|
مجيد ياسين ل - الحوار المتمدن -: في قصائدي لوحات تشكيلية رُسِمت بغير فرشاة وألوان!
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 2393 - 2008 / 9 / 3 - 10:02
المحور:
الادب والفن
كرّس الشاعر مجيد ياسين جزءاً كبيراً من حياته للترجمة والعمل الصحفي. ويكفي أن نشير هنا الى بعض الكتب التي ترجمها من اللغة الإنكليزية الى العربية لعل أبرزها " الغرانيق الألف " و " أستاذ الغو " لياسوناري كاواباتا، و " سبينوزا شارع السوق " و " الشيطان في غوراي " لإسحق سنغر، و " قبضة الله " لفردريك فورسايث، و " كتابة الرواية " لجون برين، و " دستويفسكي " لآندريه جيد، و " أطفال القطار " لإيديث نيسبت، و " المُختطَف " لروبرت لويس ستيفنسن، و " الزهرة القرمزية " للبارونة أموسكا أوركزي وغيرها من الكتب التي لا يسع المجال لذكرها في هذه المقدمة المقتضبة. إن صدور المجموعة الشعرية الأولى لمجيد ياسين والموسومة بـ " البحث عن الفردوس " قد جاء متأخراً كثيراً، غير أن رصانة مشروعه الشعري المتمثل في هذه المجموعة والمجموعة الثانية المُعدة للنشر تشفع له هذا التأخر. إن من يقرأ هذا الديوان سيكتشف من دون لأيْ أن الشاعر قد وضع خلاصة رؤيته الفنية والفكرية والفلسفية في مثانية ومقطوعاته وقصائده العمودية تحديداً، والتي قال عنها الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد أنها " جميلة وبالغة الإحكام ". وللتعرف على الجوانب الفنية والإبداعية في تجربة مجيد ياسين الشعرية التقيناه وكان لنا معه هذا الحوار.
* قال الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد أن شعرك العمودي جميل وبالغ الإحكام. كيف تقيّم هذه الشهادة النقدية التي تزامنت مع صدور ديوانك الشعري الأول " البحث عن الفردوس "؟ - رأي من شاعر كبير أعتز به مثل اعتزازي برأي الأستاذ الدكتور عبد الرضا علي، وقد زيّنت بهما غلاف كتابي. * قوة الخطاب * تكتب القصيدة العمودية وشعر التفعيلة ولا تستجيب لقصيدة النثر على وجه التحديد بالرغم من مساحة الحرية التي توفرها الأشكال الشعرية الحديثة. ما سر تعلقك بالعمود والشعر الحر؟ وهل تعتقد أنهما يستجيبان لكل الموضوعات التي تخطر ببال الشاعر؟ -للشعر شروط، عموداً كان أم شعراً حرّاَ. ويأتي الوزن في مقدمة هذه الشروط. فلا شعر من غير وزن. أمّا ما تفضلتم به من الاشارة الى مساحة الحرية الكبيرة المُعطاة " للأشكال الشعرية الحديثة " وأظنكم تقصدون ما يطلق عليه " قصيدة النثر " فهي مساحة ممنوحة بغير استحقاق. إنّ " قصيدة النثر " ليست شعراً. لون من ألوان النثر؟ نعم. نثر فيه الغنيّ الذي يستحق الإعجاب والذي لا يستحق الالتفات. وتسألني عن سر تعلقي بالعمود الكلاسيكي والشعر الحر. " شعر التفعيلة- كما يطلق عليه في الوقت الحاضر! تسمية غريبة لا أجد لها معنى. الشعر العمودي يقوم على التفعيلة أيضاً فلماذا يقتصر المصطلح على واحد دون الآخر؟" أجيب على سؤالكم: بأن الكلاسيكية هي العمود الفقري الذي لا قامة للشعر من دونه. والشعر الحر الكلاسيكي البنية هو الآخر. فهو لم يتنكر للوزن والقافية بل حرر نفسه من بعض صرامتهما. إن كلاماً لا يلتزم الأوزان والقوافي، بصورتيها الكلاسيكية والحرّة، ليس شعراً. ولا أعني بهذا أن كل ما كُتب ويُكتب موزوناً ومقفّى هو شعر. أنا أجد في الشعر العمودي طاقة تأثير وايصال " قوة خطاب " لا تتوفر بقدر مماثل في الشعر الحر ولا يكاد يحس بأثر لها في " قصيدة النثر ". وفي تقديري أن قوة الخطاب تنبع من انتظام الوزن والقافية. فتكرار الوزن والقافية يحقق الرتابة المغناطيسية المطلوبة للتحكم بحاسّة السمع، التي هي الطريق الى اللاوعي ومن ثم الوعي " فالحواس أدوات لمخاطبة اللاوعي أولاً ". لهذا نجد الديانات- الوثنية وغير الوثنية- تستعين بلغة الشعر وسيلة للوصول الى الذاكرة الجمعية وتوجيهها. وفي الملاحم القديمة دليل على قوة دور الشعر الكلاسيكي في الوصول الى تلك الذاكرة. وتسألُني إن كنت أعتقد بأنَّ الشعر العمودي والحر يستجيبان لكل مواضيع العصر الحاضر. لكي أجيب عليّ أن أطرح السؤال التالي: هل تستجيب اللغة لكل متطلبات العصر بما هي عليه من تعدد مثير وتشابك مُربك واتساع أفق رؤية مدهش؟ أجيب بنعم. فإذا استثنينا غيلان المصطلحات التي غدت جزءاً حيوياً من حياتنا المعاصرة ولغتنا الدارجة، نجد أمامنا لغة غنية بمفرداتها وبناها ودلالاتها، لغة تستجيب للشعر استجابة باهرة، لأنها، مثل أية لغة عريقة تمتلك طاقة كامنة محركة تؤمن لها معايشة أي عصر من العصور. فإذا أضيفت إليها مصطلحات العصر- وهذه ضرورة لا بد من التعامل معها بوعي وايجابية- باتت مؤهلة لإحتلال مركزها اللائق بين لغات العالم الرئيسة. *استلهام الأسطورة * وظفتَ في ديوانك الأول " البحث عن الفردوس " عدداً من الأساطير السومرية واليونانية بطريقة مغايرة لما هو سائد ومألوف. ما طبيعة الأسلوب الذي تعتمده في تفكيك الأسطورة وإعادة صياغتها من جديد؟ -هو ليس توظيفاً، كما تفضلتم، بل قراءة جديدة للأسطورة. صحيح أن في إعادة قراءتي الأساطير محاولة لتفكيكها واعادة صياغتها، لكنها لا تعتمد المنهجية والتوغل في النص، كما يفعل الدارس الأكاديمي والباحث. فأنا شاعر لا يريد سوى إستلهام هذه الأسطورة أو تلك مادة لقصيدة. وبإزاء مسألتين: " أولهما أن الأسطورة، بما هي عليه في الأصل، استلهمت مراراً كثيرة واستلهم شخوصها كلهم حتى لم يبق واحد منها راقداً في قبره! والثانية ضرورة استلهام الأسطورة شيئاً جديداً وسط هذه الزحمة " وجدتني أعيد صياغة الأساطير على النحو التالي: * في أسطورة التكوين " Genesis " جعلت الخالق يحدد مصير آدم منذ اليوم الأول حاكماً عليه بحتمية العذاب والموت وجاعلاً الفردوس كناية عن السعادة الأبدية، أرضياً ومتجسداً بصورة المرأة. أرجو واعتقد أنكم تشاركونني الرأي بأن هذا الموضوع شائك وكبير لا يتسع المجال هنا لمزيد من البحث. * في أسطورة برومثيوس أجريت تغييراً جوهرياً في موقف برومثيوس من زوس ومكائده. فجعلته يستجيب لمكيدة " باندورا " استجابته لدعوة زوس لفتح باب الحوار بين الاثنين. ان برومثيوس يعرف المكيدة فإن رفضها مضت الأسطورة في مسارها التقليدي. هنا جعلته يتدخل ليُدلَّ زوس على قيمة جمالية أخلاقية لا يقيم الربّ الأغريقي لها وزناً فيقول له: " كل الذي أتمنّاه / أن تغرس في صدرها بعض قلبي! " * في أسطورة كلكامش وضعت نفسي في موضع الكورس من التراجيديا الكلاسيكية، بقراءة جديدة للأسطورة يمكن التحدث عنها في وقت آخر. * في أسطورة سليمان وظَّفت مقولة سليمان " باطل الأباطيل وقبض الريح. . " في قصيدتي " مَنْ منّا سليمان؟ " بقراءة مختلفة. فالنبي سليمان يرى في الأنهار التي تصب في البحر النفس البشرية التي لا ترتوي من المتع والمباهج. وأنا أقرأ البحر على أنه الموت الذي تنتهي اليه مسارات الحياة ولا يرتوي. * وفي " صرخة سيزيف "- تأملات11 – أخرج بالبطل الأسطوري من عتمة الاذعان للقدر المتمثل بقرار الآلهة تسليط العذاب عليه، الى دائرة الضوء كناية عن وقفة الرفض والتحدي: " أنا أنبلُ من زوس / أصلحُ ما أفسدته يدي / وهو / يحكم بالموت ما أفسدته يداه! " إن في قراءتي الأسطورة بُعداً لا مجال لبحثه في هذه الاطلالة السريعة. للأسطورة هوىً في نفسي تمتد جذوره الى أيام الصبا. وقد فتحت لها صفحات ديواني المتواضع حتى كادت أن تنبسط على مساحته كلها. انها توفر فسحة للهروبية لا يوفرها الحلم. الشاعر شخص حالم كلما اشتد عليه حصار الحاضر، ذاتياً وموضوعياً، التمس ملاذاً. . مهرباً. وعندي أن الحاضر زحف نحو الموت- بمعنييه المادي والرمزي، وما الهروب الى الماضي، متمثلاً بالذكريات أو الأسطورة إلا تأجيل مؤقت لقدوم الموت، يتغذى على النسيان وغيره من مسكّنات المخاوف. فإذا تفضلتم بالرجوع الى التأمل " 11 " من باب " تأملات في الملكوت " فاعتقد بأنكم ستجدون فيه ما يوفر عليكم الإطالة في الحديث عن دوافع استعانتي بالأسطورة. * عتبة خير *يعتمد بعض قصائدك على الموروث الشعبي العراقي على وجه التحديد. ما حدود الإفادة من الحكاية الشعبية؟ وما طبيعة النسغ الذي تستمده من الشعرية الكامنة في الذاكرة الجمعية للسواد الأعظم من الناس؟ -في الموروث الشعبي غنى لا تخطؤه العين. ففيه الكثير من ملامح الأسطورة. إن لم أقل إنه الأسطورة في طور التكوين. ولا أجد تفسيراً معقولاً لانصراف الاهتمام الى الأسطورة وتجاهل الموروث الشعبي. فأنا لا أجد إشارة الى الموروث في شعرنا العراقي ما ندر والاستنتاج نفسه قد يصح على الشعر العربي الحديث! ما الذي أفدته من الموروث الشعبي ووظفته في بعض قصائدي؟ لبيوتنا العراقية القديمة، والبغدادية منها بالأخص، دكة تتقدم باب الدار يطلق عليها " عَتَبَة " فلفظها باللهجة العامية " عِتْبَه ". غير أن للعتبة العامية دلالة تتجاوز الاختلاف اللفظي، دلالة روحية تتعلق بالإيمان، ايمان بالقضاء والقدر والحسد والحظ والبيت المسعود والبيت " المنفوس " (1) ايمان عميق غائر في ضمائر الناس وحسهم الجمعي لا يعرفون جوهره ومصدره، ولكنه قوي متمكن من قناعاتهم تحيطه طقوس لا تقلّ قدسية عن طقوس الصلاة. كانت والدتي، كلما سافر والدي في رحلة عمل بالمحافظات، حيث ينصب مكائن ري أو مطاحن دقيق ميكانيكية، تمضي الى باب البيت وراءه مودعة وبيدها ابريق ماء تسكبه على العتبة مرددة أدعية بسلامة الرحيل والعودة بنوع من الترتيل الخاشع يشبه ترتيل الآيات القرآنية في الصلاة. وكانت العتبة بالغة الأهمية في حياة الناس ومصائرهم. فحين يزمعون شراء بيت تكون العتبة أول ما يسألون عنه. فان كانت " عتبة خير " فذلك يعني أن كل شيء سيجري حسناً: العيشة، عدد الأبناء، نجاحهم في الدراسة والزواج، سلامتهم من الأمراض والنكبات. .الخ. الموروث الشعبي واسع متشعب ومتعدد الصور. وقد أخذت صورتين أو ثلاثاً منه واستعملتها في بعض قصائدي، منها، على سبيل الذكر لا التحديد، " أصعب الحزن " و " هذا هو الضيم " و " لهفة ". محاولة للاقتراب من الناس مسألة مهمة. المحاولة، بحد ذاتها، ليست صعبة، انما الأصعب منها والأهم هو تحقيق الاقتراب. . بلوغه. وهذه مسألة ترتبط بشدة بمدى صدق الخطاب وشعريته. . بمدى رهافته وشفافيته. وقد حاولت، في القصائد آنفة الذكر، وبالأخص قصيدتي " أصعب الحزن " و " لهفة " أن أحقق الرهافة والشفافية المطلوبتين. آمل أن أكون حققت ذلك. فالشعر كما يقول الحطيأة، صعب وطويل سلَّمُه! * الومضة الشعورية *يقوم معظم قصائدك وخصوصاً المثاني والمقطوعات القصيرة على تقنية الومضة أو اللحظة التنويرية. هل تتعمد كتابة هذا النمط الذي يحتاج الى لغة مركزة مكثفة أم أنه يأتي عفو الخاطر دونما تخطيط مسبّق؟ -الشعر انعكاس للومضة الشعورية وتعبير عنها. وهذا يتطلب من التعبير الشعري عن الومضة أن يكون متدفقاً ومكثفاً وباهراً مثلها وإلاّ تخلّف عنها وقتل تأثيرها. ولكن إذا كانت الومضة حالة شعورية محضة فإن محاولة التعبير عنها ليست بمثل سهولة الومضة وعفويتها. فهي عملية صعبة وطويلة تمر بثلاث مراحل دقيقة: تلقي الومضة من خلال رد فعل اللاوعي. فعقلنتها في الوعي. ثم تحويلها الى خطاب، على أن تتم المراحل الثلاث في نفس الفترة الزمنية التي تستغرقها الومضة وتتلبسها تماماً حتى لتبدو الصورتان صورة واحدة. الحالة الثانية أن تأتيني فكرة أو معاناة ما فتغادرني في التو الى الشعر لترتدي ما تجده ملائماً من الصيغ الشعرية والأبيات. وغالباً ما أراها تكتفي ببيتين أو ثلاثة أو عشرة. فأراجعها لأرى إن هي اتخذت من الأبيات ما يكفي أو يقل أو يزيد فأجدها أخذت الشكل المطلوب ببيتين أو ثلاثة بما لا يترك مجالاً لحذف أو اضافة. أضرب مثلاً من المثاني: " أعطيتني حُلُماً ولا سُبُلا / وصنعتَ لي من غفلتي أملا / هي لعبةُ العيشِ التي سئمت / نفسي العسيرَ بها وما سَهُلا ". وأجيب على سؤالكم إن كنت أتعمد الكتابة بهذا النمط أو أنه يأتي عفو الخاطر. لا شيء في الشعر يأتي عفو الخاطر. حتى الشعر المرتجل له جذور في الذاكرة. وأنا لا أتعمد الكتابة بهذه الطريقة، بل تفرضها الفكرة. أما التخطيط المسبّق فأمر لا غنى عنه لكل شاعر ويخدم، عادة، القصائد التي تعالج أفكاراً ومفاهيم القصائد الوجهة. * مكث الجوع *يتوزع الشاعر مجيد ياسين بين زمانين ومكانين. أيهما اشد إلحاحاً عليك. وما هي المعطيات الفنية والفكرية التي يوفرها " الآن. . هنا " و " الأمس . . هناك " في كتابة النص الشعري؟ -تتعدد الأزمنة والمناخات في ضمير الشاعر / الانسان وتختلف بين يوم وآخر. وقد لا أبالغ إذا قلت إنها تتعدد وتختلف بين لحظة وأخرى. فلا شيء في تجربة الحياة يتكرر. حتى الحالة الشعورية لا تتكرر وإن صدرت عن مؤثر واحد. سأتحدث قليلاً عن زمانين في مكان واحد: " العراق " ومن ثم أتحدث عن زمان ومكان آخرين. وأعدكم بأني لن أسهب أو أطيل. في الأربعينات، ومن الصبا، كنت جائعاً. وكنت أضحك لأني أرى من حولي وجوهاً بشرية تضحك. وغادرت الوجوده الضاحكة وغادر معها الضحك كله ومكث الجوع. وصارت الغيلان تتوالى أمامي. وجف ريق الحياة حتى غدت الضحكة أعصى من كسرة الخبز. والغيلان مازالت تسد الشمس عن تراب العراق والضحكة غادرت منذ ذلك الحين والجوع مقيم في الأحداق." زمانٌ مضى وزمانٌ بَلانا / أناخَ علينا أسىً وهوانا / وكان الصباحُ بشائر خيرٍ / فأضحى الصباح لظىً ودخانا / وصارَ الردى زادَ أيامنا / ألا يا زمان المسوخ كفانا " ثمة معطىً واحد استمده من " أمس – هناك " حنين الى الضحكة التي رحلت عن العراق منذ ذلك الحين. المعطيات الفنية والفكرية لعالم اليوم- عالم الغرب بشكل خاص، كثيرة وغنية ومتحركة، في جوانب منها، نحو الأفضل بتسارع مدهش ومثير. ولعلكم تلاحظون أن استجابتي لهذه المعطيات طيبة تدل عليها قصائد عدة، إن لم أقل كثيرة، في الديوان. وما النص الشعري الجديد، الذي تفضلتم بالإشارة اليه، إلا تعبير عن صدق الاستجابة للجوانب الايجابية من هذه المعطيات وملامسة جوهرها ومواكبة حركتها المتسارعة. * بواعث القصيدة * أنتَ من بين الشعراء العراقيين والعرب القلائل الذين يستعملون تقنية الحواس ويندر أن تفلت منك أية حاسة من الحواس. ما أهمية هذه التقنية من وجهة نظرك، وما الذي أضفته على نصوصك التي تدور في فلك المغايرة؟ -لا أدري إن كانت ثمة " تقنية حواس " في الشعر وأرجو أن لا تأخذوا عليّ محدودية معرفتي في عالم المصطلحات. عندي أن بنى القصائد تختلف باختلاف بواعثها. ما أقصده بالبنى كل ما يؤدي بمشروع القصيدة الى الصيرورة المطلوبة. كل شيء يتغير: المفردات، الوزن، الجملة الشعرية، الموسيقا، الإيقاع الداخلي، التطور الحسّي أو الدرامي. . الخ. وحين أكتب قصيدة تقوم على حركة الحواس لا ترد الى ذهني مسألة التقنية لأن بواعث القصيدة تقودني الى تقنية كامنة تفرض عليّ أن آخذ بها إذا أردت للقصيدة أن تتخذ شكل صيرورتها المطلوبة. إن قصيدة تنطلق من الحواس تلزمني بأن أجعل الحواس ورقتي وقلمي، أتركها تتحرك، تتحدث الى السامع أو القارئ حتى ليكاد يشعر أنها حواسه: خذوا قصائد " أتخيّلُها " و " وجد وخشوع " و " في يوم ماطر " على سبيل المثال لا التحديد، تجدون الكلمات تخرج من اطارها التشكيلي التجريدي لتصبح حواس ومشاعر يكاد القارئ أن يلمسها. فاذا كانت هذه التجربة ما تقصدونه بـ " تقنية الحوّاس " فأنا أستعمل هذه التقنية إذاً. لقد أشرت آنفاً الى أهمية هذه التقنية، لكن تجربتي فيها شيء من الاختلاف، إن لم أجرؤ واقول إن فيها شيئاً شيئاً من التفرد. أنا لا أقف عند كون الحواس والأحاسيس بواعث للقصيدة، بل أجعل منها كيانات فاعلة حاضرة يكاد القارئ أن يلمسها لمس اليد. * شعرية النص وعذوبته * ثمة نفس فلسفي قوي حتى في القصائد الرومانسية. ما الذي يحفزك على دخول غابة السؤال الفلسفي وانت تكتب نصاً شعرياً يحرك المشاعر ويلامس شغاف القلب؟ -لا أريد أن أتفلسف، لكني أعتقد بأن النَفَس الفلسفي يمكن أن يتخلل أي عمل ابداعي، بل أني أجد النفس الفلسفي، لا النهج الفلسفي، يعطي زخماً لقدرة القصيدة الرومانسية على التأثير وقيمة فكرية تضيف ثراء الى ثراء قيمتها الروحية. فإن وجدتموني قد نجحت بادخال التساؤل الفلسفي في النص الشعري الرومانسي من دون المساس بشعرية النص وعذوبته فهذه مسألة تبهج القلب حقاً. ففي كتابي قصيدة معينة أتفحص مادتها الخام وأدواتي جيداً قبل الشروع بصياغتها. قد تعتبرون ما أقول ضرباً من المبالغة، ولكن ما من مبالغة في ذلك. أدرس جيداً وانتقي كل مفردة وأضع في ذهني مخططاً لما يجب أن تكون الجملة الشعرية عليه ومكانها من القصيدة وفي بعض الحالات أحدّد عدد الأبيات أو أضع لها حداً تقريبياً وحين أجد لزاماً، أو من الأفضل أن أحمِّل القصيدة بعداً ما، أضع تصميماً لصيغة القصيدة الأخيرة يحمل البعد المقصود الى موضع معين منها أو يتخللها. وأعتقد بأنكم ستجدون أكثر من مثال ودليل على هذه التقنية في الديوان، لكن هذه التقنية لا تنسحب على قصائد الومضة بسبب من طبيعتها الخاصة وبنيتها الدلالية المركزة. * التشكيل الأول في الخيال * ثمة صور تشكيلية كثيرة توشي قصائدك. ما عمق الإفادة من هذا المعطى الفني الذي يعزز نصوصك الشعرية التي تستمد قوتها من بعض الفنون القولية وغير القولية؟ -إن للكلمة طاقة أكبر ومدى اوسع لرسم الصورة التشكيلية من الفرشاة واللون. فالألوان، رغم تعددها ووفرة مشتقاتها، تبقى مشدودة الى حاسة البصر وتتوقف عندها بسبب من طبيعتها الستاتيكية الثابتة. الألوان لا توحي بشيء. وما حالة الإيحاء وما ينتج عنها من اشتقاقات وتشكيلات لونية إلا حصيلة ما يسقطه الخيال عليها. فإذا تأملنا حركة الخيال في الذهن نجدها تشكيلية حرفية لا لونية، كلمات تتركب بصيغ مختلفة دالة، بحد ذاتها، يعبّر عنها بالألوان أو الكلمات أو أية وسيلة من وسائل التعبير. ولما كانت الكلمات التشكيل الأول الذي يتم في الخيال قبل تحويله الى خطاب لوني فهي تملك، إذاً قدرة ذاتية، لا مكتسبة، على التعبير والإيحاء. في حين نجد التشكيل اللوني لا يقول ولا يوحي إلا بما يحمله الفنان أو المشاهد من مضامين ودلالات. إن تشخيصكم وجود صور تشكيلية في قصائدي دقيق حقاً. أوليس شيئاً يدعو للتأمل والارتياح أن يرى القارئ في قصائدي لوحات تشكيلية رسمت بغير فرشاة وألوان! * لا فردوس بلا امرأة * لم اعتبرتَ الفردوس إمرأة؟ - ما الفردوس؟ جنّات تجري من تحتها الأنهار؟! وماذا بعد؟ خواء روحي ومادي بدون المرأة. فلأقلب الصورة: امرأة بلا فردوس، بلا جنات وارفة الظلال! خذوا هذه المفاضلة الى كل الرجال في العالم ستجدون الغالبية الساحقة تفضل المرأة على فردوس الخواء. المراجعة البسيطة لهذه الأطروحة تقودنا الى حقيقة أن لا فردوس بلا امرأة. إذاً فالفردوس هو المرأة. إن كل ما بناه الانسان يقوم على المرأة كشرط للوجود وديمومته. وكل نشاط انساني، بكل أشكاله وأبعاده، ينطلق من طلب المرأة وينتهي إليها. الأساطير والديانات، حتى البدائية الوحشية منها تؤكد على المرأة كوجود لا بديل له، وجود مطلق. خذوا أسطورة الخلق التوراتية " Genesis " تجدون الأنثى تحتل المساحة الأكبر: حوّاء، الأفعى، شجرة التفاح. وفي الأسطورة اليونانية نرى كبير الآلهة " زوس " ينجب ثلاث بنات: آرتميس " ديانا عند الرومان " وأثينا، وآفردويت " فينوس عند الرومان " مقابل ولد هو " فولكان "(2) الحداد، إله النار. وهذا العدد هو كناية عن أن الخصب ودفق الحياة ينبعان من المرأة. ونرى نرسيس " Narcissus " يسعى للوصول الى المرأة التي عشقها في صورته عبر الموت! ولهذا أرى أن أشد عذاب يسلّطه الخالق على الإنسان هو حرمانه من الجنة متمثلة بالمرأة ومن ثم الموت(3). أنا أقرأ أسطورة " نرسيس " قراءة مختلفة جوهرياً عن القراءة التقليدية، وأرى أن شاب الأسطورة لم يعشق نفسه، بل كان يتخيل المرأة التي يمكن أن يعشق على صورته. الهوامش: (1) يقال- بالعامية- إنّ هذا البيت أو الرزق منفوس يعني أنه محسود. (2) هيفتستوس " Hyphaestus " عند الإغريق، و " Volcan " عند الرومان. (3) قصيدة " التكوين " . . باب " التأملات v1" ص19.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- مُلح هذ البحر - لآن ماري جاسر والاصرار على حق العودة
-
ترجمة جديدة ل - هاملت - تسترشد بالأنوار الكشّافة للشُرّاح وا
...
-
صلاح نيازي يعمل بروح الشاعر ومبضع الجرّاح
-
ثنائية القامع والمقموع في - فندق رواندا - لتيري جورج
-
الواقعية الإجتماعية وأهمية الإرتجال في فيلم - فيرا درَيك - ل
...
-
القاص لؤي حمزة عباس: يتخلى عن الغموض، ولا يزال متشبثاً بشعرن
...
-
القدس: قصة الجانب الشرقي للمخرج الفلسطيني محمد العطار: القدس
...
-
علاء سريح في معرضه الشخصي الثالث: تكوينات متكررة على سطوح تص
...
-
تلاقح الأجناس الأدبية في رواية - حبل السُرّة - لسميرة المانع
-
الفنان علي النجار ل - الحوار المتمدن -: غرابة التشكيل المعاص
...
-
متاهات اللون وجُزر الفراغ في ذاكرة الفنان علي النجار
-
الشاعر أحمد الصافي النجفي بين غُربة الروح وغُربة الفكر
-
السيرة الذاتية- الروائية: - غصن مطعم بشجرة غريبة - مثالاً
-
التشكيلي الكردي صدر الدين أمين . . . من البكتوغرافي الى الشا
...
-
- فهرس الأخطاء - والأنموذج المُحزِن للتيه العراقي:عبود الجاب
...
-
هيمنة الشتاء النووي في - الطريق - الى العدم
-
الروائي المصري رؤوف مسعد: أنا أقلية في المجتمع الهولندي، وأق
...
-
الروائي المصري رؤوف مسعد: أنا متمرد بالسليقة على أسرتي، وطبق
...
-
الروائي المصري رؤوف مسعد: ما أكتبه يثير القلق والحفيظة والضغ
...
-
الديناصورات: عمالقة بتاغونيا: رسوم متحركة تحفِّز الخيال والر
...
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|