|
ثمرَة الشرّ : جَمرة المتعَة والألم
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2430 - 2008 / 10 / 10 - 09:33
المحور:
الادب والفن
قطرُ الغواية ، الأكثر عذوبة ، كان يسحّ من تلك الجهة القصيّة من الحَيّ ؛ أين تقوم إعدادية " السادسة " للبنات . ظمآنين ، مغلولين بسلاسل مراهقتنا ، كنا نسعى يومياً بهمّة حثيثة نحو ذلك المنبع المُعين ، الموسوم ، علنا نحظى بإلتفاتة من لحاظٍ ذاتَ حَوَر ، أو على الأقل بإلتماعة فخذيْن ، وضيئتيْن ، تنحسرُ عنهما تنورة شاردة لتلميذة . لباس الطالبات ، المُوحّد بأزرقه الزاهي ، والمثير بحقّ ، كان يوزنُ به حضورنا الملحاح ، شبه اليوميّ ، إلى هذه البقعة الأنيقة ، الواقعة على منحدر هيّن ، مشرف على البساتين النضرة ، والمزدهرة بالرغم من الشتاء المُبكر . هيَ ذي شلة شقيقتي ، من طالبات الصفّ التاسع ، وقد خرجنَ للتوّ من مبنى المدرسة تلك ـ كخروج حوريّات من فردوس مُقيم . بصري الحيي ، يمرّ خطفاً بالكوكبة الأنثويّة ، المونقة ، المتحلقة حول أختي هذه ، التي تكبرني بعام ونيّف . هذا المرور ، بدوره ، سيحظى في مساء اليوم نفسه بتعليق شقيقتي ، وأنّ كلّ من زميلاتها قد إدّعَتْ أنني خطيبها ! من جهتهم ، فزملائي أولئك المجتمعين حولي في صحبَة دائمة ، كانوا قد عقبوا على طيف الفتنة ذاك ، الذي جدّ حضوره في درب تسكعنا : " صديقات شقيقتك مثل الأقمار ؛ فيا لحظكَ الرائع ! " . ولكنّ صمتي ، غير المُكترث ، كان لا بدّ أن يثير حفيظة " سيفو " ، فعلق بنبرة محنقة مشيراً إليّ : " إنه يجهل بعد ، بكل تأكيد ، كيف يمكن تطبيق البنت " . فعل " يُطبّق " ، كان آنذاك أثيراً في الجمل ، المفيدة ، لمراهقة تلك الأيام . على أنّ دافعاً آخر ، لا صلة له بطبعي الخجول نوعاً ، هوَ من دأبَ على النأي بي عن مشاغل لدّاتي في تلك السنّ ، المُبكرة .
*** إشتغال والدنا بالسياسة ، كان لا بدّ له بطبيعة الحال أن يشغل أولاده أيضاً . سنوات فتوّته ، التي قضاها في الإعتقال والملاحقة والتشرّد ، أضحتْ بمثابة الأسطورة في عائلتنا . على ذلك ، ما كان غريباً إنتهاضي لمحاولة تكرار دور " المعلّم " ؛ ليسَ أقله مع لدّاتي القريبين . من ناحية اخرى ، كنتُ فخوراً للغاية بأبي قدّام أصدقائي هؤلاء ، وخصوصاً لكون العديد من رفاقه ، الحميمين ، على صيتٍ مرموق في الحيّ وخارجه على السواء ـ كالزعيم بكري قوطرش والعقيد محمد زلفو والقاضي محمد عثمان والمربّي راشد جلعو والمحامي خالد الكردي وغيرهم . أعوام طفولتي ، بدورها ، قدّر لها أن تشهدَ غالباً صحبتي للأبّ ، لدى ذهابه لمنازل بعض أولئك الناس ، المعروفين . أتذكرُ زياراتنا ، المتكررة ، لشقة الدكتور " عبد الرحمن شقير " ، الفارهة ، الكائنة وقتذاك في منطقة " المزرعة " ، وكيفيّة إحتفاء بناته بحضوري : كنّ أربع أو خمس فتيات ، على جانبٍ مُعتبّر من الأناقة واللطف والحلاوة ، يتحلقن حولي بمودّة وإشفاق في آن ؛ ما دمتُ متحفظاً متهيّباً ، بالكاد أمدّ يدي لتناول قطع التورتة أو البيتفور ، الممدودة إليّ . وأحياناً يعمدن إلى إلتقاط صور تذكارية معي ، رفقة شقيقهنّ الصخاب ، المدلل ؛ ولد الأسرة ، الوحيد ، الذي كانَ لنكد مقدوره متخلفاً عقلياً . " الدكتور شقير " ، كان طبيباً ذائع الإسم ، ووجهاً بارزاً في الحركة الشيوعية . وهوَ أصلاً من الأردن ، فرّ إلى الشام في مستهلّ الخمسينات من القرن المنصرم ، وبقيّ منفياً ثمة حتى بداية التسعينات ؛ لحين شموله بالعفو العام ، الذي أصدره الملك حسين . بالمقابل ، كانت نادرة تلك المرات ، التي رأيتني فيها برفقة والدي ، عند زيارة منزل رفيقه ، الدكتور الأردنيّ ، الآخر ، " نبيه رشيدات " ؛ وربما لتهيّبي من شخصيّته المخيفة ، ومسلكه المتسم بالحدّة والعصبية .
*** وعيي المُبكر ، الموصوف ، كنتُ متصفاً بالتخلق به بين الأصدقاء . في أيام مراهقتنا ، المُشرقة بشمس الرغبة ، كان من الطبيعي ألا تحظى السياسة بالإهتمام من لدن معظم أبناء جيلي . " جمّو " ؛ الأكثر عتياً في شلتنا ، كان بالمقابل أحد أولئك المهتمّين بما يتداوله الكبارُ من أخبار الثورة الكردية ، في العراق . والده ، الفران ، كان متأثلاً عاطفة ً قوية تجاه شخص قائد تلك الثورة . علاوة على ذلك ، كان الرجلُ مواظباً على زيارة بيت الوجيه " بديع ديركي " ، المجاور ، خلال تواجدنا فيه ؛ البيت ، الذي كان آنذاك بعهدة أبينا لحين قدوم صاحبه من هجرته ، الأوروبية . " أتعرف يا " أبا جينكو " ماذا جاء في نشرة المساء ، الإذاعية ، قيل حين ؟ " ، يُبادر جارُنا الوالدَ بالأخبار الطازجة وحالما يقتعد على الكنبة الوثيرة في حجرة الصالون . بيْدَ أنّ أولاد " كرّيْ عيشة " ، جيراننا ، كان لهم رأيٌ آخر بتلك الثورة وصاحبها . كانت جدّتهم لأبيهم عربيّة من برّ الشام ، وربما لهذا السبب قد تعرّب لسان الأسرة ، سريعاً . على أنّ ذلك الإشكال ، اللغويّ ، في واقع حالنا ، الدمشقيّ ، كان أمراً طبيعياً ولا ريب. إلا أنّ العاطفة القوميّة ، التي شدّتْ أصرَة أكثر أولاد الحيّ ، كانت غريبة عن جيراننا أولئك ، الموسومين . وأتذكرُ ردّة فعلنا ، " جمّو " وأنا ، العنيفة جداً ، حينما راحَ " أيسَر " يتهكّم بزعيمنا المحبوب : " إنه بورظاني !! " ، قالها إبن " كري عيشة " هذا ، مُحرّفاً إسم " البارزاني " إلى نعت " حسني البورظان " ؛ الشخصية الهزلية في ثنائي " دريد ونهاد " ، الفني ، الأكثر شعبيّة زمنئذٍ . إبن جيراننا ذاك ، ما عتمَ أن أسهمَ ، ودونما قصد منه ، في تناهي وعيي إلى مفازةٍ غريبة ، كنتُ بعد على جهل بماهيّتها .
*** ـ " كتابٌ رائع ! هل ثمة أشياء اخرى ، مشابهة ، لديكم في البيت ؟ " توجّه إليّ الخال الأصغر لأصدقائي ، من أولاد " كري عيشة " . كان شاباً فارع الطول للغاية ، بعينين زرقاوين نفاذتين ، حادتي البريق . كان آنئذٍ يستعدّ لتقديم شهادة البكالوريا ، الأدبية ، فبدا لي طيّباً إهتمامه بذلك المنشور ، الحائل اللون ، الذي كنتُ قد سللته ذات يوم خفية ً من متاع البيت ، ومن ثمّ رحتُ أتباهى بعرضه على مرأى من أولاد أخته : إنه كتيّبٌ صغير ، منذورٌ مضمونه لتحيّة ثورة أيلول لعام 1960 ؛ بحسب ما أستعيده من صفحة الإهداء ، المرقشة بصورة قديمة لقائدها ، " الجنرال العظيم " . كنا وقتئذٍ وبعد مضي عقد من الأعوام على بدء تلك الثورة ، قد سُعدنا بإمكان تحقيق إتفاق سلام مع حكومة بغداد . هذا الحدث أدى ، ولأول مرة مذ عهد بعيد ، إلى أن تغمر أكشاك الصحف في مدينتنا ( عرين العروبة ) بعشرات الصحف والمجلات العربية ، وخصوصاً المصرية واللبنانية ، ممن أسهبَ مراسلوها في نقل تفاصيل الإتفاق ، التاريخيّ ، مشفوعة بصور مثيرة لتلك البلاد الجبلية . على أنّ حماسي لقريب جيراننا من أولاد " كري عيشة " ، ما أسرع أن تبخر وحلّ الإحباط بمحلّه . " يا لك من غبي ! هذا الشخص بعثيّ معروف ؛ ولا يُستبعد أن يكون مخبراً أيضاً " ، خاطبتني شقيقتي الكبيرة محنقة ثائرة . بكر أسرتنا هذه ، كانت آنذاك نشطة في تنظيم كرديّ ، يساريّ ؛ وهوَ التنظيم ، الذي تعهّد قيادته في دمشق واحد من أقاربنا : إنه النجلُ الأوسط لإبنة كبرى عمّتي ، ومن كان يمحضني إهتماماً خاصّاً ؛ نظراً لإعجابه بوعيي ومثابرتي على تثقيف نفسي . بدوره ، كان قريبنا بعتبر نفسه تلميذاً لأبينا وما كان محضُ إتفاق ، ربما ، أن تطلق عليه والدته إسم خالها ذاك ؛ " جميل " .
*** ـ " إياكم المبادرة بهكذا عمل أخرق ، جنونيّ ! " قالها قريبي محذراً ، فيما يتملى بنا بعينيه البنيتين ، الضيقتين . " جميل " ، إذاً ، كان له الفضل بتعرفي على فتى رائع ؛ هوَ " كيمو " ، المتحمّس بشدة لأفكارنا . إبن " شمّو " هذا ، كان يكبرني بأعوام ثلاثة ومعروفاً لديّ من قبل بوسامته وأناقته ولباقته ، علاوة على كونه من أحسن لاعبي كرة القدم في الحارَة والمدرسة ، على السواء . وعن طريقه ، ولا شكّ ، توثقت صلتي بزملاء آخرين في الإعدادية ، ممن تميّزوا أيضاً بالوعي إلى هذه الدرجة أو تلك . مناسبة التحذير ذاك ، أنّ جماعتنا هبّتْ بغضب وسخط ، متأثرة لخبر أكثرَ جدّة ، هيمنَ على نقاشاتنا خلال النهار ذاته ، الدراسيّ : في اليوم الفائت ، فإنّ شقيقتي التي تكبرني مباشرة ، والطالبة في إعدادية " السادسة " ، كانت قد عادت إلى المنزل ظهراً مقهورة حزينة بعينين مستعبرتين . صديقتها الحميمة ، " سوسن " ، كانت يومئذٍ على موعدٍ مع قرار فصلها من الدراسة ، نهائياً . هذا القرار المُجحف ، المُبَتّ فيه رسمياً للحال ، كان بمقتضى مناقشةٍ حادّة ، سبق أن خاضتها تلميذة الصف التاسع مع " الآنسة رسلان " مديرة المدرسة ؛ الموصوفة بصلافتها وقسوتها . المديرة البعثية هذه ، كانت محتفية عندئذٍ بصحبة أحد رفاقها ، المسؤولين ، المتكرّم على البنات بمحاضرة عن نضالات الحزب القائد في سبيل العروبة ، حينما نهضتْ " سوسن " على حين غرة لتسأله عن القضية الكردية في سورية . ـ " إخرسي وإلزمي مكانكِ فوراً ! لا وجود أصلاً لشيء إسمه " أكراد " في هذا البلد ، العربيّ " ، صرختْ المديرة بأعلى صوتها مرعدة مزبدة . ولكنّ طالبتنا ، الجريئة ، لم تأبه لشيء وهيَ ماضية بحديث ، متدفق ، متحدّية الاخرى بالقول أخيراً : " ويجب ألا تنسي ، بدوركِ ، أنك تعيشين في هذا الحيّ ، الكرديّ ! " . من جهتي ، كنتُ أعرف شقيق هذه الفتاة ، بما أن والدهما هو ذاك القاضي ، الموسوم آنفاً ؛ صديق أبي ، القديم . لا غروَ ، والحالة هكذا ، أن أبادر بنفسي ، في ذلك مساء اليوم نفسه ، إلى تفقد أفراد جماعتنا ببيوتهم لكي أنقل لهم الخبر ؛ هؤلاء ، الذين إتفقوا معي من ثمّ على إسداء ردّ قاس ، مناسب ، للمديرة المغرورة تلك : محاولة جمعَ ما أمكن من تلامذة مدرستنا ، الإعدادية ، للإغارة بالحجارة على مبنى " السادسة " ؛ على مدرسة البنات ، التي دأبتْ آنئذٍ على كونها المنبع المقيل ، المبتردة جمرة ُ مراهقتنا بمياهه المُنهملة ، العذبة !
للسيرة بقية ..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جادّة الدِعَة والدّم 4
-
جادّة الدِعَة والدّم 3
-
مَراكش ؛ واحَة المسرّة
-
جادّة الدِعَة والدّم 2
-
مَراكش ؛ ساحَة الحُبّ
-
نزار قباني ؛ نموذج لزيف الدراما الرمضانية
-
لن تطأ روكسانا
-
مَراكش ؛ مَلكوت المُنشدين والمُتسكعين
-
فلتسلُ أبَداً أوغاريتَ
-
ثمرَة الشرّ : جادّة الدِعَة والدّم
-
برجُ الحلول وتواريخُ اخرى : الخاتمة
-
العَذراء والبرج 4
-
العَذراء والبرج 3
-
العَذراء والبرج 2
-
العَذراء والبرج *
-
الطلسَم السابع 6
-
محمود درويش ، الآخر
-
الطلسَم السابع 5
-
الطلسَم السابع 4
-
زمن السّراب ، للشاعر الكردي هندرين
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|