تمهيد: يكثر الحديث عن المملكة الدستورية بوصفها مخرجاً توافقت غالبية الآراء على اختياره لتجاوز الأزمة الأمنية والسياسية التي عصفت بالبلد منذ ما يقارب الخمسة وثلاثين عاماً، واشتد أوارها في النصف الثاني من تسعينات القرن الميلادي الماضي، وقد دفع تأزم الوضع الكثير من أبناء ورجالات البلد للتفكير في حل جدي وعملي لإيقاف تداعيات الانهيار الواضح في العلاقة بين السلطة وغالبية أفراد وقطاعات الأمة، وفي ظل تباين الرؤى والمواقف تم التصويت على ميثاق العمل الوطني في 14 فبراير 2001 ليكون منعطفاً تاريخياً باتجاه إقرار نظام "المملكة الدستورية"، وهو النظام الذي من واجبنا أن نعمل كبحرينيين على صياغة قواعده وتجلية محدداته، رغم أن "المملكة الدستورية" ليست بالشيء الجديد الذي نبدعه تماماً من وحي آرائنا واجتهاداتنا، فلقد عرف نظام المملكة الدستورية في أكثر من بلد، ومارسته أكثر من تجربة سياسية، مما يسهل علينا مهمة تحديد الإطار الأولي والكلي للمملكة الدستورية كمفهوم وكممارسة، في الوقت الذي لا يعفينا وضوح المفهوم وشهرة الممارسة المرتبطتان بطبيعة هذا النظام السياسي من مهمة التجديد والإبداع، وذلك لأن كل تجربة سياسية ناجحة لابد وأن تبدع مفاهيمها ومقولاتها، وأن تجتهد في ابتكار مساراتها ومحدداتها.
وبادئ ذي بدء، لا مناص من الإقرار بأن هذا التوافق على المملكة الدستورية، بوصفها مخرجاً لأزمة قائمة، كان يمكن أن يكون كذلك، لولا الرغبة الدفينة والمستحكمة في التلاعب بالعناوين، وإضاعة الفرص المتاحة، من قبل بعض الجهات السياسية المتنفذة وذات الشأن، والتي بمقدار ما أفرحت البحرينيين باختيارها للملكة الدستورية كنظام للحكم والإدارة السياسية، فإنها في المقابل أحزنتهم وجددت الشعور باليأس والإحباط لديهم من خلال إفرازاتها المتمثلة أولاً في الدستور المنحة الذي افتقد أيّة صفة تعاقدية ملزمة بين الحاكم والمحكومين، وثانياً من خلال حزمة المراسيم التي أذهبت كل إنجازات المملكة الدستورية أدراج الرياح، وثالثاً من خلال سلب المجلس المنتخب (البرلمان) كل صلاحياته التشريعية، وتحويله إلى مسخ مقطع الأوصال والأعضاء، حتى حق أن يقال: أنه ولد ميتاً، فأنى له أن يعطي الحياة لغيره وهو لا يملك أدنى نصيب منها.
ومن أجل أن لا تضيع الفرصة المتاحة أمامنا في التقدم، ولو خطوة واحدة إلى الأمام، باتجاه تحقيق متطلبات دولة القانون، وتفعيل مضامين المملكة الدستورية، يتعين علينا جميعاً أن نتحرك باتجاه تحديد معالم المملكة الدستورية، لأنه بتقادم السنين ومرور الأيام تندرس الآثار وتزول الحدود، ولاسيما في عالمنا العربي والإسلامي الذي لم يحسن تطوير أيّة صيغة للحكم والإدارة غير صيغة الحكم الشمولي الاستبدادي رغم اختلاف المسميات ومراوحتها بين الإمارة والجمهورية والملكية، وهي مسميات فقدت أيّة قيمة لها في ظل وحدة نظام الحكم وعدم تباين مضمونه وجوهره.
ومن هنا يحسن بنا أن نسارع لتحديد موقعية "الملكية الدستورية" كنوع من أنواع الحكم أولاً، وأن نوغل في تفصيل وشرح معالمها ثانياً، قبل أن تلتبس علينا الأمور، كما التبست على غيرنا ممن صار الابن عندهم يرث الأب في نظام يقال عنه أنه نظام جمهوري، وهو أمر لم يحدث في كل التجارب السياسية على امتداد العالم، قديماً وحديثاً، إلا في ظل التجارب السياسية العربية، وهو إنجاز يحق للعرب ادعاء استفرادهم دون سائر البشر بتحقيقه ... !؟
وانطلاقاً من ذلك فحديثي عن "المملكة الدستورية" سيدور ضمن محورين:
المحور الأول: موقعية الممالك الدستورية في الأنظمة السياسية: وسأستعيد في تقييمي وتحديدي لهذه الموقعية مصطلحات وتقسيمات عالم الاجتماع والمؤرخ العربي المعروف ابن خلدون، والذي زعم أن الدول تتدرج في تطورها ضمن مستويات ثلاثة هي: دولة الطبيعة أولاً، ودولة العقل ثانياً، ودولة الشريعة ثالثاً. ورغم أنني قد اختلف مع ابن خلدون في الكثير من التطبيقات والاستنتاجات، أو بالأحرى التوظيفات التي حاول من خلالها البرهنة على صحة وواقعية التقسيم المذكور، إلا أنني أتقبل أصل هذا التقسيم، واعتقد أنه يعبر عن تحديد دقيق لمسار التطور الإنساني في بناء وتأسيس الدول والأنظمة السياسية، ومن أجل أن نقدم صورة موجزة عن هذه التقسيمات الخلدونية لطبائع الدول نقول: يعتمد تقسيم أطوار الدولة إلى ثلاث مراحل أساسية على ما أشار إليه عالم الاجتماع الكبير ابن خلدون في مقدمته بقوله: (فقد تبيّن لك من ذلك معنى الخلافة، وأن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا كلها ترجع عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به...) [ابن خلدون: المقدمة، ص 191].
ولأجل توضيح الفكرة نقدّم تعريفاً مختصراً عن كل واحدة من هذه الدول وطبيعة الأفق الذي تتحرك فيه، فنقول:
1- أفق دولة الطبيعة: في هذه المرحلة تنطلق الدولة في القيام بممارساتها من موقع الاستجابة لمتطلبات الإنسان ضمن حاجاته الطبيعية الأولية، والتي لا تتعدّى الاهتمام بتوفير متطلبات الحياة والعيش، أو على حدّ تعبير ابن خلدون: حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، ولا شك أن حصر مسؤولية الدولة ضمن هذه المهام يعني النظر إلى الإنسان من خلال أدنى مستوياته وأضيقها، ومن المعلوم أن متطلبات الإنسان لا يمكن اختزالها في حاجاته الحسية والمادية، إلاّ حينما نعتبر الإنسان مجرّد حيوان لا تتعدّى اهتماماته الأكل والشرب، أضف إلى ذلك أن الإنسان لا يمكن أن يتمّ التحكم فيه وسياسته كما يساس الحيوان، لأن الإنسان قد زوّد بإمكانيات العقل، وفوقها توجيهات الوحي والدين، فإذا ما تخلّى عن الاستجابة لمتطلبات العقل والدين فقد قبل أن يلغي مشروعية الاستفادة من إمكانيات التطوير والتقدم المتاحة له، وذلك أمر غير مقبول مادام الإنسان يتوفر على العقل الذي يلزمه أن يخرج من أفق الطبيعة إلى أفق العقل، ومن أفق العقل إلى أفق الدين والوحي.
2- أفق دولة العقل: رغم أن دولة العقل لا يمكن بأيّ حال من الأحوال مقارنتها ومقايستها بدولة الطبيعة إلاّ أن الإشكالية التي كانت تحكم الإنسان في علاقته بالعقل حينما يكون في أفق الطبيعة، هي بعينها تحكم علاقته بالدين والوحي الإلهي حينما يكون في أفق العقل، فما يدفع الإنسان للخروج من أفق الطبيعة ورفض حصر اهتماماته بها، هو بنفسه ما يدفعه لمحاولة الخروج من أفق العقل البشري المحدود ومحاولة التواصل مع الأفق الواسع واللامحدود للدين والوحي، وإذا كانت دولة العقل غايتها كما يقول ابن خلدون: (حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار)، فإن ذلك لا يتنافى والمهمة التي تسعى لتحقيقها دولة الشريعة في حياة الناس ودنياهم، فالاهتمام بجلب المصالح ودفع المضار هو غرض عقلائي من أغراض الدولة والسلطة، والسلطة كما سيتبيّن لنا لاحقاً مشروعيتها الأصلية تتقوم بقدرتها على تحقيق العدل في حياة الناس، وهو ما تبتغيه دولة العقل ودولة الشريعة على حدّ سواء، وإن كان للشريعة مفهومها الخاص للعدل، والذي هو أوسع من مفهوم العدل في دولة العقل.
3- أفق دولة الشريعة: النقطة الأهم في المشروعية السياسية لدولة الشريعة هو توافق أبعادها مع كل الأبعاد التي ينطوي عليها الإنسان، ومحاولة افتعال التعارض بين دولة الشريعة ودولة العقل أمر غير مبرر إذا ما أدركنا أن دولة الشريعة لا تقوم على إلغاء دولة العقل، وإنما هي تحاول ترشيد مساراتها وتتميم نواقصها، ولأجل ذلك كان تحقيق العدل السياسي والاجتماعي غاية تتطلبها دولة الشريعة كما تتطلبها دولة العقل، غاية الأمر أن المفهوم الذي تتبناه دولة الشريعة للعدل هو مفهوم أوسع من ذلك الذي تتباه دولة العقل، وربما تختلف الدولتان في منهجيتهما المتبعة في تحقيق العدل على أثر اختلافهما في تحديد مفهومه ودائرته، ولكن تبقى دولة الشريعة مرحلة مكمّلة لدولة العقل، وليست نقيضاً لهاً، كما أن دولة العقل مرحلة مكمّلة لدولة الطبيعة، لا تستهدف إلغائها وتجاوز ضروراتها، وإنما تريد تهذيبها وتكميل نواقصها.
وأحسب أن هذا التقسيم يتناسق تماماً مع تقسيم آخر لطبيعة الدولة يعتمد ثنائية الحقوق والواجبات ودورهما في رسم وتحديد ملامح الدولة في كل مرحلة من مراحلها التاريخية والزمنية، وتوضيح هذه الأطوار هو بالشكل التالي:
الطور الأول: دولة الواجبات: هذه هي المرحلة التاريخية الأولى التي شهدتها الدولة في عالمنا البشري، وهي المرحلة التي انصب الحديث والاهتمام فيها بالواجبات التي على المواطن في الدولة أن يقوم بها، وكان من الطبيعي أن ينشأ في ظل هذا الوضع تضخم في جانب على حساب الجانب الآخر، والمتمثل في تقرير منظومة الحقوق، والتي لم تشهد اهتماماً بها إلاّ في ظل الدولة في مرحلتها التالية، وفي ظلّ هذا الوضع أيضاً غالباً ما كان يحتدم الصراع بين الدولة ( = السلطة السياسية ) ورعاياها، لأن القائمين بمهام السلطة السياسية ومن تتلاقى مصالحه معهم من أصحاب الأموال والوجاهة الاجتماعية والنفوذ حرصوا على إثقال كاهل المواطن بالواجبات والمهام التي يتحمل مسؤولية القيام بها، في الوقت الذي كانوا يغضون النظر عن ما ينبغي أن يتمتع به هذا المواطن الكادح من حقوق ومزايا.
الطور الثاني: دولة الحقوق: على أثر الارتداد العكسي والتنفر الشديد من هيمنة أصحاب النفوذ والسلطة والأموال والذين كانوا يمثلون الأقلية في أيّة دولة وأيّ مجتمع اتجه الناس للاهتمام بمنظومة الحقوق الأولية والثانوية التي ينبغي حفظها لكل إنسان، وهكذا بدأت الأصوات تعلو منادية بضرورة الإقرار والاعتراف من قبل الدولة والمجتمع بمنظومة الحقوق الإنسانية، وربما شهد الإنسان هذه الظاهرة بوضوح أكثر في المسار الحديث للدولة، والذي بدأ بشكل محدد مع بداية ما يسمى بعصر النهضة في أوروبا والعالم الغربي، وهو العصر الذي شهد في النهاية صياغة وإقرار عدّة مواثيق لحقوق الإنسان، أهمها وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا عام 1789م، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته هيئة الأمم المتحدة في عام 1948م، وبالرغم من الأهمية البالغة التي مثلتها مثل هذه المواثيق إلاّ أنها لكونها جاءت نتيجة ردود فعل عكسية ومنفعلة فقد شطت عن الصواب، حينما أمعنت في الحديث عن حقوق الإنسان مؤصلة لمبدأ الفردية والحرية اللامسؤولة، متناسية ضرورة إقرار مبدأ يوازن بين الحقوق والواجبات من دون أن يبرز واحداً منها على حساب الآخر، فيعيد تكرار الخطأ الذي مارسته الدولة في مرحلتها السابقة ولكن من موقع آخر.
الطور الثالث: دولة الحقوق والواجبات: تتوازى كفتا الميزان حينما تتعادل الأثقال فيهما، وهكذا تنتظم وتعتدل ثنائية الحقوق والواجبات إذا ما تم الحديث عنهما والاهتمام بهما بشكل متواز ومنضبط، وهو التأطير الذي يفترض أن تقوم به الدولة في أعلى مراحلها وأرقى أطوارها في علاقتها بثنائية الحق والواجب، ولأننا لا نستطيع أن نستوعب الحديث عن هذا الطور بشكل مفصل فإننا نكتفي بإيراد مقطع من الكلمة الرائعة للإمام علي (ع) في حديثه عن الحق، والذي يتم من خلال النظر إلى أن كل حق يستدعي واجباً، وأن كل واجب يستدعي حقاً، وهو ما يمثل التأسيس الفلسفي والعقلي المطلوب والعادل للعلاقة بين الحقوق والواجبات في عالم الوجود ودنيا الإنسان، إذ يقول (ع): ( أما بعد فقد جعل الله لي عليكم حقا بولاية أمركم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه وتوسعا بما هو من المزيد أهله ؛ ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضا، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض ؛ وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية... ) [الإمام علي (ع): نهج البلاغة، قسم الخطب، الرقم 216].
والآن دعونا نرى ما الموقع الذي تحتله "المملكة الدستورية" بوصفها نظاماً سياسياً ضمن الأفق أو الأطر الثلاثة المذكورة، ولا أعتقد أن تحديد ذلك يصعب على المبتدأ في محاولة التعرف على الأنظمة السياسية فضلاً عن الخبير بشؤونها وتحولاتها، فالنظام الملكي الدستوري جاء ضمن سياق تطوري يعد الأرقى والأكثر تطوراً من بين الأنظمة الملكية التي شهدتها البشرية طوال تاريخها الاجتماعي والسياسي، وهو ما يفصح عنه أحمد عطية الله في "القاموس السياسي" ص 1219-1220 بقوله في ثنايا حديثه عن أطوار ومراحل الملكية: (مرّ النظام الملكي في سلسلة من المراحل اتخذت في مجموعها إحدى الصور الآتية:
(أ) ملكية استبدادية وتتميز بأن حكم الملك هو القانون.
(ب) ملكية مطلقة، وتتميز بأن السلطة العليا تتجمع في يد الملك الذي يخضع للقانون ولكن له أن يغيره بإرادته.
(ج) ملكية دستورية مقيدة وتتميز بالتسليم بحق الشعب (ممثلاً في هيئة نيابية) في مشاركة الملك مهمة الحكم والتشريع، وأصبحت سلطات الملك في بعض هذه الدول دون سلطات رئيس الجمهورية المنتخب ...).
ولأن الملكية الدستورية انبثقت وانبنت وتطورت في السياق البشري لتطوير وبناء أنظمة الحكم السياسي فلا مناص من اعتبارها ضمن مبدعات العقل البشري، الذي كان يحن إلى العدالة بالمستوى الذي يحن ويطمح إليه الدين، في الوقت الذي يمثل اختيار الملكية الدستورية كنظام للحكم خروجاً واضحاً وواعياً في الوقت نفسه من قبل البشر عن إطار دولة الطبيعة التي لم يرتض الإنسان البقاء في أجوائها والحركة في نطاقها منذ أن أنعم الله عليه بنعمة العقل والفهم، وهو ما استطاع من خلاله أن يتجاوز الحيوانات والبهائم التي ما برحت منذ خلقها الله إلى يومنا هذا تعيش في دولة الطبيعة وتستظل بظلها، لأنها قدرها الذي ليس من شأنه أن تفارقه أو أن تغيره، إلا أن تخرج عن حيوانيتها وتبدل ذاتياتها، وهو ما لا يمكن أن يكون حسب ما تقتضيه طبيعة الأشياء وقوانين العقل والمنطق.
وعوداً على بدء .. يصح لنا القول أن تداعيات الاستنزاف السياسي والأمني الذي عاشته البحرين خلال ما يقارب ثلاثة عقود منذ عام الاستقلال 1970م إلى عام التصويت على الميثاق 2001م، تشكل حقبة متميزة في تاريخ البحرين السياسي، وهي حقبة يتراوح وصفها بين الاستبدادية والدموية، وبتعبير آخر يمكننا القول أننا عشنا خلال هذه الفترة "دولة الطبيعة" بتمام معنى الكلمة، وأحسب أنها فترة كافية لكي نفكر جدياً في الخروج من إسار دولة الطبيعة، القائمة على قهر المواطن ومصادرة كافة حقوقه في العيش الحر الكريم، وهو بالفعل ما أجمعت الآراء على أنه قد حان الأوان لإنجازه والتوصل إليه، وهو بالضبط ما حملته رياح الإصلاح والتغيير التي أطلقت وشجعت عبر عدة مبادرات حكومية وشعبية، وكان القول بأننا نعيش عهد الإصلاح يعني في ما يعنيه بالضرورة أننا قد عشنا ومررنا بعهود الفساد والاستبداد، فما يتطلب الإصلاح ليس إلا الفاسد بالضرورة، ومكابرة هذه الحقيقة تستلزم أن لا نعترف بالإخفاقات، وما يستدعيه ذلك أن ضراوة دولة الطبيعة مازالت تستحكم في نفوس البعض، ممن اصطلح على تسميتهم بـ"الحرس القديم".
ولكن رغم كل محاولات الشد والالتصاق بالماضي البغيض، استطاع العزم الشعبي أن يؤكد على إصراره على متطلبات الإصلاح، وضرورة الإسراع في إنجاز مقتضياته، ووفق ذلك كان التوافق والرضا بـ"المملكة الدستورية" كخيار هو الأنسب والأفضل من بين الخيارات، التي تتغاير في تسمياتها، ولكنها تنتمي من حيث جوهرها ومضمونها إلى دولة العقل، وفي هذا الشأن كان لا مناص من القبول بهذا الخيار، ليس لأنه الأفضل على الإطلاق، ولكن لأنه أقرب الممكنات، وأنسب المتاحات، وبقية الخيارات كانت تدفع التجربة السياسية في البحرين إما باتجاه منظور مثالي لا تساعد الظروف والمعطيات على الوصول إليه وتحقيقه في المدى القريب، وهو دولة الشريعة، وإما باتجاه منظور غير مرغوب فيه أبداً، ولا يتمنى أيّ إنسان مخلص استعادته وهيمنته من جديد على أجواء الحراك السياسي، وهو دولة الطبيعة، وهي الدولة التي اكتفى المواطن بما لا مزيد عليه من العيش في أجوائها وتحت ظلها خلال مدة مديدة من سنوات العمر، وخبرها بما يكفي لأن يتهيب من مجرد تصورها واستذكار اسمها.
ووفق ذلك، كان من الضروري أن يتمّ التحرك على أساس استجلاء مكنونات المملكة الدستورية، وهو الرهان الذي ينتظر التاريخ أهل البحرين أن ينجزوه في مستقبل أيامهم، إذ ليس من المعقول أن تتحقق التجربة من صلاحية وعملية أيّ نظام سياسي على أرض الواقع، من دون أن تكون لهذا النظام محدداته التفصيلية ومشخصاته الجزئية، وهذا استناداً إلى ما قرره أهل الفلسفة والمنطق، من أن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد، فلا ينبغي أن نحسب أن المملكة الدستورية يمكن أن تتحقق كواقع ملموس، وهي لم تتحدد مكوناتها، ولم تتشخص أبعادها، وهو ما نروم أن يكون المحور الثاني في مقالتنا هذه:
المحور الثاني: متطلبات الملكية الدستورية: بقدر ما نريد الاستفادة من آراء وتجارب الآخرين ممن سبقونا في تطوير تجاربهم السياسية وإحكام بنائها، فإننا نريد أن نبدع معالم تجربتنا الخاصة ونحدد مكوناتها، من أجل أن يحق لنا أن نفتخر بأن التجربة كانت في جوهرها من صنع أيدينا، وأنها انطلقت من وحي الاستجابة لخصوصياتنا وأوضاعنا الداخلية، وهذا ما ينبغي علينا القيام به في محاولة الحديث عن متطلبات الملكية الدستورية، فالملكية الدستورية كنظام سياسي يقوم على ركنين أساسيين هما:
الركن الأول: التسليم بحق عائلة ما في الملكية الإشرافية على شؤون البلاد، بمعنى أنها تمتلك حق السلطنة على البلد كعنوان لها المسمى منه، نتيجة التوافق الحاصل بين شخص الملك والأمة على الاعتراف له بهذا الإطار الإشرافي التوافقي في الملك والسلطنة؛ وهذا يعني أن الملكية كعنوان لها مراتب ودرجات، منها ما هو الحقيقي، وهو المختص بكل مراتبه بمالك الملك، وهو الله سبحانه وتعالى، ومنها ما هو الاعتباري المحض، وهو أدنى درجات الملكية التي تثبت باعتبار، وتنزع باعتبار آخر، ولاشك أن ملكية الملوك في هذا العالم الأرضي هي من هذا القبيل، فهي ملكية اعتبارية توافق المجتمع على اعتبارها لشخص أو جهة أو عائلة ما، من أجل تسيير الشؤون العامة بما يحقق مصالح الكافة، ومن هنا فهي في جوهرها عملية تعاقدية قائمة على تراض متبادل من قبل الطرفين، وتفتقد مبررات الإلزام والالتزام إذا ما انتفت عنها هذه الصيغة التعاقدية، ولو بإخلال أحد الأطراف بمقتضياتها.
الركن الثاني: معيارية الدستور وحاكميته في تحديد ممارسة الصلاحيات السياسية والإدارية من قبل الجهة المالكة، وإذا ما تسالمنا في الركن الأول من أركان الملكية الدستورية -كما تبين- على أن مشروعية الملكية نفسها تأتي ضمن إطار تعاقدي بين الملك والأمة، فبالأولى أن يكون الشأن الدستوري كذلك، لأن عنوان الدستورية يأتي مكملاً وموضحاً لطبيعة نظام الحكم هذا، فلا يمكن أن يكون مناقضاً له، لأن الجزء لا يمكن منطقياً أن يكون مناقضاً ونافياً للكل المكون منه ومن جزء آخر غيره، وإلا حمل الشيء نقيضه في نفسه.
وفي ضوء هذين الركنين يتبين بكل سهولة افتقاد أيّ دستور غير تعاقدي الصفة الإلزامية التي يفترض أن تكون للدساتير، ومن خلال ذلك يتبين لنا بكل يسر وسهولة أن دستور 2002 ، والذي وصف بأنه دستور منحة، يندرج تمام الاندراج تحت هذا الأمر، فهو أساساً يفتقد الصفة التعاقدية بين الآمر والمأمور، أو بين الحاكم والمحكوم، ولا يمكن في الفهم الحقوقي وحتى العرفي لمبدأ الالتزام المتبادل، أن تكون صلاحية ونفاذ وإلزام الأوامر التكميلية (الاستحبابية في مصطلح فقهاء الشريعة) أشد من صلاحية ونفاذ وإلزام الأوامر التأسيسية (الواجبات والمحرمات في مصطلح فقهاء الشريعة)، والأمر في دستور 2002، مقارنة بدستور 1973 هو من هذا القبيل، فالأول يفتقد الصبغة التعاقدية التي يتمتع بها الثاني، فلا يمكن أن يكون حاكما ومقدماً عليه، بل هو محكوم به ومردود إليه، وهذا هو مضمون الحكومة في المصطلح الأصولي عند فقهاء الشريعة، كما أنه المعمول به في العرف الحقوقي والدستوري.
وبعد إيضاح الركنين الأساسيين اللذين يتكون منهما مفهوم الملكية الدستورية، يجدر بنا أن نحدد المتطلب الأساس في بناء المملكة الدستورية، كما تستدعيه طبيعة النواقص والثغرات التي كنا نلامسها كمواطنين وكسياسيين في الأداء السياسي والحكومي السابق على تجربة الإصلاح، والتي نتبادل الدعوة إليها انطلاقاً مما أدركناه من سلبيات لا مناص من الخروج عنها وتجاوزها في تجربة الإصلاح الجديدة، وهذا المتطلب الذي لا يمكن أن تتأسس المملكة الدستورية إلا بالاقتران به، أعتقد أنه يتحدد ضمن هذه المقولة: الإصلاح يعني التغيير لا الترقيع.
ومن أجل توضيح ذلك، أقول: يعلم القاصي والداني أن فكرة المملكة الدستورية طرحت كمخرج لأزمة قائمة ومستفحلة منذ مدة مديدة بين الدولة والأمة، وقد أفرزت هذه الأزمة تداعيات متكررة طوال سنوات طويلة وممتدة من تاريخ التجربة السياسية في البحرين، وتتبلور الأزمة في عدم وجود توافق بين العائلة الخليفية المالكة والحاكمة في البحرين وبين الغالبية العظمى من أبناء هذا الشعب على صيغة مرضية لإدارة شؤون ومهام السلطة في هذه الجزيرة الصغيرة، وقد تمّ إدراك غياب هذا التوافق وما يولده من تداعيات مستمرة في طبيعة العلاقة القائمة بين الطرفين، وفي ضوء ذلك تبلورت فكرة المملكة الدستورية كبديل عن نظام الإمارة الذي كان سائداً قبلها، وهو النظام الذي كان يسمح بحصول الكثير من التجاوزات على حقوق المواطن، من دون وجود رادع ينتصف للمظلوم من الظالم، وهو مقتضى دولة الطبيعة التي عشنا في أجوائها ثم قررنا الخروج منها عبر صيغة توافقية تتمثل في الانتقال إلى نموذج متحضر من نماذج دولة العقل، وهو ما أسميناه وما عرف في الدساتير والأنظمة السياسية بـ"المملكة الدستورية"، ولا ريب أن هذا التوافق توجه لتغيير مضمون وجوهر نظام الحكم، ولم يستهدف الاقتصار على تغيير الأسماء والعناوين من دون أن يطال التغيير المحتوى، وانطلاقاً من ذلك فقد حددت متطلبات العملية الإصلاحية والتغييرية في مقال سابق لي بهذه الأمور أو المحاور الثلاثة، والتي اختصرها بالقول:
المحور الأول: التغييرات الدستورية (هيكلية نظام الحكم): والمتمثلة أساساً في أن مشروع الإصلاح الذي تعهد جلالة الملك بإنجازه وأعطى العهد والميثاق على تحقيقه بكل متطلباته رغم أهميته من حيث وضع الأساس الأولي له والمتمثل في تحويل نظام الحكم في البحرين من نظام إمارة هو أشبه ما يكون بنظام الحكم المطلق بعد أن حلّ الحكم البرلمان وعطل عملياً العمل بدستور 1973، إلى نظام المملكة الدستورية الذي يعد من أرقى أنظمة الحكم الملكي، إلا أن ذلك كله ليس سوى الخطوة الأولى في طريق تحقيق مشروع إصلاحي متكامل.
المحور الثاني: التغييرات السياسية (هيكلية نظام الإدارة): لا يمكن أن تنفك عملية التغيير في الدستور ولاسيما إذا كانت تستهدف تغيير طبيعة نظام الحكم - كما حصل في البحرين بالضبط - عن تغيير هيكلية النظام الإداري، أو ما يسمى بـ (المؤسسة التنفيذية والقيادية)، فهذه المؤسسة رغم تغيير نظام الحكم من إمارة إلى ملكية دستورية لم يطالها أيّ تغيير حتى على مستوى الشكل فضلاً عن المضمون والجوهر، وهذه تعد سابقة خطيرة في مسار القوانين والدساتير الدولية، لأن ما نعيه من دستورية الحكم الملكي أن تتحول العائلة المالكة إلى عائلة ملكية، والفرق بين الاثنتين لا يخفى إلا على من استوردوا من خارج حدود البحرين ليفقهوا شعب البحرين حول دلالات التغييرات الدستورية ومفهوم "الملكية الدستورية"، وكان الأجدر بهم أن يطالبوا الجهات المسئولة بضرورة إدخال مختلف الوزراء وكبار المسؤولين الإداريين في الدولة ضمن دورة تثقيفية تذكرهم بأن من أهم مقتضيات المملكة الدستورية هو تحديد صلاحيات ومسؤوليات العائلة الملكية، والتي كانت في ما سبق مطلقة وغير محدودة بأي قانون أو مقررات دستورية، بينما اليوم وفي ظل المملكة الدستورية غدت صلاحياتها وحتى أفرادها مقيدة بالمفهوم الدستوري والقانوني الحديث للملكية الدستورية، والتي تهتم تحديداً بحصر العائلة الملكية في جلالة الملك المعظم وولي عهده وأفراد أسرته، في الوقت الذي لا يتولى أي من أفراد الأسرة الملكية أيّة مسؤولية في الدولة ترتبط بوضعه العائلي.
المحور الثالث: التغييرات الاجتماعية (هيكلية نظام العلاقات): يقول الله تعالى عن المنهجية التي تتأسس في المجتمع الفرعوني المستبد في مجال العلاقات بين الأفراد والجماعات من جهة، وبين السلطة الحاكمة والدولة من جهة أخرى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ [القصص 4].
ولأننا نستأنف عهداً جديداً في ظل الملكية الدستورية علينا أن نعمل بجد لتفصيل نظام العلاقات الاجتماعية والثنائية وفق مقاييس جديدة لا ينبغي أبداً أن تتناغم مع قيم عهد بائد قد قررنا جميعا تركه وراء ظهورنا وعدم العودة إليه، أو حتى النظر إليه إلا بكل أسف وحسرة على ما فاتنا من أوقات جميلة في ماضينا لم نحسن استغلالها... إن ما نصبو جميعاً إليه اليوم هو أن لا يستحكم فينا النسق الفرعوني الذي يستضعف طائفة على حساب أخرى، ويهمش مجموعة لصالح ثانية، وأن نقيم علاقاتنا على مبدأ الاحترام المتبادل وإقرار الحقوق المشتركة لكل مواطن.
وبذلك فحسب يمكننا القول أننا قد توافقنا على إقرار نظام الملكية الدستورية كنظام حكم وإدارة في جزيرة البحرين، وإلى أن نلتزم بمقتضيات ومتطلبات المملكة الدستورية سنظل نحلم بأجمل الأيام التي لم نعشها في ما سبق من حياتنا، وأخيراً دعوني أقول لكل أصحاب الشأن والسلطة والنفوذ في هذا البلد الصغير: سارعوا إلى تنفيذ وتفعيل متطلبات المملكة الدستورية، قبل أن يسبقكم الزمن بتفعيل متطلباته ومقتضياته، والتي لا تبقي الطفل الصغير، ولا ترحم الشيخ الكبير.