اليوم .. ينعقد المؤتمر العام الرابع للصحفيين . وهذا المؤتمر لا يهم المشتغلين فى بلاط صاحبة الجلالة فقط . وانما يهم المجتمع بأسره ، لان وجود صحافة قوية يعد شرطا أساسيا وضروريا للنهضة بمعناها الشامل . ولا نبالغ اذا قلنا ان دور الصحافة بهذا الصدد لا يقل أهمية عن دور الأحزاب السياسية وسائر منظمات المجتمع المدنى . فحتى هذه الأحزاب وتلك المنظمات- التى لا يمكن تصور نهضة بدونها - تعتمد اعتماداً هائلاً على الصحافة باعتبارها الوسيلة الأهم والأداة الأخطر لتوصيل رسالتها ونشر مبادئها وبرامجها ونقل أفكارها وأرائها ، حتى ان الصحيفة الحزبية أصبحت أهم أركان الحزب السياسى فى العصر الحديث .
ويزيد من أهمية المؤتمر العام الرابع للصحفيين انه يأتي فى وقت تواجه فيه "الأمة" تحديات خطيرة ، كما تواجه فيه " المهنة " مشاكل اكثر من الهم على القلب . وتشخيص هذه المشاكل تشخيصاً دقيقاً ووضعها عل طريق الحل الناجز هما شرطان ضروريان كى تستطيع الجماعة الصحفية المصرية ان تساهم فى التعامل الجاد مع التحديات المصرية التى تواجه الوطن والأمة .
هذه التحديات ليست خافية على أحد ، بل ان الشق الخارجي منها معلن بوضوح يصل الى حد الوقاحة . والخطط الإمبراطورية الأمريكية الرامية الى إعادة رسم خريطة المنطقة منشورة بالصوت والصورة وملطخة بشلال الدم الفلسطيني والعراقى الذى يسفك يومياً وبدون توقف . ومؤامرة ما يسمى بـ " الشرق الاوسط الكبير " لا تحاك تفاصيلها سرا فى الظلام وانما تحتل ما نشيتات الصحف بكل بجاحة .
وتلك العودة المروعة لدبلوماسية وأساليب الاستعمار القديم لا تتم فقط بالأساليب الحربية الدموية على النحو الذى نراه فى فلسطين والعراق ، وإنما تتم بأساليب أخرى عسكرية متعددة ،من بينها التضليل الإعلامى الأمريكي المبرمج والمدروس، المستند الى التفوق الكاسح الذى تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية فى التقنيات الحديثة لوسائل الإعلام والاتصال على الصعيد العالمى ، والمدعوم بطابور خامس من " العرب " الذين يحرقون البخور لجيوش الاحتلال الأمريكية ويطالبونها بالإسراع بـ " تحريرنا " . ومن يستغرب ذلك ليس عليه سوى ان يراجع – مثلاً – مقالات شخص كالدكتور شاكر النابلسى التى ذهب فى إحداها الى القول بالفم الملآن " ان الإعلام العربى إعلام عبيد لن يتحرر الا إذا جاء من الخارج من يحرره. فالعبيد هم غير القادرين على تحرير أنفسهم وينتظرون من أحد ان يحررهم كما قال الشاعر الأمريكي عزرا باوند "!!
وغنى عن البيان انه لا يمكن التصدى لعمليات غسيل المخ وتزييف الوعى العربى بإعلام كسيح ومتخلف ومثقل بالسلبيات او مغلول اليدين . بل لعل استشراء الفساد وتغلغل التخلف فى وسائل الإعلام العربى هو الذى سهل مهمة الاختراق الأمريكي .
وحتى إذا صرفنا النظر عن هذا الاختراق الإمبراطوري – وهو ما لايمكن صرف النظر عنه او التهوين من خطورته – فان هناك تحديا لا يقل خطراً ، هو دخول البشرية عصر الثورة الثالثة ، بعد الثورة الزراعية والثورة الصناعية ، نعنى عصر الثورة المعلوماتية .
وفى ظل ثورة المعلومات تشهد بنية المجتمعات الحية ثورة مذهلة تنقلها الى ما يسمى بـ " مجتمع المعرفة " .
ومن مآثر " تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003 " أن أبحاثه ودراساته انصبت على اشكاليات مجتمع المعرفة .
ورصد فى احد هذه الاشكاليات " العلاقة بين حرية الإعلام وتقدمه من جهة وبين ازدياد الطلب والعرض على المعرفة من جهة أخرى " حيث يشهد العالم الآن تحولا متسارعاً نحو الاقتصاد المبنى على المعرفة . ولا نستطيع اليوم ان نتخيل اى شكل من أشكال المجتمع المعاصر دون الاعتماد على تداول المعلومات باستخدام الشبكات الإلكترونية الرقمية . كذلك أصبحت السيطرة على صناعة المعلومات والاتصالات العملاقة شرطا رئيسيا لضمان التحكم الكامل من جانب الشركات العملاقة فى السوق العالمية ، وأصبحت القنوات الفضائية على سبيل المثال ، مصدرا جديدا لإنتاج وصناعة القيم والرموز والذوق " .
ويرصد التقرير ان الإعلام العربى ووسائط النفاذ إليه وبنيته التحتية ومضمونه ، يعانى الكثير بشكل عام " مما يجعله دون مستوى تحدى بناء مجتمع المعرفة " إذ تؤكد الإحصائيات الدولية أن المواطن فى الدول العربية لا يتوصل بالقدر الكافى من وسائل الإعلام ، ويتضح ذلك جليا من المقارنة بين عدد السكان فى الدول العربية ، وكم وسائل الإعلام المتاحة لهم من جانب ، ومقارنة هذه البيانات بمناطق أخرى من العالم . فالبلدان العربية تتسم – بشكل عام – بانخفاض نسب حصتها من وسائط الإعلام ( الصحف وأجهزة الراديو والتليفزيون لكل ألف شخص) مقارنة مع المتوسط العالمى ومتوسط الدول متوسطة الدخل . بل أنه فى بعض المجالات ليس أفضل بكثير من الدول منخفضة الدخل. ان هذه البيانات تشير بوضوح إلى ضعف البيئة الإعلامية المحفزة والممكنة للمعرفة فى المجتمعات العربية . فانخفاض عدد الصحف لكل ألف شخص إلى أقل من 53 فى الدول العربية مقارنة مع 385 صحيفة لكل ألف شخص فى الدول المتقدمة يعكس بكل تأكيد حالتين ، كلاهما سلبى . الأولى هى ان المواطن العربى لم يخلق بعد طلباً كبيرا على الصحف بسبب انخفاض معدلات القراءة وارتفاع تكلفة الصحف مقارنة بالدخل، والثانية هى ان تراجع مستوى الصحافة العربية واستقلاليتها ومهنيتها جعلها غير مرغوبة عند فئات واسعة من القراء العرب".
ويربط التقرير بين هذا الوضع المزرى وبين عدد من السمات السلبية تغلب على الخطاب الإعلامي العربى ، من أهمها :
• السلطوية : حيث تقتحم السلطة الخطاب الإعلامي وتفرض عليه موضوعاته وقيمه وحتى تفاصيله واختياراته وتوقيته .
• الأحادية : إذ يقوم الخطاب – فى الغالب – بتغييب الأخر واستبعاده من المثول أمام الرأى العام .
• الرسمية : اذ تقف النسبة الأكبر من المؤسسات الإعلامية العربية فى حيرة من أمرها أمام بعض أو معظم الأحداث والمواقف السياسية الطارئة انتظاراً للتوجيهات والتعليمات الرسمية لتتصرف إعلاميا فى ضوئها حتى لو اضطرت الى إغفال حدث مهم وتجاهله لمدة زمنية.
• القدسية : اذ يحاط الخطاب الإعلامي العربى فى حالات كثيرة بنوع من القداسة لا تسبغ على الخطاب الإعلامي فى مناطق العالم الأخرى . وهى ليست بالضرورة قداسة دينية ولكنها قداسة الهدف الذى يتضمنه الخطاب أيا كان موضوعه.
تلك السمات السلبية مرتبطة – فى رأى تقرير التنمية الإنسانية العربية "بوضع غير ايجابى بالنسبة للواقع الراهن لحرية الصحافة والتعبير عن الراى فى الدول العربية فى إطار التشريعات المنظمة لذلك ، اذ يميل أغلبها إلى تقييد هذه الحرية للحد منها . فضلاً عما تكشف عنه الممارسات الفعلية فى العديد من الدول العربية من انتهاكات مستمرة لهذه الحرية سواء بإغلاق بعض الصحف أو ضبطها ومصادرتها او تعطيلها أو بعدم توفر الضمانات الكافية للصحفيين لممارسة عملهم ، فهم يتعرضون فى كثير من الدول العربية للحبس وتغليظ العقوبات فى قضايا الرأى والنشر والايقاف عن ممارسة المهنة . ويسقط بعضهم ضحايا لعمليات الاغتيال والإرهاب فضلاً عن عمليات الضرب والاعتداءات البدنية ومحاولات الترهيب او الترغيب والضغوط المعنوية .. وفى مقابل ذلك هناك بعض الممارسات غير المسئولة من جانب بعض الصحف والصحفيين حيث انتشرت صحف الإثارة التى تعتمد على الجنس والجريمة والمبالغة فى بعض الدول العربية سعياً وراء المزيد من الربح وزيادة توزيعها ، وبالتالى حجم إعلاناتها ، إلى جانب الانتهاكات المتكررة لحق المواطن فى الخصوصية واحترام حياته الخاصة . وتعرض الكثيرون لحملات افتراء وتشويه لسمعتهم من خلال القذف او السب".
ومن العرض التحليلى والتقييمى للواقع الاعلامى الراهن وما يقدمه فى نقل المعرفة وحفز اكتسابها ينتهى التقرير إلى القول بأن "وسائل الإعلام العربية بأوضاعها الراهنة كما ونوعاً تواجه عدداً من معوقات نشر المعرفة:
• لم يتحقق للناس فى الدول العربية النفاذ إلى وسائل الإعلام بالقدر الكافى مقارنة بالمعدلات العالمية وبدول أخرى فى المنطقة وقياسا لعدد سكان العالم العربى.
• لم يتحقق للناس فى الدول العربية الانتفاع بما تقدمه هذه الوسائل بالنوعية المطلوبة وبالتوازن والعدالة اللازمين.
• لم يتحقق للناس فى الدول العربية المشاركة فى وسائل الاعلام بالصورة المأمولة كفاعلين إيجابيين وليس كمتلقين سلبيين".
واذا كانت هذه الصورة تشمل الخطاب الاعلامى العربى عموماً ، فان نصيب الصحافة المصرية منها ليس هيناً . بل لعل من الواجب علينا ان ننظر إلى عيوب وسلبيات الصحافة المصرية بقلق زائد .
ذلك أننا نتحدث عن صحافة مصر ، التى كان لها فضل الريادة فى سائر أنحاء العالم العربى . ومن العار اليوم أن نقارن هذه الصحافة العريقة - التى لعبت أدواراً رائعة فى معركة الاستقلال الوطنى والاستنارة والعقلانية والنهضة من قبل- بصحافة لم تر النور إلا منذ فترة وجيزة فى دول ودويلات يحسب تاريخها بآحاد السنين !
فما بالك اذا كانت صحافة بعض تلك الدول والدويلات أصبحت فى هذا الزمن المقلوب أفضل من جرائدنا التى تراجعت وتدهورت بصورة تفطر القلوب.
فلماذا حدث ذلك ؟ والأهم كيف نوقف هذا التدهور المعيب ونسترد دورنا الرائد المفقود محليا وإقليمياً ؟
هذان سؤالان كبيران يتصدران جدول اعمال مؤتمرنا العام الرابع ، اليوم وغداً ، ويجب أن نجتهد للبحث عن إجابة شافية لهما من خلال بحث أوضاع حرية الصحافة والتشريعات المنظمة وتحديات التحديث والمنافسة وأجور ومعاشات الصحفيين ومشكلات الملكية والإدارة والتمويل وميثاق الشرف وأخلاقيات الممارسة المهنية ومستقبل الصحافة الإلكترونية وغيرها من مشاكل يجب التصدى لها حتى يعود "كلام الجرايد" عنواناً للحقيقة ، وحتى تستعيد مهنة البحث عن المتاعب حمل مشاعل رسالتها النبيلة.