|
مزايا وأفضال الهاتف الجوّال
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 2412 - 2008 / 9 / 22 - 02:54
المحور:
كتابات ساخرة
صديقي الساخر الذي أعتدتُ أن أسمعَهُ يفتخرُ أينما حلَّ وارتحل بأنه (خارج نطاق التغطية) الهاتفية ، وبأنه يكره حمل الهواتف المحمولة مختلفة الأشكال والألوان ، وأنه يعتبر كلَّ من يحملها مجرد طفلٍ يلهو ويلعبُ بالهواء ، ولا يملك من الأحاسيس المرهفة ما يؤهله لأن يصلح إنسانا ، وكان يُردد: كلما اقترب الإنسانُ من الهواتف، قلّ نصيبُهُ من الثقافة والفكر ، صديقي الساخر هذا ، لم أره منذ زمنٍ طويل ، غير أنني ضبطتهُ متلبسا بهاتف جوّال يُلصقه بأذنه، فقلت في سرّي : لقد تمكنتُ منه أخيرا ، فلم يمهلني حتى أشمتَ فيه ، وأُثبتُ له صدق نظريتي عندما قلتُ له ، سوف تدخل آجلا أم عاجلا زمرة القطيع في الحظيرة العالمية الهاتفية شئتَ ، أم أبيت . وكان يردُّ عليّ ويقول: إنك تحلم ، وإن حدث ذلك فسأكون آخر من يضعون لجام الجوالات حول أعناقهم ! وكان دائم الحديث عن الدول المتقدمة التي تستعمل الهواتف النقالة ، لما صُنعتْ له فقط ، أي للأمور الطارئة ، وليس الأمر كما يحدثُ في أوطاننا ، فنحن نحملها معنا في كل مكان ، ولا يحلو لنا النوم إلا ، وهي تنام أيضا في أحضاننا . عاجلني صديقي الساخر وشرع يبين أسباب انضمامه أخيرا إلى لوبي شبكة الهاتف الجوال فقال: نجحت عائلتي وألبستني اللجام الجوّال ، بعد طول امتناع. إنهم ببساطة ، يشعرون وأنا خارج التغطية، أنني الوحيدُ البعيد عنهم ، وأنا الوحيد الذي يُنغِّصُ عليهم متعتهم، لأنني أكون دائما خارج التغطية ، فلا ينقلون لي الأخبار ، ويعجزون عن إرسال طلباتهم اليومية،مما يجعلني أعود مرة ومرتين إلى السوق، فأنا بصراحة خضعتُ أخيرا لمشيئتهم . وواصل صديقي الساخر حديثه ،بعد أن أصبح من أبرز منظري الهواتف المحمولة قائلا: اعلم يا صديقي بأنني اكتشفتُ فضائل عديدة للهواتف المحمولة ، وكنتُ أجهلها قبل أن أحملها : فهي من أروع مستحضرات الهروب ، فهي تسهّل عليك الخروج من الندوات والجلسات ، ومن كل اللقاءات غير المرغوب فيها . فإذا أردتَ أن تترك ندوةً مُملة سقيمةَ النتائج ، فما عليك سوى وضع يدك على موضع هاتفك المحمول، ثم انتفض كالملدوغ وأخرجه من جرابه بادعاء أنه اهتزّ ودغدغكَ، ثم أبعد نظرك عن الندوة وكلِّ من فيها وركّز عينيك على شاشته اللامعة ، ثم انتفض واقفا ، وأخرج من الندوة ذات الهواء الفاسد ، إلى الأفق الخارجي المفتوح وأهرب من المكان. ولك العذرُ دائما فقد جاءتك للتوِّ مكالمة طبعا مهمة ، تستدعي انصرافك في الحال! واعلم بأن معظم الموجودين يعرفون بأن هروبك من الندوة لم يكن بسبب الهاتف المحمول الذي لم يرن أبدا ، ولكنه بسبب كرهك لما يدور في الندوة أو المجلس ، ويمكنك أن تعمد إلى حيلةٍ أخرى بأن توصي صديقا لك كي يطلبك بعد وقت قصير من بدء الندوة، فإن كنتَ منسجما ، فأغلق صوت الجرس ، وإن كنت منزعجا فاجعل الجرس يرنّ ، ثم اخرج على وقع ابتسامات الحاضرين الذين اعتادوا أن يفعلوا مثلك بالضبط . كما أن للهاتف المحمول ميزةً أخرى ، لم أكن بالطبع أضعها في الحسبان ، فهو يجعلك تشعرُ بأنك في حماية الشبكة القبلية والعائلية والعشائرية ، فتصبح أقوى في مواجهة الأحداث ، ولتفسير ذلك فإنني أقصُّ عليك القصة التالية: منذ أيامٍ كنتُ أقودُ سيارتي ، عندما تعرضتُ لحادث من قبل شابٍ صدم سيارتي من الخلف ، ثم نزل من سيارته ، هو ومجموعة من الشباب يسبونني ويلعنون جهلي بقيادة السيارات ، فأصبحتُ أنا المخطئ، واجتمعوا عليَّ ، بقيتُ صامتا لم أرد على الإهانات فظنوا بأنني عاجزٌ على الرغم من أنني لست مخطئا ، وعندما استللت من جيبي (مسدسي) آسف هاتفي المحمول ، وابتعدتُ قليلا عنهم أصبحوا يتوددون لي ، وأنا أصطنعُ طلب رقم من الأرقام ، كنتُ أضغطُ على أزرار الهاتف كيفما اتفق، مع العلم بأن هاتفي بقي مُغلقا وقلت للشخص المجهول الذي أدَّعي بأنني أحادثه بصوت مسموع يسمعه الواقفون: أنا عند المفترق ، أبلغ الشباب بأن يحضروا فورا لحل المشكلة . عندئذٍ انهالت عليّ العروض ، وأبدى الذين كانوا يركبون مع السائق الطائش أسفهم لما بدر من زميلهم السائق السفيه ، وأنهم مستعدون لتعويضي عن خسارتي المالية ، ولما قلتُ لهم بأن الخسارة المعنوية هي التي تهمني ، انهال السائق على رأسي يُقبلها إلى أن غفرتُ له ! ومن فوائده أيضا أنه يُشعِركَ بالتميُّز والاستعلاء ، حينما تُفاجىْ أصدقاءك بالأخبار التي تصلك عبره ، فأنت حينما تشترك في زمرة شبكات المخابز الإخبارية الطازجة المتنوعة المصادر والموارد ، فإنك تقوم فورا بتوزيعها على شبكات الأصدقاء الذين تختزنهم في ذاكرة هاتفك المحمول، فتصبح أنت مصدرا من مصادر أخبارهم ، يتصلون بك ليعرفوا آخر الأخبار، ثم يقوموا هم أيضا بتوزيعها على شبكاتهم الخاصة . ومن فوائده الجلية التي تجعلك تشعرُ بالتميُّز عن الآخرين ، وتجعلك تُحسُّ بأنك تملك من الأسرار المدفونة في الجهاز ما يؤهلك لأن تكون حديث المجالس ، وذلك عندما يرن هاتفك وأنت في المجلس مرة واحدة أو مرتين ثم يصمت ، فهذا يعني أن الطالبَ لك إما أن يكون فردا من عائلتك يدخر ثمن المكالمة ، وهو الأقل ، وإما أن يكون الطالبُ إحدى المعشوقات التي ترغب في الحديث معك ، في هذا الوقت بالذات ، فلسان حال المعشوقة يقول : لقد خرج الرُّقباء جميعهم ، وأنا مستعدة للدردشة ولأحاديث الغزل ، إذا كانت على حسابك الخاص . وتدخل أصواتُ الرسائل في الباب ذاته ، فصوت الرسائل المرسلة لك ، تُسكتُ الجالسين وتجعلهم يتابعون عينيك وشفتيك وأنت تقرأ الرسائل ، فإذا كانت الرسائل أخبارا فأنت تُفاجئهم بها ، وإن قرأتها وابتسمت فقط بدون أن تُحرك شفتيك ، فالأمر واضحٌ جلي فهي رسالة غرام ، أو نكتةٌ بذيئةٌ ، أو صورةُ ، أو تسجيلٌ لفضيحة من الفضائح ، تحتفظ بها لخُلصائك ، بعد أن تسردها عليهم وترجوهم بألا ينقلوها على لسانك ، على الرغم من أن تلك الفضيحة طارت في الهواء كفايروس وانتشرت كالزكام على شاشات مئات الهواتف النقالة . كما أن الهاتف المحمول يساعدُ على بناء الأعذار والمبررات ،وأعذار الهواتف مقبولة عند الجميع ، لا لأنها أعذار صادقة وحقيقية ، بل لأن كل مستخدمي الهواتف المحمولة يمارسونها بلذة غامرة ، ومن الأمثلة على ذلك ؛ أنك تستطيعُ أن تتملص من دعوة صديق أو قريب إلى لقاءٍ وموعدٍ ، أو مناسبة ، وتدّعي ؛أنك حاولتَ الاتصال عدة مرات ، وكان هاتفُ (الضحية ) مُغلقا ، على الرغم من أن الحقيقة ليست كذلك فهاتف الضحية ، لم يُغلق أبدا ، وإذا لم ينجح هذا العُذر ، فعليك أن تجرب عذرا آخر أكثر إقناعا من العُذر الأول ، وهو أن العيب كل العيب لا يرجعُ إلى هاتف صديقك ، بل يرجعُ إلى الشبكة الهاتفية وعليك أن تُفسِّر عذرك بالوسيلة المشهورة التالية ، فتقول: إن شبكة الاتصالات التي صُمِّمتْ لتتسعُ لمائة ألف خط هاتفي ، أصبحت تضم مئات الآلاف ، وهذا يعود بالطبع لجشع مالكي الشبكة ، وهذا العذر يقبله جميع المنضويين تحت لواء الشبكة بلا نقاش ، لأنهم يمارسونه بلذة كل يوم مع الأصدقاء والمقربين. ومن محاسن الهاتف المحمول أيضا ، أنك تستطيعُ أن تنتقم من بعض المكروهين والمسجلين في قائمة هاتفك ، بعدة طرق : فإما أن تُغلق هاتفك في آذانهم ، وترفض الحديث معهم ، أكثر من مرة لتجعلهم يُحسون بالعقوبة التي عاقبتهم بها . وإما أن تترك هاتفك يرن بدون أن ترد عليهم ، بعد أن تنظر في هاتفك وتقرأ أسماءهم ، وتزمّ شفتيك امتعاضا من أسمائهم ، انتقاما وشفاءَ غليلٍ ليس إلا . وإما أن تردّ على الهاتف بعد أن يرن رناتٍ عديدةً وتُنكر معرفتك بأصواتهم ، على الرغم من أنك تكون قد قرأت الاسم واضحا، وعرفتَ أصواتهم ، فترد عليهم بصيغة المجهول ، حتى يُضطروا إلى أن يقولوا لك : من المؤكد أنك نسيتني ، أنا فلان ! عندئذٍ تشعرُ بالنشوة لأنك عذبْتَهم وأشعرتهم بأنهم أقلُّ منك درجة ومنزلة .
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل يُسجن أولمرت كما سُجن أرييه درعي ؟
-
أنواع أقلام الكُتَّاب
-
الرقابة الذاتية عند الصحفيين الفلسطينيين
-
ماذا بقي من اليسار الفلسطيني؟
-
موسم القحط الثقافي
-
بذرة خضراء.. آخر أُمنيات محمود درويش
-
الفضائيات والتلوُّث العقلي
-
هل تبخَّر اليسارُ الإسرائيلي ؟
-
نصائح للراغبين في ركوب قطار العولمة !
-
هل المثقفون هم فقط الأدباء؟
-
أوقفوا (جموح) الصحافة الإلكترونية !
-
الآثارالعربية ... ومحاولة هدم الأهرامات !
-
كتب مدرسية ( مُقرَّرة) في الجامعات !
-
عوالق شبكة الإنترنت !
-
من يوميات صحفي في غزة !
-
الإعلام وصناعة الأزمات !
-
محمود درويش يبحث عن ظله في الذكرى الستين للنكبة !
-
مجامع اللغة العربية ليست أحزابا سياسية !
-
لا تَبكِ.. وأنتَ في غزة !
-
كارتر وهيلاري كلينتون وأوباما !
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|