Ignacio RAMONET
لماذا اقدم خمسة ملايين ونصف مليون فرنسي على الاقتراع يوم 21 نيسان/ابريل خلال الدورة الاولى من الانتخابات الرئاسية لصالح حزبين من اليمين المتطرف المبشرين بالعداء للاجانب واللاساميين والعنصريين والمفرطين في توجههم القومي؟ ان الاكتفاء بالتشهير بالناخبين او بشتمهم لا يساعد في فهم اسباب هذا الخيار ومعانيه. فالشتائم لا يمكن ان تحل داخل الطبقة السياسية محل نقد ذاتي عميق وملحّ لا مفر من مواجهته.
ربما لم تكن صدمة الحادي والعشرين من نيسان/ابريل سيئة اذا ادت الى ايقاظ المجتمع وفتح أعين المسؤولين في الاحزاب والى اعادة اطلاق النقاش من اجل بناء فرنسا اكثر عدالة واكثر تضامنا. فما تعرض للانهيار في ذلك اليوم، هي الاقتناعات المريحة التي تقول بأن لا شيء يفترض ان يتغير في الحيز السياسي الفرنسي ولو ان كل شيء ينقلب في العالم. وبأن الحزبين العتيقين، الاشتراكي والديغولي، سيستمران في تقاسم السلطة براحة بال كما كان يحصل منذ ثلاثين عاما.
لكن الشعور العام حيال هذين الحزبين هو انهما استهلكا واستنفدا منذ ردح من الزمن مهمتهما التاريخية وكل منهما يعطي الانطباع على طريقته بأنه معطل، وبأن اجهزته متداعية ويفتقر الى التنظيم والبرنامج الفعليين، لا عقيدة ولا بوصلة ولا هوية.
وقد برهنت الانتخابات السابقة ان اياً من الحزبين لا يحسن التوجه الى ملايين الفرنسيين الخائفين من وقائع العالم ما بعد الصناعي الجديدة والمتولدة من انهيار جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة. هذا الحشد من العمال المتلفين والمهمشين في ضواحي المدن والعاطلين عن العمل بصورة مستديمة والمرذولين والمحالين على التقاعد وهم في عز عطائهم، والشبان الذين يعانون عدم الثبات، والعائلات المتواضعة الدخل والواقفة عند عتبة الفقر. كل هؤلاء الذين يصابون بالهلع من مرحلة حبلى بالأخطار ضاعت فيها نهائيا المؤشرات التقليدية...
فالحزب الاشتراكي اعطى في صورة خاصة انطباعا بأنه يعيش فوق كوكب اجتماعي آخر على بعد سنوات ضوئية من الشعب بعدما افتقد الكوادر الطالعة من الاوساط الشعبية وبعدما بات العديد من مسؤوليه يدفعون الضريبة عن الثروات الكبرى. فهو قلما ابدى مشاركة "في معاناة فرنسا الدونية هذه"، بحسب تعبير دانييل ميرمه.
اما في جانب اليمين فبالرغم من عدم تعامل بعض المسؤولين فيه مع اليمين المتطرف، فإن البعض الآخر لم يتردد في ابرام اتفاقات معه. ألم يؤكد المسؤول الليبيرالي السابق ميشال بونياتوفسكي ان "قبول اصوات الشيوعيين الذين قتلوا الملايين في اوروبا يفتقر الى الاخلاقية اكثر من قبول اصوات الجبهة الوطنية"؟ [1] . انه تفكير منحرف أدى بالمسؤولين الديموقراطيين المسيحيين في حزب "الاتحاد من اجل الديموقراطية الفرنسية" الى القبول في 20 آذار/مارس 1998 بأصوات المنتخبين من الجبهة الوطنية بغية الوصول الى رئاسة خمس من المناطق الادارية الفرنسية...
هكذا وبينما كان الطاعون ينتقل بالعدوى السرية الى داخل المؤسسات السياسية الفرنسية، ألم يكن من الوهم الاعتقاد بأن البلاد ستبقى في منأى من هذا الداء الذي يضرب الحياة السياسية في محيطها المباشر؟
هل يمكن الاعتقاد باستثناء فرنسي في وقت يعاني المجتمع على غرار بقية البلدان الاوروبية وباسم "الحداثة"، مختلف الاضطرابات والصدمات البالغة العنف؟ ومنها العولمة الليبيرالية والتوحيد الاوروبي واضعاف السيادة الوطنية واختفاء الفرنك وامحاء الحدود وهيمنة الولايات المتحدة والتعدد الثقافي وفقدان الهوية وازمة الدولة الحاضنة...
يحدث ذلك كله ضمن اطار نهاية العصر الصناعي وبروز تحولات تكنولوجية كبيرة ادت الى ظهور انعدام امان اقتصادي عام وتسببت في اضرار اجتماعية لا تحتمل. اطار رُفع فيه منطق التنافسية الى مصاف الضرورة الطبيعية، وحيث مظاهر العنف والجنوح على انواعه لا بد ان تتكاثر. ازاء عنف التغيرات وفجائيتها، تراكم القلق وانسد الافق وبدا العالم معتما والتاريخ كأنه يفلت من اي منطق واي سيطرة. وقد شعر العديد من المواطنين بأن الحكام اليمينيين او اليساريين تركوهم لحالهم، وهم الحكام الذين لا تنفك وسائل الاعلام تصفهم بأصحاب الصفقات، المحتالين الكاذبين الفاسدين.
وادى الضياع وسط هذه الازمة الى إصابة الكثيرين بالهلع والشعور، مثلما قال توكفيل: "طالما ان الماضي لم يعد يضيء المستقبل فإن الفكر يسير في الظلام...". في هذا المناخ من الظلامية الجديدة وفي هذا المعين الاجتماعي المشوب بالمخاوف والضياع ومشاعر الكراهية، كان سهلا ظهور السحرة الجدد. هؤلاء الذين ينطلقون من حجج ديماغوجية وتسلطية وعنصرية لكي يدعوا العودة الى عالم الماضي ("العمل، العائلة، الوطن") ويحمّلون الاجنبي، المغربي او اليهودي، الفوضى والامراض وانعدام الامان. فالمهاجرون يشكلون هدفا سهلا ودائما لانهم يرمزون الى كل التقلبات الاجتماعية، ويمثلون في نظر الفرنسيين البسطاء منافسة غير مرغوب في وجودها.
ان خطاب الجبهة الوطنية العبثي والكريه والمجرم يجتذب منذ امد طويل وبحسب بعض الاستقصاءات "اكثر من فرنسي من أصل اربعة" [2] ، وقد أيده في 21 نيسان/ابريل ملايين الناخبين (30 في المئة من العاطلين عن العمل، 24 في المئة من العمال، 20 في المئة من الشباب، 17 في المئة من ارباب العمل).
لكن من الواضح ان اليقظة الجمهورية التي عبّر عنها الشارع الفرنسي ستترجم في صناديق الاقتراع يوم الخامس من ايار/مايو. كذلك لن تنجح الفاشية الجديدة خلال الانتخابات التشريعية يوم 16 حزيران/يونيو. لكن بعد تجاوز لحظة الخوف، اذا استمرت الاحزاب في السياسة الليبيرالية نفسها القائمة على التخصصية وتفكيك الخدمات العامة وانشاء صناديق التعويضات والموافقة على صرف العاملين لاعتبارات تتعلق بسوق الاسهم، في المختصر اذا استمرت في مجابهة الطموحات الشعبية من اجل مجتمع اكثر عدالة واخوة وتضامناً، فإن لا شيء يمنع الفاشية الجديدة المتحالفة مع من تعاون معها على الدوام من الفوز بالسلطة في المواعيد اللاحقة...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ليبيراسيون، 20/3/2002
[2] لوموند، 13/4/2002.
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم