كنا طلاباً في الصفوف المنتهية في كلية الطب ـ جامعة بغداد، حين اختارنا المرحوم الأستاذ احمد عزت القيسي (1)، استاذ الطب الشرعي الشهير ومرجعه المعروف في الشرق الأوسط آنذاك، كي نطبّق بصفة مساعدين له في قسم الطب العدلي، ذو البناية القديمة المقترنة بمواضيع كان الناس يرتعبون منها، والواقعة في باب المعظم . . وقد اعطى لثلاثتنا نسخ من المفاتيح الأساسية كي نتمكن من الدخول الى بناية القسم ان كانت ابوابه مقفلة، وغالباً ماكانت تقفل لمعالجتها امور لم يكن يتقبّلها الناس بسهولة آنذاك .
في مساء شتوي وبينما كنا ثلاثتنا مشغولين في قاعة متحف القسم، سمعنا ضجة مفاجئة وقرقعة مفاتيح وصخب ابواب تفتح لتغلق بشدة وخبط احذية ثقيلة واصوات آمرة، وبكاء مكتوم وولولة . . خفّت الضجة فجأة على صوت وقع خطىً منتظمة حازمة، كانت خطى الأستاذ القيسي المعروفة .
ثم اخبرنا احد مساعدي القسم، ان الأستاذ القيسي ينتظرنا في غرفة الفحص الرئيسية . . وذهبنا الى الغرفة التي كانت معقّدة البناء تؤدي اليها اكثر من باب لغرف اخرى محيطة، من بينها قاعة التطبيق واكثر من غرفة للأنتظار . شاهَدَنا الأستاذ، فأومأ الينا باشارة من عينه وانحناءة خفيفة من رأسه، بالدخول والحفاظ على الهدوء .
كانت الأم تحلف ايماناً غليظة، بصوت نافذ مكتوم، بوقار وحزن وحزم، " ابنتي وأعرفها، بنتي شريفة، بنتي باكر . . دكتور!!! اقسم بالله وبسيد المرسلين !! دكتور بنتي امانة برقبتكم"، فيما كانت شابة سمراء واسعة العينين، ظهرت كحمامة وديعة جميلة المحيا، الاّ انها كانت كسيرة المظهر، تنظر الى المجهول بصمت وحزن، وآثار دموع جافة واخرى لم تزلْ تسيل بصمت مرعب .
رجا الأستاذ القيسي مساعدَ القسم بأن يقود الأم وابنتها الى غرفة فحص (رقم 4 ) التي كانت في نهاية الممر الجانبي، الذي انتبهنا للمرة الأولى انه كان يشبه (ردهة سجن) من حيث متانة الأبواب وسهولة عزله عن باقي البناية الكثيرة الحجرات، وحيث كانت بابه الرئيسية وابواب الغرف التي على جانبيه، تقفل على المراجعين وفق اوامر الطبيب ، حماية للجميع، كما شرح الأستاذ لنا، آنذاك .
قال القيسي : " انها قضية بكارة، القضية التي راحت الآلاف من اجمل شابات البلد ضحايا لها، وغالباً ما كنّ ضحايا لجهل، اولغيرة وحسد ولرجولة ناقصة في تيار الحياة الصاخب ! . . الأبنة عروس، لم يستطع الزوج اثبات ازالته بكارتها في ليلة العرس، حيث لم يعرض منديلْ العفة (المُزيّن) بدم الطهارة رغم مرور الوقت المطلوب !! انظروا من الشباك لتروا احدى اكبر مآسينا . . سيارة بيك آب تحمل الجوق الموسيقي الذي سيعزف ان خرجت من عتبتنا طاهرة، وسيارة اخرى تحمل من سيحمون الشرف، سيقتلوها !!
ابنائي من ظرف الحادث، الذي يتلخص في (عروس في ليلة الدخلة تبكي وتأتي رفقة امها) استطيع ان اجزم بأنها باكر حتى دون فحص مهين، كأننا نفحص حيوان، علينا تقدير صلاحيّته للذبح من عدمها!!! لكن الواجب المهني يحتّم علينا الفحص واملاء النموذج الرسمي المطبوع الموجود في ذلك الدرج الكبير بنتائجه . . !! " .
رأينا ولأول مرة، نماذج مطبوعة رسمياً باللغتين العربية والأنكليزية، معنونة بـ " نموذج فحص البكارة "، يحتوي على الحقول التي يجب ان يملأها الطبيب الفاحص . . سليم، ممزّق، مكان التمزّق وفق ارقام الساعة . .
وفيما كانت الشمس لاتزال ظاهرة، تطلّعنا الى الخارج عبر النافذة، ورأينا سيارة الجوق الموسيقي بافراده الذين ملّوا الأنتظار كما بدا، وكانوا بين مشغولين بالثرثرة وبين كشّ الذباب،
كانوا كمّن ينتظر انجاز عمله ليتقاضى اجرته ويذهب الى بيته . . كانوا كمّن يقضّي وقتاً روتينياً
سواء كانت الشابة باكر ام لا، ستحيا ام ستموت قتلاً؟
وبينما جلس على الرصيف الترابي المقابل، كهل لفّعَ الهمّ مظهره كلّه . . كان ينظر بعينين كسيرتين دامعتين، ويدخّن بشراهة وقد كست وجهه لحية لم تحلق، تبيّن انه كان الأب . وقف جنب السيارة الأخرى، رجال صامتون كانوا ينتظرون وقد بدت عيونهم قاسية كأن الشرر كان يتطاير منها، ليحموا الشرف المعرّض للخطر ان أُثبت ذلك !!
لقد بدا ان الصورة كانت واضحة للدولة، فشرطة السجن القريب (سجن باب المعظم الكبير) كانوا يرون ذلك، بل مرّ اكثر من شرطي قربهم ولم يحرّك ساكناً، بل ان استاذنا الفاضل الذي كان يرى الصورة كلّها واتم شرحها لنا بكل الم، كان لايلوي على شئ، ولايستطع فعل شئ لتجنّب احتمال قتل تلك الشابة، اضافة الى نماذج البكارة الرسمية التي كانت ستدخل في اضبارة القاتل ان قَتَلْ، ليُحكم حكماً مخففاً لأنه قام بغسل العار . . كانت جريمة قتل يُعَدّ لها كما لو كان بشكل رسمي، وفي رابعة النهار، عند سراي الحكومة وفي العاصمة ذاتها !!
وفيما كان الأستاذ القيسي يجري الفحص برفقة الأم واحدِنا . . كنّا ننتظر في الممر تخفيفاً، وكانت الدقائق تمرّ ثقيلة . . صفقت الباب بقوة وخرجت الأم تزغرد وقد علا وجهها البشر، كانت تصيح بفرح والدموع تجري غزيرة على وجنتيها " بنتي واعرفها، بنتـ . . ـي واعرفـــــها !!! "
قال الأستاذ القيسي :" ولدِي، انها باكر . . انه " غشاء مطاّطي"(2) .
وفيما عزف افراد الجوق الموسيقي عاليا وبكل حماس، وهدأ (حماة الشرف) بينما ابدى احدهم ـ الذي كان الأكثر حماساً للقتل ـ انزعاجاً . . طغى نحيب الأب الجالس على الرصيف ، وشهيقه الذي كان يهزّ الشارع هزاًّ، اكثر مما هزّها الجوق الموسيقي في ذلك المساء البارد من كانون . .
كان يبكي ظلم المجتمع الذيّ شلّه وشلّ رجولته وكرامته حين لم يستطع الدفاع عن كيان وحياة ابنته، فلذة كبده التي كانت مهددة في الصميم، بعد ان لم يستطع حلّ المشكلة مع العريس الذي لم يثبت رجولة حقيقية في الدفاع عن كرامة عروسه، وهّزأها واحالها الى الدولة !
لقد جرى ذلك اواسط السبعينات، رغم سريان قانون الأحوال الشخصية الذي سنّته ثورة 14 تموز 1958، والذي تحاول بعض الأوساط الآن وبعد نصف قرن على سنّه، اغتياله بقرار 137 السئ الصيت وغيره، بدلاً من السعي لسنّ قوانين جديدة تدعم حقوق وحريّة المرأة وتضمن تطبيقها وسريان مفعولها، دعماً للأسرة وللسير بثقة نحو دولة المؤسسات الديمقراطية .
ورغم الأحترام لتقاليدنا الأجتماعية الأصيلة التي حمت الأسرة والمرأة والرجل من الضياع، الاّ انه من الصعوبة على الجميع، ان تتجمد وتُحدد في قضية واحدة، التي ان اسئ التصرف بها او حدث خطأ ما، والذي ستتحمّله المرأة ذاتها لاغيرها ان كان خطأ، فانه لمن الأخطاء الوحشيه والقاتلة ان يكون سبباً للقتل الذي انهى حتى الكتاب العزيز عنه في الآية الكريمة " واذا الموؤدة سألت بأي ذنب قتلت " الذي يفهم منها اضافة لمعناها المباشر، انها تنهي عن قتلٍ لذات الذنب (الذنب المساوي) الذي يرتكبه الرجل مراراً بلا قيد، بل بكل زهو ورجولة . . . اضافة الى تطوّر المفاهيم في ظلّ تعقّد الحياة وتطوّر الحضارة والمجتمعات والقوانين في العالم، من ناحية أخرى .
ومن جانب أخر، فان حدث فعل خاطئ في ذلك الموضوع وتسبب بضرر، ماديّ او معنوي لآخرين، فأنه يمكن ان يحلّ وفق قوانين ومؤسسات تضمن انصاف الحق ورفع الغبن واصلاح البشر، بعيداً عن الحل الدموي السوقي،المرفوض اصلاً في الشرائع الأنسانية.
لقد اضحى القتل غسلاً للعار، مهزلة مأساوية وجريمة لابد وانها تخفي غايات اخرى، بعد الحروب والحصار والفقر المدقع والعوز والدعارة والأزمة الأخلاقية التي تعصف بالبلد منذ سنين، نتجت عن همجية ولااخلاقية الدكتاتورية المنهارة وسياساتها الرعناء، ومن شجّعها . . وان من يعتقد ان اصلاح السلوك والأخلاق يتم بالأرهاب والعنف لهو خاطئ، انه لن يزيد المشاكل الاّ مشاكل اكبر في زيادة النفاق الأجتماعي سوءاً، اذا علم ان آلاف الممتهنات استعدن بكارتهن بالمال وبامكانات الجراحة، واخريات يواصلن طرقاً غير مشرّفة تحت ستار من شرف مدفوع الثمن، لأنه مفروض بشكل بدائي .
ان الحلول، كما يرى العدد الأكبر من العلماء والباحثين، لاتكمن في قصيدة وشعار، واجتماعات واماسي تثقيف، وآيات من الكتاب الكريم واحاديث أب ونصائح أم في السلوك لتقي ابنتها مخاطر مامرت هي به من شرور ، ولادراسة اكاديمية في كلية ومعهد، فقط . . بل هي كلّها وغيرها . . انها قضية المجتمع بأسره وقضية النهوض به، و ليس النهوض بالمرأة فقط، بل النهوض بها وبالرجل وبالمجتمع بكل مرافقه، وبمؤسسات الدولة ووسائلها ، بانفسنا وقناعاتنا اولاً .
انها قضية النهوض واصلاح القوانين والتشريعات التي عليها ان تحدد الواجبات الأجتماعية ومفاهيمها بالحقوق ، وفق لوائح حقوق البشر المعمول بها في العالم، ووفق مجتمعنا وعاداتنا واخلاقنا الحميدة في احترام الناس، وعدم الأقتصار على قضية واحدة يسهل التلاعب والأدّعاء بها لتحديد الخلق السليم، من بين مئات القضايا والضوابط التي تحدد وتشير للأخلاق الرصينة وسبل التعامل الصادق بعيداً عن ضيق الأفق والتعصّب المنافق الكاذب الذي لن يصمد امام ارادة الحياة.
وبالنهوض واصلاح منظومة حماة القانون، بشرطة حديثة لاتشبه ابداً (شرطة الأخلاق) اللاأخلاقية، السيئة الصيت التي شكّلها خال الحزب والدولة آنذاك، السئ الذكر طلفاح حين تهزّأت الأخلاق ومفرداتها ومعانيها .
18 / 2 / 2004 ، مهند البراك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د.أحمد عزت القيسي، (بروفسور وطبيب متخصص من جامعة مونبليه الفرنسية، ومن جامعة ادنبرة البريطانية)، رئيس قسم الطب العدلي (الطب الشرعي) في جامعة بغداد. كان نائب رئيس جامعة بغداد عند تأسيسها ونقيب الأطباء، مطلع الستينات. طرد من الوظيفة واعتقل، اثر انقلاب شباط عام 1963 ، واعيد الى وظيفته نفسها في الطب العدلي، عام 1972 ، وانغمر باصلاح القسم الذي جرى تهديم اهم مرافقه اثر الأنقلاب المار الذكر .
(2) التسمية الطبية الشرعية الرسمية لهذه الحالة . راجع " البكارة ومشكلاتها" لنفس الأستاذ اعلاه، عام 1972 .