|
الحرب الروسية الجورجية - هل هي بداية عصر دولي جديد؟!
خالد الناصر
الحوار المتمدن-العدد: 2398 - 2008 / 9 / 8 - 03:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
د. خالد الناصر الأحد 7/9/2008 ليس مهما أن نخوض في تفاصيل ما حدث بين روسيا وجورجيا مؤخرا ؛ حيث سحق الدب الروسي الذي طفح كيله البعوضة الجورجية التي زنـّت على خراب عشها كما يقول المثل المصري الشهير، من قبيل أن نجادل فيمن بدأ هذه الحرب أو إلى جانب من كان الحق استنادا إلى رغبات شعوب تلك المنطقة ومبادئ القانون الدولي.. كل تلك الأمور تفاصيل لن تفيدنا كثيرا في استيعاب دلالات هذا الحدث الهام وتداعياته الكبرى. ولكن المهم الأكيد أن هذا الحدث لا يمكن فهمه إلا في إطار الصراع الدولي المحموم والمكتوم منذ صحوة روسيا بعد صعود فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم ونفاد صبرها من قضم الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية لمناطق نفوذها في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى إلى أن وصل إلى فنائها الخلفي في مناطق القوقاز ونصب الدرع الصاروخي على حدودها مباشرة في تشيكيا وبولندا، ولقد كان خطاب بوتين الشهير قبل عام في ميونيخ اثناء اجتماعه مع قادة الغرب تعبيرا واضحا عن هذا الضيق وتحديا ملفتا للنظر لهيمنة الولايات المتحدة على القرار الدولي وإيماءة- لم تفهم حينها- إلى عزم روسيا على كسر هذا الوضع، وها هي الآن قد نفذته بمهارة ودهاء في هذه الحرب مستغلة حماقة دمية أمريكا ساكاشفيلي رئيس جورجيا ورعونة الولايات المتحدة التي حرضته متصورة عدم قدرة روسيا على الرد. لقد ردت روسيا بقوة وتصميم بعد أن صبرت طويلا على اندفاع الغرب لمحاصرتها وضرب مصالحها عرض الحائط عبر خطوات استفزازية كان أهمها : - توسع حلف الناتو ليشمل كل دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلكها أيام الاتحاد السوفييتي، بل وصل الأمر إلى ضم دول البلطيق التي كانت جزءا من الاتحاد المذكور، وكانت ثالثة الأثافي عزم الناتو ضم اوكرانيا وجورجيا ما يعني اكتمال الطوق من حولها تماما. - اصرار أمريكا على نصب الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية على حدودها بحجة حماية أوروبا من الصواريخ الإيرانية حال اكتمال مشروعها النووي، وبالطبع كان القصد واضحا وهو تحييد السلاح النووي الروسي وبالتالي اختلال التوازن الاستراتيجي الأمر الذي لم ولن تقبله روسيا. - إصرار الغرب على استقلال كوسوفو عن صربيا- شقيقتها السلافية وحليفتها في منطقة البلقان- وعدم الاكتراث المهين باعتراض روسيا على هذا الأمر رغم أن هذا الاستقلال يهدر مبدأ وحدة الدول القائمة الذي ينص عليه القانون الدولي، الأمر الذي ستستغله روسيا فيما بعد كما تجلى في الأزمة الحالية. - سعي الغرب إلى الالتفاف حول روسيا نفطيا وتجاوزها كممر تقليدي لنفط بحر قزوين عبر تسيير خط الأنابيب (باكو- تبليسي- جيهان) من أذربيجان عبر أراضي جورجيا إلى ميناء جيهان التركي. ولقد جاءت الضربة الروسية محكمة بعد أن تم توفير كل الظروف المواتية لنجاحها، والتي يمكن أن نلخص أهمها فيما يلي: 1- تثبيت الرئيس بوتين سيطرته الداخلية وخلاصه من رموز الفساد والترهل الموروثة من عهد يلتسين سيء الصيت، ثم تنصيبه ساعده الأيمن ميدفيديف في سدة الرئاسة بطريقة دمقراطية لا لبس فيها. 2- تعافي الاقتصاد الروسي بسبب إجراءات بوتين الحازمة ومحاصرة هدر المال العام وضرب رموز الفساد وتعاظم الاحتياط النقدي ليقارب 750 مليار دولار بفضل الارتفاع الهائل في أسعار النفط. 3- الشلل السياسي في الإدارة الأمريكية باقتراب انتهاء ولاية بوش. 4- الانشغال العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان والمصاعب التي تواجه التحالف الغربي هناك، والمعرفة الروسية المسبقة بالعجز العسكري الأوروبي. 5- اغتنام فرصة الهجوم الجورجي على أوسيتيا الجنوبية وقصفه المدمر لعاصمتها تشخنفالي مما أتاح لروسيا استغلال الحجة التي يستخدمها الغرب في تدخلاته وهي نصرة المدنيين تجاه الإبادة الجماعية والتي استخدمت في سابقة القصف الروسي لصربيا بزعم حماية مسلمي كوسوفو، كذلك استغلت روسيا سابقة استقلال كوسوفو الذي فرضه الغرب لتأييد استقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا. 6- استغلال انشغال العالم بدورة الألعاب الأوليمبية الجارية في بكين. وهكذا فإن هذه الحرب لم تكن بحال من الأحوال نزاعا محليا وإنما حدث مفصلي في سياق الصراع الدولي انتقل بالوضع العالمي إلى مرحلة جديدة من خلال النتائج التي أسفر عنها، والتي يمكن إجمالها في ما يلي: 1- أن الامتداد الأمريكي وحدود قوته قد وصل أقصاه وتوقف إن لم يكن قد بدأ بالتراجع. 2- أظهرت هذه المواجهة أن حلف الناتو هو نمر من ورق إذ لم يستطع أن يحرك ساكنا لنصرة جورجيا المرشحة بـإلحاح لعضويته وأن يرد على تحرك روسيا القوي والمستفز فكيف سيرد إذن في أماكن أخرى ؟!.. وهذه النتيجة جاءت تأكيدا لفشله الذريع في أفغانستان أيضا. 3- تبدى بوضوح أن جيش روسيا لم يعد عاجزا كما كان بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي وأثناء عصر يلتسين المتهالك. 4- أظهرت روسيا بكل جلاء عزمها على استعمال القوة العسكرية خاصة في محيطها المباشر وخارج أراضيها. 5- كما أظهرت روسيا عزمها الأكيد على المواجهة مع الغرب دفاعا عن مصالحها الحيوية والتصعيد المطابق لتصعيد الغرب، ولقد تجلى هذا في تصريح الرئيس ميدفيديف الأخير بكل وضوح. لقد أسقط بيد الولايات المتحدة وتوابعها الأوربيين فهم يدركون أنهم لا يستطيعون إعادة روسيا إلى بيت الطاعة عن طريق القوة رغم كل الجعجعة وتحريك البوارج الأمريكية إلى شواطئ جورجيا وتصريحات مليباند وزير خارجية بريطانيا في أوكرانيا عن السعي لبناء حلف لمواجهة روسيا وتصريحات كوشنير وزير خارجية فرنسا أن روسيا خارجة عن القانون الدولي.. إلخ ؛ فهم يعلمون أن روسيا تملك أوراقا حاسمة تجعل كل هذه التصريحات والتحركات بلا مضمون وعديمة الجدوى، ويمكننا إجمال هذه الأوراق فيما يلي: 1- امتلاك روسيا لترسانة نووية تكفل لها عامل الردع الحاسم لأي تحرك عسكري غربي. 2- سيطرتها على أمن الطاقة الأوروبي فهي المصدر الرئيسي للغاز الذي تستهلكه أوروبا وأيضا للقسم الأعظم من النفط، وها قد تعززت سيطرتها على خط نقل الغاز من بحر قزوين عبر هذه الحرب. 3- تأثيرها البالغ على الحرب التي يخوضها الناتو في أفغانستان إذا ما توقفت عن تقديم التسهيلات اللوجستية التي تؤمنها حاليا. 4- قدرتها على إحباط الخطط الأمريكية فيما يخص الملف النووي الإيراني إذا خرجت من موقف البين بين التي تتعمده حتى الآن بصدد هذه المسألة. 5- قدرتها على العودة إلى التأثير في مجريات الأمور في المنطقة العربية- أو ما تسمى الشرق الأوسط- بشكل يعرقل المخططات الأمريكية وحليفتها اسرائيل، سواء في العراق أو في مجال الصراع العربي الصهيوني، خاصة بعد انكشاف الدور الإسرائيلي في أزمة جورجيا. من هنا فإن هذه الضربة الروسية المفاجئة فتحت الباب على مصراعيه لوضع دولي جديد ينتقل فيه من وضعية هيمنة القطب الأمريكي الأوحد التي سادت العالم لما يقارب ثلاثة عقود مضت إلى مرحلة يتشكل فيها توازن قوى جديد وتلعب فيها روسيا الناهضة دورا أكثر بروزا وتأثيرا. وبالطبع فإن التاريخ لا يعود إلى الوراء ولا يتوقع أن يعود العالم بالتالي إلى وضعية الاستقطاب الدولي بين معسكرين متقابلين تقودهما قوتان منفردتان ومتناحرتان، وإنما يمكننا القول أن هذه المرحلة الجديدة ستتسم بالسمات التالية: 1- تعدد الأقطاب رغم بقاء الولايات المتحدة أقوى هذه الأقطاب، حيث سيزداد التحدي الروسي ويتعاظم صعود الصين الاقتصادي وكذلك الهند، ولا ننسى الاتحاد الأوربي الذي ستدفعه التطورات إلى مزيد من التمايز والانفكاك عن مواقف الولايات المتحدة الأمريكية التي أرهقته وهي تجره إلى مغامراتها الحمقاء. 2- تشابك المصالح بين هذه الأقطاب خاصة في غياب العامل الإيديولوجي مما سيعرقل الصراع فيما بينها عن الوصول إلى حدوده القصوى، وبالتالي يمنع من نشوء الاستقطاب الكامل الذي طبع مرحلة الحرب الباردة عندما كان العالم مقسوما إلى معسكرين رأسمالي على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية واشتراكي يقوده الاتحاد السوفييتي. 3- تراجع دور المنظمات الدولية وتهميشها وبالذات منظمة الأمم المتحدة؛ حيث رأينا الشلل الذي انتابها في مواجهة الأزمة الحالية بين روسيا وجورجيا وقبلها في البلقان وأفغانستان واحتلال العراق. إن هذا التطور الهام في الوضع الدولي يحمل معه بلا شك فرصا جديدة أمام الدول الضعيفة، وبالذات في منطقتنا العربية، للخروج من ربقة الارتهان الكامل لإرادة القطب الأوحد المتجبر حيث تنفتح أمامها، بوجود الأقطاب المتعددة وبالذات روسيا، إمكانات جديدة للحصول على السلاح والدعم السياسي الدولي والتنموي في مجالات كانت محظورة. إلا أننا مع ذلك لا يجب أن نفرط في التفاؤل لأن هذه الأقطاب الصاعدة- بما فيها روسيا- لم تعد تحركها الايديولوجيات وإنما مصالحها بالدرجة الأولى، وهي مضطرة إلى مراعاة حسابات مصالحها المشتركة مع بقية الأطراف الدولية ولا سيما الولايات المتحدة وأوروبا، وأن أمريكا رغم كل ما جرى ما تزال القوة الأكبر، كما أن الشرط الأهم للإستفادة من هذا الوضع الدولي الجديد هو امتلاك أمم العالم الثالث استراتيجات واضحة ووعيا صحيحا بأمنها القومي وتأمين عوامل القوة له.. فمثلا ايران ستكون أكبر المستفيدين بحكم امتلاكها هذه الشروط بينما ستفوّت الأمة العربية هذه الفرصة بسبب تمزقها وتناحر أجزائها وغياب الاستراتيجية القومية المطلوبة لوضعها على خارطة الجغرافيا الدولية ومسار التاريخ المعاصر.
#خالد_الناصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر: جدل بسبب تصريحات قديمة لوزير الأوقاف عن فتاوى الشيخ الس
...
-
ماذا بقى من القواعد العسكرية الفرنسية في أفريقيا بعد انسحابه
...
-
محكمة روسية تدين مواطناً هولندياً بتهمة الاعتداء على ضابط شر
...
-
كله إلا سارة.. نتنياهو ينتقد وسائل الإعلام دفاعًا عن زوجته:
...
-
يورونيوز نقلا عن مصادر حكومية أذرية: صاروخ أرض جو روسي وراء
...
-
إطلاق نار في مطار فينيكس خلال عيد الميلاد يسفر عن إصابة ثلاث
...
-
إعادة فتح القنصلية التركية في حلب بعد 12 عاماً من الإغلاق
-
بوتين: روسيا تسعى إلى إنهاء النزاع في أوكرانيا
-
ماذا تنتظر عمّان من الشرع و ترامب؟
-
-يديعوت أحرونوت-: إسرائيل تهاجم اليمن بـ 25 طائرة مقاتلة
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|