|
بين الأدب الساخر.. والتهريج الرخيص.. أكثر من خيطٍ رفيع
ماجد الحيدر
شاعر وقاص ومترجم
(Majid Alhydar)
الحوار المتمدن-العدد: 2398 - 2008 / 9 / 8 - 03:36
المحور:
الادب والفن
نعم، بينهما أكثر من خيطٍ أو حبلٍ أو جدارٍ. ولكن قَلَّ من يراه! فلقد أقبل الكثير من القراء على هذا الجنس الأدبي الخطير الصعب الذي لا يستهانُ بأهميته، يقابلهم حشد من الكتاب (وكثير منهم يكتب تحت أسماء مستعارة) ممن أقبلوا عليه أيضاً في خفةٍ وعجالةٍ وقلةِ زادٍ فني وفكري حتى طفحت بكتاباتهم صفحات الجرائد ومواقع الانترنت وصرتَ لا تفرق بين كاتبٍ وكاتب.. أو بين أسلوبٍ وأسلوب. وكان لهم في المشهد العراقي العجائبي الذي يستطيع من شاء أن يحمِّل منه الأطنانَ تلو الأطنانِ من الضحكاتِ أو الدموعِ أو اللعناتِ أو الحوقلاتِ أو الحسبلاتِ، كان لهم في هذا المشهد خيرُ حافزٍ للكتابةِ في فنٍ له جمهوره الواسع المضمون الذي يزيد أضعافاً مضاعفةً على جمهور فنون الأدب السيئة الحظ الأخرى التي لا تجد من يردّ عليها السلام! أقول إن بعض هؤلاء (وقد يكون "البعض" الأعظم) يستسهل الكتابة في هذا الجنس الأدبي: قليلٌ من التلاعب بالألفاظ، حفنة من البذاءات، بضعة شتائم، إضمامة من الألفاظ السوقية الرائجة في الموسم، قبضة من التهم والإشاعات تُخلَط في منقوع من التغابي والتبالُهِ والتحشيش، يضاف إليها عدد من الأسماء المشهورة التي تُمسَحُ بها الأرضُ لكي تضفي بعض الأهمية على الموضوع أو كاتبهِ ليصدُقَ وصفُ المتنبي: لِكَي يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقصودُ وأخيراً شيء من السلاطة (أقصد سلاطة اللسان) وتكتمل الطبخة لكي يتلقفها موقع أو صحيفة ويبتلعها السيد المواطن الغافل الجائع هنيئاً مريئاً!
نعم. قد يحتاج الكاتب، أي كاتب الى شيء من هذا أو ذاك: قد يتلاعب بالألفاظ "تقيّةً" أو لغايةٍ فنية أو "موضوعية" ما. قد يتغابى الكاتبُ الفَطِنُ حين يرى غباءَ المحيطِ والمحيطين كما قال أخو بني حمدان: تَغابَيتُ عَن قَومي فَظَنّوا غَباوَتي بِمَفرِقِ أَغبانا حَصىً وَتُرابُ ! وقد يكونُ من "الأسماء المشهورة" في هذه الأيام وخصوصاً من "السياسيين" والـ "محللين السياسيين" الفقاعويين المانفستويين من يستحق الضرب بالــ (..) القديمة، لكن هذه الأمور وحدها لا تضمن مقالة ساخرة يمكن أن تستحق البقاء والتقدير.
ترى ما الفرق بين مقالات شمران الياسري التي جمعت السخرية والحس الشعبي الأصيل الى التحليل الصائب الذكي والتي كان وزير الإعلام في السبعينات "السيد طارق عزيز" يستشيط منها غضباً وتدفعه الى "التنازل" بالرد عليها شخصياً تارةً وتوجيه "الإنذارات" الى الصحيفة الناشرة "تارات" أخرى وبين مقالات المستشار (أو السكرتير.. لا أتذكر بالضبط) الصحفي للأستاذ الفاضل ابن القائد المناضل الذي كان يريد إضحاكنا (أضحك الله سِنّهُ) عن طريق المقارنة بين حالنا وحال اليابان متناسياً أن "المشاريع الطَموحة" والأحلام "القومية التقدمية" والمغامرات "الجهادية" لسيّده "القائد الضرورة" هي التي جعلتنا في الحضيض الأسفل من قائمة الأوطان "الحرة الكريمة"؟ ترى ما الفرق بين الأغنيات السياسية والاجتماعية الساخرة لفنان الشعب عزيز علي والتي ما تزال تحيا بيننا وتتنفس، وبين المونولوجات الساذجة البسيطة التي كان يقدمها بعض المعاصرين له أمثال المرحومين "علي الدبو" و"فاضل رشيد" التي تنصحنا باجتناب السكران لأن "فلوس العرق مو مِنّه" أو تتساءل بإلحاح عمن "سرقَ الديك"! ترى ما الفرق بين قصائد "أحمد فؤاد نجم" التي كان يصدح بها "الشيخ إمام" وتنطلق من حارات القاهرة الفقيرة لتزلزل الشارع تحت أرجل الحاكمين بأمرهم ، وبين "الطقاطيق" البدائية للـ"فنان" شعبان حسين المصابة بفقر الدم الشديد في الشكل والمضمون رغم البدانة المفرطة للـ"فنان" المذكور و .. "هيييييه ، أنا بكرَه إسرائيل" !؟
يمكننا أن نستمر في التساؤل وإيراد الأمثلة لكنني لن أدخل في متاهات النقد التي لا أفهم فيها شيئاً لأن الجواب لكل ذلك في رأيي مختصرٌ مفيد: الأدب الساخر أدبٌ هادفٌ ملتزم يتميز بالوعي الشديد والذكاء والعمق والحساسية والنبل.. أما التهريج فلا هدف له غير السخرية لأجل السخرية وليس فيه شيء من الوعي السياسي أو الاجتماعي رغم أن بعض كتّابه يتميزون بالذكاء وحس النكتة وهما أمران مفيدان لو أُحسِن استخدامهما. مهما بلغ كاتب الأدب الساخر من سخريته فإنه حريص على استخدام لغةٍ عاليةٍ وأسلوبٍ فني راقٍ يكشف عن مستوى الكاتب ومصادر ثقافته، ثم إنك تقرأ بين سطوره تحليلاً صائباً للأوضاع واحتراما للخطوط الحمراء التي يضعها لنفسه، ولا أقصد بالتأكيد الخطوط التي يضعها الرقباء أو الأنظمة السياسية أو الدينية أو الاجتماعية الحاكمة بل الابتعاد عن الابتذال والبذاءة والإساءة الحاقدة الى شعوبهم وثوابتها الأخلاقية والسياسية ومنجزاتها الحضارية والفكرية. وحسبنا أن نذكّر بأن "جوناثان سويفت" أحد ألمع الكتاب الساخرين الإنكليز كان واحداً من أفضل كتاب عصره وأكثرهم ثقافة وسياسيا بارزا ورأساً من رؤساء الكنيسة في زمنه، ويكفيك أن تقرأ مقالته الساخرة الأليمة التي أسماها "اقتراح متواضع" أو روايته الفلسفية العظيمة "رحلات غوليفر" لتكتشف عمق الوعي بعيوب ذلك العصر ومآسيه وتناقضاته بل وبعيوب النفس الإنسانية في كل زمان ومكان. أما التهريج فإنه يميل الى الركاكة والسفاهة والسطحية والضعف الفني واللغوي الذي يفضح ضحالة الكاتب وقلة وعيه السياسي والفكري وهزالة مصادره الثقافية، أضف الى ذلك تخطيّهِ غير المبرر في أحيان كثيرة لهذا الذي أسميتُهُ –تشبيها- بالخطوط الحمراء حتى بلغ الأمر ببعضهم الى إهانة شعوبهم أو شهدائهم أو مقدساتهم لا لشيء إلا الإضحاك والسخرية كما يدّعون بينما قد يكون الغرض الخفي/المكشوف طعنا حاقداً صادراً عن نفسٍ مريضةٍ ينفثه قلم موتور مسموم مثل تلك الأقلام "الصدامية" السابقة التي ركبت موجة الكتابات النقدية الساخرة وراحت تخلط السمَّ بالعسل لكنها لم تفلح، مهما غلفت كتاباتها بالهزل أو السخرية، إلا في أن تفضح حنينها الى أمجاد الفاشية والدكتاتورية البغيضة. يتميز التهريج الهابط بالحشو والثرثرة والتفكك وقد تنتهي من قراءة مقالة مطولة دون أن تفهم ما يريد الكاتب "خفيف الظل" إيصاله إليك (هذا إن كان لديه شيء يريد إيصاله) ناهيك عن موقفه أو وجهة نظرة في الموضوع.
خلاصة القول إن الأدب الساخر ليس بالجنس الأدبي البسيط القليل الأهمية والخطورة لكنه ينتمي الى طرازٍ من الأدب الرفيع الراقي، الأدب الملتزم بقضايا وهموم وتطلعات الفقراء والكادحين والمثقفين والمهمشين والمظلومين ممن تصح عليهم تسمية طه حسين بالمعذبين في الأرض! أما التهريج فهو ببساطة شديدة ومع افتراض سلامة النية لدى كاتبه.. مجرد تهريج!
ولهذا فإن لي عليك –أيها الصديق العزيز الذي، برغم ثقافته الرفيعة وقراءاته الكثيرة ، ما انفك يستشهد بأقوال هذا وذاك من الكتاب "الساخرين" الذين لا يخفي إعجابه بهم، وقد يكون محقا في بعضم- أقول أن عليك أن تقرأ جيداً، كما عهدتك، كل الذي يخفى بين السطور، فكم من طائر حر وقع في مصيدة لم تصنع إلا..... إلا من هذا الخيط الرفيع! 2/9/2008 [email protected] http://www.majid-alhydar.blogspot.com/
#ماجد_الحيدر (هاشتاغ)
Majid_Alhydar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترجمةُ الشعرِ... مهنةُ المجانين !
-
الرجل .. الذي.. عقر.. الناقة
-
مزامير راكوم الدهماء
-
وما الفائدة؟؟
-
ماجد الحيدر...ما بين ديالى ودهوك جسر من الحلم أعبره كل مساء
-
شتاء
-
الرسالة الرابعة الى رئس الجمهورية
-
سيادة العميد ..ضايج!!
-
عن حي المتنبي وستالين والمادة 140
-
آهٍ .. ما أبعد بغداد
-
رثاء لهذا العالم
-
ماذا فعلتم بكتبي أيها ال..
-
ضحكٌ كالبكاء..عن جندرمة الآغا العثماني والعجوز العراقية وحزب
...
-
صرخةٌ على الخليج:شعرُ باسم فرات، الشاعر العراقيٌ المنفي
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|