حسين بن حمزة
الحوار المتمدن-العدد: 145 - 2002 / 5 / 29 - 20:19
المحور:
الادب والفن
اختار نجم والي أضعف نقطة أثرتها في مقالي عن ضغائن المنفى العراقي (<<السفير>> 8 أيار 2002) وهي ظني في ان يكون المقصود ب<<معالي>>، وهو اسم احدى شخصيات روايته <<تل اللحم>>، الشاعر خالد المعالي، وهي الاشارة التي خطر لي أكثر من مرة ان أحذفها من المقال لأني شعرت بأنها تخضع لتأويل بعيد وغير قابل للضبط. اما لماذا اختار والي هذه النقطة فلأنها، ربما، الوحيدة التي استطاع ان يبني عليها رده على ما كتبت (<<السفير>> 18 أيار 2002) ويتهمني بالتأويل الخاطئ وبعدم قراءة روايته ايضا.
يسوق والي في رده معلومات وأمثلة كثيرة عن معاناة الكتّاب أمام تطابق أحداث وشخصيات في رواياتهم مع أحداث وشخصيات حقيقية في الحياة. وأنا في الحقيقة لم أثِر هذا الموضوع بل كان ما ذكرته واضحا لجهة تطابق أجزاء كاملة من السرد في روايته <<تل اللحم>> مع سيرة اشخاص حقيقيين فعلا، بمعنى ان هذا التطابق لم يكن صدفة واكتُشف في ما بعد. لا، لقد كانت هناك نية واضحة ومسبقة في جعل هذا التطابق قائما. كما ان والي لم يلجأ الى اي طريقة لحجب هذا التطابق او خلخلة بعض جوانبه. ولنعد الى المقال والى الرواية ولنقارن مجددا: شخص يرد ذكره في الرواية على انه مخرج مسرحي عراقي وانه عاش فترة في دمشق وان زوجته تعيش في الاردن وان اسمه جواد الأزدي. من يكون هذا المخرج في رأيك يا نجم؟ هل هو عوني كرومي أم قاسم محمد أم جواد الأسدي؟ أنت من ذكر كل هذه المعلومات التي تنطبق على جواد الاسدي ثم تتهم القارئ بالتأويل وتقول <<ان القارئ هو الذي سيحكم في ما اذا كان الامر يتعلق بإنسان حي بعينه يعرفه هو او يتعلق الامر برمز يحمله على التفكير أبعد من ذلك>>. لماذا تتوقع ان يقوم القارئ بتأويل خاطئ اذا كنت أنت لم تعطه فرصة للتفكير والتأويل بعد ان كشفت له حقيقة الشخص. هل كان يمكن لو انك، كما اقترحت في ردك، كتبت في مقدمة الرواية ما معناه <<ان جميع الاحداث والشخصيات الواردة في هذه الرواية هي من صنع الخيال وان اي تشابه بينها وبين احداث وشخصيات من الواقع هو محض صدفة ومن الغرائب>>، هل كان ذلك سيعفيك من هذا التأويل (الذي لا يحتاج الى تأويل).
نعم يا صديقي نجم. لقد كان بإمكانك ان تهرب من تحديد الاسم بهذه الدقة (بتغيير حرف السين الى زاي فقط) وان تبدل بعض الوقائع الحياتية لجواد الاسدي، ولكنك، لغاية في نفسك، لم تفعل ذلك. والارجح انك كنت تريد ان تصل هذه الشتيمة اليه، وأين، في رواية!! وهذا ما استكثرته واستنكرته على الادب والكتابة، ثم ما هو، بربك، مبرر ان يُمضي الراوي بعض الوقت مع عاهرة فتحدثه عن الاخراج والمسرح وبل وتحدثه عن مخرج معين وتشتمه!؟
لقد قلت في مقالي إننا تعودنا على الضغائن التي تحدث بين الكتّاب والشعراء، وخصوصا العراقيين، لتوزعهم على بلاد ومناف عديدة، وأنت تعرف امراض المنفى وتحفظ بالتأكيد، كما أحفظ أنا والآخرون، قصصا كثيرة تشبه قصتك مع جواد الاسدي (او الأزدي كما تحب ان تسميه!). ثم انني برّرت في مقالي هذه المشاعر التي تسود في عالم المثقفين، وأعرف ما يحدث على الموائد والمقاهي وكيف ان الجميع متفقون، من دون عَقد مكتوب، على عدم نقل نمائم وضغائن الحياة كما هي الى الكتابة.
التأويل والرواية
ثم دعني أذكّرْك، وأذكّر القارئ، بأن هناك مثالا آخر في مقالي لم تأت على ذكره في ردك. لماذا؟ أرجّح ان التأويل كان صحيحا وانك ارتكبته عن عمد ولهذا سكتَّ طبقا لما ذكرت انت على لسان كلود سيمنون انه <<يمكن للكاتب ان يسكت>> او لا يرد اذا كان التأويل يتطابق مئة بالمئة مع مؤوله. ففي تلك الحالة، ربما يصلح ان يكون العزاء الوحيد لوم الكاتب نفسَه على ارتكابه <<جنحة>> مثل هذه (دعني هنا أُشِر الى انك لا بد تخلط بين كلود سيمون وجورج سيمنون والفرق كبير). والآن لنعد مرة اخرى الى المقارنة (والتأويل): شخصية ترد في روايتك باسم عبد الرزاق شيخ مخفر وهو شاعر أرسله الحزب الشيوعي العراقي في منحة دراسية الى الاتحاد السوفياتي وعاد الى العراق وله ديوان بعنوان <<أحذية السيدة السومرية>>. فإذا تجاوزنا مسألة اتهامك له (وربما يكون هذا صحيحا) بتغيير انتمائه السياسي بعد ان استغل الحزب ودرس على حسابه كما تقول انت تقريبا في الرواية، اذا تجاوزنا ذلك، فمن يكون برأيك هذا الشاعر؟ هل هو سركون بولص أم فوزي كريم ام حسب الشيخ جعفر؟ هل تركت لأحد فرصة ان يخطئ في حقيقة الشاعر المقصود بعد ان ذكرت تلك المعلومات التي يعرف القارئ اكثر منها عن حسب الشيخ جعفر. انت يا صديقي تكتب بطريقة تقول فيها للعالم أجمع ان هذا <<الشيخ مخفر>> هو حسب الشيخ جعفر، فلماذا تريد الآن ان تتجنب ذكره في ردك وتتمسك بشخصية <<معالي>> فقط. ماذا لو حذفتُها فعلا كما فكرتُ قبل نشر المقال. على ماذا كنت سترد حينئذ، ماذا كان سيبقى لك لتشرحه عن الخطأ في التأويل وخلط الحابل بالنابل.
عزيزي نجم:
أنا لا أعرفك، وليست لي اي مآرب في ما أخذتُه على روايتك. كل ما في الامر انني استنكرت، وما أزال، ان يصل استثمار حيوات الآخرين، وهو امر مشروع تماما في أية كتابة، الى شتمهم في شرفهم وأخلاقهم. ولا بد من انك تعرف ان هناك اشارات اخرى تثبت (من دون لجوء الى تأويل) ان من ذكرتهم في روايتك هم اشخاص حقيقيون اردت ان تقول رأيك فيهم بصراحة وتحقّرهم، ولكن في رواية للأسف!
لم أمثّل دور البريء
كتبتُ ما سبق قبل ان اقرأ رد الزميل كريم عبد (<<السفير>> 22 أيار) الذي يحاول فيه ان يأخذ الموضوع الى مناطق اخرى ويوسع حدود النقاش. وأنا أشاطره الرأي في معظم ما يقوله وخصوصا في ان انجازات المنفى العراقي أهم من سلبياته، بل انني أزيد عليه، فسلبيات هذا المنفى لا تُذكر أمام هذه الانجازات. كما ان مقالتي لم تُكتب بغاية تضخيم هذه السلبيات او تركيز الضوء عليها فقط، هذه السلبيات تنمو في كل مناخ ثقافي كما نعرف جميعا. ولذلك لا يمكن ان أبرّئ نفسي او المكان الذي أعيش فيه من تبعات السلوك الثقافي الذي يتضمن شأنه شأن أصحاب أية مهنة قدْرا متفاوتا من الضغائن والاحقاد والمحسوبيات. كما انه لم يكن في نيتي ابدا ان أقوم بدور الناصح للآخرين. ولو لم يتجاوز نجم والي في روايته حدود النميمة العادية لما أثرْتُ هذا الموضوع أصلا. ولهذا لا يمكن ان يخطر في بالي ان أجعل مما فعله والي مادة لتجريح مشاعر المثقفين العراقيين لأنني أظن ان هؤلاء المثقفين وانت واحد منهم متفقون معي في رفض وإدانة هذا السلوك الذي لا يتنافى مع الاخلاق فقط، بل يتنافى مع منطق الكتابة ومخيَّلتها ايضا.
ولكن هذا السلوك برغم كل الصفات المشينة التي يمكننا وصفه بها، لا يمكن ان يكون مجانيا، ولا يمكن لإدانتنا ورفضنا له ان يخفي الحياة السرية لهذا السلوك ولأشكال اخرى منه، اقصد ان النظر الى سلوك والي على انه سلوك مضطرب لا يُعفينا من البحث عن الدافع الذي يربض وراءه. ولذلك، فإن اختياره لجواد الاسدي بالذات لا بد من ان يدفعنا لاكتشاف القطبة المخفية في كل هذا.
أما المثال الذي أوردته عن تنافر دستويفسكي مع تورغنيف وقوله له مستفزا: <<أينما يذهب المرء في روسيا يجدْك أمامه>>، فيبدو مثل فرحة خفيفة مقارنة بما فعله نجم والي في روايته. ولو ان دستويفسكي فعل ما فعله والي لدعاه تورغنيف الى المبارزة حسب تقاليد تلك الأيام!!