|
أسمهان ونابليون الحكيم
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 2419 - 2008 / 9 / 29 - 07:58
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ما يزال كثيرٌ من المسؤولين العرب يفعلون مثلما فعل أبو جعفر المنصور خليفة السفّاح ، عندما قتل اثنين من مؤسسي دولته ، دولة بني العباس ، وكانا أخلص المخلصين له ، وهما أبو مسلم الخراساني ، وعبد الله بن علي ، فألب الأول ليقتل الثاني ، ثم امتشق سيفه وقتل القاتل ، ولمّا عاتبه أحدُ أنجاله عيسى بن موسى وقال له: إنهما كانا أشدّ إخلاصا لدولتنا ردّّ عليه أبو جعفر المنصور قائلا : كان الاثنان من أعدى الأعداء عليكم ، وكيف سيصفو لكم الحكمُ في حياتهما ؟ جرتْ العادةُ عند كثير من الحكام العرب ، أنهم لا يشعرون بلذة الحكم والسلطة ، إلا بعد أن يقوموا بمحو آثار السابقين على حكمهم ، وهذا أمرٌ خطير ، لأنهم حين يُغيِّبون سابقيهم ، فهو يُغيِّبون التاريخ أيضا ، بل هم يدمرون هذا التاريخ ويحجبونه على الأجيال العربية الآتية ، التي تُولد وتُربى وتحيا بلا ذاكرة. وقد كتبتُ كثيرا من المقالات عن خطورة طمس التاريخ العربي ، وعن انصراف كثيرٌ من العرب عن الاهتمام بالأرشيف التاريخي القديم للحكام والمسؤولين ، على الرغم من أن تراثنا العربي يزخر بكثيرٍ من العظماء ممن قصروا حياتهم كلها ، على الأرشفة والتوثيق . وأشرتُ إلى أن معظم الدول التي تقدمت ، وخطتْ بسرعة نحو الحضارة، وسارت في درب التقدم التكنولوجي ، كانت تحترم أرشيفها وتاريخها وتراثها وآثارها ، بل كانت تلك الدول إلى جانب ذلك تحفظ أرشيفات الدول المصابة بمرض ذبابة النسيان . ظلَّ الباحثون العرب الجادون ، حينما يريدون معلومةً عن أوطانهم أو مخطوطا نادرا مفقودا ، أو أثرا من الآثار، يحُجون إلى تلك الدول، ويُفاجَؤون بأن معظم الأرشيفات العربية النادرة والمخطوطات الثمينة، تنام وادعة آمنة في أحضان تلك الدول التي تُقدِّر تلك الأرشيفات والمخطوطات . وإكمالا للصورة العربية القاتمة السابقة فإنني أنقلُ ما أوردته بعض الكتب عن حرق المكتبات والأرشيفات ، ويعرف القارئون ماذا حلّ بالكتب العربية على يد المغول ، وعن إحراق مكتبة الإسكندرية ، غير أن قليلين يعرفون بأن بعض السلاطين أحرقوا مكتبات كاملة ، فقد أحرق السلطان محمود الغزنوي مكتبة الصاحب بن عباد كما جاء في معجم الأدباء لياقوت الحموي . وأحرق المرابطون كتب الغزالي، وأكمل ابن تومرت في القرن الحادي عشر جريمة الإحراق ، فكان يؤتى بأحمال الكتب ، ثم تُشعل فيها النار . وأحرق المعتضد بن عباد أيضا كتب ابن حزم الأندلسي ، وهو من أهم المؤرخين،صاحب كتاب المِلل والنِّحل ، وقال ابن حزم متألما في لوعة وحزن بعد أن أُحرقتْ كتُبُهُ : فإن تحرقوا القرطاس، لم تحرقوا الذي تضمَّنه القرطاسُ، بل هو في صدري يسيرُ معي حيثُ استقلَّتْ ركائبي وينزلُ إن أنزل ، ويدفنُ في قبري وإذا أضفنا إلى تلك الجرائم في حق ذاكرتنا العربية وأرشيفاتنا ، جريمةً أخرى ارتكبها المستعمرون ، فقد كانوا ينهبون ما تطاله أيديهم ، وكانوا يحرقون أيضا المكتبات ، فقد أحرق الفرنسيون المستعمرون معظم الكتب في مدينة قسنطينة ، وأحرقتْ المنظمة السرية الفرنسية كتب جامعة الجزائر والتي تُقدر بأكثر من نصف مليون كتاب . " من كتاب المكتبات في الإسلام لمحمد ماهر حمادة مؤسسة الرسالة بيروت 1998م " وما فعلته إسرائيل في حق الأرشيف والثقافة ، جريمةٌ بشعة ، أشرتُ إليها في مقالات سابقة . وعلى الرغم مما حدث ، إلا أن التراث العربي ظل زاخرا بالمؤرخين والمصنفين المبدعين من أمثال البلاذري والواقدي واليعقوبي والطبري وابن النديم والمسعودي وابن خلدون وابن الخطيب وابن خلكان ، ومحمد بن حسن الشيباني وصولا إلى الجبرتي وحمد الجاسر وغيرهم عشرات وعشرات ، غير أن مؤلفات هؤلاء المبدعين ظلّت محدودة الانتشار ، بعيدة عن مناهج التعليم ، كما أن كثيرا من سدنة التعليم ظلوا ينصحون طلابهم بتجنب هذه الكتب لأنها تسرد قصصا ، تُضعف من هالات القداسة على بعض الولاة والحكام . وما أزال أذكر كيف قامتْ القيامة ولم تقعد عندما أوصيتُ طلابي منذ ثلاثة عقود خلتْ بأن يقتنوا كتاب تاريخ الطبري في إحدى المدارس العربية ، فكتبوا عدة تقارير كيدية تبين بأنني أشجع الطلاب على التمرد والانتقاص من العقيدة الدينية الصحيحة . وبالمناسبة فإن المتزمتين ما يزالون يعتبرون الطبري إماما وحجة في الدين ، لأنه ألف كتاب تفسير القرآن ، وهو عمدة التفاسير ، ولكنهم في الوقت نفسه يُنكرونه في كتاب تاريخ الأمم والممالك ، أو كتاب تاريخ الطبري ، على الرغم من أن الكتاب هو بمثابة استقصاء لأرشيف الحكام والولاة والأمراء ،والذين نعتوه بالإمام ، هم أنفسهم نسبوا له كل الموبقات ، واعتبروا الاقتباس منه مروقا . وبقيتْ كتب اليوميات والرحلات بعيدة عن متناول أيدي القارئين العرب ، فرحلة ابن فضلان مثلا خرجت حديثا إلى العربية ، بعد أن اعتنى بها المؤرخون الأجانب ، وكذلك يوميات الأميرات والأمراء ، من أمثال يوميات الأميرة سالمة بنت سعيد ابنة سلطان زنجبار ، التي تزوجتْ شابا ألمانيا مسيحيا ، وعُقد قِرانها في إحدى الكنائس في عدن ، هذه السيرة سُمح بنشرها بعد أن ترجمت من الألمانية إلى العربية في ثمانينيات القرن الماضي . وما يزال معظم تاريخنا العربي الحديث في يد الآخرين ، فقصة الثورة العربية الكبرى بظلالها وأبطالها ، ظلت بدون أرشيفاتٍ موثقة ، وظلت مصادرنا عنها تؤخذ من يوميات الجنرال لورنس. وظلت قصص الانقلابات الكثيرة في الأقطار العربية في منتصف القرن الماضي لغزا من الألغاز، وظلت طريقة قتل كثير من المسؤولين وتصفيتهم لغزا محيرا أيضا حتى وقتنا الراهن. وحتى على مستوى الفنانين والفنانات ، فما أزال أتذكر سؤالا ظلّ يُطاردني في شبابي ، وحتى اليوم ، يذكره جميعُ من كانوا شبابا في ستينيات القرن الماضي ، والسؤال له بالطبع علاقة بالأرشيف ، وإن كان يخصُّ مطربة ماتت منذ أربعينيات القرن الماضي ، والسؤال هو: من قتلَ المطربة أسمهان ؟ فهل كانت المخابرات البريطانية هي منفذة الجريمة ، أم شقيقها فؤاد الأطرش ، أم منافستها المطربة أم كلثوم ، أم الأميرة نازلي التي كانت تغار منها ، أم زوجها أحمد سالم ، أم سائقها ، أم أن موتها كان حادثا من حوادث المرور الشائعة ؟ أسئلة ستظلّ بدون إجابات قاطعة لغياب الأرشيف ، أو لتغييب الأرشيف المتعمد المقصود وإعدامه مع سبق النية والترصُّد . وأخيرا قال نابليون (الحكيم) : جردوا الأمم من تاريخها ، يسهلَ ابتلاعُهَا .
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مزايا وأفضال الهاتف الجوّال
-
هل يُسجن أولمرت كما سُجن أرييه درعي ؟
-
أنواع أقلام الكُتَّاب
-
الرقابة الذاتية عند الصحفيين الفلسطينيين
-
ماذا بقي من اليسار الفلسطيني؟
-
موسم القحط الثقافي
-
بذرة خضراء.. آخر أُمنيات محمود درويش
-
الفضائيات والتلوُّث العقلي
-
هل تبخَّر اليسارُ الإسرائيلي ؟
-
نصائح للراغبين في ركوب قطار العولمة !
-
هل المثقفون هم فقط الأدباء؟
-
أوقفوا (جموح) الصحافة الإلكترونية !
-
الآثارالعربية ... ومحاولة هدم الأهرامات !
-
كتب مدرسية ( مُقرَّرة) في الجامعات !
-
عوالق شبكة الإنترنت !
-
من يوميات صحفي في غزة !
-
الإعلام وصناعة الأزمات !
-
محمود درويش يبحث عن ظله في الذكرى الستين للنكبة !
-
مجامع اللغة العربية ليست أحزابا سياسية !
-
لا تَبكِ.. وأنتَ في غزة !
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|