المشكلة في الوصاية على العقل والفكر تكمن في وجود مؤسسات وأفراد يدّعون العلم بكل شيء. من هنا تأتي هذه المغالطة البريئة أو المتعمدة في فهم "العلمانية". إذ يجري تفسيرها وتلقينها للمجتمعات العربية والإسلامية، باعتبارها كفرا وإلحادا وزندقة.
على أساس سوء الفهم هذا، قامت الهجمة التكفيرية الواسعة على فرنسا، لتحريمها الرموز الدينية الصارخة في مدرستها الرسمية، وتمت زندقة علمانيتها التي "تنزع" الحجاب بقوة القانون من رؤوس الطالبات المسلمات.
دعوتي هنا لفهم العلمانية ليست للدفاع عنها أو لتبنّيها، وإنما هي محاولة لعرض مفهومها وتاريخها، ولتقديم تفسير أقرب ما يكون إلى الحقيقة العلمية التي يفرض العقل البحث عنها، قبل أن يصدر اللسان المتسرع الحكم المغرض عليها.
جانب من سوء الفهم يعود إلى سوء الترجمة. "العلمانية" بالفرنسية (Laicite) مشتقة من المفردة الاغريقية (Laos) ومعناها "الشعب". انتماء الدولة الديمقراطية الحديثة للشعب هو الذي فرض التسمية. فأين العلمانية من هذا الكفر والتكفير عندنا للاسم وللمضمون؟!
وما دام الحديث عن فرنسا، فلا بد من إلمام سريع بصراع الدولة مع الكنيسة وليس مع الدين. في تحرير الثورة الفرنسية للشعب من هيمنة الكنيسة المتحالفة مع النظام القديم، فقد جعلت الاعتقاد والإيمان أمراً حراً وشخصياً.
الواقع ان الكاثوليكية الفرنسية انفصلت عن البابوية الفاتيكانية منذ القرن الرابع عشر، تأكيدا للهوية "الغاليكانية" ورفضا للمرجعية الدينية الأجنبية. وتقمص ملوك فرنسا الحق الإلهي المقدس الذي ترك للبابا السلطة الروحية، فيما أصبح الملك رأسا للكنيسة. فهو الذي يختار الأساقفة، فيما تمتعت الكنيسة بامتيازات هائلة، وفي مقدمتها احتكار المدرسة والتعليم.
غير أن حرية الاعتقاد الديني بعد الثورة لم تحل دون استمرار الصراع بين الدولة والكنيسة. اضطر نابوليون في الـ (كونكوردا) مع البابا للاعتراف رسميا بالكاثوليكية والبروتستنتية والتسامح مع الأديان والمذاهب الأخرى، في مقابل أن تحكم الدولة نشاطات الكنيسة.
مفردة "العلمانية" لم تولد إلا بعد [أكثر من] قرن من ميلاد الثورة. ولم تحقق الانفصال الرسمي بين الدولة والكنيسة إلا في قانون 1905. ترسخ المفهوم المزدوج، عندئذ، للعلمانية: الحرية الدينية لكل الأديان، ومنع الدولة من فرض دين معين على المجتمع. استقلالية الدولة أدت إلى خسارة الكنيسة لمكاسبها وامتيازاتها بإلغاء وضعها العام المميز، وحرمانها من الدعم المالي الحكومي، ومنعها من فرض رموزها الدينية في الأماكن العامة والنصب والمباني الحكومية.
الدساتير الفرنسية (1946) و(1958) وتعديلاتها أكدت حياد الدولة الديني والعلماني في المدرسة: "فرنسا دولة علمانية تضمن المساواة أمام القانون لكل المواطنين بلا تمييز في الأصل والعرق والدين، وتحترم كل المعتقدات". بل راحت الكنيسة بعد الصراع الطويل مع الدولة تتكيف مع العلمانية مستفيدة منها كضامنة للحرية الدينية.
أعود للمدرسة الفرنسية لأقول إنها كانت مركز الصراع على مدى قرنين. وتوج هذا الصراع بنزع الهيمنة الكنسية عن المدرسة، دون حرمان الكنيسة من حرية فتح مدارس دينية، شرط الالتزام أيضا بالمناهج التعليمية في المدارس الرسمية.
معركة الدولة في فرنسا مع الحجاب الإسلامي لم تشكل فحسب خلاف الحركات الإسلامية معها، وإنما كان الحجاب وعلمانية المدرسة الفرنسية مجال جدل مستمر ومثير بين الدولة والمعارضة والكنيسة، بل كانت لها أصداء بين مؤيدة ومعارضة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
أستطيع أن ألخص موقف الدولة الفرنسية بالخوف من العودة إلى الخلط بين الديني والسياسي، ومن تجدد الهجمة الكنسية على الدولة الديمقراطية الحديثة الضامنة للحرية الدينية، والحامية لعلمانية المدرسة من وضع سقف للتربية والتعليم يحول دون تواصل واستمرار العقلانية العلمية التي أنتجت الحداثة المعاصرة بكل إنجازاتها المتقدمة.
وهكذا، أصبح الحجاب "بعبعا" يتستر وراءه "إسلام متطرف وغير متسامح"، في رؤية الدولة وأنصار العلمانية الأقوياء، فهو "مهدد" لحياد الدولة الديني، بل للهوية الوطنية المرتكزة على علمانية التربية والتعليم والمدرسة. وإذا تم السماح للحجاب في المدرسة التي منعت فيها الرموز الدينية منذ قانون 1882، فهذا يعني فتح الباب أمام مطالب أخرى لا تنتهي، مطالب للكنيسة الكاثوليكية وللحركات الإسلامية والدينية الأخرى:استعادة الكنيسة لدورها السياسي، الفصل بين الجنسين في المدرسة والرياضة، ازدهار تنظيمات دينية (إسلامية) غير متسامحة، وتفرض "بالإكراه" على المرأة المسلمة الحجاب...
في المقابل، فالداعون إلى التسامح مع الحجاب والرموز الدينية في المدرسة، وبينهم يساريون وكنسيون ويهود، يقولون ان العلمانية باتت دينا لا يتسامح مع "حق التنوع والاختلاف" في المجتمع. وبالتالي، فعلى الثقافة العلمانية أن تحترم الثقافات والهويات والتقاليد الأخرى للمجتمع وللمهاجرين. وها هو الكاردينال لوستيجيه أسقف باريس (ذو الأصل اليهودي) يحذر من "حرب أهلية" بسبب الاستقطاب الحادث بين العلمانيين وغير العلمانيين.
مع ذلك، فقد مضت الدولة في إصرارها على تحريم الرموز الدينية في المدرسة والإدارة الحكومية، لا في المجتمع الحر. وتم تشريع قانون بذلك، وجرى تمريره بأكثرية كبيرة في الجمعية الوطنية. وأستطيع أن أقول إن هذا المرور السهل يدعمه مجتمع فرنسي علماني لم يعد متحمسا لدور الدين في المجتمع ومؤسساته من سياسية أو تربوية.
لكن، لماذا تختلف العلمانية الفرنسية (Laicite) مع العلمانية ["البروتستنتية" الجرمانية والاسكندنافية والانجلوساكسونية] Secularism؟ وبالتالي، لماذا ظهر نقد صريح وقوي من هذه الجهات في أوروبا والولايات المتحدة لموقف فرنسا من الحجاب، على الرغم من التخوف من الإسلام المتسيس و"الجهادي"؟
السبب هو أن هذه "العلمانيات" لا تفصل، كما تفعل العلمانية الفرنسية، بين الدولة والكنيسة. تم الفصل في فرنسا لأن الكنيسة الكاثوليكية القوية اضطهدت حرية العقل والعلم، وتحالفت مع نظام قديم قمعي وظالم. أما الكنيسة البروتستنتية بمذاهبها المختلفة فقد انطوت على تجديد للخطاب الديني، ورفض للكاثوليكية في تزمتها المحافظ وعدائها للثورات التنويرية.
وهكذا أيضا، فالملكة هي رئيسة الكنيسة الانغليكانية وحارسة الإيمان في انجلترا. هناك 25 أسقفا أعضاء في مجلس اللوردات، لكن الكنيسة الأنغليكانية ليست دولة كما في الدنمارك حيث التعليم الديني يُمارَس، كما في بريطانيا، في المدارس الحكومية وممول من الدولة.
علمانية الدولة الكاثوليكية (بلجيكا واسبانيا وايطاليا والبرتغال) أقرب إلى العلمانية الفرنسية من حيث الحرية الدينية، لكنها في الواقع هي تسوية سلمية بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية.
في الدولة ذات التعددية الطائفية، كألمانيا وهولندا، فتسامح العلمانية مع الكالفينية واللوثرية يصل إلى اعتبار الدين ركيزة للانتماء القومي. ولكل دين مدارسه وأحزابه ونقاباته. كذلك الأمر في اليونان، حيث الكنيسة الأرثوذكسية مؤسسة من مؤسسات الدولة، وتشكل رمزا للمقاومة ضد تركيا المسلمة.
الطريف ان الولايات المتحدة أكثر علمانية من أوروبا. التعديل الأول للدستور العلماني أكد الفصل بين الدولة والدين. الدولة الفيدرالية علمانية، لكن المجتمع الأميركي مؤمن أو متدين. هناك الآن حنين ديني جارف يجسده صعود الجناح الديني (المسيحي ـ اليهودي) في الحزب الجمهوري إلى الحكم والسلطة.
اختلاف الفلسفة العلمانية في فرنسا عنها في الدول البروتستنتية يفسر النقد المرير لقانون منع الرموز الدينية. الاختلاف أيضا ينطوي على غموض مفهوم العلمانية هنا وهنالك. لم أجد تعريفا علميا لها سوى الدعوة إلى تأسيس علمانية جديدة تقبل، إلى جانب إيمانها بالحرية الدينية، بالتعددية الثقافية والدينية لجاليات أجنبية متضخمة عدديا وأكثر اصرارا على تأكيد تميزها في تقاليدها وثقافاتها ولغاتها... وأديانها.
على الرغم من الغموض والتناقض في مفهوم العلمانية، فلعلي كنت أمينا في الشرح والتفسير. ولعل المؤسسات والأفراد الذين يمارسون "الجهل" بكل ما هو معروف ومعلوم، يدركون أن من الخطأ إصدار أحكام ونشرها وتلقينها بالارتكاز على أوهام وسوء فهم، بدلا من إعمال العقل والفكر في البحث والدراسة.
الشرق الأوسط اللندنية