|
رواية الطوق - 3 -
غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2413 - 2008 / 9 / 23 - 09:26
المحور:
الادب والفن
ـ 3 ـ ارتفعت الشمس متعثرة، لم يستقبلها الصغار في الحواري، وغاصت في البحر وحيدة، وانتشرت في الدنيا حالة الغروب، لم يودع الصغار الشمس فقد احتوتهم زوايا البيوت، ترقبهم عيون الكبار، وقد تركزت الحواس الخمسة في صيوان الأذن، ينصتون لعل الميكرفون يعلن عن بدء الإشعار الآخر والسماح بالتجوال. استطال الوقت، ولم يسجل أحد بأنه سمع صوت الميكرفون، لكن الحواس سجلت بوضوح تحركات الجيش، واقتحام البيوت في الحواري المجاورة، وصراخ الأطفال والرجال والنساء عند دخول الجنود البيوت، والأنين والنشيج والنهنهات بعد خروجهم. هكذا سربت فرجات الشبابيك والسقوف الواطئة، فقد سربت أن بنت أم زكي قد صرخت مثل الواوي المدهوس، لم يصدق الجنود إشارتها الخرساء وحاولوا استنطاقها رغم رباط لسانها، دعسوا بطنها ولوح صدرها بالبساطير الثقيلة، فصرخت مثل الواوي ومازالت. وتواردت الأخبار عن الأسلاك التي تحيط بالمخيم الغربي من جميع الجهات فاستنتج يونس حدود المخيم على طريقة معلم الجغرافيا وأخذ يحدد المكان لجدته. "حدودنا بين السلك والبحر يا جدتي، فالأسلاك على امتداد الإسفلت شرقاً حتى قهوة كريزم ومع الأسفلت أيضاً جنوباً وحدود ساحة السوق شمالاً، أما البحر فيكون ظهيرنا الغربي". وباكتشاف طفولي سأل جدته: - "السلك من جميع الجهات ما عدا الغرب، لو هربنا إلى الماء هل يأكلنا السمك يا جدتي؟!" قالت أم صابر: - السمك أرحم من اللي زرعوا الأسلاك. قيل إن الأسلاك تتكون من عدة طبقات شائكة لا تسمح لقطة بالعبور من خلالها، تمتمت العجوز: "حتى شباك الصيد ما تحجز بزرة السمك، علشان يكبر". قال يونس متابعاً شفتيها: -ايش بتقولي يا جدتي؟ -لا تقترب من الأسلاك. - ليش؟ - لا ليش ولا قديش ابعد عن السلك. تحسست رأسه وتمتمت. - عمك الغاوي يكره الشبك الضيق، وعمره ما أخذه معه للصيد. تنهدت مقهورة. - الله يسترنا من شباك البحر يا غاوي.
*** أُختصرت الدنيا في عقل الجعباص داخل دائرة لهاث البغل المربوط في البايكة (الحظيرة)، هل يصمد الحيوان؟ ولم يتبق من التبن ما يسكت عواء أمعاءه، نصف عليق، أقل من وجبه والعلف خارج الطوق. والطوق قد يطول، والعلف عند التاجر أبو صالح في بيارات المشروع، والمشروع أبعد من نجوم السماء الساهرة, وأخذ يؤنب نفسه فقد تلكأ في شراء التبن والشعير.. دق البغل الأرض بقائمتيه الأماميتين، ودق قلب الرجل، وقام إلى البغل يوثق قوائمه الأمامية، وأخذ يتحسسها لعل الحيوان يقبل اعتذاره.. - معلش تموت قدامي من الجوع، ولا تطلع مصارينك من بطنك في الشارع. كاد يقذف أمعاءه، صورة حصانه الأول ما زالت ماثلة أمامه فقد خردقوه بالرصاص، وقع الحيوان على جنبه وخرجت أمعاءه من بطنه مثل الثعابين المقتولة تبق الدم من ثقوبها، فقد فتحوا جبهة نار عليه، وحولوا بطنه غربال دم كما روّت أم صابر. ينظر الجعباص إلى البغل وقد أُسقط في يديه. - نصبر على جوعنا، أوعك تهرب، يفتحون جبهة عليك يستخدمون جميع الأسلحة، اصبر على غلبك يا غلبان، هذه المرة صعبة والمخيم ملفوف بالأسلاك. هل يصبر البغل؟ هل يضيع كما ضاع حصانه في الصيف الماضي؟ وضاعت معه تحويشة العمر، وتأجلت الأحلام.. يومها رثى الناس لحاله، مروا بالحصان المغدور، منهم من قال "يا حرام"، ومنهم من ضحك من قلة عقل اليهود. ومطت امرأة بوزها معلقة على بكاء الجعباص. - الجنازة حامية والميت كلب، قوم يا راجل العالم بتموت كل يوم وأنت قاعد تلطم على حيوان. ابتلع دموعه المالحة، لماذا لا يبكي الحصان، ويبكي الأحلام المقتولة وضياع تحويشة العمر، ولحم أكتافه التي تسلخت من عتالة الصناديق والأكياس في الميناء، لم يعتب عليه تاجر في المدينة، فالجعباص أقوى عتال في الميناء، والجعباص يطوي الأيام والليالي يحلم بيوم يكتسي فيه لحم كتفه وظهره بجلد ثابت، متى يستطيع الاستحمام دون لسعات الجروح، حتى اكتمل ثمن الحصان والعربة، وقبل أن ينمو جلد كتفيه قتلوا الحصان وأغلقوا الميناء وضاعت تحويشة العمر. قال أبو محمود مواسياً: - قسمتك يا ولدي - الحيوان جاع وفك رسنه، الجوع كافر يا عمي، يقوموا يقتلوه. - احمد ربك، في المال ولا في العيال يا جعباص. - الله يخرب بيتهم مثل ما خربوا بيتي، هو الحصان مش روح مثلنا. - شافوه زول في العتمة، خافوا منه طخوه. - إن شاء الله يتصور لهم عزرائيل يخطف أرواحهم. - اللي فات مات، توكل على الله وأن احتجت شيء ربنا يقدرنا يا ولدي. ومضت الأيام، وطويت أحزانك، وحيداً في الدار لا أحد يسلي وحشة أيامك، كان الحصان ومضى، وبقيت الكارة يتراكم الصداء على تروسها وعجلاتها وقلبك يتراكم عليه الصدأ، ومهر حسنة لم يكتمل بعد، من يتزوج أولاً أنت أم عربة الكارة، ووعد الرجال دين عليهم، وأبو خليل أعطى وعده ومضى هو الأخر، أين أنت يا أبا خليل، أيام الشدة تحتاج رجالاً مثلك، شدة وتهون يا جعباص،.وهل بعد ذلك شدة؟ يومها ربت على كتفه: - الرجال للشدة يا جعباص بكرة تروق وتهدأ الأحوال. وأعطيك حسنة. سبقت الدمعة لسانه.. أخذه أبو خليل إلى صدره، قال: - أنا ربيتها أربعة عشر سنة والباقي عليك.. بعدها بعدة أيام اقتادوه، في الفجر طوقوا الزقاق وأخذوه وبكيت، روعت مثل الأطفال، زجرك يومها أبو محمود: - ايش خليت للنسوان يا جعباص. طوقتك أم صابر تمسح دموعك وتبلل وجهك بدموعها، شرقت وكان الدمع ساخنا، هونت عليك: - دموع الرجال خير، يا ولدي يا جعباص. وتمر الأيام، أبو خليل شرق النهر، تأتي أخباره مع زوار الصيف، يفرح الزقاق لساعات، ويعود الصمت والتلهف، وبقيت يا جعباص مقطوعاً إلا من أبى محمود أبو الزقاق، ومهر حسنة لم يتوفر بعد، أبو محمود يقرضك ليستكمل مهر الكارة أو تشتري البغل بدل الحصان لا بأس. تضع الليرة على الليرة في زمن اليهود حتى تأتي حسنة وتطوي أحزانك، وتهجر وحدتك، حتى أتتك أم صابر تطفح بشراً وسعادة: - البشارة يا جعباص. - البشارة عندك يا عمة. - أبو خليل عند وعده. - قوليها يا عمة كمان مرة بحياة اليتيم. - حسنة لك يا جعباص، أبو خليل يسأل امرأته ايش صار مع الجعباص. وبكيت يومها على كتف العجوز: - يا أم اليتامى يا أم صابر. وبكت أم صابر، لا يعرف المحروم غير المحروم، وبدأت رحلة المهر من جديد، وعرق الحلال يزيد مع طلعة كل يوم، وها أنت مع الليل والبغل والكارة والطوق، متى يذوب ثلج الأيام، السيجارة بين أصابعه تلسعه يفركها ويلملم بقايا كسرات خبز ناشفة مرمية في عرق الحائط لا تكفي علفاً لدجاجة، عاد بأرغفة الخبز المتبقية لديه وخلطها ببقايا شعير وفتات كسب قديم تيبست في قاع الجردل، بللها، ووضعها أمام البغل، إطعام البهيم أولوية، تمدد على فراشه وشد اللحاف على رأسه لا يأبه بأمعائه التي أخذت تتلوى، ضحك بمرارة، لو تدري أن أم صابر قد عجنت وخبزت للبغل، وهي التـي دائمـاً تقول "لا يذوق طعم النوم الجائع والبردان والخائف.."
*** انتشر النهار كابياً، مضى الظهر والعصر، والإشعار الآخر لم يظهر بعد، والبيوت محشورة بالأحياء، الرجال والنساء والأطفال، الدجاج والبط والأوز، والحيوانات الناطقة وغير الناطقة في الغرف الفقيرة، والتجول ممنوع، النساء يزعقن على الأطفال مخافة التسلل إلى الشوارع، الله وحده يعلم بما في الشوارع. الأولاد يتقافزون في وجهه، وابنته سعدية في المطبخ لا تفارق طاقته، المطلة على الزقاق، ماذا تراقب يا ترى؟ البنت تعرف أشياء لا نعرفها نحن الرجال، بنت مدارس تسمع وتقرأ وترى، والأساتذة بضاعتهم في الغرف الضيقة، أنه يكتشف ساحة الدار، ويكتشف أن وكالة الغوث وزعت البيوت قبل مجيء الأولاد، فالوكالة غير مسئولة عن مصانع تفريخ الأولاد، تضيق الغرفة، يكاد يحصي أنفاسهم قبل خروجها من حلوقهم، أنه يرصهم وجهاً لظهر عند النوم، حتى يظل المطبخ لسعدية تنام فيه وتدرس، والبنت صارت بالغة بدروس أو بغيرها ولابد وأن تنعزل لوحدها.. ربنا يفرجها وتأخذ الشهادة، تتوظف سنة، سنتان، نوسع الدار بغرفة ثابتة من بطن الزقاق، وبعد ذلك لو جاء ابن الحلال الله يسهل عليها. ابتسم يائساً، ينساق خلف أفكاره، وفكر كيف يرص الأولاد في الليل، في النهار البيت لهم، والذل والتعب والمرمطة له، أعوذ بالله.. زوجته تصرخ وتضرب وتسب أبوهم وأبو السبب في مجيئهم إلى هذه الدنيا تسب على المنع.. الغاوي يبحلق رأسه يتمدد مثل بالون يصرخ: - الله أكبر هو بيت ولا سجن، أبعدي الأولاد عني يا امرأة. - وين أوديهم، أرميهم في الشارع. شفط سيجارته، يقذفهم في الشارع، والشارع في الطوق يحرك آلام خاصرته، الذي لم يفارقه منذ الطوق الماضي، زهق الأولاد مئة مرة، ولا همزة بسطار مرة، وبصق باتجاه باب الغرفة، لم يصل بعد إلى مداه والتصق بساق أحد الأولاد، فازداد العويل والصراخ، وضعت زوجته كوب الشاي أمامه، وقرفصت قبالته تهش الأولاد عنه, قالت: - يا ترى الطوق طوال؟ - العلم عند نواطير السلك. - يلعن السلك واللي حطه، والله يا رجل البيت خالي وربنا يستر بخار الشاي يتصاعد، يتكاثف قرب وجهه، البيت خال وكأني لا أعرف وتمتم: "البيت خال والجيب خالي" قهقه صر عينيه أصبح العالم دوائر سوداء تتراقص داخلها شياطين حمراء تهبط على الأرض، تهتز صور الأولاد من حوله صراخهم يصله من عالم بعيد.. "البيت خالي والجيب خالي وأنا مالي يا أم العيال" نغم الهم ينساب بسهولة، تتوارد الكلمات وتعلو الأغاني، ومعلم البحر كم ردد الموج والصيادون أغانيه، ظلام دامس صارت الدنيا "وأنا مالي يا حلالي يا مالي وأنت عارفة اللي جرالي.." نفخت زوجته: - راجل فاضي، قاعد يغني. وانفجر دفعة واحدة، لم يخطط لها: - فاضي يا بنت الفاضي، أنت مش عارفة أن البيت خالي، وان جيبي خالي وابن العرص المعلم طردني وكأنه متفق مع الطوق، عليّ الطلاق انه متفق معهم على الطوق.. هاج الرجل فارتعدت زوجته، وهطلت الدموع عن عينيها. - هو أنا كفرت، أولادك عايزين، وأنا لمين أشكي يا ربي. فاضي يا بنت الفاضي، عايزة أطلع وانطخ، على الأقل ارجع قلبي مليان مشط رصاص. سعدية تقف بين العذابين. - كفاية يا أبي، من يفتح مشاكل والناس بتموت. سجنت زوجته الصغار واختفت في المطبخ وأخذت تنوح. - "يا خسارتك يا غاوي، خرعوك قبل الأوان، كسروك يا معلم الله يكسره." الرجل يهرب من زوجته وأولاده، ومن أيامه التي تطارده، في الطوق الماضي كادوا يطلقون عليه النار، ورقد في الفراش أسبوعين حتى استطاع تحريك عضلات صدره وخاصرته، وعندما ذهب إلى معلمه يطلب سلفة ويعتذر عن التأخير، اعتذر له المعلم، ورأى عاملاً جديد يركب ماكينته، خرج إلى الطريق يلعن البر والعمل في البر، وينتصر للبحر، فالمعلم أشرف، يقود الدفة وهو أول من يواجه الخطر، ولا يعتذر أبداً، البحر موجود والرزق موجود، البحر اعتذر يا غاوي، أجبروه على الاعتذار.. في يوم أسود قالوا له: - ريس غاوي أنت ممنوع تركب البحر. كمن فطم عن صدر أمه قبل الأوان: - يا سيدي معيشتي في البحر. وانتهت المقابلة وارتمى على الشاطئ في ظل المراكب مع مسعود والريس حمدان وسعيد وعرفة، وكل من مشى في البحر إلى مداه، يوم شح العيش ويمموا صوب بحر صيدا وصور وبيروت، أيامها هرب الغاوي مع الرجال إلى لبنان يبحث عن قرش أوفر وعاد سالماً وأصبحت القصة حكاية تروي، نسيت مع مئات القصص، كيف عرفوا بها.. وعندما سألوا من يحتك باليهود أخبروهم أن اليهود يخافون منكم لأنكم تعرفون الطريق إلى لبنان, ولبنان هذه الأيام تركب البحر لغير الصيد، والحكايات كثيرة.. البحر محرم عليك، وفي البر حفيت قدميك تطلب عملاً وأخيراً حصلت على ترشيحة عمل في إسرائيل، وسرحت أول يوم، وقبل أن يولد اليوم الثاني، ولدت بصقة في وجهك تأرجحت على فمك قبل أن تسقط على الأرض. ولد أصغر من بنتك سعدية بصق في وجهك ومزق بطاقة العمل، وربنا ستر والحمد لله والشكر له وللأستاذ خالد الذي لولا مروره بالصدفة لدعسوا في بطنك. لماذا مزقوا بطاقة العمل؟ الأستاذ خالد توسط حتى تركوك، عاد بك إلى الزقاق وانصرف تطن في أذنك كلمات الأستاذ. "ثورة تضرب عمالها..عجيب.." لم تفهم كلام الأستاذ يومها، الشيء الوحيد الذي فهمته انك عدت إلى البيت سالماً. وارتضيت العمل عامل مساعد في ورشة، وبعد مدة طالبت برفع اليومية ليرة حسب وعد المعلم لك، فأعطاك حسابك وأبلغك أنك مطرود فلجأت زوجتك إلى أم خليل عسى تجد لك عمل مع ابنها في أريحا وها هو الطوق يفاجئ الجميع، وخليل ينتظرك، وأنت تنتظر الإشعار الآخر، لا تؤاخذني يا خليل قد يطول الإشعار الآخر وتضيع فرصة العمل، ووجد نفسه يصرخ بأعلى صوته كمن مسه جنون. - يلعن أبوها من عيشة حتى إشعار آخر، يا امرأة سخني كباية الشاي بردت احتوى ردفي زوجته، كيف يعتذر، لكنه أجهش بالبكاء. *** قلبها يعود إلى صدرها بعد أن ابتعد الشباب وغيبتهم العتمة، تنفست أم خليل بعمق، وعادت خفيفة تهيل التراب على الحفرة خلف المطبخ، كانت تتوقع زيارتهم، هل رآهم أحد من الجيران، وهل صحا الأستاذ فهيم عندما دخلوا بيته، وهل عرف وجهتهم، الأستاذ فهيم يكبر أمامها، فقد كانت تشك أن يترك باب داره مفتوحاً، مضى الشياب عرفت أن عليّ ورفاقه في البيارات خارج الطوق، فقط عليّ يعرف مكان الأشياء، دفنها بيده، وها هو يرسل في طلبها، لأن التفتيش سيطال جميع البيوت، وآلاتهم الزنانة تكشف عن المعادن المدفونة في الأرض، همس أحدهم في أذنها: - إذا سمحوا بالتجول خالد سيقف قريباً من الأسلاك، كوني أنت وسميرة بالقرب منه. لماذا سميرة؟ هل كلفها علىّ بشئ؟ أرهفت السمع، بيت أبي محمود صامت لا تصدر منه حركة أو إشارة، عادت إلى حجرتها على أطراف أصابعها، ألقت نظرة على الأولاد، كانوا يغطون في نوم عميق، كتل من اللحم الطري تكورت تحت الأغطية، تلتف الأجساد مثل الديدان تطلب الدفء، خطر في رأسها طبيب العيادة الأنيق المتأفف، وهو يوجه إرشاداته للنساء. - عودوا أولادكم أن يمددوا أجسادهم على راحتها أثناء النوم حتى يسري فيها الدم ويوزع الدفء. ومضى الطبيب يومها متقززاً من الذباب الذي يحط على أنوف وعيون الأطفال الرضع، يا ترى هل يتمدد الطبيب الآن على راحته في حضن زوجته حتى يسري الدم على راحته ويوزع الدفء، وشعرت بالقشعريرة تزحف إلى أطرافها فاندست تحت اللحاف، لم تمدد جسدها على راحته، والبيت قد غادره رجاله ورحل الدفء عنه وصدق المثل "ظل رجل ولا ظل حيطة" والرجل خلف النهر، أخباره تصلنا مثل الحلم، نصدقها ولا نصدقها، دقت على صدرها كم تحمل أبو خليل حتى لا يجرجر أحداً من جماعته، ومضى والحياة تمضي من بعده، وخليل مثل ما أردته يا أبو خليل غادرنا إلى أخواله في أريحا يوفر اللقمة لأخوته ست عشرة سنة، رجل والنهر بينكما، خليل يزورنا كلما اشتاق، وكلما وفر بعض النقود، وأنت لا تأتي إلا في الحلم، أو على السنة الزوار، والنهر يجري بينكما، هل تشم رائحة الصبي وأنت الذي يتباهى؟ "أنا أشم الأتر على بعد سفر يوم" صوت حسنة من تحت اللحاف مشحون بالنعاس. - أنت صاحية يا أمي. - صحيت قبل شوية. حسنة تستدرج أمها. - كأني سمعت أصوات في الحوش، يا ترى دخل الدار أحد. صمتت أم خليل، وصمتت حسنة، الأمور واضحة، يكفيك هم الدار يا حسنة، وتسلل الفجر إلى الغرفة، قامت حسنة تجهز الإفطار قبل أن يصحو إخوتها، أمها تتابعها، عروس مزيونة تذكرت فيها أم خليل شبابها، البنت تكبر بسرعة ويحق للجعباص أن يفلق رأس أم صابر، يسأل عن وعد أبو خليل له يا ترى متى سترجع وتوفي بوعدك.."حسنة للجعباص هذه وصية، وربنا يقدرنا عليها.."
*** صاحت الديكه في أطراف المخيم، تملل تحت اللحاف، تلح عليه الرغبة في الصلاة مع المسلمين، نهض واعتمد بكوعه على الوسادة، سميرة تغط في النوم، صعب عليه إيقاظها، ولا يدري لماذا ومض في رأسه ابن أخيه، تمتم "أين أنت يا عليّ" أخبره الأستاذ خالد أن "علياً" خارج الطوق، وصمت، في هذه الأيام الصمت يغلف كل شئ. أرهف السمع ينتظر صوت آذان الفجر، صوت الشيخ عبد المولى والجامع خارج الطوق..، هدير الآليات، والأصوات الأعجمية تتناثر في الفضاء، ولفحة برد قاسية هبطت على أرضية الحجرة بسماجة جعلته يثني ركبتيه في بطنه وينفث دخان سيجارته بأنفاس متلاحقة، سنين العمر هدتك يا "أبو محمود" والغضب ينهال عليك آخر العمر، يشعر برأسه يغوص كالمرساة في العتمة يرى ولا يرى، هل غفا لا يدري أم هي الذكريات انسلت من بطن الصيف الفائت، والدالية، أورقت بفحولة ذكرته بعنب بربره، نسيم الصيف حنون يداعب الوجوه، فتتمايل العناقيد الصفراء مع زغاريد النساء، محمود عاد من الكويت مع صيف المغتربين، وسميرة ممتلئة بالفرح تستقبل الضيوف، تختلس النظر إلى علىّ الذي يقوم بواجبه مع الرجال، ودموع سيالة على وجنتيها، ونظرات تأنيب من محمود "هل هذا وقت الدموع.." زوجة محمود تهمس في إذن امرأة: - مسكين عمي بعد زواج سميرة يبقى لوحده في الدار - والله سميرة قامت بواجبه بعد المرحومة زوجته. - ما بيقوم بواجب الرجل غير امرأته. في الغفوة رأى أبو محمود ابنته سميرة وابن أخيه علىّ يخرجان من بطن الدالية، وفي الغفوة تذكر ما كان بينه وبين ابنه من حوار الصيف الفائت. - يا أبي ليش ما تعيش انت وسميرة معي في الكويت. - والدار وابن عمك. - الدار نبيعها وابن عمي يلحقنا ونبحث له عن شغل القطيعة يا محمود في بلاد يضيع فيها أثر الآدميين، حامية مثل نار جهنم، على الأقل في الدار أشم ريحة بربرة قال على مضض: - شوف أختك يا ولدي اسألها؟ صمتت سميرة عندما سألها، وفي الليل أخبرت زوجته أن عليّاً يرفض وهي مثله، لم يلح محمود وسافر مع المغتربين. لم يستطع إقناع ابن عمه. قال محمود محتداً في وجه عليّ: - قل لي ايش بقي لك في غزة. رد علي بهدوء. - وانت ايش لك في الكويت يا ابن عمي. - على الأقل عايش في مستوى أحسن من معيشة غزة. - قصدك الدنانير والوظيفة والسيارة، ونار الله الموقدة في الصيف، والطوز، والشتاء والبرد، وفي الأجازات الثياب الجميلة والهدايا، وفلوس تدفي جيب الوالد: - لكن عايشين زى الناس المحترمين. - انت بتبيع عمرك في بلاد الناس. - وأنت ايش بتعمل يا أبو غزة. - موظف صغير بأرصد طوابير الناس يوم توزيع التموين عليهم. - وراح تظل كما أنت وما يتغير وضعك. - يتغير عندما يتغير وضع طوابير الناس قدام مركز الإعاشة. ثم قال محتداً في وجه محمود: - انت بتقدر تغير الناس في الكويت؟ - لكن.. - المحاولة خطرة، يرموك من مطار لمطار. أبو محمود يتابع الحوار بين الشابين، يكبر أمامه ابن أخيه، ويتألم على غربة ابنه الذي أخذ الشيب يلمع في رأسه، وسافر محمود إلى الكويت، وبقي مع سميرة في البيت، قال لابن أخيه. - عايزين نفرح يا أولاد. ربت عليّ على كتف سميرة. - نفسي في كباية شاي من يد العروسة. ذابت سميرة خجلاً وانطلقت تعد الشاي وطمأن علىّ عمه: - في الصيف يرجع محمود بالسلامة ويصير كل خير يا عمي. وأتى الصيف ولم يعد محمود. وأرهف السمع كان الصراخ يصل واضحاً، قفزت سميرة من فراشها وخرجت إلى حوش الدار تنصت عادت لاهثة. - تفتيش في الزقاق الشرقي. - الله يفتش عن أرواحهم بحق فالق الإصباح.
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية الطوق -2 -
-
رواية الطوق - 1 -
-
هموم انسانية خلف غيوم رمادية قراءة في رواية غيوم رمادية مبعث
...
-
الملح يتخثر عند حواف القصيدة
-
امرأة مشاغبة حتى التعب
-
رسائل الزاجل الأسير إلى عنود الليالي
-
في وداع محمود درويش
-
بطاقات إلى امرأة تنتظرني - 4 -
-
بطاقات إلى امرأة تنتظرني - 3 -
-
بطاقات إلى امرأة تعرفني - 2 -
-
بطاقات إلى امرأة تعرفني
-
رسائل الزاجل الأسير إلى هناء القاضي
-
جنة ابوبها موصدة
-
الدوران حول مركز الالتباس
-
رسائل الزاجل الأسير الى بشرى ابو شرار
-
رحلة ذكور النمل
-
ظلال الأرقام الرمادية
-
الهبوط من بيت الأثير - الفضاء السابع والأخير
-
بيت في الأثير - الفضاء السادس
-
بيت في الأثير - الفضاء الخامس
المزيد.....
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|