) وكذلك القوى المختلفة المتعارضة (centrifugal forces ) في الحواريّة تتميّز بالتـّـعدّدية الصّوتية (Multivocality) التي هي سمة أساسيّة للحياة الإجتماعيّة. الواقع الإجتماعيّ، دون أدنى شكّ، يشكـّـله تفاعل القوى الجابذيّة والقوى المتعارضة.
أمّا مفهوم باختين للذات الشـّـخصيّة للفرد فينبئ عن التزامه بالقوى الجابذيّة والقوى المتضادّة التي تبرز بصفة مجازيّة في الحوار. باختين، مثل ماركس، نظر إلى الوعي الفرديّ كعمليّة اجتماعيّة أساسيّة وليس كأعمال إدراكيّة خاصّة بفرد معيّن أو نابعة منه. لو عرّفنا الوعي لقلنا إنّه إدراك ولكنّه نابع من عوامل اجتماعيّة كثيرة هي التي صنعته وليس الذات الفرديّة المستقلّة التي هي كينونة لا يمكن أن توجد من دون عدد لانهائيّ من الكينونات الأخرى. كتب فالنتين فولوشينوف (1895 ـ 1936) أو باختين نفسه (9) في "الماركسيّة وفلسفة اللـّـغة" (1973): "المركز الموحـّـد... لكلّ تجربة ليس موجودا في الدّاخل وإنـّـما في الخارج؛ في البيئة الإجتماعيّة التي تحوّط الفرد" (ص 93). البيئة الإجتماعيّة (Le milieu social)، كما قلنا، تتكوّن من عناصر لا نهائيّة متناقضة ولكنـّـها موحّدة فيما يسمّى المجتمع. وحول مفهوم البيئة الإجتماعيّة اختلف باختين مع كارل ماركس إذ أنّه لم يحدّد الصّياغة المفهوميّة للبيئة الإجتماعيّة بالقوى والعمليّات الإقتصاديّة الإنتاجيّة وحدها. رأى بأختين أنّ الواقع الإجتماعيّ يمثـّـل كلّ شيء يدخل في التـّـجربة البشريّة التي تتشكـّـل عبر التـّـواصل والتـّـفاعل أو الممارسات الرّمزيّة. وهكذا فإنّ الوعي، عند باختين، غير محدّد بالصّراع الطـّـبقي وحده، كما هو الحال عند ماركس، ولا يعني الوعي الطـّـبقي وحده ولكنّه يشمل كلّ أسس الوعي بذات الفرد وبالآخرين أيضا وبكلّ شيء من حوله. الوعي مرتبط دون شكّ بذات الفرد ولكن يتمّ بناءه عبر تفاعل القوى الجابذيّة والقوى المتعارضة (centripetal + centrifugal forces). الوعي يصبح ممكنا عبر انصهار الذات الفرديّة في الآخر: "أنا أحقـّـق الوعي بذاتي فأصبح ذاتا (self) عبر إظهار ذاتي للآخر من خلال الآخر ذاته وبمساعدته... أن يقطع الشـّـخص نفسه، أن يعزل نفسه، أن يغلق نفسه؛ هذه هي الأسباب الأساسيّة لفقدان الذات" (المصدر: كتاب تودوروف، (1984) ص 93 وقد نقل هذا الاستشهاد بدوره عن باختين كما قال) (10). التـّـوحّد مع الآخر يحتاج إلى التـّـكملة من خلال الإختلاف مع الآخر إلاّ أنّ الأشخاص غير واعين بهذه الحقيقة ويسألون: "ماذا أجني من توحـّـدي مع آخرين يحملون إيديولوجيا أو سمات أو أفكار مناقضة لي؟"؛ ما يجنيه أيّ طرف يدخل في علاقة حواريّة يتمثـّـل فيما يلي: ـ يعرف ذاته وذات الآخر ويبصرهما. ـ يصبح واعيا بالبعد التـراجيديّ للحياة الموجود داخل ذاته وذوات الآخرين. عندما يحكم الشـّـخص على نفسه بالبقاء خارج نقطة التـّـفاضل (vantage point) لن يقوم بإثراء الأحداث التي تقع في حياته (منقول عن الكتاب المذكور سابقا لتودوروف الذي نقل هذه الفكرة عن باختين ص 108). بلغة أخرى، الذات يتمّ بناؤها عبر الضـّـرورات المتناقضة: الحاجة إلى التـّـواصل مع الآخر والحاجة إلى المحافظة على الإستقلاليّة.
الحوار الجابذيّ التـّـناقضيّ في مكوّناته هو عمليّة لانهائيّة تكون فيها الذات حالة أبديّة من الصّيرورة كنتيجة للتـّـفاعل بين الانصهار والقطيعة. هذا المفهوم واضح بما فيه الكفاية وسأتعرّض إليه عند مناقشة توحّد وافتراق الذوات. لقد عمّم باختين التـّـوتـّـر الجابذيّ التـّـناقضيّ ليشمل كلّ مظاهر الحياة الإجتماعيّة؛ كلّ حوار عنده هو تجربة اجتماعيّة يمكن دراستها من خلال التـّـعرّف على النـّـزعة الوسطيّة المهيمنة أو الصّوت الموحـّـد الذي يجذب كلّ الأطراف نحو المركز والذي يكون له صوتا مناقضا على الأقلّ. الحياة الإجتماعيّة، بالتـّـالي، عبارة عن توتـّر دائم ديناميّ يجمع قوى التـّـوحيد وقوى الإختلاف أي يجمع النـّـظام والفوضى. هذا التـّـفاعل لا يمكن تقليصه إلى تعارض ثنائيّ ثابت لأنّ ذلك يحكم على المجتمع بالثـّـبات. القوى الجابذيّة وقوى الإختلاف، في جوهرها، متعدّدة ومتنوّعة ومتبادَلة في سياقها الآنيّ أو الفوريّ أو الزّمنيّ. التـّـعارض والتـّـوتـّـر بين القيم والاعتقادات والإيديولوجيّات يأخذان شكلا ملموسا في الممارسات التـّـفاعليّة اليوميّة والحوارات اليوميّة للحياة الإجتماعيّة. وضع باختين مصطلح "الكرونوتوب" ليصف به علاقات التـّـرابط الدّاخليّ الزّمكانيّ التي يتمّ التـّـعبير عنها عبر الخطاب الأدبيّ خاصّة في الرّواية (أنظر كتابه "الخطاب في الرّواية"، 1984) (11). هذه اللـّـفظة أصلها يونانيّ: كرونوس معناه "زمن" وتوبوس معناه "مكان"، وتعني كلمة كرونوتوب الواقع الزّمانيّ في الخطاب. حسب باختين، هذه الكلمة، كما استعملها، لها معنى خاصّ هو الوحدة الغير قابلة للإنقسام بين الزّمان والمكان الموجودان بطريقة مجرّدة في الأعمال الأدبيّة ويقعان فيما وراء خبرتنا؛ في الخيال حيث يكون الزّمكان في علاقة بالواقع مناقضة له. كلّ حوار يتمّ تأسيسه يقع، بالتـّـالي، في الزّمكان الملموس على عكس الخطاب الخياليّ الذي نجدث في الأدب. وبالرّغم مخن أنّ باختين قد سخـّـر كلّ حياته للعناية بمفهوم الكرونوتوب في الأشكال الأدبيّة فإنّه قد وسّع معناه ليجعله شاملا لكلّ محاولات صناعة المعاني. "كلّ إدخال (entry) يحدث في ميدان المعنى يتمّ فقط عبر أبواب الكرونوتوب" (باختين، 1984، ص 258). وبما أنّ هذا المصطلح لا وجود لترجمة له فإنـّـي أقترح ترجمته بـ"التـّـرابط الزّمكانيّ".
التـّـرابطات الزّمكانيّة تصبح مقيّسة عبر المعاني المحمولة جماعيّا، وهي معان تعيق الأحداث التـّـواصليّة وتتقدّم بها أيضا. لنضرب للقارئ مثالا من حياة الأحزاب السّياسيّة: الجبهة الشـّـعبيّة لتحرير فلسطين تضمّ قوميّين وماركسيّين وغيرهم من الأطياف؛ كلّ هذه الأطراف لها هدف واحد هو تحرير فلسطين؛ تلك الأطياف لها فهم مشترك للقضيّة وحّد بينها لكنّ ذلك الفهم يؤدّي إلى مواجهات حواريّة خلال انعقاد جلسات أو اجتماعات مغلقة. تلك المواجهات الحواريّة لا يتمّ إبرازها أمام الجمهور (لا تحدث علنا) ولا تقع في كلّ زمان ومكان فهي إذا مرتبطة بالزّمكان. ويمكن إضفاء هذه الخاصّية على كلّ تبادل تواصليّ وعلى كلّ علاقة خاصّة أو عامّة: الزّوج والزّوجة تجمع بينهما أشياء كثيرة ولكنّهما يختلفان. التـّـوحّد والإختلاف يحدثان في ظروف زمكانيّة معيّنة. ذلك التـّـفاعل بين الإتـّـحاد والإختلاف يسيّر الحياة الحزبيّة والزّوجيّة وكلّ شيء في الحياة الإجتماعيّة عبر إعاقة التـّـوحّد وتسهيله في ذات الوقت. التـّـرابطات الزّمكانيّة معان مشتركة تؤثـّـر في الحواريّة وفي المعاني التي تحافظ عليها. التـّـفاعل بين القوى الجابذيّة والقوى المضادّة تمثـّـل نظرة باختين لجدليّة العمليّات المتناقضة. الظـّـاهرة المتميّزة التي تشكـّـل قوى التـّـميّز والإختلاف واضحة جدّا في خصوصيّات التـّـرابطات الزّمكانيّة وفي سياقاتها. التـّـفاعل الرّئيسيّ بين الأغراب مثلا يؤدّي إلى تبادل حواريّ عابر عادة ما يكون مُحكما لأنّ كلّ طرف لا يعرف الآخر أو لا يثق فيه؛ بالرّغم من ذلك يوحـّـد ذلك الحوار بين القوى المتعارضة في حين يعمل الإنفتاح الكلـّـيّ على الأخر فيما بين هؤلاء الأغراب كقوى تعيق الحوار. الحوار إذا له وظيفة وأفاق وفي الحياة العامّة قد يبدأ محتشما ثمّ يتقدّم في لقاءات حواريّة لاحقة. أمّا ما عنيته بذكر حوار الأغراب فهو أنّ القوى الجابذيّة والقوى المضادّة تتغيّر بصفة كلـّـية من سياق ترابط زمكانيّ إلى أخر، فهي ليست ثابتة أبدا.
حتـّـى الآن أخالني قد أوضحت معنى الصـّـوت والتـّـعدّدية الصّوتية في الحوار كما قال بهما باختين. بلغة مبسّطة، أقول إنّ الحياة الإجتماعيّة عمليّات لا نهائيّة من التـّـواصل والحوار بين الأشخاص الذين يسهّلان عمليّات الإبداع. "كلّ تلفـّـظ محسوس (مسموع أو مقروء) يصدر عن وكيل فاعل (agent) يمثـّل نقطة تلتقي فيها القوى الجابذيّة والقوى المعارضة. عمليّات المركزة وعمليّات اللاّمركزة (centralization, decentralization) أو عمليّات التـّـوحيد والإنشقاق تتقاطع كلـّـها عند التـّـلفــّـظ" (باختين، 1981، ص 272) (12). ومن المهمّ للغاية أن أشدّد على أنّ معنى التـّـلفـّـظ عند باختين يتضمّن معان معقـّـدة أكثر ممّا قد يتصوّر القارئ فهو ليس مجرّد النـّـطق الذي يقوم به متلـفــّـظ مستقلّ بل هو موجود على حدود الوعي (باختين، 1986، ص 106) (13). وليعلم القارئ أنّ أنواعا متعدّدة من الحدود تدخل في التـّـلفـّـظ الواحد. رأى باختين التـّـلفـّـظ كرابط أو حلقة في سلسلة سلسلة حواريّة (المرجع نفسه ص 94). هناك روابط حواريّة تسبق الحوار بعيدة عن الحوار نفسه: وضع المحاور، ما يحمله من أفكار، نظرته لطرف الحوار، إلخ... هذه كلـّـها تعود لسياقات زمكانيّة قديمة جدّا. تلك الرّوابط تمثـّـل الحدود لحوار تمّ التـّـلفـّـظ به في الماضي البعيد، أي عندما كوّن الشـّـخص المحاور أفكاره ونظرته لباقي الأطراف. الحوار إذا يتكوّن من حوارات سابقة تاريخيّة غير متلـَـفـّــَـظ بها ومن الحوار الفعليّ الذي يدور في الحاضر، وبالتـّـالي عندما يتلفـّـظ زيد فإنـّـه يستعمل لغة ملأى من قبلُ بذكرياته عن الآخرين وعن الطـّـرف الذي يتحاور معه وبماضيه المعبّإ بالحوارات مع الآخرين. التـّـعبير اللـّـفظيّ عن الحبّ يأخذ معانيه من التـّـجارب السّابقة بين المتحابّيـِْن ويستقي محتواه من الحوارات اللـّـفظيّة وغير اللـّـفظيّة السّابقة، وهذا ما يسمّى في علم التـّـواصل "رابط البعد" (distal link). الوعي عند زيد مثلا مرتبط أيضا باللـّـحظات التي شـُـيـّـد فيها عبر الحوارات الدّاخليّة التي خاضها مع نفسه أي داخلها ومع الآخرين أي خارجها، وهذا هو الماضي الحواريّ. الماضي الحواريّ الدّاخليّ قد يسبق الحواريّة مع الآخرين إلاّ أنّه يشير إلى عمليّات إدراكيّة وعمليّات تفكيريّة. لكنّ الإدراك عند باختين عمليّات اجتماعيّة وليس عمليّات نفسيّة في طبيعتها. تأكيد باختين على الأسس الإجتماعيّة للذهن سرعان ما تلقـّـفه المفكـّـرون وصاغوا منه نظريّات اجتماعيّة: هاربرت ميد (1934)، ليف فيغوتسكي (1978) وكذلك لودفيغ فيتغنشطاين (1958).
هناك حلقات أخرى متقاربة في سلسلة الحوار أذكر منها، على سبيل المثال، التـّـلفـّـظات التي تحدث مباشرة قبل الحوار الذي أسّسته ودخلت فيه الأطراف المعنيّة؛ تلك الرّوابط التي تسبق مباشرة الحوار تمثـّـل حدود الماضي القريب، وهو ماض مكوّن من أشياء تمّ التـّـلفـّـظ بها فعلا. على القارئ أن يفهم أنّه لابدّ من أشياء وأحداث وتلفـّـظات تسبق الحوار مباشرة لتجعل الأطراف تشتبك في تبادل حواريّ. عندما تتـّـخذ مكانك في الحافلة يلتفت إليك الشـّـخص الجالس بجانبك ويقول لك إنّ الطـّـقس جميل أو يوجّه إليك وكزة بمرفقه ويسألك "ألا تتخلـّـى عن مقعدك لتلك المرأة العجوز؟". قد تمتنع عن الوقوف وتدخل في حوار مع ذلك الشـّـخص الذي عكـّـر صفوك. بالرّغم من وجود صدى لحدود الحوار البعيد والحوار السّابق مباشرة للحوار فإنّ الشـّـخص المحاور ينقل شيئا جديدا فريدا للطـّـرف الآخر في عمليّة الحوار اللـّـفظيّ. هل يتحاور الأشخاص لكي ينقلوا لبعضهم البعض أشياء قديمة؟ للأسف، هذا ما يحدث أحيانا عندما تكون الأطراف متمسّكة بأشياء قديمة بالية، وعلى سبيل المثال، تأمـّـل الخطاب الماركسيّ وكذلك الخطاب الإسلاميّ؛ إنـّـهما يتمسّكان بمرجعيّات أكل عليها الدّهر وشرب ولا يحاولون التـّـجديد فيها. المهمّ هو أنّ الأشياء المتنـَـاقــَـلة قد تكون صحيحة للأطراف المتحاورة أي أنـّـها تؤمن بها وقد تكون متجذرة في الماضي ولكنّها تقدّم أشياء جديدة وقد لا تقدّم أيّ جديد كما قلت. هذه السّمة الحواريّة أسميتها "المعويّة" من حرف الجرّ "مع" وهي "معويّة" التـّـفكير الحواريّ التي تربط المتحاورين وتعبّر عن نفسها في تلـفـّـظات حواريّة. ومن خصائص الحوار الأخرى لهجته وأسلوبه وفرديّته واستقلاليّة الأفراد المتحاورين. اللـّـهجة والأسلوب يطبعان التـّـلفـّـظ الحواريّ بفرديّة وتميّز المحاور؛ هذا ما قاله مورسن وإيمّرسون (1990 ص 133): اللـّـهجة شاهد على الفرديّة في العمليّة (التـّـلفـّـظ) وعلى العلاقة الخاصّة بالممثـّـل (أو اللاّعب وهو المتحدّث) (14). اللـّـهجة تحدّد كذلك نسق العمليّة الحواريّة وتحدّد حلقة من روحها الدّاخليّة. النـّـسق حسب باختين تنتج عن الذهن، عن التـّـرقـّـبات والتـّـصنيفات إلى نماذج.
عندما يتلفـّـظ المتلفـّـظ في عمليّة حواريّة فإنّه يستحضر الماضي البعيد والماضي القريب وكلّ التـّـعبيرات اللـّـفظيّة وغير اللـّـفظيّة (distal past + proximal past) وبذلك يكون التـّـلفـّـظ متـّـسما بالإستقلاليّة إلاّ أنّه، في الحقيقة، لا يمكن أن يكون مستقلاّ بصورة مطلقة لأنّ مختلف الحدود والتـّـجارب التي تحدّثنا عنها تؤثـّـر عليه. وبكيفيّة مشابهة لحدود الماضي القريب والماضي البعيد وهي ترابطات زمكانيّة فإنّ المتحدّث بين ما تمّ التـّـلفـّـظ به في الماضي وما لم يتمّ التـّـلفـّـظ به في الحوار الدّائر في الحاضر وانطلاقا من ذلك ينشئ مداخلته. كما أنّ المحاورَ يأخذ بعين الإعتبار الرّدود الممكنة التي قد تصدر عن الطـّـرف الآخر المحاور. الرّابط بين المداخلة والرّدّ المتوقـّـع يمثـّـل أيضا حلقة في العمليّة الحواريّة المرتقبة. لنفترض أنّ ريدا يقول لزوجته جهينة، كلّ صبح وكلّ عشيّة، "أنا أحبـّـك يا عزيزتي"، فإنّ هذا القول مرتبط بأحداث ماضية، شكّ جهينة في زيد مثلا، وبتوقـّـعات الرّدّ الذي سيصدر عن جهينة، أن تسعد بحبّ زيد لها فلا تذكر شكوكها فيه. ويمكن القول أيضا إنّ الرّد الذي يرتقبه زيد على قوله "أنا أحبّك يا جهينة" هو الاعتراف من جهينة. وبالإضافة إلى مقوّمات العمليّة الحواريّة صاغ باختين مصطلحا آخر هو "المخاطـَـب السـّـوبر" (superaddressee) الذي يتوقـّـع المحاور ردّه أيضا. قارن إيدوارد سامبسون بين مفهوم المخاطب السّوبر عند باختين ومفهوم "الآخر المُـعَـمّــَـم عند هاربرت ميد في كتاب عنوانه "حوار الكلمات: الإنجيل كأدب حسب باختين" (1993) (15) فقال إنّ المفهومين يشيران إلى مجموعة معمّمة من التــّـرقـّـبات المعياريّة متعلـّـقة بالآخر بصفة مطلقة أي ليس بآخر معيّن وإنـّـما بآخر موجود فيما وراء العمليّة الحواريّة الجارية. عندما يقول فلان لجهينة "أنا أحبـّـك يا جهينة" فإنّه يقلـّـب فكره فيما إذا كان هذا التـّـصريح صالحا في جميع تقاليد المجتمع ومعاييره أو على الأقلّ تخطر في ذهنه صلاحيّته في المجتمع قبل التـّـلفـّـظ به أو خلال التـّـلفـّـظ به. وعندما يقابل شخص امرأة جميلة لا يصرّح لها بإعجابه ولا يقول لها إنّه راغب فيها على الفور لأنّه فكـّـر في المخاطب السّوبر الذي يمثـّـل المجتمع. الرّدود المتوقـّـعـة من المستمع وكذلك المخاطب السـّـوبر أسماها باختين "الخطابيّة" (addressivity) {ليس discourse وهو الخطاب}. خطابيّة التـّـلفـّـظ (addressivity of the utterance) هي طريقة التـّـعبير عن المداخلة وطريقة التـّـلفـّـظ التي يشارك في بنائها المتحدّث والمستمع على حدّ سواء. بهذه الكيفيّة لا يمكن أن يكون التـّـلفـّـظ، أبدا، ملكا للمتلفـّـظ دون المستمع. أنا، على سبيل المثال، أكتب هنا أي أخاطب نوعا من القرّاء هم الذين فرضوا عليّ أسلوبا في الكتابة أو التـّـلفـّـظ، ولو أردت أن أكتب لنوع آخر من القرّاء لكتبتُ بطريقة مختلفة. التـّـلفـّـظات توجد على الحدود الواقعة بين المحاور والشـّـخص الفعليّ الذي يتحاور معه وكذلك المخاطب السّوبر وهو المخاطب المطلق كما ذكرت (الآخر المعمّم).
التـّـفاعل بين الأطراف المتحاورة مرتبطة بمجموعة متعدّدة العناصر من الأصداء أو الإرتجاعات (من ترجيع) تمثـّـل مستويات عديدة لعمليّة التـّـلفـّـظ وللعمليّة الحواريّة (The Dialogic Process) وقد تعرّفنا على أربع مكوّنات للحوار: ـ أوّلا: حوار الماضي البعيد الذي تمّ التـّـلفـّـظ به وربطه بالتـّـلفـّـظ الحاضر. ـ ثانيا: تلفـّـظ الماضي القريب الذي يسبق مباشرة العمليّة الحواريّة وهو مرتبط بها أيضا. ـ ثالثا: حوار الحاضر وهو التــّـلفـّـظ الفعليّ بما فيه من تصوّر لردّ المستمع. ـ رابعا: الحوار الحاضر الفعليّ بما فيه من ترقـّـب لردّ المخاطب السّوبر المجرّد وهو المخاطب المعمّم (generalized superaddressee). هذه الأنواع الأربعة من الرّوابط تصبغ العلاقة الحواريّة وتجعلها شبيهة بالسـّـلسلة المتعدّدة الحلقات فعلى القارئ أن يدرك أنّ الحواريّة ليست أبدا فرديّة أو ثنائيّة بين متحدّث ومستمع. الحواريّة وهي عمليّة التـّـواصل متألـّـفة من عناصر عديدة أذكر منها: المتلـفـّـظ، المستمع، الحوار الدّاخلي أو الصّوت الدّاخليّ للمتلـفــّـظ والمستمع وكذلك المخاطب السّوبر. ولهذه العناصر الأربع تنضاف بالقوّة القوى الباذجة وقوى المعارضة وهي حوارات تتفاعل فيها أصوات متعدّدة يمكن تقسيمها إلى أصوات التـّـوحيد وأصوات الإنشقاق أو الإختلاف، أمّا التـّـفاعل بينها فيحدث في الزمكان الحاضر الذي تحدث فيه المحاورة. الخلاصة هي أنّ الماركسيّة وكذلك الهيغليّة من قبلها جرّدت الحوار من الأصوات العديدة الموجودة في كلّ عمليّة حواريّة وقلـّـمتها وبذلك خفـّـضت من منزلة الحوار إلى درجة مونولوج وهذا ما سنركـّـز عليه اهتمامها تحت العنوان الموالي الذي أرجئه للمرّة القادمة.
الهوامش: 1. الحواريّة: Dialogics المذهب الحواريّ: Dialogism الجدليّة الحواريّة: Relational Dialectics المقارية الحواريّة: Dialogic Approach 2. Marianthi Georgoudi: Causal Attribution as Process: The Dialectics of Social Explanation, 1983 3. Billig, M., Condor, S., Edwards, D., Gane, M., Middleton, D. and Radley, A.R. (1988), Ideological Dilemmas, London: Sage Publications 4. Damic Mircovic, Dialectic and Sociological Thought Dilition Publications, 1980 5. فيلسوف سابق لسقراط لا نعرف عنه الكثير ولم تصلنا أعماله. كان يسمّى بالفيلسوف البكـّـاء نظرا لإصابته بالانقباضيّة أو الماليخوليا. وهو معروف بفكرة التـّـغيير كمذهب مركزيّ في الكون وبفكرة مركزيّة الاستدلال في كلّ شيء. ألـّـف كتابا عن الطـّـبيعة قال فيه إنّ البحث هو محاولة الوصول إلى خفايا الأشياء الطـّـبيعيّة أي إلى جواهرها ولذلك سمّي فيلسوفا طبيعيّا. 6. My dialectic method is not only different from the Hegelian, but is its direct opposite. To Hegel, the life-process of the human brain, i.e. the process of thinking, which, under the name of ‘the Idea,’ he even transforms into an independent subject, is the demiurgos of the real world, and the real world is only the external, phenomenal form of ‘the Idea.’ With me, on the contrary, the ideal is nothing else than the material world reflected by the human mind, and translated into forms of thought… With him, it (the dialectic) is standing on its head. It must be turned right side up again, if you would discover the rational kernel within the mystical shell. 7. Holquist, Michael: [1990] Dialogism: Bakhtin and His World. Routledge, 2007 8. John Shotter: Bakhtin and Billig: Monological versus Dialogical Practices. American Behavioral Scientist, 3), pp.8-12. 9. ثمّة رأي يقول إنّ كتاب فولوشينوف الذي نشر سنة 1973 كتبه في الحقيقة باختين، والكتاب عنوانه: Voloshinov, V. (1973). Marxism and the Philosophy of Language 10. Mikhail Bakhtin : The Dialogical Principle (1984), translated by Wlad Godzich 11. M. M. Bakhtin: Discourse in the Novel, 1984 12. Bakhtin, M. M. [1930s] (1981) The Dialogic Imagination: Four Essays. Ed. Michael Holquist. Trans. Caryl Emerson and Michael Holquist. 13. Bakhtin, M. M. (1986) Speech Genres and Other Late Essays. Trans. by Vern W. McGee. Austin 14. Mikhail Bakhtin: Creation of a Prosaics, Gary Morson, Caryl Emerson 15. Edward Sampson: Dialogues of the Word: The Bible as Literature According to Bakhtin. New York: Oxford University Press, 1993.
#عزالدّين_بن_عثمان_الغويليّ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
للمختصّين في علم النّفس فقط؛ الفصل الأوّل من كتاب سيكولوجيا
...
-
تاريخ الصّهيونيّة والصّهيونيّة المسيحيّة: الجزء الرّابع؛ الص
...
-
تاريخ الصّهيونيّة والصّهيونيّة المسيحيّة: الجزء الثّالث
-
كيف تصبح كاتبا مبدعا: الفصل الأوّل
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|