|
التمييز الديني والعولمة
حسن خليل
الحوار المتمدن-العدد: 2409 - 2008 / 9 / 19 - 03:25
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
لابد أن يستوقف أي باحث في قضايا التمييز الديني كيف أن الحقبة الممتدة منذ السبعينات وحتى الآن شهدت صعودا حادا للاتجاهات الدينية المتطرفة أو "الأصولية" وكيف أن هذه الظاهرة لم تقتصر على دين بعينة بل امتدت إلى أديان عديدة. ففي هذه الحقبة برزت التيارات السلفية الإسلامية في المنطقة العربية والمسيحيين المحافظين الأكثر تشددا في الولايات المتحدة والهندوس المتطرفين في الهند وحتى الليكود في إسرائيل. وارتبط بهذا الصعود اشتداد العداء ضد المخالفين الدينيين وتصاعد العنف الوحشي وتنامي الانغلاق بين أبناء الديانة الواحدة. ومصر لم تكن إذا نشاز عن القاعدة العالمية. والسادات لم يكن بعيدا عن ريجان في الولايات المتحدة ولا عن ضياء الحق في باكستان وغيرهما كثير.
فما الذي يكمن وراء هذه الظاهرة العالمية. التي لا يمكن أن نفهمها دون فهم عالميتها؟
لا يمكن تقديم تفسير ثقافي لهذه الظاهرة . فالأفكار الأصولية في كل تلك الأديان ربما قائمة منذ أزمنة سحيقة. فالوهابية مثلا التي اجتاحت المنطقة العربية ليست وليدة السبعينيات والأفكار التكفيرية الأخرى التي برزت في الستينيات هي إحياء لأفكار بالغة القدم. فلم تصدرت هذه الأفكار الثقافة العامة الشعبية في تلك الحقبة بالذات؟ وكذلك فان "انهيار المعسكر الاشتراكي" وضعف جاذبية الاشتراكية لا يمكن أن يكون سببا كما يردد الكثيرين لان السبعينيات نفسها شهدت عددا من أهم الانتصارات الاشتراكية مثل تحرر فيتنام من الاحتلال الأمريكي وتوازى القوة العسكرية السوفيتية مع تلك للولايات المتحدة. والتفسير القائل بان اليأس من هزيمة 67 لا يصمد في حال مجتمعات لم تحارب ولم تنتصر ولم تنهزم مثلا الهند وباكستان واندونيسيا. وكذلك ربط التمييز الديني بدين معين خرافة آخري فهو كما ذكرت سابقا منتشر بين كل الأديان ففي الهند بلد غاندي احرق في يوم واحد 2000 مسلم أحياء وهدمت كنائس بل أن التمييز بين أبناء الديانة الواحدة لا يقل بشاعة انظر الحروب الدينية بين السنة والشيعة في العراق وباكستان.
شهدت السبعينيات تحول أساسي في تركيب الرأسمالية العالمية في مراكزها الأساسية. فتم الاستغناء عن قاعدة الذهب – أي أن تكون النقود مدعومة وقابلة للتحول للذهب. تحديدا من عام 1971. وأصبحت كل العملات مرهونة بالدولار الأمريكي الذي ليس له غطاء ذهبي. وبرزت فوائض مالية هائلة من تضاعف أسعار البترول 3 مرات أثناء حرب أكتوبر. وبرز إلى الواجهة الاقتصادية النظرية الاتجاه المعروف بالنيو-ليبرالية. وأصبح من المحتم استثمار هذه الفوائض خارج المراكز الرأسمالية التي تملكها. فظهرت موجة من الإقراض للحكومات ومن الاستثمار المباشر الذي أدى إلى غرق مجتمعات عديدة في أزمة ديون طاحنة
وفي مصر توقفت الدولة عن سداد ديونها – أي تقريبا الإفلاس – في عام 1987 وهو الأمر الذي حدث مع كثير من الدول حتى دول غنية مثل فنزويلا. فالقروض والمنح هي التي مولت نظام السادات والأنظمة المماثلة والتي جعلت من الممكن تضخم الطبقة الغنية بينما الاقتصاد متوقف أو منكمش والشعب يهوى في مهاوي فقر لم يعرفه من قبل. ومع الاستثمار الأجنبي جاءت شروط وقيود على توسع الاقتصاد واتجاهاته اعنف من تلك التي عرفناها في القرن التاسع عشر في أزمة ديون مصر في عصر إسماعيل. والفارق أن في عصر إسماعيل كان الاقتصاد المصري يمكنه النمو كما يريد المصريين بشرط دفع الفوائد الباهظة أما في عصر العولمة فهناك شروط وقيود على حركة الاقتصاد المصري داخليا وعلى طريقة التنمية نفسها بالإضافة إلى الديون الباهظة.
ثم أن موجة العولمة تلك لم تضع اعتبارا لما كان مقدسا من قبل وهو السيادة الوطنية. فأصبح من المعتاد أن يذهب الجنود الأمريكيين إلى دولة مثل بنما يقتلون بضعة آلاف ويختطفون الرئيس – مانويل اورتيجا الذي هو عميل للاستخبارات الأمريكية – ثم يحاكم في الولايات المتحدة بتهم متعلقة بالمخدرات أو بكسر الاتفاق مع الاستخبارات أو بتمديد معاهدة بنما التي تربط الولايات المتحدة بهذا البلد. لم تعد السيادة الوطنية تهم كثيرا بل القوة الغاشمة وما جرى في بنما هو تمرين صغير لما جرى في العراق وفي يوغوسلافيا وجرينادا وهايتي ونيكاراجوا والقائمة طويلة. أصبحت القوة العسكرية للدول الكبرى لها السيادة وألقى بالقانون الدولي في المرحاض.بل أصبح من الشائع مقاضاة الدولة وإكراهها على تغيير قوانينها بل وتغريمها من خلال نظام معادى للديمقراطية أقيم من قبل منظمة التجارة العالمية.
وهيمن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على كل سياسية داخلية لكل مجتمع ضعيف – مثل مصر - من السياسة الاقتصادية للتعليم للصحة للدعم الخ. والمحصلة البلدان الصغرى تعمل كعبيد للكبرى لقاء احتفاظها بطبقة غنية سفيهة وغير منتجة. يضاف إلى ذلك أن النيو-ليبرالية تحالفت بشكل قصدي مع الاتجاهات الدينية الأكثر تطرفا ودعمتها بدأ من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة إلى الجاناتا في الهند حتى أسامة بن لادن كلهم صنائع ومتلقي دعم من أنصار النيو-ليبرالية. ومن السادات إلى مناحم بيجن استفاد الإخوان هنا وحماس هناك من دعم قصدي بهدف تمرير سياسات النيو-ليبرالية. يضاف إلى ذلك تحول الإعلام إلى وسيلة عالمية للسيطرة تعيد صياغة مفاهيم الإنسان عن نفسه والعالم لصالح مفاهيم النيو-ليبرالية والاستهلاك.
و هذه التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى أدت إلى تغييرات عميقة في كل المجتمعات بدء من الولايات المتحدة نفسها وحتى في مصر. فلمن لا يعرف يعيش طفل من كل أربعة أطفال في منطقة لوس انجلوس الكبرى في الفقر. بينما منطقة لوس انجلوس نفسها تنتج ما يعادل أكثر من تريليون دولار سنويا أي تصنف وحدها ضمن اكبر اقتصاديات العالم. وارتبط تصاعد المد الديني المتشدد بتنامي الفوارق الطبقية في كافة المجتمعات وتنامي الفقر. وكذلك اتساع حركة الهجرة بين الدول بحثا عن مستقبل أفضل حينما غدا الوطن لا يعد إلا بالفقر والتهميش. والمصريين مثال صارخ على ذلك فهم الشعب الذي ارتبط بأرضه آلاف السنين حتى أصبح بيع الأرض عيبا وترك الوطن خيانة. الآن على الأقل هناك 3 مليون مصر في هجرة دائمة ومثلهم في هجرة مؤقتة وملايين أخرى تنتظر أمام أبواب السفارات. الهجرة الواسعة غير المسبوقة بدافع الحاجة شوهت كلا من المجتمعات الطاردة والمستقبلة لها
و في مصر فالصورة أكثر وضوحا . فمن يظن أن مصر السبعينات هي مصر الحالية يخطئ خطاء كبيرا. ففي أوائل السبعينيات لم نكن نعرف أن طفلا بات جائعا والآن يوجد على الأقل 2 مليون طفل يعيشون في الشارع – وبعضهم يقول أن العدد 3 مليون – أي أن هناك 2 مليون أسرة بلغ بها الفقر والتفسخ حدا جعل الأطفال يسرحون في الشارع دون معيل. وأصبح هناك أطفال شوارع هم أحفاد وأبناء لأطفال شوارع أي أن الظاهرة تأخذ في التجزر. وفي السبعينات كان الفلاحين هم الطبقة الأكثر عددا وكانوا طبقة منتجة وأن كان حجم إنتاجها محدود بالنسبة للعدد.
الآن اكبر طبقة في مصر هي طبقة المهمشين الذين يعيشون خارج كل نظام اجتماعي ولا ينتجوا إلا عرضا ويعيشون في أكثر من ألف منطقة عشوائية يقطنها 17 مليون مصري غير من يعيشون خارجها. حتى الأسرة المصرية التقليدية أخذت تختفي . ففي السبعينات كانت الأغلبية الساحقة من الأسر تعيش على عمل الأب في خارج المنزل وعمل الأم في المنزل إلا أقلية من الأسر "الحديثة" سكان المدن حيث يعمل الأب والأم خارج المنزل. الآن 22 % من الأسر تعولها الأم ليس لغياب الأب بل لان الأب لا يجد عملا أو أصبح مع الإدمان غير قابل للعمل.يضاف إلى ذلك نوع جديد من الأسر الحديثة جدا حيث يقدر عدد حالات الزواج العرفي بـ 350 ألف حالة في الجامعات. وينعكس ذلك على الأمراض الاجتماعية مثل الدعارة والإدمان والبلطجة ثم الأكثر شهرة التحرش الجنسي. هذه الأمراض الاجتماعية التي أصبحت سمة المدينة المصرية الحديثة.كل ذلك وحجم الاقتصاد المصري اكبر كثيرا مما كان علية. ولكن توزيعه اختل اختلال بينا. والأهم أن مصادر الثروة أصبحت أساسا لا إنتاجية – مثل السياحة وبيع الأرض الخ - مرة أخرى يمكن رسم نفس الصورة في المغرب أو الهند أو حتى الولايات المتحدة. شملت العولمة كل العالم .
أن ما نشهده منذ السبعينيات هو انهيار اجتماعي ناشئ عن وجود نوعين من الاقتصاد اقتصاد أصلي للبلد واقتصاد وافد عولمي خدمي استهلاكي. وبين هذين الاقتصادين تمزق النسيج الاجتماعي وانهار التضامن بين الناس. ومع الانهيار الاجتماعي وغياب التكاتف والتضامن ضمن الأسرة والطبقة والفئة الاجتماعية تصبح الأفكار المتطرفة والهروبية والعنصرية والغيبية أكثر إغراء. لقد قامت النازية في ألمانيا على أساس من الانهيار الاجتماعي الشامل الذي مزق أكثر المجتمعات الأوربية تحضرا بعد الحرب العالمية الأولى فصوت الألمان بملء إرادتهم لصالح نظام همجي عنصري معادى للإنسان. وأصبح العزاء لمن لا عزاء لهم في الهرب إلى ماضي سحيق يتصورونه حسب هواهم وفي قيم عتيقة يتمسك بها الناس بسبب قدمها أكثر من إقناعهم بها. ويصبح الغريب والأجنبي عدو لأنه لا يشارك في تلك القيم والمعتقدات البالية. وينحط مبدأ سيادة العقل لان الواقع نفسه أصبح مجنونا ولا يمكن تصوره. أن الناس عادة ما تفكر بشكل عملي ومنطقي يخدم مصالحها. فإذا أصبحت الدولة الوطنية مجرد علم ونشيد دون واقع حقيقي فمن يريد أن يحترم الوطنية ويركن إليها. وإذا كان المجتمع فقد كل الكوابح الاجتماعية التي تعين الفقير وتوفر عملا ومدرسة ومستشفى فمن يريد أن ينتسب للمجتمع أو أن يحرص عليه.
النهب واسع النطاق لمجتمعنا ولمجتمعات كثيرة في العالم ضمن نظام العولمة سيء الصيت خلق الأساس الموضوعي لسيادة اشد الأفكار تخلفا ورجعية. هذا لا يعنى أن ليس لنا في مصر دوافعنا الخاصة وتوليفاتنا الذاتية للتمييز الديني والتخلف لكن يعنى أن كل هذه الثمار المرة لم يكن لها لتنمو لولا بيئة العولمة الوحشية التي اجتاحت كرتنا الأرضية.
#حسن_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
Express To Impress عبر لتؤثر
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
المزيد.....
|