ماذا يقرأ الروس اليوم؟ بوشكين , أم ليرمونتوف, أم بلوك, أم يسينين, أم تشيخوف ,أم ديستويفسكي, أم تولستوي ,أم بونين,أم شولوخوف, أم تورغينيف , أم كتّابا نكاد لا نعرف عنهم شيئا في عالمنا العربي الكبير ؟ أم أنهم يقرؤون روايات بوليسية و غرامية يقتلون بها وقت العجز الثقيل ؟
للإجابة عن هذا السؤال كانت لي جملة لقاءات مع فلاديمير درابكين رئيس تحريرمجلة أعمال الكتاب ( كنيجني بيزنيس) الشهرية التي تصدر في موسكو , و مع سفيتلانا بيرييفا مسؤولة العلاقات الاجتماعية في ( بيبليوغلوبوس) أحد أكبر متاجر الكتب في موسكو , ومع بعض العاملين في ( بيت الكتاب الموسكوفي) المؤسسة الحكومية العملاقة لبيع الكتب ,ومع لوبوف باسخينا المديرة التجارية في ( بيت الكتاب ) في بطرسبورغ , و كذلك مع معاونتها الفيرا قبلانوفا , ثم رائيسا كودريافتسيفا المتخصصة بتزويد المؤسسة بالإصدارات الجديدة . وحصلت منهم على بيانات كتابية و معلومات شفهية تلقي بعض الضوء على حركة الكتاب ليس فقط في المدينتين الكبريين , إنما في روسيا عموما . ذلك أنه يوجد في موسكو وحدها حوالي ستين بالمائة من دور النشر الروسية, وهي تصدر ما يصل إلى ثمانين بالمائة من إجمالي كتب روسيا , أما بطرسبورغ فتصدر حوالي عشرة بالمائة فقط , و العشرة بالمائة المتبقية تتوزع على باقي المدن الروسية .
كانت تجارة الكتب من أول القطاعات التي دخلت السوق بعد البيريسترويكا . فقد فتحت إدارة النشر الحكومية الباب أمام تسعير حر للكتاب . ولم يكن ذلك يشمل دور النشر الحكومية التي كانت لا تزال تصدر الكتب وفقا للتسعيرة القديمة , وتبيع إنتاجها دفعة واحدة , مقابل أرباح 10% ل ( جمعيات النشر ) الخاصة , التي هي في الواقع مجرد مؤسسات وسيطة تعيد بيع الكتب بأسعار مضاعفة , وفقا لقانون العرض والطلب , فيرتفع سعر الكتاب بين 10 و20 ضعفا. لكن فترة الحصاد تلك لم تطل كثيرا, فبعد أن جنى تجار الكتب ثروات طائلة من تجارتهم السوداء , سمح للدور الحكومية بتسعير حر للكتب التي تصدرها و تتداولها .
كان عام 1991 عام ازدهار تجارة الكتب في روسيا . لم يكن هناك الكثير من الناشرين , إنما كان هناك الكثير من تجار الكتب الذين يطلبون طباعة المزيد منها . كما إن هذا العام هو عام تأسيس دور النشر الخاصة الكبيرة . ففي بداية التسعينيات كان يطبع سنويا ما يصل إلى خمسين ألف عنوان بعدد نسخ إجمالي يبلغ ملياردا ونصف . لكن ذلك لم يستمر طويلا , فقد دخلت تجارة الكتب بين عامي 1993و1994 أزمة حقيقية أدت إلى إفلاس العديد من دور النشر . و مع هذه الأزمة بدأ عدد العناوين وعدد النسخ الإجمالي بالانخفاض , وقد استمر ذلك حتى صدور قانون الطباعة(1995) الذي عمل به في النصف الثاني من1996 , ثم تلته إجراءات أعادت العافية إلى حركة الكتاب , و كان أهمها الإعفاء من ضريبة القيمة المضافة (20%) وتخفيض ضريبة الأرباح إلى ربع النسبة التي تفرض على المنتجات الأخرى . بيد أن الكتاب , على الرغم من ذلك كله , بقي عاجزا عن بلوغ أرقام 1991 الذهبية . فمع أن عدد العناوين التي طبعت عام 2000 وصل إلى خمس وخمسين ألفا إلاّ أن عدد النسخ الإجمالي لم يتجاوز النصف مليار نسخة . علما بأن رأس المال المتحرك في هذا القطاع تراوح في العامين الأخيرين بين ثمانمائة مليون و مليار دولارا أمريكيا.
صدر عام 1991 قانون يلزم بالحصول على موافقة لممارسة مهنة النشر , وقد سجلت آنذاك أكثر من سبع عشرة ألف دار نشر في روسيا . ولما كانت الرخصة تمنح لمدة خمس سنوات فإن الكثير من تلك الدور لم يجدد رخصته . أما الدور التي تعمل فعليا الآن , بما في ذلك من أصدر عنوانا واحدا عام 2000 ,فلا يتجاوز عددها الأربعة آلاف دار نشر . علما بأن الكثيرين ممن حققوا أرباح كبيرة في مرحلة الأسعار الانتقالية لم يوظفوا أموالهم في تطوير صناعة الكتاب في روسيا , بل انتقلوا إلى قطاعات أخرى , بحثا عن صيد آخر في مخلفات الإمبراطورية المنهارة.أما عدد الدور النشطة التي تصدر بين خمسة عشر و عشرين عنوانا في العام فلا يتجاوز الخمسمائة دار نشر . بيد أن هذا الرقم يخفي تفاوتا كبيرا جدا , إذ أن هناك مؤسسات نشر كبيرة ينضوي تحت الواحدة منها مئات عدة من دور النشر , مثل مجموعة ACT التي يعمل تحت اسمها حوالي خمسمائة دار نشر, و تصدر في العام الواحد ما يصل إلى سبعة آلاف عنوان , بعدد نسخ إجمالي يبلغ حوالي مائة مليون نسخة , و مجموعة إيكسمو بريس التي تشغل المرتبة الثانية, ثم بروسفيشينيه المتخصصة بالكتب المدرسية , ثم دروفا التي تصدر,بصورة خاصة , كتب الأطفال .. وصولا إلى أولما بريس التي تتعاون مع دار نيفا في بطرسبورغ و يصدران معا حوالي ألف وخمسمائة عنوان في العام . و للمقارنة نذكر عدد دور النشر الرسمية في العهد السوفيتي فهو لم يكن يتجاوز مائتين و خمسين دارا , بقي منها إلى الآن ما يفوق المائة بقليل .
أماما يتعلق بمؤسسات بيع الكتب , فهناك في موسكو عدد كبير منها,من أهمها(بيبليوغلوبوس) و( مولودايا غفارديا) و ( تورغوفي دوم موسكفا) و ( موسكوفسكي دوم كنيغي) الذي يتبعه ثلاثون متجرا لبيع الكتب , وسوق الكتاب في(المدينة الأولمبية ) و( بيت الكتاب التقني) , و( بيت الكتاب الطبي)..الخ. و لإعطاء فكرة عن حركة اقتناء الكتب في روسيا نورد بعضا من الأمثلة:
يزور متجر بيبليوغلوبوس , الذي يعرض بين خمسة وأربعين و خمسين ألف عنوان ,في اليوم الواحد ما يتراوح بين تسعة آلاف و عشرين ألف زائر , و يخرج هؤلاء بما متوسطه خمسة وعشرون ألف كتاب . كما يزور بيت الكتاب الموسكوفي ما يصل إلى خمسة عشر ألف زائر في اليوم , و يندر أن يخرج أحدهم دون كتاب واحد على الأقل . أما سوق المدينة الأولمبية الذي يعمل يوميا من التاسعة صباحا حتى الثانية ظهرا , وهو بمثابة سوق الجملة الرئيس في موسكو ,فيزوره في اليوم الواحد عدد يتراوح بين اثني عشر و ثمانية عشر ألفا من الراغبين بالشراء , الكثير منهم يخرج بأعداد كبيرة من الكتب . لا تبتعد كثيرا عن هذه الصورة حركة الكتاب في صالات( بيت الكتاب) في بطرسبورغ إذ يصل عدد زائري صالاته الأربع في اليوم إلى ما يتراوح بين عشرة آلاف و خمسة عشر ألف زائرا , يشترون ما بين اثني عشر و خمسة عشر ألف كتابا .
لكل كتاب قرّاؤه . الأموات وحدهم لا يقرؤون . هكذا يقولون في روسيا . لذلك ما أن تسألهم عن الكتب الرائجة حتى يكون الجواب : إنها جميع أنواع الكتب , لكن هذا الكلام العام يخفي تفاصيل لا تقل أهمية عن الأرقام الكبيرة إن لم تبزها , فثمة عناصر جديدة دخلت الحياة الروسية و أثّرت في فعل الكتابة و القراءة سنبحث عنها في بعض ظواهر سوق الكتاب , وللأسف فإن لغة الظواهر , على أهميتها ,غالبا ما تغفل ما قبل الباحثين . الروايات البوليسية تحقق الآن, مثلا, أرقام مبيعات عالية جدا .هذا لا يعني أن الأدب البوليسي جديد على القارئ الروسي, فكاتب مثل ليونوف اشتهر به منذ الأربعينيات, و دانييل كاريتسكي اشتهرت أعماله في السبعينيات , و كذلك الأخوان فاينر في نهاية السبعينيات , ثم كير بوليتشوف في الثمانينيات , و مثلهم إدوارد خروتسكي و سيرغي أوستينوف و الكسندر بيليايف و فريدريك نيزنانسكي و إدوارد توبل و سوفوروف ..الخ. فإذن , ما هو الجديد ؟ قد يكون الجديد هو تحقق معادل واقعي للأدب البوليسي , مما جعل الناس يقبلون عليه لقراءة تفاصيل حياتهم التي لا وقت لديهم للتفكير بها أو تأملها , الأمر الذي تتيحه الرواية . أما الجديد الآخر الذي يمكن توصيفه بكلمات فهو بروز أسماء روسية نسائية , راحت تحتل مركز الصدارة في هذا الجنس الأدبي. فالكساندرا مارينينا التي بدأت كتابة الروايات البوليسية عام خمسة وتسعين حصدت عام سبعة وتسعين لقب كاتبة العام , وكذلك الكاتبة بولينا داشكوفا التي فاق ما بيع من رواياتها عشرة ملايين نسخة . أما بين الرجال فيشغل بوريس أكونين – كاتب العام ألفين (الاسم الحقيقي غريغوري تشخارتشفيلي ) مركزا هاما في هذا الجنس . و الملفت أن النساء يقبلن على قراءة الروايات البوليسية أكثر من الرجال , كما يقبل المسنون على قراءة روايات الجنس والغرام أكثر من الشباب . أما الأعمال السائدة من هذا الصنف الأخير في روسيا فمعظمها مترجم عن لغات أخرى . و بين الأسماء المشهورة الكثير من الأسماء المستعارة لكتاب أجانب و روس يخجلهم وضع أسمائهم الحقيقية عليها .
ثمة سمة هامة تكاد تسم الكثير من كتابات ما بعد البيريسترويكا على اختلاف أجناسها , وهي أن الكتابات كفّت تقريبا عن أن تحمل فلسفة خاصة بكاتبها أو موقفا من الحياة العامة, و صارت أسيرة للسوق ومتطلباته. فالذين حلموا بالتحرر من هيمنة الأيديولوجيا الشيوعية انضووا , عن طيب خاطر أو دون شعور منهم , تحت جناح أيديولوجيا السوق , فصاروا بذلك منفعلين بالحياة العامة بدلا من أن يكونوا فاعلين فيها, فراح الأدب يلهث لتشكيل صور كلامية عن واقع ثراؤه و تنوعه صعبا المنال. ولولا بعض المفردات الخاصة بكل كاتب لصعب التفريق بين أعمال الكثير من كتّاب السوق المعاصرين . كما خلق زمن ما بعد البيريسترويكا نمطا جديدا من الكتب لم يكن معروفا في روسيا من قبل وهو الكتاب الموجّه إلى مقعدي السوق- وكدت أقول ربات المنازل لولا معرفتي بأن الرجال يشغلون هذه الوظيفة اليوم أكثر من النساء- الذين ينتج لهم اليوم الكثير من كتب التسلية التي تقودهم شيئا فشيئا إلى أن يصبحوا مقعدي عقل . المشكلة ليست في كتب التسلية التي تجدها في مختلف البلدان , إنما المشكلة في أن تتحول التسلية إلى فعل ثم إلى هدف ثم إلى مغزى حياة , وفي أن يتحول الكتاب , حتى الذي كان جادا منه إلى حين قريب , سواء من قبل مؤلفه تحت إغراء أرقام المبيعات , أو من قبل قارئه تحت إغراءات كسل العقل , إلى مجرد مادة تسليه . و ثمة مشكلة أخرى ناجمة عن تفكير الناشرين بإعادة اهتمام القارئ بالكتاب عن طريق جعله وسيلة للتسلية و تمضية الوقت , ناسين أن القارئ المتسلي قد لا يكون قارئا غدا لتعدد وسائل التسلية و تفوّق معظمها على الكتاب في هذا الحقل . فحتى الكتاب الإلكتروني يفترض , مسبقا , وجود القارئ الذي يجلس أمام الكومبيوتر ليس للعب الورق أو تقليب صفحات الجنس إنما لقراءة كتاب أو البحث عن معلومة موجودة فيه أو في غيره من مصادر المعلومات . لا تقلق هذه المشكلة الناشرين وحدهم في روسيا , بل تقلق المؤسسات التربوية التي ترى تراجعا ملحوظا في تربية قراء جدد على مرتكزات الأدب و الثقافة , الأمر الذي كانت تقوم به الأسرة بالتضافر مع المدرسة , فكفت الأسرة عن فعل ذلك تقريبا, تحت ضغط انشغال أربابها بالبحث عن اللقمة , تاركة الأمر للمدرسة التي تعاني الإهمال و الفقر في الكثير من الحالات .بل يمكن القول إنه لولا المدرسة و البرامج التعليمية فيها لنسي ما يسمّى بالأدب الروسي الكلاسيكي إلى أمد طويل .
فيما تم عرضه جانب مظلم من التحولات التي طالت الكتاب و القارئ في روسيا ما بعد البيريسترويكا . لكن ثمة جانب آخر لا بد من التوقف عنده , وهو أن كتبا كثيرة لم يكن القارئ الروسي ليحلم برؤيتها صارت متاحة أمامه الآن , وأن أفكارا كثيرة كان سيخنقها تعسف السلطات أتاحت التحولات طرحها في سوق الأفكار . فثمة مئات من كتب الفلسفة التي كانت توصف بالرجعية أو العدائية معروضة أمام من لم يهجروا الفلسفة بعد , و كثير غيرها في مواضيع شتى ما زالت تهم الكثيرين . ميزة أخرى تسجل و لكن ليس لما سمي بالتحولات الديمقراطية , إنما للشعب الروسي و هي تمّسكه بصداقته مع الكتاب و إقباله على القراءة في مختلف الظروف . فإلى جانب اختفاء الكثير من نجوم الأمس من قائمة قرّاء اليوم كجنكيز أيتماتوف و فاسيلي بيكوف و فيكتور أستافييف و فالنتين راسبوتين الذين تكاد لا تجد لهم أثرا في سوق الكتاب الروسي اليوم , و غوركي و ماياكوفسكي اللذين قل الإقبال عليهما بدرجة كبيرة , إلى جانب ذلك ازداد الإقبال على قراءة دوستويفسكي و بولغاكوف و نابوكوف , وبقي بوشكين أمير شعراء روسيا سيدا في الكثير من البيوت الروسية . و الملفت أن الكثير من الشباب يقرؤون الشعر خاصة في بطرسبورغ , فتجد في أيدي الكثيرين منهم أشعار أخماتوفا و تسفسيتايفا ...أما لماذا في بطرسبورغ فربما لأنها المدينة التي لم تغرها مساحيق التغيير بعد . نعود لنقول( لكن ) فثمة أسماء لامعة اليوم تكاد تحشر أولئك الكبار في ظلام المكتبات مثل كتّاب الروايات البوليسية : بوريس أكونين ( من أعماله :عشيق الموت , عشيقة الموت , التتويج , عزازيل , المستشار الجامد , مهمات خاصة , الجامبيت التركي..) و فيكتور بيليفين ( آمون رع , الجيل ب , شاباييف و الفراغ , حياة الحشرات..) و الكساندرا مارينينا ( فصيح , ريكفين ..) و بولينا داشكوفا(خطوات الجنون الخفيفة , المشتل , هيروئيم , الشقراء..) و القاصّة تاتيانا تولستايا حفيدة اليكسي تولستوي ( يوم : خاصّة , ليل ..) و نيك بيروموف كاتب الفانتازيا الشهير( دائرة الظلام , حارس السيوف , وحدة الساحر ..) و كثيرون غيرهم من كتّاب الأدب ممن لا يتسع المجال لاستعراض أسمائهم .
و بعد , يتساءل المرء : أليس هناك سوى الروايات البوليسية و روايات الخيال العلمي و بعض الأدب الساخر ( من مثل أعمال يوري بولياكوف ) و القليل من القصص القصيرة ؟ أهذا كل ما في الحياة الأدبية الروسية اليوم ؟ قد لا يكون هذا كل شيء , لكن قد يكون ذا دلالة أن لا تجد اليوم من الأسماء الروسية من ينافس ماركيز و كونديرا و هيسه و بافيتش و غيرهم على رفوف محلات بيع الكتب . فالرواية التي تستوعب الهزة الكبيرة التي طالت الإنسان الروسي و تعالجها فنيا وفلسفيا, دون أن تنفعل بها أو تغرق فيها , لم تولد بعد , وربما يمضي وقت طويل قبل أن تجد من يكتب عن هذا الزمن الروسي كمثل ما كتبه ليف تولستوي في ( الحرب و السلام ) , أو شولوخوف في ( الدون الهادئ ) , أو أن تجد من يضع بين يديك تفاصيل الروح الروسية بعيدا عن تشويش التاريخ ,كما فعل دوستويفسكي في ( الأخوة كارامازوف ) .