مثلما تتساقط الأوراق من الشجر والتويجات من الزّهـر تتساقط خلايا الجسم كل ثانية فتلقـفها الخلايا المجاورة كلقمة سائغـة! هذا الموت المـُبرمج للخلايا، أو ما يـُعرف بالتساقط، يقع تحت ظروف فيزيولوجية عدة أو حالات مرَضيّـة متنوعة كعمليـة مُنظـَّمة ومُنظـِّمة في الوقت ذاته. وقد وصفها أولَّ مرة ويلي وزملاؤه سنة 1972. ولكنَّ ثمة نوعاً آخرَ لموت الخلية، وهو ما يُعرف بالتنكرز necrosis ( الموت الموضعي )، وهو ظاهرة تختلف تماماً عن التساقط، إذ هي عملية سلبية في طبيعتها وبسيطة في جوهرها تحدث نتيجة مرض معيَّن. أما التساقط فهو عملية ناشطة مستمرة تشارك فيها الخلية في نقل ملكيتها أو إرثها إلى الخلايا الأخَر. ففي التساقط تكون الخلية " إنتحارية " وتـُزال بصمت وهدوء بواسطة الكائن الحي ذاته. ففي هذه الحال تقتل الخلية ذاتَها لتتجنب تضاعفَ الدنـا DNA المتضررة. فالتساقط عملية هامة للتوازن لبقاء الجسم صحيحاً وسليماً وعلى قيد الحياة. فإزالة الخلايا الزّائدة من أطراف الفقريات أو نكوص (إنحسار) الذيل في تطوّر البرمائيات- الضفدع مثلاً – أو محور الخلايا اللمفاوية غير الفعالة، أو ذات التفاعل الذاتي من جهاز المناعة autoreactive cells والتي يكون وجودها ضارّاً للكائن الحيّ هي عمليات هامة لبقاء الجسم حياً وسليماً. فخلايا المناعة الخاطئة التي لا تُميِّـز إلا (الذات) تسبب مرض السكر النوع الأول والتهاب المفاصل الرثياني، كما وإن الخلايا المُصابة بالفيروس تعقد العزم على ( الإنتحار ) مع الفيروس الذي تحتويه وبهذا تُـنقذ الجسم من انتشار أو توسّع الإصابة. وعندما يُصيب الخلية أذىً لا سبيل إلى تصليحه، فإزالتها بالتساقط
هو الحل. ومن ناحية أخرى، إذا لم تكن هذه الآلـيـّة موجودةً، فالخلية تبقى أبديّـة ولا تموت. وإذا لم تَمُتْ الخلية وتولّدتْ خلية أخرى جديدة إلى جنبها، وكلتا الخليتين تعيش، فسيكبر الجسم إلى ما لا نهاية ويكون الفرد عملاقاً. وهذه الحال تُشبه حال الأفراد في المجتمع. فإذا عمّر الإنسان إلى ما لا نهاية، وأتى خلق جديد أيضاً، فسوف لا يكون على الأرض موطئ قدم، وستضيق الأرض على رَحبها. وقد صدق المتنبي بقوله :
سُبقنا إلى الدّ ُنيا فلو عاش أهلـُها مُـنِعنـا بها من جيئة وذَهوبِ
تمـلّكها الآتي تمـلّكَ سـالـبٍ وفارقها المـاضي فراقَ سليبِ
التساقط يقلل من نضوح موادّ الخلية إلى الخلايا المجاورة. أما التنكرز، فيقتل الخلية مُولـِّداً نضوحَ موادَّ سامّةٍ وضارّةٍ تقتل الخلايا المجاورة. ففي هذه الحال تنتفخ الخلية وتنفجر مسببةً تلفاً للخلايا التي تجاورها. أما في التساقط فتتـقلّص الخلية استعداداً لموت هادئٍ دون أن تسبِّـبَ أذىً موضعيّـاً.
وعند إصابة الخلية بأيِّ تلف نتيجة تعرّ ُضِها، مثلاً، إلى الأشعة فوق البنفسجية أو الجذور الطليقة ( الحرة ) أو التسكّـُر ( إلتصاق السكر بالبروتين )، تحاول الخلية بآليتها الموجودة فيها إصلاح العطب الحاصل في جزيئة الدنا لتعود الخلية إلى وظيفتها الطبيعية. أما إذا كان العطب مستفحلاً لا سبيلَ إلى إصلاحه، فالتساقط هو الحل. أما في الشيخوخة، حيث تكون طاقة الخلية محدودة، فيكون إزالة الخلية أفضلَ وأسهلَ من إصلاحها ( توفيراً ) للطاقة، مما يُفسح المجال لتكوين خلية جديدة بدلاً عنها. وقد يُـظَـنّ ُ أنَّ حواليْ عشرة بلايين خلية تموت كلَّ يوم ومعظمها بواسطة التساقط. فهناك توازن بين موت الخلايا وتولدها. ولكن بمرور الزمن يُـفـقَـد هذا التوازن، حيث يكون موتها أكثر من تولدها، فيكثر التساقط مسبباً ( ضموراً ) في العضو أو النسيج. وتكون هذه الحال واضحة في تقدم العمر حيث مرض القلب والتعب والإنحلال العام هي النتيجة.
تلعب الميتاكوندريا ( تورث من الأم فقط ) دوراً كبيراً في التساقط ويتورط فيه نوعان من البروتين، هما البروتين bcl-2 ومجموعة خمائر كاسبيس caspases التي تكون مع التساقط دوماً، بينما يكون الأول إما مع التساقط، أيْ يحبِّـذه أو ضده ( يمنع وقوعه ). وهذان يكونان بنسبة متوازنة، فإذا فُقدتْ هذه النسبة، يُسرع التساقط أو يُبطئ. أما الميتاكوندريا، فتُطلق خميرة سايتوكروم سي إلى سايتوبلازم الخلية فتسبب ( اختلالاً ) في تكوين الطاقة نتيجة تداخلها مع الإلكترونات، فلذا تُستنفد مخزونات الطاقة، كما أنَّ خمائر الكاسبيس ( تُشحذ )، فتحطِّم الخلية، ولذا تسمى هذه الخمائر بـ ( بروتين الموت ) أو ( الجزيئات الجلاّدة )، وفي الحقيقة إنّها ( قنبلة موقوتة ) بانتظار " تنشيطها " أو " تفجيرها " لتقتل " مضيفها ".
السرطان يرد الهجوم ويخدع التساقط
------------- --------
من الغريب حقـاً أنَّ بعضَ الخلايا السرطانية، وبخاصة تلك التي في ( الرئتين والقولون ) تنشر ( تكوِّن ) جزيئاتٍ شبيهة ً( وهمية ) للجزيئات الحقيقية التي ترتبط بجزيئات مُنشِّـطة الموت، فتعيق " تنشيط " المستقبِـل الحقيقي الذي يرتبط بخمائر الكاسبيس، فتثـبِّط التساقط فلا يقع وتنجو الخلية السرطانية من الموت! وهذا ما يُدعى بـ ( هجوم السرطان المضاد ). كما أنَّ السرطان ينشر مستقبِلات " شبيهة ً"، فيوقع " إشاراتِ الموت " في الشَرَك دون المساس بالمستقبِلات الحقيقية للخلية السرطانية. وهي عملية يقوم بها أيضاً بعض الفيروسات لتفادي القتل من قبل الخلايا المضيفة. ( المستقبِلات هي بروتينات موجودة على سطح الخلية ترتبط مع الخمائر والهورمونات والمضادات الحيوية، فيظهر مفعول هذه المواد على الخلية. فإذا لم تكن ثمة مُستقبِلات أو تكون منحرفة | متحورة، فلا يكون ارتباط، ولا يكون مفعول ). وأغرب من هذا أنَّ بعض الفيروسات الذي لا يريد لمضيفته (الخلية التي يعيش فيها) أن تموت، ينشر موادَّ كيميائية ( شبيهة Decoys) ليمنع التساقط، فتبقى الخلية حية ويبقى حيّاً يعيش داخلَها، كما لو أنَّ للفيروس ( عقلاً ) يعي ما يجب عمله لإبطال عملية التساقط والبقاء على قيد الحياة!
لذا يمكن القول إنَّ زيادة التساقط في خطوط الخلية السرطانية لإزالة (قتل) أكثر ما يمكن من الخلايا السرطانية هي خطوة لعلاج السرطان.
التساقط قد يحدث نتيجة تحطّم الدنا DNA مصحوباً بتقصير التلومير، ولكن باستعمال التلوميريس، الخميرة التي تصلِّح وتُعيد طولَ التلومير، يمكن عكس تلف الدنا، وبالتالي يقلل من نسبة موت الخلية. وفي الوقت ذاته يكون استعمال المواد التي تعيق | تسدّ عملَ التلوميريس مفيداً في معالجة السرطان، وذلك بتسريع تلف الدنا في الخلايا السرطانية وتسريع التساقط في خلاياها. وقد وُضعت الخطط لاستعمال هذه الطريقة في هذه السنة حيث يحاول بعض العلماء ( استحداث ) التساقط في مكافحة السرطان.
التساقط والشيخوخة
------------
في الشيخوخة يفقد القلب كثيراً من خلاياه العضلية، فبعضها يُفقد نتيجة عدم وصول دم كافٍ إليها Ischaemia وبعضها يُفقد نتيجة للتساقط المتزايد في الشيخوخة، ولكن بعض الأدوية التي تُستعمل لتخفيض ضغط الدم مثل إنلابريل Enlapril قد تقلل من التساقط. إنَّ أكثرَ فقدان الخلايا العصبية في المسنين يرجع إلى التساقط، فقد وُجد أنَّ فقدانَ الفعالية في الأمراض العصبية يرجع إلى سرعة موت الخلايا، كـفقدان الخلايا في منطقة المادة السوداء Substantia nigra في المرض الرعاشي parkinsons ( عدم وجود الدوبامين ) وفي القشرة الدماغية Cerebral cortex في مرض الخرف Alzheimer، الذي توجد فيه فعالية متزايدة في بروتينات الأميلويد التي هي حصيلة نشاط الجذور الحرة وتسكّـُر بروتين الأعصاب.
التمارين الرياضية
-----------
وُجد في الأبحاث الحديثة أنَّ التمارين البدنية ( الرياضة ) المعتدلة تُحدِث التساقط في الأنسجة الناشطة كالقلب فتزول الخلايا التالفة لتحلَّ بدلاً عنها خلايا سليمة، فيكون التساقط هنا مفيداً. ولكن الحدَّ من التساقط في المسنين الذين هم بصحة جيدة هو خطوة لإطالة العمر، وذلك بمنع الخلايا السليمة من الضياع. ولكنّ التمارين الرياضية العنيفة حتى الإجهاد تزيد من إنتاج الجذور الطليقة، حسب الدراسات الحديثة، وتسبب تكسّـُرَ شريطيْ الدنا DNA وتقلل من خلايا المناعة اللمفاوية.
تقييد السّعرات الحرارية ( الحمية )
---------------------
إنَّ تقييد السعرات الحرارية هو الطريقة المُـثـلى لزيادة عمر الإنسان، فهو يقي من التساقط المستمر في العمر المتقدم ولكن يزيد التساقط في الخلايا السرطانية. وهو يعمل بتمييز وليس اعتباطاً، إذ يُحدث موت الخلايا في خطوط الخلايا التي يمكن تعويضها مثل خلايا الدم والكبد والجلد ويقلل نسبة موت الخلايا التي لا تُعوَّض كالخلايا العصبية. وقد وُجد أيضاً أنَّ الخضر والفواكه تمنع تحطّمَ الدنا وبهذا تعيق التساقط المتزايد بإطفائها (إخمادها) الجذورَ الحرة. إنَّ تحطّمَ الدنا يزداد مع تقدم العمر، ولذا يعتقد بعض الباحثين أنَّ تناولَ الخضر والفواكه في الأفراد المتقدمين في العمر ضرورة لازمة.