أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - المقاييس والأحكام اللغوية والفنية في القصة القصيرة العربية الجزء الرابع















المزيد.....


المقاييس والأحكام اللغوية والفنية في القصة القصيرة العربية الجزء الرابع


جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

(تôôèô‏ ؤôéôم)


الحوار المتمدن-العدد: 2408 - 2008 / 9 / 18 - 04:01
المحور: الادب والفن
    


دراسة تتناول:
الكاتبة سميرة المانع
تعتمد اللغة القصصية على الاختصار وكثافة المعاني، وذلك في تتبع أثر موضعية حركتها وميولها وترتيب نظامها، وإشباع الكلام بالإحساس الذاتي للفظة، من غير تكلُّف في الصياغة والسبك، حتى تزداد إبانةً وتوضيحاً على ترتيب صحيح في بيانها، عبر نسقٍ خال من القصور في وحدة المضمون، ليكون النص أكثر تجاذباً بالاتصال مع المكونات الجمالية الأخرى لتأسيس تدفق بوح الحكاية، وكشف معانيها على القارئ بسهولة، وأكثر متعة، وقد يتضح لي في الكثير من القصص القصيرة إنها تتمتع بنصيب أكثرَ قراءةً من القصيدة، وأمتع تعبيراً وحيوية في ايعازاتها السريعة من الرواية، لذا تجد القارئ يميل بقوة إلى قراءة القصة القصيرة، لما تمتلك من وعي تشكيليي يعانق الخيال، دون توقّف فيها ولا تكلّف، بل تعتمد وتتبنى الإثارة في حركة الجملة الرشيقة، وميل تناغمها الحيوي، مع ما يطلبه القارئ من الكاتب:
وهو الإتيان بمعانٍ تتجانس في الإحساس، والفهم، والتناسب الدقيق، كون القصة في بنائها الجديد تغذت من رافدين: الشعر، والرواية، ومزجت في تكوينها بين أثر البديع في متلاقيات وظائفها الفنية، وبين الإحساس النثري المسترسل في معانيها. وفي ذات الوقت.. فالقصة الحديثة تبنت اللقطة السريعة المعبرة، وأكدت مهارة بتحقيق منطوق المعاني، هذا إذا أحسن الكاتب الوضوح في الترابط الفني مع اللغة، وتدفق رقة اللفظة في مكانها المناسب، لتوصل مناجاة بوحها إلى المتلقي على أحسن وجه وأكمله. ومن هنا فقد أصبحت القصة أشبه برفيق محبب لأوقات القارئ. لأنها تقوم في بنائها على أساس الشك والبحث والتساؤل والمهارة في التركيز، وبسط الرؤيا والخيال.
وقد أهتم بهذا الإبداع الكثير من القصاصين العرب، فأنجزوا فناً متكاملَ البناء في هندسته الداخلية والخارجية. وقد برز من بين هؤلاء الكاتبة العراقية المبدعة سميرة المانع، وهي جارية على نعت التخيل، التي تميل إليه هذه الناحية أو تلك في لمحة اليومي الخاطفة، وهي الدالة العارفة على ما ترمي إليه في الأصل، من ثنايا الدليل اللغوي في جزئياته وخصوصياته وترابطه مع العناصر المكونة للنص، ومن خلال إلقاء نظره متفحصة.. نجد أعمال المانع تتسم بالسمو الانفعالي الباطني في تجليات المضمون، وقدرته على التحدث مع الآخر من وعي مستحدث في لغة التعبير والتوصيل من ثنايا حبكة المعاني وسهولتها، حيث تومئ لنا المانع بأن الفنان عالماً قائماً بذاته، يعكس ذهنية يقظة ترتبط معاييرها بالمؤثرات المرئية التي تحقق للكاتب قوة التعبير والمكاشفة. تقول سميرة المانع في سيرتها الذاتية المختصرة المكتوبة عام 1995: "أظن أن لكل كتاب أسباباً في الظهور. عندما نشرت كتابيّ الأوليّن وهما رواية "السابقون واللاحقون" سنة 1972، ثم المجموعة القصصية الأولى "الغناء" سنة 1976، كنت أكثر اهتماما بالمسائل الشخصية الخاصة الفردية الصغيرة للأبطال." إذن فالميزات الشخصية للكاتبة المانع، تخلو في الغالب الأعم في نصوصها من التنافر والخشونة، حيث جعلت من موضوعاتها واثبة القدرة على النجاح، برأي الكثير من الكتابات النقدية التي تناولت أعمالها، مع واقع حكم الاختلاف فيه، وإن تفاوتت مستويات الوعي النقدي في تلك الدراسات، فالطاقة الذهنية التي تمتلك أدوات التحليل والتفسير والمكاشفة، تحدد الاختلاف المعرفي بين هذا الدارس وذاك. والحكم على نص سميرة المانع يجب أن يلتزم بالدلالة المقنعة، لأنها حققت في نصوصها أمرين مهمين أولهما: إظهار التيار الصوتي الذي يمنح العامل الخارجي قوة الكشف عن المعاني المتمايزة والمتوازنة في اختيار شخصيات نصوصها على أنهم يعنون بالأسلوب الذي يميل بالعقيدة إلى إرادة صارمة في تصرفاتهم.
وثانيهما: تجنب المبالغة، واللفظ المبهم، والإسهاب الذي يفتقر إلى بيان مضمنات لا تكشف عن إدراك حالات الوعي في موضوعة القصة.
فالمانع كتبت نصوصاً ناجحةً منذ أن أيَنَعَ عودها. وهذا بشهادة أستاذها د. علي جواد الطاهر، كان قد دَرَّسَ المانع في كلية دار المعلمين في جامعة بغداد عام 1958، ومن خلال براعة مبدأ الخبرة في الكتابة، وتقنيتها الدقيقة في النسيج القصصي والروائي عندها، نجدها في هذه القصة تأخذنا إلى:
"وصلت المدينة إلى درجة كبيرة من الملل والقلق، التفت الناس إلى منقذ فلم يجدوا سوى قبور متآكلة بالقِدَمْ سمِّيت بقبور الصالحين: "مار يعقوب" و "سيد زلف" و "سيد الزين". اتخذت كل فئة من السكان واحدٌ لها، تتقرب إليه، تدعوا بجهالة، تقدم له النذور والقرابين. بمرور الزمن انقسمت هذه القبور إلى اختصاصات. هذا متخصص بالأطفال، وهذا بالمجانين وذاك بالعاقر، مع ذلك، مات الطفل المريض بالتيفوئيد."
تقوم القصة القصيرة العربية الحديثة على خيار: لكل فاكهة لها طعمها الخاص، أو كما تحدث ريتشارد فريبورن عن " مبدأ المرآة العاكسة" وهذا المبدأ ينطبق على الشعر والقصة والرواية، مع إنه خصصه للرواية في دراسته " الرواية الثورية الروسية". ولكي نربط القرائن السياقية للحكاية مع بعضها البعضَ نتواصل في قراءة التالي:
"ابتدأ بعضهم بالذهاب إليهما مترددا،ً حتى أكثروا مستمرئين، وفي نفس الوقت صاروا يتذكرون عيوب ومثالب القدامى، يشككون بقدراتهم، يكذبون وجود العربيد الذي يحرس الأخير، بعد أن اكتشفوا أنه يعاقر الخمر طيلة الليل، ينزل أثناء ذلك إلى المدينة متخفياً مبذراً النقود، أما "سيد زلف" المتخصص بالنساء العواقر فلم تعد تعبأ به أو تزوره امرأة، فالقيّم على شؤونه، له عينان سوداوان متقدتان بالجنس، اتهم بالإساءة إلى ابنة الشرطي " حمزة " تلك التي ذهبت إليه مع أمها شاكية العقم، فلم يجد علاجاً لها سوى أن يضع إبهامه في سرتها، ضاغطاً على استدارة نقطه الوسط، متنقلا الأصابع الأخرى إلى أماكن متعددة شبراً، شبراً.."
يدلنا هذا المقطع وذاك من قصة: "التواطؤ الأول في الفنون1 " والذي أرادت به المانع أن تجعل من تصرفات الأشخاص في عالمها القصصي محدداً في التصرف الملبي لإيعاز التمني للحصول على الخصوبة والجنس معاً، وهذا الأسلوب يخضع لقانون النسبة الاحتمالية، الذي يراد بها أولاً: أن تأخذ بالناحية السلبية لأن تكون فاعلة مع قناعة السيد زلف بفشل علاجه، لكنها في الوقت ذاته تحدد أسباب الاضطراب النفسي والمعنوي عند المريضة، وأن تؤدي بالناحية الثانية: الوجد للقلب المسوق للممارسة الجنسية المشبعة بالتجاوز على الذوق العام، المفرغ من رجفة الروح لحظة رهصة العناق، وهذا التشريع الذي نبهت إليه القاصة، جعلت له من صحة الفعل خصائص الوضوح في الرؤيا، التي تحدد للحكاية شكلاً درامياً، وتفاعلاً منهجياً مع متطلبات الدقة في التصوير الإيحائي، وذلك لبسط عوامل المهارة في بناء المعاني، مع أخذ مراعاة تصرف الفرد فيما يتخذه من قرارات أنانية ذاتية، تتناسب مع طموحه ورغباته الإدراكية، وذلك في استخدام الدين والجن والسماء، لكي يجعلها ملبيات لسياسة عامله الخارجي الشاذ، حتى إذا جاءت تلك القرارات الصريحة متمردة على الذوق العام للنظم الاجتماعية. ولذا فالقاصة هنا في هذا التلويح الدلالي جعلت من تلك الحقائق توافق موضوعاتها، بحيث لا تستعرض قط بصورة تبدو أنها تريد أن تحقق مسعىً استدعائياً، يترحل به البطل المحتال مع إحساسه الأناني، ليكون عمله الخارجي متوافقاً معنوياً: بين حالته النفسية المشوشة، من جهة جانب إشباع رغباته التي تحترف الدجل، وبين إيهام الآخر بالمعتقدات السماوية الغيبية، وهذه الأعمال تجدها ظاهرة ومتفاعلة في العصور المظلمة التي أمتد طغيانها المتخلف لحد تاريخنا هذا، في البيئات الفقيرة والبعيدة عن متطلبات عناصر تطور التقنية المعلوماتية، الثقافية والصناعية الجديدة، وانعكاسها إيجاباً على الآخر، ومن هنا يتشكل منشأ التفاعل في الاختلاف بين الفرد الواعي، وبين المتخلف. يقول أرنولد توينبي: " أنَّ الشخصيَّة النامية أو الحضارة تسعى إلى أن تصيرَ هي نفسُها بيئةَ نفسها، وتحدِّيًا لنفسها، ومجالَ عمل لنفسها. وبعبارةٍ أُخرى إنَّ مقياس النموّ هو التقدُّم في سبيل التحقيق الذاتيّ.2" وهذا ينطبق على الحالتين: الحالة الراعية لمنهج التطور المجتمعي الحضاري، وأيضاً للحالة الشعبية المتخلفة، ومن بين هذه الشخصيات فئة الدجالين القليلة التي تستجيب لهم الأكثرية، من خلال قياسات يحددها التخلف ذاته، عبر المحاكاة الآلية mimesis للنفس. ولهذا فالمرأة العاقر التي تنوي طلب العلاج، لكي تُلقحَ بيضتها غيبياً من سماوات مخيفة مجهولة، عبر رسل تلك السماوات في الأرض أمثال: سيد زلف، ومار يعقوب، وسيد الزين، لا يتولد لديها أي انطباع محدد حول مصيرها، الذي دعاها أن تسلم أمرها لمن تعتقد إنه من الصالحين، والذي هو " سيد زلف " المتخصص بالنساء العاقرات، الذي زارته ابنة الشرطي " حمزة " لتسلمه أمرها بإيجاد علاج فاعل يلقح بيضتها، وهو العارف أن ليس لديه إمكانية علمية توفر له غطاءً قانونياً يحتمي به من هذا الفعل المشين، حين يصف العلاج، أو يضع التشخيص Diagnosis الصحيح أو ما أشبه، لأنّ ما يهمه هنا هو العبث الجنسي وحده، وهو هدفه الأساسي، متنقلاً بأصابعه من السرة حتى ثنايا الحلم الساخن، وحجة سيد زلف، في هذا النوع من العلاج القياسي، إيهام ضحيته بأنه يبحث عن مصدر الضعف العضوي فيها. وهنا تقودنا الكتابة إلى مفهوم العملية الجنسية المتمردة، التي تقود المرء إلى الفرح والطرب الروحي عبر نشوته الخاصة، وفي ذات الوقت تقود الإنسان في كثير من الأحيان إلى الجريمة، وإن اختلفت أوضاعها وأهدافها وميولها، تبقى هي عملية خارجة عن القوانين الوضعية و"السماوية"، تبدأ بالقياسات الحسية والعضوية عند المرأة والرجل بآن، لإكمال إثارة الغدة الجنسية وإشباعها باللذة والفرح النفسي. ولكن طريقة السيد زلف المتخلفة والإجرامية، تنتهي بتأويل القياسات الرياضية، والأحكام العاطفية، المبنية على إخضاع تلك المرأة لسلطة غرائزه المستديمة المجحفة، وما أمام المرأة إلا أن تبرئ فعلتها بحجج أو بأكاذيب توهم نفسها بها أولا، ثم تجد المبررات والحيّل لمن حولها، وقول القاصة المانع، الذي يقودنا إلى توضيح أكثر انكشافاً على النص، ورؤية في التحليل النقدي الساخر في أسلوب أفعال أبطالها، في هذا المقطع:
" طشت الأخبار إنه ينام مع العاقرات، وجهلن يحبلن منه وليس من أزواجهن، خصوصاً أن هؤلاء لم يفكروا أساساً أن العقم قد يكون بسببهم متخلصين من المشكلة بإلصاق اللوم على الزوجة، مرتاحين، صار سكان المدينة يسمون "سيد زلف" أبو شبر" تهكماً واستخفافاً كفّت النساء عن الذهاب إليه كلية بعد أن استغنين عنه لظهور القبرين من الجص. وسرعان ما سميا بشكل شبه رسمي ب "المجاهيل" تحببا واستعطافاً، ." التأهيل هنا يستتبع الرضا النفسي الأول، في ملامسة شهوة الجسد وتخديره، ثم يأتي إيهام الشعور بالرضا الكامل، الذي تتفجر فيه المشاعر الغائرة في الأعماق، وهو تأويل مقنع من السيد زلف، الذي يقود الأنثى إلى الاستسلام، وغض النظر عن العلاقة الزوجية في تلك اللحظات على الأقل، وإن كانت هذه المضاجعة العلاجية تخضع لزمن ذات نسبة قصيرة. إلا إنها جاءت تمتع النفس وترضي الخاطر، وإن كانت خارج إطار الخيال العاشق. والحجة هي ذاتها، الطبيب الدجال "المختص" "سيد زلف" يوهم العاقر ابنة الشرطي المتخلفة، بأنه يمتلك القدرة العلمية السماوية على تلقيحها، وهو أيضاً لديه القدرة على طرد الأرواح الشريرة التي تسكن نفس تلك العاقر، بينما هو يشبع مرضاته وكبته الجنسي. ولو أحصينا العلل المتخلفة في مجتمعنا العربي "فحدث ولا حرج". فهي ما زالت فاعلة في كسب مرضاة الآخر، حيث أنّ الدجالين يتلبسون وجوهاً عدة، تارة باسم الأولياء الصالحين، وتارة بالانتماء إلى أهل بيت محمد، والمسيح، وموسى، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان، وفي كل الأديان، في عالمنا الثالث.
وبعد ذلك لابد من ملاحظة السهل اللغوي والفني بآن، والاهتمام بتشكيل النسيج العام بحرفية موفقة، من حيث دقة الصنعة وحساسيتها، وتناول حُسنَ التلاقي في الألفاظ والمعاني ونحو ذلك، وما يجب أن تصنع اللغة من تيار صوتي في بث البراءة في العبارة من جهة، ومنها ما تصنعه في المعاظلة في النسيج العام للعبارة من جهة أخرى، وهكذا تجد الفرق فيما ينشئه الأدباء من آثار، منها نافعة، ومنها رديئة، كون معاني القصة لغة دالة على مقصدها بالناحيتين. فلو أخذنا المقطع الثاني من هذه القصة على سبيل المثال نجده على الشكل التالي:
" اتخذت كل فئة من السكان واحدا لها، تتقرب إليه، تدعو بجهالة، تقدم له النذور والقرابين، بمرور الزمن انقسمت هذه القبور إلى اختصاصات. هذا متخصص بالأطفال، وهذا بالمجانين، وذاك بالعاقر. مع ذلك، مات الطفل المريض بالتيفوئيد، رغم فتح فمه ليبصق به، وكاد الموت يقضي على أخيه الآخر، بعدئذ، لولا زيارة طبيب العاصمة المشهور "زكي" حين غرز ابرة في الجسد الذابل، لمدة ثلاثة أيام متعاقبة فشُفيّ وفتح عينيه متطلعا في الوجوه، كما أن العاقر لم تلد والمجنون ظل على جنونه وهباله."
فن التقطيع في كل أشكال الكتابة، يشكل عاملاً مهماً في استقلالية الجملة، إضافة إلى فن ترابط الجمل فيما بينها، بنسق يوضح المعنى، ويعين القارئ على استيعاب آثار اللغة في هذا النص أو ذاك، وفي ذات الوقت يشده إلى متعة مفيدة ومؤثرة، ولكن الخلل الوارد في هذا المقطع يقول غير ذلك. مع أن القاصة كانت حريصة على كشف حقائق الدجالين ونقدها، إلاّ أنّ الأفكار وبيانها أخذت تضيق في بنائها العام، فشكلت ضعفاً في النسق اللغوي والأسلوب. لأن تناغم الأسلوب "Style" أشبه بالموسيقى، ما أن يظهر عنتٌ ما، يتعثر انفعال التناغم الفني، فيخدش السمع والذائقة. وعليه ومما تقدم في هذا المقطع المشار إليه نستنتج التالي:
"مات الطفل المريض بالتيفوئيد، رغم فتح فمه ليبصق به." الجملة الأولى دالة على بيان الجملة الثانية، ولكن الخلل في بناء الجملة الثانية سبب إرباكاً لدلالة تلك، مع الضعف القائم في تناسق الألفاظ في الجملة الثانية، ثم أن القاصة لم تحدد من هو من "الصالحين" الثلاثة الذي بصق في فم الطفل المريض، هل هو: "مار يعقوب" أو "سيد زلف" أو "سيد الزين"؟ وهذا سبب ضعفا في إيعاز المعنى وسلطة تأثيره على القارئ. ولكي نبين الحجة في هذا، نستمع إلى القاصة تقول في هذا الشأن: "بمرور الزمن انقسمت هذه القبور إلى اختصاصات، هذا متخصص بالأطفال، وهذا بالمجانين، وذاك بالعاقر." فنحن هنا بحاجة إلى سيناريو ليبسط لنا المعنى، ويحرره من الغموض، وتلكأ وضوحه، لأن القبور تزار "للتبرك" بها، وليس لكي تبصق بفم المريض ليشفى.

وكما قلت في دراسات سابقة: "أن المضمون وحده لا يكفي لبناء نص متكامل الفائدة"، خاصة إذا ارتبكت عناصر هذا التكوين الفني المميز. لأن النص القصصي الناجح يجب أن يُطَرّزْ بمهارة يقظة، وتجانس بليغ بين اللغة، والأدوات الفنية المكونة لبناء نص متخصص. وهنا في المقطع الأخير في هذه القصة نجد القاصة قد حشرت كلمة "مرتاحين" في وسط البناء اللغوي بدون فائدة تذكر، كون هذه الكلمة غير متجانسة بين الجملة التي تسبقها، والجملة التي تليها، لذا أبطل عملها وجوباً، أو وضعها في جملة تتحد مع السياق اللغوي والفني العام، فوجودها شكل خللاً خدش الفاعلية اللذيذة، التي بينت على أساسها الاستقامة في حسن طباق المتلاقيات في الأسلوب الذي ورد، لكنها أي الكلمة تلك، جعلت من هذا الطباق صدى يؤذي الذوق والخيال، لأن البناء القصصي أشبه إلى حد كبير بالبناء الشعري، فما أن يظهر شذوذ معين هنا أو هناك في نسيج البناء اللغوي، حتى يظهر للقارئ خللٌ يشوه نسيج قياس الإيقاع، ولو حذفت هذه المفردة لأصبح المقطع يمتلئ عذوبة سلسة من وقع المعنى على السمع بإيجاز ناجح.
ولكن مع وجود هذا الخلل البسيط، استطاعت المانع أن توظف العلاقة الغير حميمة بين الجنسين، وإن أختل بنائها التوصيلي قليلاً. تلك الرغبة المتمثلة بالمزاجات والأهواء المخيفة، على أنها علاقة حاجة المرأة إلى جنين، الذي يأخذ شكلا منفعلاً لبناء قناعة نفسية متمردة على أسس متخلفة، وغير ناضجة في نظم العلاقات الاجتماعية والعاطفية الخارجة عن صدق نوايا التجاذب العاطفي الإنساني، وفي ذات الوقت أبدت المانع قدرة فائقة على توظيف العلاقة الجنسية من طرف واحد، وهي علاقة أشبه بالاغتصاب، كون القاصة اعتمدت على الحكاية الشعبية المتوارثة، فكشفت غاية الكبت والأنانية المتفجرة في نفسية البعض من الرجال، الذين يحترفون هذه المهنة، ووضعت لها أسس بيانية تكشف عن طبيعة هذا العلاج الوهمي. من: "مبدأ اللذة العاجلة" كما عبر عنها فرويد، على أن هذه العلل الاجتماعية ما هي إلا خرافات بالية، يتصورها الإنسان البسيط على أنها ممكنات روحية آتية من الغيب أو "السماء"، ومن هنا فقد جعلت المانع بنية النص تقوم على محورين: صراع الدجل العاطفي. ورغبة العاقر في التلقيح. بغضّ النظر عن الطريقة، تماشياً مع اللغة التي يستخدمها المشعوذون في إشباع رغباتهم ما أمكن، ولهذا نجد اللغة الفنية هنا معكوسة بلون نقدي متطور، في المعالجة والتحليل بكل تفاصيله وممارساته وتحولاته القياسية، كون الأديب المتنور قادراً على الارتباط بالفعل الكفء، في توظيف القدرة على تحقيق التوازن، بين الحقيقة الداخلية الكامنة في وجدان المرأة " الزوجة "، وبين الحقيقة الخارجية التي هي المجتمع وطقوسيته.
وأمام كل هذه التطورات تستمر المانع في بسط مفاهيم أخرى، بينت أنها أشد قسوة على المرأة، التي أرادت لها المانع أن تكون أكثر جرأة وتحرراً، بالدفاع عن كيانها ووجودها، أمام ضعفها المتمثل بالخضوع غير المبرر أمام جهلها من جهة، وأمام خضوعها للرجل، فكان من الممكن أن تأخذ موقفا صارماً، لتحديد شخصيتها، وبسطها أمام المجتمع، على أنها كائن اجتماعي، مثلها مثل الرجل عبر تداعيات المفاهيم، والأسس التي تحدد طبيعة النظم الاجتماعية الخالدة. كما عبر عن هذا علي الوردي في مفهوم " أهمية النزاع البشري" حين قال: " نحن لا ننكر مع هذا وجود بعض ظواهر النزاع الشخصي في الشعوب المتمدنة. إنما هي رواسب وبقايا من العهد القديم، وكلما ارتقى الإنسان في تمدنه قل نزاعه الشخصي شيئاً فشيئاً، وصار لا يخاصم غيره إلا على أساس من المبادئ والآراء الموضوعية. 3" وهذا كله يتبين لنا في هذا المقطع: " استيقظت المدينة، بعد حين، لتكتشف أن، قبريْ "المجاهيل" ليسا شيئاً مهماً، إنهما غير معروفين أساساً، بل مجرد عظام على عظام رميم، تدخلت الحكومة وجلبت بلدوزراً مدوياً لتمسحهما من وجه الأرض كليةً، استراح الناس وخف اللغط والضجيج، سُوَّيَ التراب كما لو لم تكن الآثار قد وجدت يوماً. رجعت المدينة كرة أخرى، دون مرشد للأيمان يهديها الطريق، عاد قسم كبير من السكان إلى قبور الصالحين القدامى، وجدوا خيانة "سيد زلف" مع العاقرات ليست ذات أهمية، والمتخصص بالأطفال ربما طيّب أحداً يوماً ما، أما من يشفي المجنون فقد استرد هيبته ومكانته الغيبية التعجيزية السحرية."
استمرت القاصة في بسط ذات الحوار في نهاية القصة، الذي أخذ يميل إلى التكرار قليلاً في مضمونه للحكايةً، مع تنشيطه في مواقع تكاد أن تكون أشبه بالمتواضعة، وهذا ضعف تقني ربما لم تلتفت له الأديبة المانع. مع أن وسط القصة استقام فيها المضمون بقوة وجرأة وبيان، كما رأينا في تجلياتها الظاهرة في الشكل، وهي تنظر إلى النص من الداخل، وهذه صناعة فنية قلّ استخدامها، ولكن المانع عززتها.
= = = =
الهامش

1- المجموعة القصصية "الروح وغيرها" صادرة عن مؤسسة الانتشار العربي
2- ارنولد توينبي. دراسة للتاريخ "التحدي وإلا ستجابه"
3- علي الوردي كتاب " أسطورة الأدب الرفيع



#جعفر_كمال (هاشتاغ)       تôôèô‏_ؤôéôم#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لمّ
- عصا
- دراسة في قصة الرد للقاص محمود البياتي
- الجزء الثاني يتناول القاص محمود عبدالوهاب في القصة القصيرة
- المقاييس والأحكام اللغوية والفنية في القصة القصيرة العربية . ...
- قافية
- ليلة ما
- أصابعك
- دراسة نقدية تتناول: الشاعر الكبير عبدالكريم كاصد الجزء الثا ...
- دراسة نقدية تتناول: الشاعر الكبير عبد الكريم كاصد - الجزء ال ...
- الاستقلال النوعي في محاكاة الصورة والتشكيل


المزيد.....




- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...
- بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو ...
- سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - المقاييس والأحكام اللغوية والفنية في القصة القصيرة العربية الجزء الرابع