|
لا كلب ينبح بوجه مولانا
تحسين كرمياني
الحوار المتمدن-العدد: 2412 - 2008 / 9 / 22 - 06:54
المحور:
الادب والفن
مدينة تعجّ../مدينة ملأى بالأحلام../حيث الطيف في وضح النهار../يلتقط العابر]..(بودلير) *** زعموا أنها هلوسات وتندر،فاكتشفوا ـ بعد حين ـ إنهم واغلين في متاهة،لم يقر لهم بال ولم تهدأ نفس،وكلما تدافعوا صوب مضيف مختار القرية زادوا من كمية الزيت على النار،آراء تتناثر، أفكار تتناطح،وحين ينفلت خيط القضية من بين أيديهم،تلتقي ـ على مضض ـ ألسنتهم عند فكرة واحدة،معاً تلهج ألسنتهم : ـ هذا عقابٌ أليم من العليّ القدير..!! *** شيء عجيب،ينفيه البليد قبل الرشيد،فمن أحدث هذا الجدل المتنامي،وسلب راحة لياليهم،ولد شقي منبوذ،تزوي حواجب كل عين ويتعوذ كل لسان لمرآه،شاء القدر أن ينفلت من قبضة الهلاك ويغدو على مر الأيام كومة شؤم ـ كما يصفوه ـ تكبر وتأكل الرؤوس،تحرق القلوب،ولد أقرع ترعرع بفضلهم ولولا أعطياتهم لدسّ كما دسّوا أخوته الذين سبقوه في الولادة في التراب،تحرّكت مشاعر غيورة،اندفعت نفوس ثائرة،ونقلوا أمّه الدميمة إلى مشفى البلدة،جاء الوليد أملس الرأس،أفطس الأنف،بحواجب كثّة وعيون صغيرة وقامة غير متناسقة،طويل الذراعين،قصير الطرفين،رفضت أمّه أن تدسه في التراب أو تلقيه على مقبرة القرية لثلاث ليالٍ،وتصوم أو لا تتكلم إلاّ رمزا،عسى أن يسترد هيئته البشرية،راح ينمو بشكلٍ مريب ويوم مات أبوه أنابوه عن عمله،راعي قطيع القرية.. *** حاولت عيون أن تتربص أو تتلصص على ما يشاع،منهم من أراد تكذيب الحكاية جملة وتفصيلا، منهم من نهضت غيرته ورغب أن يثبت رجولته مقابل رهانات مقبوضة،ورهط ظل ينثر ما هو يشيع الرعب والفزع ويسلب ضوء العقول ونبض القلوب،رهط ظل ينسج أو يغزل تفاصيل مهولة وراح يمرح على نيران الذعر المتنامي بين رجال ونساء،أطفال وصبايا قريته.. *** ليس من حلٍ أمثل،هكذا اتفقت الآراء من بعد طويل نقاشٍ وعناء،وجدوا(الملاّ)خير من ينقذ سفينتهم من التيه ـ كما هو معروف ـ رجل أيمان قويم،رجل مستقيم،بيده أسرار الدين كلها،يعرف دروب الشياطين،يعرف مسالكهم،يمتلك سبل مهلكهم،لديه حل لكل سحر وشعوذة،نادى عبر مضخمات الصوت المزروعة على سطح مسجدهم،هرع إليه الرجال،تبعتهم النساء،تقاطر صبيانهم وصباياهم أمام الباب،يومٌ مشهود،حفل بوعد الوعود،ما عرفوا أو ذاقوا هكذا فرح من قبل،صلّى بهم صلاة البلاء،خطب خطبة مشهودة،ألحقها بوابلٍ متناغم من تسبيحٍ جميل،وتهليل أرعش أبدانهم وسكن آذانهم،واعدهم أن ينقذهم من بلايا القزم الضليل.. *** في ظهيرة لا ترحم،تناول(الملاّ)وجبة طعام دسمة،دجاجة محمّرة على طبق رز عنبر،طاس لبن غنم ثخين،تهندم بمسوحٍ جديد،مسوح جيء به من أجل المهمة النبيلة،تعطر بالمسك والزعفران وخرج صوب الحقول الفائرة من جحيم شمس تموز،قرب جدول أو ترعة ماء،حيث شجرة سدر وحيدة،وجده يتوسد الأرض،جسد ضئيل متهالك في فيء ظليل،أمامه بمسافة لا تعدو أكثر من أمتارٍ عشرة،يسترخي قطيع أغنام،على بقايا حقل قمح محصود،كلبه باسط ذراعيه قرب قدميه،ما أن رآه الكلب هش وبش ذيله،،وقف عند رأسه،قام الكلب وراح يلحس وجه سيده،قطع الأقرع قيلولته،قفز ووقف،تلعثم وأرتبك.. ـ يبدو أنها قد شبعت وارتوت.. فقد الولد لسانه،تحجرتا عيناه،وظل ـ كطريدة في شرك أو قفص ـ يستعمره ذعر مباغت،إذ ليس من لسان يسعفه،ولا حيلة يدرأ بها عن نفسه عمّا سيطرحه عليه القائم بأعمال الشؤون الدينية والدنيوية لقرية ظلت تناصبه التذمر والنبذ وعدم السماح له أن يكون قريباً منهم،مدّ من دون وعي يده ولغاية معروفة تجاهل(الملاّ)ذلك وأشاح بوجهه عنه وهو يكظم غيضاً مباغتاً تنامى في أحشائه،أقرع أفطس واجماً يقف إزاءه.. ـ بركة السماء واسعة،شملت هذه الأرض بنعمٍ قد تطول.. توقف لحظة قبل أن يواصل كلامه: ـ ألا تمل العزلة.. تتدحرج كلماته،كلمات تتعثر،كلمات لا تتشكل بيسر،سابحاً في غشاوة تتكاثف، رعشات تتفاقم،تغزو بدنه،أشباح تتحرك في مدى العين،وصمت مهيب يطبق على الحيوانات المستلقية تحت قسوة الشمس،وكان الأقرع ينحت عينيه في صفحة من وجه(الملاّ)،الذي راح يستطلع وهو يجول بعينيه المكان بحثاً عن علامة فارقة أو خارقة كي يبدأ هجومه الديني ويسحق بأيمانه الكونكريتي الشيطان في عقر داره،حرب شعواء تكفل عناءها وتسلح بكل آية رادعة من أجل النصر المبين،إذ ليس بوسع الشيطان أن يمضي في فلاحه.. ـ أتدري لم أتيت.. صامت ظلّ،استدار(الملاّ)ونحت بصره،وجه لم يحصل ـ رغم تواجده منذ سنواتٍ خمس ـ أن رآه من كثب،تساءل إن كان بإمكان إنسان ما أن يحمل حضارة البشاعة كلها،باغتته غصة وخضخضته رجفة،وكادت أحشائه أن تندلق،تمسك بالحبل المتين وأستلم خيط تسبيح لا ينتهي،هاتفه ظن واستولى عليه فزع،وندم لتسرعه في معالجة محنة ظلّت تأكل بأعصاب الناس،كان يجب أن يتأكد من أسلحته الإيمانية قبل أن يركب سفينة الإنقاذ وينقض على صبي لم يبلغ الحلم رغم تطرفه،عليه أن يواصل معركته وليس هناك من فرصة لاحقة لاستئناف القتال،لقد توكل وعزم وإن خسر فليس هناك من يرحمه،انحنى الأقرع وغرف بطاسة نحاسية غرفة ماء من الجدول الجاري ومدها،كان(الملاّ)واجماً كنحت،يخوض حرب سريّة مع شرنقة ألتفت حوله،شرر تتشظى من عينيه،لسانه اندلق خارجاً وبدأ يتشقق،شعر بجاذبية تسحله،قوّة خفيّة تدفعه والأرض راحت ـ من تحته ـ تميد،لم يعد يعرف كيف وصل الماء إلى يديه وكيف كرعه،لقد توقف كل شيء وبات يمتلك ناصية نفسه وأسترد توازنه،وكان الأقرع بصمته ينحت بصره فيه،لقد رأى (الملاّ)..ما رأى،خيوط دخان كأفاعي تتحرر من الأسر،بدأت تنمو وتتجه صوبه،ليس بوسعه أن يفعل شيئاً،ظلّ واقفاً تغزوه خيوط بيضاء وتنسج حوله رداء لذة ونعاس،سعادة تضاهي سعادات الدنيا تسكنه وتحلق به في سماوات قصية،طار فوق غيوم دافئة،ما الذي يجري..؟؟خمس سنين وهو قائد جمع الرجال في صلوات ما شعر قط بهكذا نفحات سرور،نسمات ترفعه وأخرى تدور به،ما الذي يحصل..؟؟،ها هو رهن قوّة تجرده من واقعيته الروتينية،وتحذف ما هو محشور في ذاكرته من مراسيم الحياة الراكدة،لا مفر..!!حرب بدأت وعليه أن لا يدع الشيطان أن يمضي ويسادر في طغيانه،هزيمته يعني طرده من فردوس الحياة قبل أن يغدو كما صرح بلسانه يوم الخطبة المشهودة: ـ لن أكون كلب نباح فقط..!!سيعض بنواجذه على كل سلاح ينفع يوم اللقاء ـ هذا ما صرخ به ـ وقطع مسافة حافلة بالأشواك والأدغال والمسطحات المائية قبل أن يلتمسه،كل ما حوله يشاركه الطيران،الحيوانات استفاقت وراحت ترقص والطيور قدمت وحامت حوله،تهالك متوسداً الأرض..!! *** وحده يقف،أرض تمتد وتبدو داخنة،سرب طيور تحدق بذعر،أنتبه إلى عريه،تناوش أسماله وارتداه على عجل،رشق وجهه بحفنات ماء،وساده الفرح،لقد ظنّ كل الظنّ،أن ما جرى محض أضغاث حلم دهمه في قيظ الظهيرة،فرح لأن ليس هناك من واشي سيفضحه،قرر أن يجمع الرجال ويزيح من بالهم كل ما شاع ويشاع من حكايات فوق العادة،سيقول لهم: عيشوا من جديد وتناسوا كل ما أتاكم من خزعبلات..!!مشى وهو يرسم مراسيم الفرح،ستزغرد النساء لنصره المبين،وستطلق البنادق حممها لدفن حكاية صبي منبوذ شاعت أقاويل عنه ساحر مكّار،يحوّل من يعكر مزاجه إلى حمار،أنتبه لنباح كلاب،شيء غير معقول،وقف يستطلع،كلاب القرية تعرفه،لا بل تهابه،لا كلب ينبح بوجه الملاّ..شكله مهيب،بمسوحه المفضفض وعمامته الحمراء،فرض رعباً مذ وصل إلى القرية على كل كلب لا يتورع النباح بوجه الغرباء،حيوانات القرية باتت تحترمه،واكتشفوا أنها تصمت أوان خطبه الدينية،تدارس في ذهنه ما جرى أو ما تهيأ له،وحاول أن يقنع أو يصطنع لنفسه جواباً يجابه به كل سؤال مباغت،داعبته فكرة إن كانت شياطين غريمه تلبست لبوس الكلاب وجاءت لتستأنف حربها،هز رأسه وسار من جديد صوب المسجد وقرر أن يبكر بالنداء لصلاة العصر،سيصلي بهم ويلقي عليهم تفاصيل معركة شرسة كلفته خزينه الفكري مع شياطين أبالسة جاءت كجراد زاحفة لتعكيير حياتهم،تفاجأ بقفلٍ يحكم رتاج باب المسجد،ولم تمهله خطوات تضرب الأرض أن يتدارس حقيقة الذي يجري.. ـ ها مولانا..!! خافضاً رأسه،استدار نحو القادم،شعر لحظتها بوهنٍ يفكك أرادته،رفع رأسه ولمح لمعان العدوانية المرتمية في عيني المختار،ليس ثمت احتمالات،ليس ثمت من يفض الاشتباك الوارد،عليه أن يحكي من غير لف أو دوران،من غير تأويل أو تفسير،كل ما جرى..حشرج صوته : ـ ما..خطبك يا مختار.. ـ أندحر أيمانك.. من شاهقٍ هوت مطرقة على رأسه،لا داعي للخجل طالما بان الخيط الفصل الذي بدد الظلام،فهو يدرك أن المؤمن حياته حروب صغيرة،عليه أن يكافح،أن يلعن الحياة الدنيا،وأن يخسر دائما وأبداً،طالما الفردوس لا يلجه إلاّ المجاهدون،الخاسرون في الحياة.. ـ ما خطبك..أبا شعلان.. ـ لا حجة تنفعك.. ـ كل شيء بمشيئة الواحد الأحد.. ـ كان يجب أن تفحص إيمانك قبل أن تتوكل عليه.. *** الآن وحده يجابه التيه،لقد خسر النعيم الذي عاشه،أين يتجه،لابد أن أخباره ستسبقه، سار باتجاه الفك الداخن الذي يبتلع كرة الشمس كل غروب.. *** تناقلت الألسن النبأ،أقرع القرية يدحر(الملاّ)..من لسان لأذن ..تمضي الحكايات وتتجنح وهي تضيف ما يضحك ويدمع العيون،ومن جديد بدأ الذعر يكبر،صار الأقرع نجماً ساطعاً،تهابه النفوس،وتحسب له حسابات دقيقة،كلّما بان أو مر به أحد،وشاعت من جديد،حكاية غير مسنودة،الأقرع أنتقم لشرفه،حكاية صارت حقيقة،جاء أن(الملاّ)يوم حلّ قائماً مقام الشؤون الدينية للقرية،تعثر ذات مساء وسقط،وجد صبياً يشد مسوحه،يقولون:ركله بقدمه وبصق عليه..!!ها هي أفلاك الزمن تدور،وحول الباغي تنسج خيوط الدوائر،صارت الألسن تلهج :بصقه ببصقه.. يا لبصقات الأقرع..!! صفعة بصفعة يا لصفعات الأقرع..!!وتمضي الحكايات: لا..لا..هو لم يبصق كما بصق مولانا..هو لم يصفع كما صفع مولانا..الأقرع كان أشطر،لقد أرقصه عارياً مع حيوانات القرية،ومن جديد بدأت ألسن عابثة،تغزل حول نول الذعر حكايات جديدة،صار الولد الشيطان يحرك الأشجار عن مواضعها،صار يوقف جريان الماء في النهر،صار يجعل الحيوانات تمشي على قدمين،صار يعري كل صبي يسخر منه،صار يجعل كل رجل يشيح بوجهه ـ كلما يمرـ يركض وهو يشخ على نفسه،وصارت الدميمة أمّه أميرة،نساء القرية يخدمنها،كل واحدة تأتي وهي تحمل اللبن والبيض وما يجلبه زوجها من البلدة من فاكهة وحلوى،أستفحل الخوف ولم شمل الرجال،أعادوا كل كلام لاكوه،وصار الليل يتبعه ليل آخر قبل أن يستقر الرأي على قرار فرضه المختار،اختاروا الوقت الملائم،ورسموا بكل يقين حدود الرغبة،لا نصر يتحقق إلاّ بتضحيات جسام،والكثير من الجرأة،رهط شباب أشدّاء في اختراق مسارب المجاهيل لا ترتجف أوصالهم أوان الفجائع،سترهم الليل بعباءة الأمان،وجدوه يشخر في سابع النوم،ملتحماً بصمته المعهود،وربما بشياطينه العنيدة،لم يعد هناك في الرأس مكاناً للتفكير،تعاهدوا على نحره،ارتفعت عشرة أيدي تتسلح بمدى مغموسة بالسم،عشرة أيدي هوت دفعة واحدة،لا صوت..لا صرخة..لا بد وأن الطعنات جاءت في الصميم،غمرتهم الفرحة وهم يتسللون من حيث أتوا،ستفرح القرية وتنحر الخراف كما تعاهد المختار،ستضرب الطبول وترقص النساء،لكن الصباح رباح،هكذا تلهج الألسن،لابد أن الصباح القادم سيختلف عن كل صباحاتهم العسيرة..ومع تباشير الفجر صرخة هزّت البيوت وأخرجت الناس،وتعالت الصرخات وخرج كل واحد وراح يركض وهو يتقافز،نهر دم مهتاج يزحف ويطوّق القرية،اكتشفوا أنفسهم واقفين خلف جسد ضئيل يركع ويمد يديه إلى السماء،ما الذي يجري..؟؟لهجت عشرة ثغور،لقد أصابوه في الصميم،ورأوا بأم أعينهم رغم الظلام كيف شخب الدم من ثغور فغرتها النصال العشرة الفاتكة،وجدوا أمامه حماره مؤوداً،هرعن النساء صوب أمّه وقبلن يديها وقدميها ورضخت لتوسلاتهن وجاءت إليه،قام واستحال الدم إلى ماء بدأ ينسحب إلى النهر،توجه الأقرع وقاد الحيوانات النائحة صوب الحقول المستفيقة،بينما أنهال الرجال العشرة وحملوا الحمار في موكب مخيف صوب مقبرة القرية ودفنوه طمعاً بغفرانه وعدم مساسهم بسوء..!! *** من وهبه هذه القدرة الخارقة..؟؟سؤال ظلّ يردده كل لسان،ومن جديد بدأت الألسن تنحت في صخرة الماضي بحثاً عن مفتتح يهدي إلى بر القضية،متاهات تسحب الخيال ودهاليز تردع النفوس،حتى جاء الخبر اليقين من كهلٍ قرر أن يمسك خيط القضية،ثمت أوراق مهملة،كيف تناسوها،أوراق تشير إلى أنه تعلم السحر،والسحر كما قال(الملاّ)المندحر في خطبته الجهادية:ليس هبة بل رغبة مكتسبة..!!وعادت إلى الذاكرة تفاصيل قديمة،ذات يوم أتى القرية قوم من الغجر وحطوا رحالهم،ويوم رحلوا اختفى الأقرع ـ هذا ما قاله الرجل الكهل ـ وتفشت حكاية على أن الأب قام ببيعه إليهم،تخلصاً من قباحته،لكنه ظهر بعد ستة أشهر،وراح من جديد يختلي في التل الأثري جوار مقبرة القرية..!! *** ـ كيف أحوال القرى المجاورة.. ـ انقطعت أخبارهم عنّا.. ـ كلكم أبناء بطن واحدة.. ـ لا حيلة لدينا.. ـ سأسعى إن كنتم في خلاف.. وحين عرج المختار صوب السبب.. أجاب الرجل الغريب : ـ السحر يبطل السحر.. رجل بلحية كالقطن المندوف،قدم في المساء وحل ضيفاً على بيت المختار،يتظاهر بالكبر،لا يحرر كلامه إلاّ بعسر،أبرموا معه اتفاقاً،وأنفرد بمن للسر كاتم،أختار اليوم الملائم لإنجاح معركته،وعند الموعد المضبوط،تسلل الرجل الغريب بعباءة امرأة،كانت النساء تحت الرجال هكذا اقتضى الحال،فكل رجل جمع شهوته لثلاث ليال،وبينما كان اللهاث ينفلت من الغرف الطينية،كان الرجل الغريب يسكب شهوته في ثقب(مخدة)الأقرع،عاد يلهث وهو ينز بالعرق ورائحة بغيضة تتناثر من جسده،أجتمع الرجال وحلقوا حوله وظل هو يلتهم ما قدم له من لحم ضأن مشوي،راحت الرؤوس تهتز والخيال ينفلت وتصور البعض أنهم سيخوضون معركة مروعة،لابد أن يعود الأقرع ويكتشف بدهائه أو من خلال شياطينه اللعبة القذرة،هذه المرة لا يرحمهم،سيجعلهم يسبحون في الفضاء ولن يرضخ لتوسل،استحال النهار إلى دهر من الخوف والترقب،وعند الغروب كانت العيون تتلصص من خلال شقوق وثقوب الأبواب،عاد الأقرع وعادت الحيوانات إلى المنازل،تحول الليل إلى كابوس جاثم سالباً النوم،فارضاً الأرق،عيون الرجال متحجرة،قلوبهم منتفضة،وجدن النساء فرصة للقاء وبدأن يتفاخرن لما جرى لهن في ظهيرة إستثنائية،إذ لم يحصل أن دنا رجل من زوجته في هذا الوقت بالذات،كن منتشيات لقوة الفحولة ومرات الفعل،لمّا يزل صوت اللهاث يضج في أحشائهن..!! *** في الصباح كان الرجل الغريب يمسد لحيته وكانت العيون تحرث صمته،وكانت الحيوانات تجأر وتستغيث،وحين تناول فطوره،وجد الناس في ذعر،قام وخرج وقاد القطيع كما نص بند من الإتفاق صوب الحقول..!! *** في المساء،أفتتح المختار الجلسة: ـ خبرنا عن مصيره يا شيخ.. ـ لا يعالج السحر إلاّ بالسحر.. ـ أرحنا لنتفرغ لأحوالنا.. ـ عدّوا أربعين ليلة قبل أن تروه بأم أعينكم..!! *** بيت يثير الريبة ويفزع كل من يحدق فيه،لا أحد يتجرأ أن يدنو منه،بدأت الرؤوس تجتهد لإزاحة كل ما تراكم من حكايات،والتفرغ الكامل للفرح الجديد الذي جلبه غريب أديب،جاء في لحظة حاسمة وأنقذهم من التيه الذي نشب مخالبه في نفوسهم،بيت ظلّ مغلقاً،كان قرار الغريب تهديمه ولكن ليس قبل أن يأتي اليوم الموعود ..قال لهم : ـ سنهدمه ونبني مكانه بيتاً لفرحي بعد الليلة الأربعين..!! *** من كل حيوان زوجين أثنين،صحيحة غير معيوبة،أربعة رؤوس من الغنم ومثلها من الماعز والبقر والبط والدجاج والأوز والحمير والخيل،مع الفرحة الكبيرة،سيتزوج صغرى بنات المختار،هكذا تم الاتفاق يوم إبرام القرار..!! *** في صبيحة اليوم الموعود،تقاطر الرجال وتبعوا الغريب،قادهم صوب الجامع وصلّى بهم ركعتين وقادهم صوب البيت المهمول،كسر المغلاق،تحررت آهات وتناثرت تمتمات من الرجال وهم يلجون خلف الرجل الغريب وهو يقود المختار،تقدم الغريب وأنتزع من على الحائط كيس عليه غبار،مزقه وتناثر بقايا أوراق محترقة،داسها بكعب حذائه وصاح: ـ هذه طلاسمه يا رجال.. جالت العيون واحتدمت الألسن قبل أن يشير وهو يرفع كفه: ـ صار لقمة ممضوغة في فك الجحيم.. عادوا بعد أن أوعز لفتيان القرية أن يبدؤوا التهديم..!! ***
ـ يا أبناء عمومتي وخؤولتي..أشهدكم على زواج صغرى بناتي من منقذنا،وعدٌ أبرمته وشهدتم عليه.. سكت المختار وانطلقت صليات زغاريد من ثغور النساء،رقص كل رجل رقصتين، رقصة لزوال الساحر المكّار ورقصة لزواج الرجل الغريب من بنت المختار..!! *** سبع ليال من السرور،سبع نهارات من أكل اللحوم،عاشتها القرية وفي صبيحة اليوم الثامن عرج صوب القرية رجل يركب على حمار،كان يتحدث عن قزمٍ وعجوز ينبشان قمامة خارج حدود مدينة(جلبلاء)وحين سألوه عن شكله أقسم لهم : ـ رأيتهما يأكلان الخراء.. وحين وصل الخبر إلى الرجل الغريب،هزّ رأسه وقال : ـ هذا مصير كل ساحر..!! *** لم تسترد القرية كل عافيتها بعد،أربعون نهاراً مرت وفي صبيحة اليوم الحادي والأربعين هرع صبي صوب أمّه وهمس برعب في أذنها،سرعان ما شاع الخبر من فم لأذن،ومن امرأة لبعلها ومن رجل لرجل..بادئ ذي بدء قالوا: ـ هلوسات جديدة يا ناس.. لكنهم اكتشفوا ـ بعد حين ـ أنفسهم في اجتماع..!! *** كان يجب أن يتحرى قبل أن يدافع عن سمعته،ظلّ ساهراً تتناوشه الظنون والكوابيس وعند الصباح أندفع المختار ليقف بنفسه على الخبر الأليم،تعثر وتماسك وهو يستند بجدار البيت الجديد،وقف يبحث عن مسندٍ أو دليل يقوده،تهاوى على الأرض وراح يزحف على يديه باتجاه الرجل الراكع،جف حلقه وخرس لسانه وتحجرتا عيناه على منقذهم من البلاء العظيم،إذ لم يكن الرجل الغريب سوى ذلك(الملاّ)الذي طرده قبل عشرة أعوام،كان يركع بهيبة وخشوع رافعاً كفيه إلى السماء وأمامه قطيع حيواناته ترقص على قدمين..!!
#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما رواه عبيدال//قصة قصيرة
-
من أجل سلّة رغيف
-
أحزان صائغ الحكايات..حين يفضح النقد أسرار السرد
-
خوذة العريف غضبان//مونودراما//
-
مواسم الهجرة إلى الأمان
-
تلك من أنباء القرى التي أنفلت
-
الرابح يأتي من الخلف
-
ربّاط الكلام
-
أين موقع أنكيدو
-
شاعر البلاط الرئاسي
-
من كتاب اللعنات
-
تحقيق الرغبة في رواية(غسق الكراكي) لسعد محمد رحيم
-
إلى ذلك نسترعي الإنتباه
-
الأوراق لا تأتي في خريف الرغبات
-
رب نافعة ضارة أيضاً
-
امرأة الكاتب العراقي
-
الصديق الأخير
-
فن النصر
-
بيت كاميران
-
أصطياد فأر....مونودراما
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|