|
مرثية لمحمود؟
سليمان جبران
الحوار المتمدن-العدد: 2425 - 2008 / 10 / 5 - 07:46
المحور:
الادب والفن
رحل محمود درويش. وطفحت الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية بالمقالات والمراثي، شعرا ونثرا وبين بين. لم يعد فيها موطئ لقلم. أنا أيضا أردت أن أكتب شيئا، أي شيء، ليقرأ مقالتي جيراني، وأباهي بها معارفي. لكن القلم التفّ على القلم، فخشيت على نفسي الضياع في هذا الحشر. ستقولون إني لم أكن حبيب محمود ولا صديقه، فهل كان أحبابه وأصدقاؤه عدّ الرمال فعلا، كما تبين بعد رحيله؟ لماذا كتبوا جميعهم، ولا أكتب أنا أيضا، فيقرأ الناس بلاغتي، ويرددون اسمي رديفا لاسم الفقيد؟ وهل في الناس، بعد رحيل محمود، من يعرف إذا كنت للفقيد محبا أو مبغضا؟ لا تخافوا، لم أقصد سوى التهديد والتهويل. فصاحتي خانتني، والقلم ارتجف بين أصابعي. لم يبق أمامي إلا الالتجاء إلى نتاج محمود. لست أبلغَ منه قولا، ولا أحدّ قلما، ولا أبعد رؤية، فلماذا لا أستعير منه، شأني شأن الكثيرين؟ وهكذا كان. فإليكم ما كتبته باسم الفقيد، أوما كتبه الفقيد باسمي ، مشكورا مرحوما:
يحبّونني ميّتًا ليقولوا: لقدْ كانَ منّا، وكانَ لَنا. سمعْتُ الخُطى ذاتَها. مُنْذُ عشرينَ عامًا تَدُقُّ على حائطِ اللّيلِ. تأْتي ولا تفتَحِ البابَ. لكنّها تدخُلُ الآنَ. يَخرُجُ منْها الثلاثَةُ: شاعِرٌ، قاتِلٌ، قارئٌ [...] قُلْتُ: سَأسأَلُكُمْ أنْ تَكونوا بطيئينَ، أنْ تَقْتُلوني رُوَيْدَا رُُوَيْدَا لأكْتُبَ شِعرًا أخيرًا لِزَوْجَةِ قلْبي. وَلكنّهمْ يضْحَكونَ وَلا يَسْرقونَ منَ البَيْتِ غَيرَ الكَلامِ الذي سّأقولُ لِزوْجةِ قَلبي.. ( ديوان محمود درويش،المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، 1994، ص341 ).
رَأيتٌ الوداعَ الأخيرَ: سَأودعُ قافيةً منْ خشَبْ سأُرفَعُ فوقَ أكُفِّ الرجالِ، سأُرفَعُ فوْقَ عُيونِ النّساءْ سأُرزمُ في علَمٍ، ثُمّ يُحفظُ صوتيَ في عُلَبِ الأشْرِطهْ ستُغفرُ كلُّ خطايايَ في ساعةٍ، ثُمّ يشْتمُني الشعَراءْ. سيذكرُ أكثرُ منْ قارئٍ أنّني كُنتُ أسْهرُ في بيْتِهِ كلَّ ليْلهْ ستأتي فتاةٌ وتزعمُ أني تَزوّجْتُها منذُ عشرينَ عامًا.. وأكثَرْ ستُروى أساطيرُ عنّي، وعنْ صدَفٍ كنْتُ أجمعُهُ مِنْ بِحارٍ بَعيدهْ ستبحَثُ عاشِقتي عنْ عَشيقٍ جديدٍ تُخبّئُهُ في ثِيابِ الحِدادْ. ساُبصرُ خطَّ الجنازةِ، والمارَّةَ المُتْعَبينَ مِنَ الإنْتِظارْ. ( المصدر السابق، ص 350).
لُصوصُ المدافِنِ لمْ يترُكوا لِلْمُؤرّخِ شيئًا يَدُلُّ عليَّ. يقولونَ ما لا أفكّرُ. ينْسَوْنَ ما أتذكّرُ. يُعطونَ صمتي ذرائعَهمْ. فاسْتريحوا قليلا، لصوصَ المدافنِ، في الوقتِ متَّسعٌ لِلضحِيَّّهْ [...] ألا تسْتطيعونَ أنْ ترْتَدوا غيْرَ قبْري القديمِ/الجديد..هُوِيَّهْ ألا تستطيعونَ أنْ تَجدوا فارِقَا واحِدًا بَيْنَ ظِلّي المُذهَّبِ والنرجِسهْ؟ ( المصدر السابق، ص 353).
أريدُ جنازةً حسنةَ التنظيم، يضعون فيها الجثمانَ السليم، لا المشوّه، في تابوت خشبيّ ملفوف بعلَم واضح الألوان الأربعة، ولو كانت مقتبسة من بين شعر لا تدلّ ألفاظه على معانيه، محمول على أكتاف أصدقائي، وأصدقائي- الأعداء[...] أريد جنازة هادئة، واضحة، وكبيرة ليكون الوداع جميلا وعكس اللقاء. فما أجمل حظّ الموتى الجدد، في اليوم الأول من الوداع، حين يتبارى المودّعون في مدائحهم. فُرْسان ليوم واحد، محبوبون ليوم واحد، أبرياء ليوم واحد.. لا نميمة ولا شتيمة ولا حسد. حسنا، وأنا بلا زوجة وبلا ولد. فذلك يوفّر على بعض الأصدقاء جهدَ التمثيل الطويل لدور حزين لا ينتهي إلا بحنوّ الأرملة على المعزّي. ذلك يوفر على الولد مذلة الوقوف على أبواب المؤسسات ذات البيروقراطية البدوية. حسن أني وحيد..وحيد..وحيد، لذلك ستكون جنازتي مجّانية وبلا حساب مجاملة، ينصرف بعدها المشيّعون إلى شؤونهم اليومية. أريد جنازة وتابوتا أنيق الصنع أطلّ منه، كما يريد توفيق الحكيم أن يطلّ على المشيّعين.. أسترق النظر إلى طريقهم في الوقوف وفي المشي وفي التأفّف وفي تحويل اللعاب إلى دموع. وأستمع إلى التعليقات الساخرة: كان يحبّ النساء، وكان يبذخ في اختيار الثياب. وكان سجّاد بيته يصل إلى الركبتين[...] مات الشاعر ومات شعره معه. ماذا يبقى منه؟ لقد انتهت مرحلته، وانتهينا من خرافته. أخذَ شعرَه معه ورحل. كان طويل الأنف واللسان. وسأستمع لما هو أقسى عندما تتحرّر المخيّلة من كل شيء. سأبتسم في التابوت، سأبذل جهدا لأن أقول: كفى، سأحاول العودة فلا أستطيع. ( ذاكرة للنسيان، ص23-24). الدكتور سليمان جبران ( بروفسور )- ناقد ، كان استاذا للأدب العربي في جامعة تل أبيب ورئيسا لقسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة بين 1998 - 2002 ، أصدر مجموعة من كتب الأبحاث والدراسات الأدبية والنقد التي نشرت في العالم العربي أيضا .
#سليمان_جبران (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجمع الأضداد / دراسة في سيرة الجواهري وشعره
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|