يبدو الوضع الفلسطيني في مأزق عميق نتيجة الإختلال الشامل لميزان القوى، حيث تفرض الدولة الصهيونية على الأرض " خريطة" تعبّر عن " الحلم الصهيوني"، مدعومة ليس بقوة الدولة الصهيونية فقط، و هي قوة هائلة على كل حال، بل و بقوة الدولة الأميركية التي باتت تعمل على تحقيق السيطرة على العالم، و أولاً على الوطن العربي.
و بات واضحاً بعد تجربة عشر سنوات من توقيع إتفاقات أوسلو أن ليس لدى القيادات الصهيونية ميل لقبول قيام دولة فلسطينية، و أن ما تفكر به هو الصيغة التي تستوعب السكان العرب الباقين في الضفة الغربية و قطاع غزة دون أن تدمجهم في " الدولة"، على ضوء الضم التدريجي للأرض التي تعتبر أرضاً " يهودية" ( التي تسمى يهودا و السامرة). و بالتالي أولاً كيف يمكن أن يتقلص عددهم و تنفتح سبل هجرتهم، و ثانياً ما هو الشكل السياسي الممكن الذي يجعلهم تحت سيطرة الدولة الصهيونية دون أن يحولهم إلى مواطنين فيها؟ و لاشك في أن تحقيق المسألة الأولى يسهّل تحقيق الأخرى، لهذا تمارس أبشع الجرائم بدءاً من القتل المستمر و المتصاعد إلى تصعيب الحياة و العلاقات الإقتصادية بين المناطق و تدمير الزراعة و تقليص فرص العمل إلى أدنى حدّ ممكن، و تقليص الحركة الإقتصادية بما يقود إلى تدمير مجمل الإقتصاد، و ربط السكان أكثر بعجلة الإقتصاد الصهيوني. هذه المسائل تهدف إلى الدفع نحو الهجرة، بمعنى أن السياسة الصهيونية تقوم على وضع السكان في أقسى ظرف لكي " يهربوا " إلى أي منفذ ممكن.
على ضوء ذلك و بالتساوق معه يجري توسيع الإستيطان و السيطرة على الأرض، وبالتالي توسيع " الأمر الواقع" الصهيوني و تضييق الرقعة الخاصة بالسكان العرب إلى أبعد حدّ ممكن. و إذا كان ذلك يهدف إلى تقليص المقدرة الإقتصادية للفلسطينيين، فإنه يهدف كذلك إلى محاصرة المدن و القرى و تطويقها لكي تتشكل في ما بات يسمى معازل ( أو بانتسيونات أو كانتونات). و من ثمّ يمكن أن تعطى هذه المعازل صيغة من " الحكم الذاتي" لإدارة المسائل المدنية التي تتعلق بسكانها و حفظ الأمن عن طريق شرطتها الخاصة عبر شكل سياسي " منفصل". و لقد مثّل " الجدار الواقي" التحديد العملي لهذه السياسة.
في هذا الوضع تبقى الضفة الغربية ( و ربما غزة التي جرى التفكير سابقاً بالتخلي عنها) جزءاً من الدولة الصهيونية، لكن مع إعطاء السكان وضعاً قانونياً يخرجهم من إطاراتها السياسية.
هذا هو الحل الذي يطبّق على الأرض، و هو الحل النهائي بالنسبة للدولة الصهيونية. و لاشك في أن توضُّحه بشكل فظ قد أشعر فئات السلطة الفلسطينية بالمأزق العميق، لأنه يعني أن " حلم" التحوّل إلى دولة مستقلة قد تلاشى، و أن لحظة " الإنتصار" التي بزغت مع إتفاقات أوسلو توضّحت كلحظة فشل مريع، لأن الخيار المطروح بإلحاح عليها بات يتمثل في القبول بالحل الصهيوني أو قبول النهاية المؤلمة التي تعني " الهجرة" و ترك السلطة ذاتها. بمعنى أن النتائج على الأرض أوضحت وهم إمكان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، نتيجة الإرادة الصهيونية التي تنطلق من أن فلسطين هي " أرض إسرائيل" و أنها هي " دولة اليهود"، مدعمة بالقوة القاهرة و ميزان القوى المختل، هذا من جهة و من ثم – و نتيجة ذلك- لأن الحقائق على الأرض ( الخاصة بالإستيطان و السيطرة على الأرض و الجدار الواقي) باتت تمنع تحقيقها.
و لأن أحلام أوسلو " وردية"، و أدت إلى تشكُّل فئة فلسطينية مستفيدة دخلت في شراكات مع فئات صهيونية، فقد مالت إلى التوهّم أن بالإمكان فتح " كوة" في هذا الوضع تسمح بالوصول إلى حل آخر يلحظ " مصالح" تلك الفئة. في هذا السياق يمكن إدراج " وثيقة جنيف" و تصريح أحمد قريع حول الدولة ثنائية القومية. فقد كانت " الوثيقة" إكمال لما طُرح في كامب ديفيد و للإتفاقات التي جرى توقيعها في طابا و شرم الشيخ، لكنها تقدمت قليلاً فيما يتعلق بمسألة حق العودة، التي رغم إشارتها إلى القرار 194 القاضي بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى المناطق التي هُجّروا منها، وضعت حلولاً تتجاوزه عبر التعويض أو الإقامة في أرض " الدولة الفلسطينية". و لاشك في أن هذه هي " النتيجة المنطقية" لإتفاقات أوسلو و للميل للوصول إلى حل نهائي " متوافق عليه".
لكن المسألة التي لم تُدرك لدى موقعي الوثيقة من الفلسطينيين أن الوثيقة هي إستمرار للوهم ذاته الذي تكسره الحقائق على الأرض، و أن أي تنازل جديد لن يفيد سوى تعزيز المبررات التي تساعد على فرض الحل الصهيوني، كما أن المراهنة على " الوضع الدولي" غير مجدية في لحظة التفوّق الأميركي المطلق، و الشعور الصهيوني أن الدولة الصهيونية هي جزء أساسي في هذا الإنتصار الأميركي، و أن دورها لا يتوقّف على فرض حلها في فلسطين فقط بل يمتدُّ إلى المحيط في إطار التصوّر الأميركي لتغيير الوضع الجيو سياسي في كل المنطقة العربية.
و في هذا الوضع بالذات سيبدو تصريح أحمد قريع أكثر من مضحك، ليس لأن الحل الذي طرحه يحتاج إلى نقاش معمّق فقط، بل لأن ميزان القوى العالمي مختلِّ إلى أقصى مدى، و هو لا يسمح إلا بالحصول على حكم ذاتي في كانتونات، و بالتالي فإن المطروح هو إما القبول أو الرحيل دون حاجة لتهديد فارغ جرى التراجع عنه في اليوم التالي.
لقد قدّمت السلطة الفلسطينية أقصى التنازلات ( التي يمكن أن تكون قد أفادت في توضيح المرونة الشديدة التي أسهمت في تحقيق تغيُّر في الرأي العام العالمي و الأوروبي خصوصاً) لكن المسألة لا تتعلّق بالمرونة، بل أن المسألة تتعلّق بميزان القوى أولاً، حيث لا مفاوضات جادة و لا تسويات ممكنة ( و ليس عادلة حتى) في ظلِّ ميزان قوى مختلّ مهما كان التعاطف الدولي. هذه نتيجة ضرورية لأنها تكشف خطل السياسة الفلسطينية التي كانت تساوم و الوضع الفلسطيني يضعف و الوضع الدولي يزداد إختلالاً لمصلحة السيطرة الإمبريالية، و الإنهيار المتتالي للنظام الإقليمي العربي. و لهذا نشهد تحقق الحل الصهيوني و ليس " الحل الوسط" الذي أُسمي " الحل العادل و الشامل". نشهد الحل الذي تفرضه الدبابات الصهيونية على أشلاء الجماهير الفلسطينية معمداً بالدم، واصلاً حدّ المجزرة. و هو الحل الذي يقول أن " الحل الوسط" هو وهم سارت خلفه القيادة الفلسطينية طيلة ثلاثة عقود، و ها هي تُغرق فيه، لكن أيضاً ستغرق فيه خصوصاً أن لا خيار لديها و ليس من مجال للمناورة، الأمر الذي يؤشّر على أفولها.
و إذا كان الصراع لم ينته، و أن الإنتفاضة مستمرة، و أن ليس لدى الجماهير الفلسطينية من خيار سوى المقاومة، و إنتظار تغيّر الوضع العربي، فإن المطلوب بالتالي ليس القبول بما هو مطروح ضمن ميزان القوى الراهن، حيث أنه لا يشكّل حلاً و لا يخمد الصراع أو يحدّ من توتره و عنفه. كما أن تحسين شروط ما هو مطروح أمر مستحيل الآن، الأمر الذي يفرض البدء بإعادة التأسيس لتغيير ميزان القوى. و إذا كانت مسألة إعادة بناء الحركة الفلسطينية المقاومة بتحديد شعاراتها و تشكيل قيادتها الموحّدة من أجل تطوير الإنتفاضة، مسألة راهنة، فإن إعادة بناء الرؤية المتعلقة بالمسألة الفلسطينية باتت تفرض نفسها على ضوء التجربة ذاتها. و هنا يمكن لمس زاويتان، الأولى تتعلق بالإرتباط العربي للمسألة الفلسطينية، و الثانية تتعلق بإعادة بناء تصوّر حل المسألة اليهودية. و كلتا الزاويتين يتأسس على وعي طبيعة المشروع الصهيوني. حيث ستشير تجربة المفاوضات التي إستمرت ربع قرن أن المسألة لا تتعلق بأن نقبل الدولة الصهيونية لكي تقبل التعايش في الإطار العربي، بل أن الدولة الصهيونية ( التي لا يمكن اعتبارها حلاً لمشكلة اليهود) تريد صياغة المنطقة وفق مصالح محدّدة هي مصالح إمبريالية. لهذا فإن المسألة لا تتعلق بقبول " دولة اليهود" بل تتعلق بمشروع إمبريالي صهيوني يستهدف العرب. هذا الأساس هو الذي يجعل الدولة الصهيونية تسعى للسيطرة على كل فلسطين ( وبالتالي لا تقبل التنازل عن جزء منها)، و إلى فرض سطوتها على محيطها لتصبح " إمبريالية فرعية"( أي فرع للإمبريالية الأميركية و مركز لشركاتها الإحتكارية التي تنتج من أجل الشرق الأوسط). و هي هنا معنية بكل الوضع العربي، معنية بتكييفه وفق ذلك لتكون جزءاً عضوياً من " الفعل الخارجي" الهادف إلى إعاقة الوحدة و التطور و الحداثة.
إن ربط الحل بالفلسطينيين وحدهم، وفق ذلك، سوف يكرس الإختلال المريع في ميزان القوى، و يفضي إلى إنتصار الحل الصهيوني حتماً. الأمر الذي يفرض إعادة النظر في الرؤية التي حكمت الحركة السياسية الفلسطينية و العربية تجاه المشروع الصهيوني خلال العقود الماضية، حيث سيبدو أن الصراع هو صراع بين مشروعين: المشروع الإمبريالي الصهيوني، مشروع الإحتلال و السيطرة و النهب و التخليف. و المشروع القومي الديمقراطي العربي، مشروع الإستقلال و الوحدة و التطوّر و الديمقراطية و الحداثة. و أن " تقزيم" الرؤية عبر تحويله إلى صراع فلسطيني/ إسرائيلي لا يقود إلى انتصار المشروع الصهيوني الإمبريالي فقط، بل يفتح الأفق لتحقيق الهيمنة على الوطن العربي و هزيمة كل محاولات التطوّر و الحداثة و الديمقراطية. كما أن الإنطلاق من مبدأ الحل الوسط عبر المفاوضات في إطار ميزان القوى المختلّ يوصل إلى التلاشي، حيث دون التغيير الجذري لميزان القوى لن تحقق المفاوضات و سياسات " السلام العادل و الشامل" إلا المزيد من التدمير الذاتي و إفساح الزمن للسيطرة على الأرض و توسيع المستوطنات. و لهذا ستبدو كل المحاولات و " المشاريع" و المبادرات " السلمية" كإستمرار لصيرورة الإنحدار، و كتكريس لإنتصار الحل الصهيوني.
هذا الأمر يفرض تجاوز كل السياسات التي سادت منذ سبعينات القرن العشرين، و العودة إلى وعي الواقع العربي بترابطه و وعي المشروع الإمبريالي الصهيوني بكليّته، و الغوص إلى عمق المشكلات العربية بعيداً عن السطح السياسي الذي يكشف ( القشرة السياسية التي تكشف ) عن تفتت و خراب و عجز و إستسلام. إن تغيير ميزان القوى ( الذي هو وحده ما يسمح بتحقق المشروع القومي الديمقراطي) هو الهدف الراهن، و هذا يقتضي تغيير الواقع العربي بدءاً بإعادة بناء الحركة السياسية العربية، إنطلاقاً من صياغة جديدة لأهداف العرب، و من إعادة بناء " الكتلة الشعبية" عبر تفعيل الحركات الإجتماعية و تسييسها. بمعنى السعي لإعادة الحركة الإجتماعية إلى أن تمارس دورها في الصراع متعدد الأوجه، البادئ بالوضع المعيشي و الحقوق الأساسية و الديمقراطية إلى الصراع ضد الإحتلال الأميركي في العراق و دول الخليج العربي، و الزاحف إلى مناطق جديدة ( ومنها سوريا)، إلى تطوير الصراع ضد الوجود الصهيوني. و في إطار ذلك يمكن التأكيد على مسألتين فيما يتعلق بالوضع الفلسطيني، الأولى: أن إنهاء الصراع لا يمكن أن يتحقق إنطلاقاً من إستمرار وجود الدولة الصهيونية، لأن المسألة ليست مسألة تحقيق حل ما للفلسطينيين، رغم أن الدولة المستقلة لا تنهي الصراع لأنها لا تحل مشكلة اللاجئين، بل أن الدور الصهيوني في المحيط العربي مستمر في إطار المشروع الإمبريالي، و هذا ما يبقي الصراع متفجّراً. الأمر الذي يفرض ربط الصراع ضد المشروع الصهيوني في الصراع العربي العام من أجل التطوّر و الوحدة و الحداثة و الديمقراطية. والثانية: تتعلق بالنظر إلى المسألة اليهودية التي كانت مسألة أوروبية و أصبحت بفعل إحتلال فلسطين مسألة عربية. و إذا كانت كل الحلول "السياسية" تنطلق من الإقرار بالدولة الصهيونية و بالتالي التخلي عن جزء هام من فلسطين، فإن هجرة اليهود و إستقرارهم في فلسطين يفرضان تحديد حل ديمقراطي للمسألة اليهودية في الإطار العربي. حل يقوم ليس على الإقرار بالحقوق الدينية فقط، التي هي مقرّة في إطار دولة علمانية، بل يقوم على إقرار الحقوق الثقافية رغم إرتباط العبرانيين بالتاريخ العربي، و أساساً يقوم على إقرار حق المواطنة. بمعنى أن نفي المشروع الصهيوني المجسّد في الدولة الصهيونية يفترض التعايش مع اليهود في إطار حل ديمقراطي، كما يفترض حل المسألة الفلسطينية بما يحقق أهداف السكان الأصليين و كل العرب.
لهذا يجب الخروج من دوامة المفاوضات، و أوهام الحلول " الواقعية" و "العقلانية"، و من الميل المتأصل للتكيّف مع الأمر الواقع، و النظر للوقائع التي تهيئ لتغيير ميزان القوى، و تحويل أسس الصراع. فليس كل ما يبدو ممكناً هو الممكن، و حينما يكون الصراع جذرياً لا يتحقق سوى الحل الجذري. و في فلسطين لا يبدو مكان لحلول وسط.