أخي عادل،
أنا بخير وأعرف انك كذالك، فلم المقدمات؟ ولم لا تكف عن الثرثرة فتقرأ هذه القصة؟ على أن أعدك ألا تصل السطر الأخير قبل أن أحقق حاجتي مجيبا على تساؤلاتك كافة.
نعم دخلت غزة.
وكان دخولي بتلك الصورة أقرب الى المعجزة، اقرب الى الخيال من الحقيقة. المهم الآن انني دخلتها. دخلتها هائما هاذيا، كأنني على علم مسبق بما ينتظرني في تلك المدينة العطشى المنبطحة الى البحر من قصة حب. نعم، كنت هناك في غزة ، وهناك تعرفت اليها، وهناك أخذتني هي بسحرها الذي لا أتقن وصفه أو تعريفه.
بدأت قصتي المثيرة معه وقت شاهدتها لأول مرة تدور شوارع المدينة وأزقتها. تقتحم الحارات، حارة حارة بجد ونشاط،مصدرةً صوتا متقطعا بلا انقطاع "كعييييك،كعييييك""
أتعرف ما وزن ما كانت تحمله من بضائع؟
ولا أنا!
لكنني متاكد انه-على خفته-قد ضاعف وزنها مرات ومرات ،خاصة انها لا تزن أكثر من ريشة ،مما سبب بالضرورة إلى فقدان التوازن بين الحامل والمحمول لتتأثر مشيتها بشكل بارز اذ ذهبت ببطء شديد لا يخلو من اتآد عنيد،منسجمة بذلك مع بيئة مدينتها الى حد بعيد.
كان أغرب ما في أمرها انني لم أنجح بتشخيص أي وجه غرابة جذبني اليها بشكل نادر هو أشبه بالتنويم المغناطيسي لألاحقها، هي بالذات دون أخواتها -وما أكثرهن. لاحقتها من شارع الى شارع ومن زاوية الى زاوية، نهارا كاملا أو بضع نهار، حتى غابت الشمس أو كادت، فتنبهت ذات لحظة إلى ذلك الوجه فوجدته مشيتها.
آه لو أبصرت مشيتها كم كانت طريفة ومثيرة، فهي لا تسير وسط الشارع، كما لا تسير على هامشه، انما تعانق الحيطان.تلاصقها. تلاصقها الى حد الالتحام.
أي قصة حب تجمعها بهذه الكتل الاسمنتية الباردة والايلة للسقوط؟
سألت حانقا حاقدا على تلك الحيطان التي تحولت بلحظات الى عدوي اللدود، وسألت الله ان يقاتلها بما ملكت أيمانه من طيور اباتشية.
غضبت، ولم يهدئ من روعي الا اكتشافي، ان هذا الحب لم يكن من طرف واحد فقط ، فهي ايضا تموت في، وقد شعرت بغيرتي، فانقطع النفس!
انقطع النفس.انحبس.سقط فكي الاسفل حتى كدت أتعثر به،فها هي -لا أصدق- ها هي تترك اخر جدار لتصبح لي ، لي وحدي لا شريك لي. تقطع الشارع، تتوقف في وسط الشارع، لتتكيء الى الجزيرة المقابلة لي.
تحتي مباشرة.
أي نداء خجول!
النهار بات بآخره. السيارات أخذت تنقرض وشريان الحياة بدا منقطعا. وقع الاحذية خف عن الشوارع المكتظة. العربات بدأت بالرحيل بعدما يئست من التخلص من كل ما تحمله من ترمس وكعك وشراب. الفواكه والخضروات، ما عادت تتربص بالاكياس الملونة بدلال اخاذ وجذاب، وراحت تدخل البسطات حبا. بسطة الخبز فقط ظلت عامرة، تشهد المفاوضات المريرة بين أكياس النايلون السوداء والارغفة الحافية، التي تفضل غالبا البقاء مع اخواتها بشرف ولا الذهاب باي ثمن مع تلك الاكياس ، التي نجحت نادرا، نادرا جدا فقط باقناع بعض الارغفة بالتقافز الى داخلها لتهرول هي، اي الاكياس فرحة احتفاءا بغنائمها.
اذن كل ظروف اللقاء متوفرة، لا سيما الهدوء، فأمرت بساط الريح بالهبوط فهبط فهبطت متهيئا للانقضاض. كدت أفعلها لولا خلل فني تذكرته اخر لحظة، فانا لم اقابل حبيبة من قبل. ماذا اصنع ومتى يحين الوقت لاقول لها باعلى الصوت "احبك!" لم أعرف، لم أعرف الا شيئا واحدا، انني لن أتنازل عن فرصتي الذهبية.
لملمت أشلائي، وشظايا شجاعتي وعلبتها في معطف أنيق خاص بذلك ،لأقطع الشارع نحوها.انا لست انا.ما عدت أكثر من خطوات متلكئة وخفقات فاضحة.
يا ويلي ،انني أغرق والجزيرة كالسراب كلما اقتربت منها أكثر ابتعدت هي أكثر. اه كم اردت ان تستغرق الطريق وقتا اطول دون فائدة، فالجزيرة تحت حذائي، وانا حذاء فوق الجزيرة.
قابلتها تماما، لا تفصلنا الا عشر سنتمترات .لا .بل اكثر قليلا. اقتربت أكثر. انبلع ريقي.كدت الامسها وهي ساكنه دونما ردة فعل، ولكن ها هي أخيرا تضيق بي، تتثاءب ضجرة حتى كادت عجلتها الامامية تدوس قدمي، فرحت في سباق مع الزمن أبحث عن عقلة الاصبع في أذنها.لم أجد عقلة الاصبع، لم أجد أذنها أيضا!! فاكتشفت كم هو زائف حبي وأبله وكم هي كبيرة وأكذوبتك!!
عرفت أن العربات لا تمشي وحدها ولا عقلة الاصبع أصغر من الاخرين، كما انه لا يملك قبعة خفاء كما ذكرت.
عقلة الاصبع لم يعد عقلة أصبع، وها أنا اقابله وجها لوجه.
ذراعه اليمنى مبتورة.
عقلة الاصبع، صفعني بكفه اليمنى فطرت وعدت شاكرا الى مكتبي هنا، لأقص لك حكاية فقدان ذراعه بهدوء قد تهتكه بين الفينة والاخرى عاصفة القصف الرتيبة، فتزود، ولكن ليس قبل ان اجهز، بكل رواق غلاية القهوة، لأضمن فنجانا مرا وبضعة سجائر، ثم ازودك، فاصبر!!
اسمه علاء وقد فقد ذراعه قبل عامين، أي عندما كان في الرابعة من عمره.كان النهار صافيا وذهب كعادته الى روضته في الحي المجاور لبيته، وبدأت قصته المثيرة مع ابنة صفه رنا، التي رفضت، كسائر البنات ان تلعب الكرة معه
-أعرف انك لا تريدين ذلك لانك تكرهينني.
-إفهم.. متى تفهم ان البنات لا يلعبن الكرة؟
-لماذا؟
- لانه عيب وحرام
-كذب!!
-امي لا تكذب
-حسنا ولكن لماذا؟ لماذا؟ ما الفرق؟
-انني بنت وانك ولد..
-حسنا ولكن ما الفرق بين البنت والولد؟
-أف..البنت شعرها طويل وصوتها ناعم، قالت رنا وتركته نزقة، بعدما ضيعت الاستراحة، وصار عليها ان تدخل الصف، دون ان تلعب مع زميلاتها، أما علاء، وهو ذكي خارق القدرات، لم ينس الموضوع وظل السؤال يرن في راسه، حتى جاءه اخوه الكبير ليصطحبه الى البيت، سأله :
-اذا حلقت امي شعرها وصارت تدخن مثل جارتنا، التي صوتها كالرجال اتصبح ولدا؟
- طبعا لا يا غبي..
- أليس الفرق بطول الشعر ورقة الصوت، هو ما يميز الاولاد عن البنات؟
-لا يا فهيم، ضحك المراهق متخابثا.
-ماذا اذن؟
-القضيب يا فهيم،سال اللعاب من فمه..
-أي قضيب؟
-اففف، الحمامة يا حمار!!
كان علاء قد فهم من الجملة الاخيرة، انه ضايق أخاه وصار مهددا بلكمة او أكثر ان زودها، فهم ذلك وهدأ كأن على رأسه "الحمام"!!
عند تناول الغداء مع شقيقيه ووالديه لم ينطق ببنت شفه، وظل هادئا بصورة مشبوهة حتى قام الذكران الكبيران ولم يتبق غيره الا شقيقه ابن العام تقريبا، وامه التي اخذت تنظف المائدة، وقال هامسا:
- امي، الم تقولي لي انكم اشتريتم شادي من الدكان، أمس؟
- قل قبل عام يا حبيبي..المهم؟
- متى ستعودون الى تلك الدكان ثانية؟
- لم؟ ضحكت الام وسألته، أتريد ان نشتري هذه المرة بنتا؟
- لا يهم، المهم ان تحضروا لي معكم حمامة!!
مسحت البسمة عن شفتي الام المذعورة وسألته ان كانت حمامته تزعجه فيريد تبديلها، لكنه فاجأها اكثر حينما قال:
-ليس لي..
-لمن اذن؟
-لرنا، كي تصبح ولدا وتلعب معي كرة القدم.
الام كاد يغمى عليها ضحكا، احتضنته وأفهمته ان تلك الدكان لا تبيع قطع غيار، فهذا حرام وفيه معصية لله، لكنه لم يفهم سبب كل هذا الصخب، ولم يدخل الى كل هذه التاهات، فهو لم يرد الا ان يلعب الكرة مع رنا.
"غدا سأقرضها حمامتي ان وافقت، لشوط واحد فقط!!" قال لنفسه فرحا وقد وجد حلا للمشكلة، فخرج إلى ساحة الدار ليلعب بسيارة الشحن الكبيرة، وخلاطة الباطون، وبينما كان يعزق الارض بطوريته البلاستيكية وجد جسما غريبا، هو بلا شك الكنز الذي سيقلب حياته، ويمكنه من شراء الحمام لرنا وكل بنات العالم، ليعلب الكرة معهن. أخذ يقلبه بين يديه.. إلى ان سُمع دوي إنفجار هز الدار، لينام علاء.
نام علاء ولم يستيقظ إلا بعد أيام في بيت جدته لأمه، وقد وجد عالمه قد إنقلب فعلا، إذ أفهمته أمه أنه لن يرى بعد اليوم بيته أو رنا أو أباه أو أخاه الكبير، أو حتى ذراعه، لكنها لم توضح أين ذهبوا. كل ما قالته إن أباه وأخاه بطلان، وإن ذراعه قد تركته غضبى بعدما "لم تسمع كلامي،عندما حذرتك من اللعب مع الغرباء وبالأشياء الغريبة".
ومن يومها ما عاد علاء يفكر كثيرا بلعب الكرة، فصار على عاتقه ان يعيل عائلته. أمه تصنع له الكعك كل يوم، فيبيعه، ولا ينسى ألا يغضب ذراعه المتبقيه أو أرجله أو ربما رأسه، فراح يحفظ كل وصايا أمه وطلباتها، خاصة تلك المتكررة كل صباح "امش الحيط الحيط وقل يا رب السترة"..
أخي عادل،
هذا ما قد رصدته من حياة علاء خلال لحظات منذ أبصرته لأول مرة خلف عربته- ألتي كدت أقع بحبها- وحتى تلك الصفعة التي أعادتني إلى مكتبي بعدما دخلت غزة على متن بساط الريح السحري، وهنا قد تكذبني ولا تصدق، أما أنا فلا يسعني إلا أن أصارحك بحيثيات الحادثة كما كانت، دونما زيادة أو نقصان، ودعني أبدأ بالإعتراف أنك أنت صاحب الفضل بهذه المغامرة، ألتي عشتها طوال أمس، مذ داهمتني من على الصفحة الاولى في جريدتك بالعنوان الصاخب والرهيب حول قتل ستة عشر فلسطينيا في غزة بدم بارد، دون أن تكتب اسماءهم على تلك الصفحة، فعرفت أنهم من معشر "الاخرين" البسطاء والحفاة عموما، فقلت، إن كانت الصفحة الخارجية كثيرة عليهم فبلا شك سأجد أسماءهم في واحدة من الصفحات الداخلية، هناك كان متسع للكثير من المساخر والخرافات وقراءات النجوم واسعار العملات، كان هنالك متسع لكل شيء قد يخطر في بال العامل والمناضل والمراهق والزانية وبائع الفلافل، إلا لأسماء تلك الأرقام، فغضبت.
لعنتك ولعنت جدك الاول ، قمت عن السرير وألقيت الجريدة أرضا لأدوسها بهستيريا الصحافي المراقب، دستها ومعكتها أكثر وأكثر حتى كادت تتمزق، ولكن، وعلى حين غرة وجدتها ترفرف.
ستحملني حيث أشاء، فسقتها إلى غزة، إلى مدينة الأرقام والأشباح والجان، بلا ناس ولا حيوات، كما تصورها في جريدتك معطوبة الوعي، فرأيت ما رأيت وقابلت من قابلت، ومن بينهم علاء الذي كتبت لك قصة حياته استنتاجا، وإن أردت قصته الحقيقية فابعث إلي بصحيفة أخرى قد تتحول إلى بساط الريح، فهذا البساط ضاع ، سقط مني وقت صفعني علاء..
وقتها سأسأله عن اسمه الحقيقي وعن حياته بالتفاصيل المملة، قد يقول إن أسمه حسن وإنه في العاشرة من عمره، يعمل في بيع الفول منذ شهر، بعدما فشل بتعلم مهنة النجارة عند المعلم "أبو أسعد" وقد كلفه هذا الفشل ثمنا باهظا هو فقدان ذراعه اليسرى..
أرجوك عادل، أعطني فرصة واحدة فقط وسأعود اليك مسجلا تفاصيل حياته كافة..
ولكن كيف أعود إليه فأنا لم ألقه من قبل؟!!
عاصفة القصف مستمرة وفنجاني يفرغ بنهم،
فإلى اللقاء ودمت لأخيك
صادق
13.3