|
العولمة والبروبغندا الأمريكيّة وجهان للهيمنة على العالم:
عزالدّين بن عثمان
الحوار المتمدن-العدد: 2387 - 2008 / 8 / 28 - 06:40
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
بعد سقوط الإتـّـحاد السّوفييتي ظنّ العالم أنّ خطر حرب عالمية ثالثة قد زال، وأنّ الانقسام الايديولوجيّ للعالم قد انتهى، وكان ذلك كالمبشـّـر بولادة عالم جديد حرّ يعيش في سلام. لكن منذ استولى المحافظون الجدد على الحكم في أمريكا تخلـّـت أمريكا عن مبادئ الشـّـرعيّة الدّوليّة وصارت تفرض سياستها التي لا ترضى بها بلدان العالم بالقوّة. هذا التـّـوجّه لا يمكن وصفه إلاّ بالهيمنة الدّيكتاتوريّة على العالم. كما أنّ الإدارة الأمريكيّة تتصرّف على السّاحة الدّوليّة انطلاقا من معيار واحد هو النـّـفعيّة، وتتوخّى وسيلة واحدة في سبيل تحقيقها هي القوّة الغاشمة؛ هذا التـّـصرّف يثبت أنّها لم تشأ أن تقلب صفحة الماضي ويبـيّن أنّها ماضية في بسط نفوذها على النّظام العالميّ الجديد الذي تريده أن يكون خاضعا لها منضويا تحت لوائها.
اليوم نشهد موجة موسّعة من التـّـدمير في العالم العربيّ والإسلاميّ، بهدف بسط النـّـفوذ، تقوم بها الامبرياليّة الأمريكيّة، بدعم من الأنظمة العربيّة والإسلاميّة الغير شرعيّة. ولم تعد أمريكا تهدف إلى مجرّد الهيمنة على الأسواق ونهب الموارد الطـّـبيعيّة للشـّـعوب، وإن كانت هذه أيضا من أهدافها، وإنـّـما هي تسعى إلى الهيمنة الثـّـقافيّة أيضا التي يطلـَـق عليها مصطلح العولمة. السـّـيطرة على الشـّـعوب وعلى موارد العالم تتطلـّـب سيطرة على عقول وقلوب النّاس ولذلك تستعمل أمريكا البروبغندا أو الدّعاية المضلـّـلة من أجل التـّـستـّـر على نواياها وأهدافها الحقيقيّة. لقد سمعنا أمريكا ترفع شعار "حقّ التـّدخّل"، وتزعم ان لتدخـّـلها هذا ما يبرّره: الدّفاع عن الدّيمقراطية وعن حقوق الشعوب. وهذا القول دعائيّ محظ وفيه تناقض صارخ إذ متى كانت الحرب التي هي تدمير وسيلة لنشر الثـّـقافة؟
كتب سمير أمين في مقال بالإسبانية منشور على موقع "Rebelión": "ولكي تحقـّـق تلك الغاية، تطبّق أمريكا استراتيجيا منهجيّة تهدف الى ضمان الهيمنة المطلقة عن طريق القوّة العسكريّة وتبيّن لشركائها من أمثال أروبّا واليابان أنّ هيمنتها في صالح الجميع... وهذا المفهوم الأستراتيجيّ يمتدّ إلى آسيا وإفريقيا...". وتطلق أمريكا على هذه المهمّة التي اتـّـخذتها على عاتقها مصطلحات غامضة مثل "محاربة الجريمة العالميّة"، "القضاء على كلّ التـّـهديدات"، "منع أخطار التـّـسلـّـح" وغيرها. وإذا كانت الولايات المتـّـحدة تصف مهمّتها بـ"المهمّة التـّـاريخيّة" أو المقدّسة فإنّ ذلك يتماشى في الحقيقة مع "التـّـقـليد" الأمريكيّ الذي يولي قيمة للآباء المؤسّسين لأمريكا (البروتستانت الذين استعمروا القارّة الأمريكيّة). ومن هذا المنطلق يتـجلـّـى بوضوح أنّ "العولمة" التي تتزعـّـمها فيها جانبان: جانب عسكريّ وجانب ثقافيّ يبغي تصوير الهيمنة على أنّها شيء مقدّس وفيه خير للعالم بأسره.
نلاحظ إذا أنّ مبادئ الدّيمقراطيّة والتـّـنمية لا انفصام بينهما في الإيديولوجيا الأمريكيّة الحالية، لكنّ هذا التـّـوجّه يُـعتبر حديثا إذ كانت من قبل تعتبر أنّ الدّيمقراطيّة تأتي نتيجة التـّـطوّر الدّاخلي للمجتمعات. وكانت هذه هي العقيدة السّائدة في الغرب كلـّـه وذلك من أجل مساندة الدّيكتاتوريّة في البلدان المتخلـّـفة. أطروحة العولمة كما يجري التـّرويج لها جديدة وشاملة ومتكاملة. لقد أصبحت آداة ايديولوجيّة قويّة لاحتواء وقمع الحركات القوميّة والمعارضة في جميع انحاء العالم، الى حدّ كبير. أمريكا اليوم تنظر إلى العالم من منظور الخير مقابل الشرّ ، مع العولمة التي تمثل الإرتياح من الحواجز التجاريّة والحرّية. وما سأحاول التـّـركيز عليه هنا هو الرّابط بين العولمة والثـّـقافة والدّعاية.
التـّـضليل الإعلاميّ:
كلّ الحكومات تمارس التـّـضليل والدّعاية تحت ستار الإعلام بشكل أو بآخر. ويشمل التـّـضليل التـّـلاعب بالمعلومات الذي يصبح شائعا خاصّة في زمن الحرب. وفي كلّ الأحوال يكون همّ الحكومات الرّئيسيّ أن تقدّم صورة (خاطئة) مفادها أنّ كلّ شيء على أحسن ما يرام وهذا هو الهدف الأوّل للإعلام. وأمّا الهدف النـّـهائيّ فيبقى تعبئة الجماهير وراء سياسة الدّولة. ومن أنواع التـّـضليل يمكن أن نذكر ما يلي: نشر أنصاف الحقائق عن قصد، إختلاق الأكاذيب والشـّـائعات التي لا يمكن التـّـحقـّـق منها ونشرها بين النّاس، التـّـلاعب بالأخبار والحقائق وغير ذلك.
وفي زمن الحرب تـُصوّر الحرب على أنها "عادلة" ، و "حتميّه" ، و"دفاعيّة". وتصبح "وقائية" عندما تأخذ الدّولة المبادرة بالهجوم. وتعدّ المبادرة بشنّ الحرب وانتهاج ما يسمّى الحرب الإستباقيّة انتهاكا للاتـّفاقيات الدّولية المصمّمة خصّيصا لحظر قانون الغاب في العلاقات بين الدّول. وللتـّـضليل قواعده وأساليبه إذ تعمل الحملات الإعلاميّة التي تسبق الحرب أو الصّراع على دفع الأزمة الى ذروتها ، وتصوّر الدّولة الضـّـحيّة بأنّها الشـّيطان وأنّها أصل الشـّـرّ في العالم ويوصف قادتها بأنّهم مغامرون أو مجاذيب، أو أنّهم شيوعيّون أو أنّهم معادون للقيم الغربيّة وللحرّية أو أنّهم نازيون ارتكبوا جرائم إبادة ضدّ شعوبهم. وتصف الحملات الإعلاميّة الكاذبة المعارضين للحرب والدّاعين للحلول الدّبلوماسيّة السّلميّة بأنّهم سذّج ولا يدركون الخطر المحدق بهم وبالعالم الحرّ.
وبهذه الطـّـريقة تحتدم المناقشات وتدخلها أطراف لها مصالح في استمراريّة النّزاع وأهدافٌ تبغي تحقيقها من خلال شنّ الحرب. وتبقى الحكومة هي التي تدير النـّـقاش وتقدّم الأدلـّـة المزوّرة والكاذبة على وجود تهديد وشيك يستدعي تدخّلا عاجلا وذلك بهدف تحضير الرّأي العامّ للمواجهة. هذا ما قامت به الولايات المتّحدة الأمريكيّة قبل احتلالها للعراق وبعده وهذا ما تقوم به إلى يومنا الحاضر. وفي حقيقة الأمر سخـّـرت أمريكا مبالغ خياليّة وطاقات كبيرة للدّعاية لحربها على العراق فقد سخّرت لذلك الغرض كلّ الأقسام الإداريّة التّابعة لوزارة الإتـّـصالات وعددا من الإدارات المتخصّصة في الإعلام التـّـابعة للبيت الأبيض وكذلك البنتاغون وكذلك وزارة الخارجيّة، ناهيك عن "الإستشاريّين" غير الحكوميّين المتخصّصين في العلاقات العامّة الذين وظـّـفتهم الحكومة مقابل أجور باهضة للغاية وذلك لكي يعملوا على كسب "العقول" و"القلوب"؛ وكانت تلك استراتيجيّة أمريكا خلال الحرب الباردة، لكنّ المحافظين الجدد مذ استولوا على السـّـلطة أرادوا أن يحقـّـقوا "تطبيع" العراق بالقوّة ثمّ كسب عقول وقلوب العراقيّين والمسلمين والعرب بعد ذلك.
الدّعاية قائمة على التـّـضليل والتـّـعتيم وهي شكل منظـّـم من الإعلام يهدف الى الإقناع والتأثير في العواطف والمواقف والآراء وكذلك الأفعال بحيث تساند الجماهير الدّولة المعتدية خاصّة قبل وخلال الحرب. وخلال الحملات الدّعائيّة تُـتـّـخذ اجراءات محدّدة خفيّة لجعل الجمهور المستهدَف خاضعا لإيديولوجيا وسياسة البلد المعتدي. وفي الحياة اليوميّة تـُـستعمَـل الدّعاية لأغراض تجاريّة من أجل التـّـرويج والسـّـيطرة على الأسواق؛ ولكنّي معنيّ في هذا التـّـحليل بالبروباغندا الحربيّة التي تستند إساسا إلى الكذب. وتتمّ البروبغندا عن طريق وسائط الإعلام الجماهيري المباشر مثل الإذاعات والقنوات التـّـلفزيّة. وتـُستخدَم تنظيمات دعائيّة يقودها دعاة يتـّـبعون سياسة مسطـّـرة ومحكمة. ويسمّى الجانب التـّـطبيقي لتلك المخطـّـطات "الدّعائيّة" أو propagandism .
الحرب النّفسيّة:
الهدف من الحرب النّفسيّة هو التـّـأثير على "العدوّ" المفترض قبل بداية الحرب وإبّانها وبعدها. ويتمثـّـل التـّـأثير في تخويفه وزعزعة إيمانه بقضيّته. وليست الحرب النـّـفسيّة بالأمر الجديد بل استـُعملت منذ القديم ولكنّ الحرب النـّـفسيّة الحديثة نجد جذورها في أعمال بافلوف وفي سيكولوجيا "الأعماق" لكارل يونغ وفي سيكولوجيا الغوغاء أو الجماهير الذي وضعها إيمانويل طارد وغوسطاف لوبون. وتسعى الحرب النّفسيّة الحديثة إلى اتـّـباع المناهج والأساليب العلميّة في التـّـأثير على الجماهير قبل الحاكم والحكومة المراد خلعهما.
وقد رافق التـّـقدّم النـّـظريّ في العلوم النـّـفسيّة تقدّم في وسائل الاتـّصال، مما يتيح ممارسة هذا التأثير عن بعد أو عبر الأثير وعبر البثّ التـّـليفيزيونيّ. ولنتذكر عدد الإذاعات التي أنشأتها الحكومة الأمريكيّة والتي تستهدف جماهير الخليج العربيّ والدّور الذي قامت به والذي تقوم به حتـّـى اليوم.
ولكن اذا كان الهدف من الحرب النـّـفسيّة ممارسة تأثير ونفوذ على عدوّ ما، فإنّ ذلك يستدعي اتـّـباع طرق وأساليب خفيّة أو لا يُـتـَـفـَـطـّـَـنُ إليها لأنّ الجماهير لئن تفطـّـنت إلى أنّ الأمر كلـّـه دعاية مُـختـَـلـَـقـة من أجل تحقيق مصالح لن تصدّق بما تسمعُ. استعمال علم النفس إذا يمكـّـن الحكومات من التـّلاعب والتـّضليل ومن التـّـحكـّـم في الجماهير ليس فقط عبر بثّ الأخبار الكاذبة والدّعائيّة (فتلك تقنيّات ضمن أخرى) ولكن يمكـّـنها من التـّـأثير في "النـّـفسيّة" بطرق تكون الجماهير المقصودة غير واعية بها وغير مدركة لكونها تهدف إلى السـّـيطرة عليها. وإذا أردنا وصف العمليّة بعبارة أبسط لقلنا إنّ الحكومة المعتدية تجعل الجماهير المقصودة بحملة الدّعاية تشعر بأنـّـها ضحيّة لحكـّـامها وليس لسياسة الدّولة المعتدية. ويبقى القصد تحقيق الانهيار النـّـفسيّ لدى الجماهير إلى أن تقول: "نحن لسنا مذنبين ولكن ليس بإمكاننا فعل شيء"، أو "حكـّـامنا هم الظـّـلمة ونحن لا نريد أن ندفع الثـّـمن".
الحرب النـّفسية حرب خفيـّة لا تستند إلى منطق العدالة أو النـّـزاهة. وعندما تعمد دولة "عظيمة" تدّعي الديمقراطيه إلى استخدام الحرب النـّـفسيّة والأساليب الملتوية والخديعة فإنّها تتنصـّـل من كلّ المبادئ الأخلاقيّة وتضع نصب عينيها منذ البداية هدفا واحدا هو الحرب وليس إلاّ الحرب وبالتـّـالي تـُبعد من حساباتها أفاق الحلّ السـّـلميّ وهذه هي الهمجيّة بعـينها.
الحرب النـّـفسيّة كحرب هدفها التـّـأثير على النـّـفسيّة نجدها في دليل كتبه المايجر الألماني هارمان فرانك Hermann Franke ونشره سنه 1936 عنوانه "الحرب النـّـفسيّة" (La guerre de l Esprit). وفيه جعل المؤلف للدّعايه في وقت السـّـلم اهمّـية كبرى، ومن أهدافها الرئيسية: - اقناع العدوّ بعقم جهوده. - تأليب الجماهير المقصودة ضد حكـّـامها وحكومتها. - محاولة إغراء بعض الأطراف ببعض المقترحات السّلميّة واستعمال تلك الأطراف لاحقا. - العمل على ضمان الحياد من طرف البلدان المحايده كخطوه أولى، ثم إقناعها لاحقا بالنوايا السلميّة وحملها على الانضمام الى الكفاح ضد العدوّ. - على الدّولة التي ستشنّ الحرب أن تقنع مواطنيها بأنّها تنتهج الحرب المشروعة وأنّ العدوّ يمثـّـل تهديدا محدقا وأنـّـه هو الذي فرض الحرب. ـ استخدام الرّقابة على وسائل الإعلام والأوساط الفـنـّـية على حدّ سواء لمنعها من ممارسة الدّعاية للعدوّ، ومنع كلّ ما من شأنه أن يقدّم له معلومات عن مراحل الاستعداد للحرب واستخدام الأكاذيب والخداع.
نرى إذا أنـّه ثمّة علاقة وثيقة بين هذه النّظرية وبين النـّـازيّة. ويروى أنّ هتلر قال متحدّثا عن حروبه: "علينا أن نحقـّـق الهزيمة المعنوية للعدوّ قبل الحرب. هذا ما يهمّني.". وهكذا ، فإن الحرب النّفسية والتـّـشبّث بالحرب دون السـّـلم مرتبطين ارتباطا وثيقا. والحرب النـّـفسيّة تبدأ قبل الحرب، كما قلت، وتستمرّ فيما بعدها؛ أي أنّ التـّـلاعب بأذهان النـّـاس يبدأ في زمن السّـلم ويستمرّ بعد نهاية الحرب وإحلال السـّـلم. ويمكن القول إنّ الحرب النـّـفسيّة التي تدور في زمن السـّـلم هي الأهمّ لأنّ النـّـاس وقتها يعتقون أنّهم يعيشون في أمن ولا يبصرون أنّهم خاضعون للتـّـأثير الدّعائيّ للحرب النـّـفسيّة. إنّ التـّضليل والخداع عنصران أساسيّان من عناصر الحرب النـّـفسيّة.
لمحة تاريخيّة:
في سنة 1917 تمّ إنشاء "اللـّـجان الأمريكيّة لشؤون الإعلام" على يد وودرو ويلسون الذي يوصف في كتب التـّـاريخ بأنـّـه مؤسّس "عصبة الأمم" ورمز الأمميّة والمثالية الأمريكيّة واليسوعيّة (Messianism). لكنّ النّاس اليوم لا يعلمون أنّ ويلسون كان من مطوّري الأسس النـّـظريّة للحرب النـّـفسيّة الحديثة. وقد لعبت اللـّـجان التي أنشأها دورا دعائيّا ضدّ ألمانيا فرُفعت شعارات عديدة مثل: "شنّ الحرب من أجل وضع حدّ لكلّ الحروب": (Wage war to put an end to all wars) "جعل العالم أكثر أمنا لكي يتقبـّـل الدّيمقراطيّة": (Make the world a safer place for democracy) وهذين الشـّـعارين لازال حكـّـام أمريكا يردّدونهما إلى اليوم.
وقد وضعت تلك اللـّـجان التي أنشأها ويلسون ما يسمّى الدّعاية الإحتوائيّة التي هدفها التـّـغلـّـب على الدّعاية الألمانيّة وفضح الهمجيّة الألمانيّة وفظاعه الممارسات الألمانيّة (Atrocity Propaganda). وقد تم تعبئة كلّ شيء في الحملات الدّعائيّة التي رافقت الحرب العالميّة الأولى من أجل إقناع الأمريكيّين وكذلك الشـّـعوب الأخرى بالأسباب التي دفعت أمريكا الى دخول الحرب.
وخلال الحرب العالميّة الثانية تقدّمت الدّعاية الأمريكيّة أشواطا نحو الأمام فتمّ استعمال السّنما التي أنتجت سلسلة من الافلام تستنقص الألمان وتصوّر النـّـازيّين بأنـّـهم جبناء وحمقى ومعاتيه. وخلال الحرب الباردة تركـّـزت جهود الآلة الدّعائيّة الأمريكيّة حول بسط النـّـفوذ على العالم وصارت الحرب الدّعائيّة ضدّ الإتـّـحاد السـّـوفييتي السـّـابق حربا ليس فقط احتوائيّة بل إيديولوجيّة توسّعيّة. وفي واقع الأمر كانت الحرب الباردة سباقا عسكريّا من أجل بسط النـّـفوذ ومحاولة للإنتشار الإيديولوجيّ في نفس الوقت.
وفي سنة 2001 تمّ أنشاء "مكتب العمليّات الخاصّة" (Office of Special Plans) ومهمّته: تنظيم حملات إعلاميّة واسعة النّطاق تقدّم معلومات مضلـّلة إلى وسائل الإعلام الأجنبيّة. وقد عرض أنذاك دونالد رامسفيلد مجموعة واسعة من التـّدابير تشمل حملات "سوداء" في استخدام التضليل وغيرها من الأنشطة السّـرّية، إلى جانب حملات "بيضاء" تقوم بها إدارات العلاقات العامّة. (الدّعاية السّوداء دعاية مضلـّـلة والبيضاء دعاية غير مضلـّـلة، تقول الحقيقة. وثمّة دعاية رماديّة وهي التي تستعمل التـّـضليل والحقيقة في نفس الوقت وتكون صادرة عن جهات رسميّة من دون ذكرها). وهذا المكتب هو الذي تلاعب بالمعلومات والبيانات (الخاصّة بأسلحة الدّمار الشـّامل) التي جمعها عن العراق قبل احتلاله وقام بتسييسها من أجل تقديم نظام صدّام حسين كنظام يمثـّـل تهديدا حقيقيّا.
ولابدّ من الإشارة في هذا الصّدد إلى الدّور الذي لعبته وتلعبه وكالة المخابرات المركزية (CIA)إذ اتـّـخذت على عاتقها نشر الثـّـقافة الأمريكيّة إلى جانب اضطلاعها بمهامّ الجوسسة وملاحقة الأعداء وتصفيتهم وكذلك التـّـدخـّـل المباشر في البلدان الخارجيّة من أجل الإطاحة بحكـّـام معادين أو زعزعة الأمن وتهيئة الأجواء للعسكريّة الأمريكية قبل شنّ الحروب وبعدها.
البروبغندا من أجل تحسين الصّورة الأمريكيّة:
في الأوساط السـّـياسيّة تـُـطلق على الدّعاية تسمية "الدّبلوماسيّة العامّة" ويقال إنّها تهدف إلى دعم المصالح الأمريكيّة والمحافظة عليها عبر التـّـفاهم والإعلام والتـّـأثير على الجماهير الغير أمريكيّة لكنّ هذه التـّـسمية فيها تضليل أيضا لأنّ الحكومة الأمريكيّة لا تعرف التـّـفاهم ولا تسعى إليه خاصّة مع حكومات البلدان الضـّـعيفة. وبما أنّ النّاس في كلّ أنحاء العالم (المثـقـّـفون على الأقلّ) يدركون أنّ السّياسة الأمريكيّة عدوانية في أصلها لأنـّـها تسعى إلى بسط الهيمنة الأمريكيّة ولو بالقوّة فإنّهم صاروا يمقتون أمريكا. وفي مواجهة النـّـقمة المتزايدة على السّياسة الأمريكيّة سخّرت أمريكا أجهزتها الدّعائيّة من أجل تحسين الصّورة الأمريكيّة. وقد جعلت الدّعاية الأمريكيّة الدّيمقراطيّة والحرّية محورين رئيسيّن لها لأنّ النّاس لئن اقتنعوا بأنّ أمريكا تشنّ الحروب من أجل الحرّية للغير فإنّهم قد يحبّونها. لكنّ قادة أمريكا الحاليّين لا يؤمنون أصلا بالدّيمقراطيّة ويمارسون التـّـعذيب على مناوئيهم وبذلك سقطت حججهم الدّعائيّة ولم يعد أحد يصدّق بها.
المهمّ هو أنّ البروبغندا تهدف أيضا إلى نشر صورة حسنة (إيجابيّة) عن أمريكا وتصدير الثـّـقافة الأمريكيّة ونظرتها للكيفيّة التي يجب أن يكون عليها العالم. إنّ أمريكا المتزعّمة لحركة العولمة تعتبر أنّ العولمة ثقافيّة قبل أن تكون اقتصاديّة أو أيّ شيء آخر؛ وهذا ما ظلّ يردّده أستاذ الدّراسات المستقبليّة المغربيّ المهدي المنجرة منذ عقود. العولمة تقتضي أن ينضوي العالم كلّه تحت ثقافة واحدة ولذلك اتخذت أمريكا على عاتقها محاربة الإسلام والمسلمين لأنـّـهم الأشدّ رفضا لثقافتها. وتضطلع بمهمّة نشر الثـّـقافة الأمريكيّة كلّ المنظـّـمات غير الحكوميّة والمراكز الثـّـقافيّة الأمريكيّة الموجودة في كلّ بلدان العالم والنـّـخب التي لها مصالح في الارتباط بأمريكا وكذلك الدّوائر البحثيّة التي تسمّى "صهاريج التـّـفكير" (Think Tanks)؛ ولكلّ هؤلاء برامج محدّدة ومرحليّة. وتعتمد الدّعاية الأمريكيّة على عدد كبير من المحطـّـات الإذاعيّة مثل: صوت أمريكا، إذاعة أروبا الحرّة، إذاعة الحرّية، وإذاعة آسيا الحرّة. ولكن ما يجب التـّـشديد عليه هو أنّ الإذاعات لا تلعب سوى دورا ضئيلا في آلة الدّعاية الأمريكيّة وفي سياسة التـّـوسّع وبسط النـّـفوذ السّياسيّ.
الدّعاية الأمريكيّة ليست فقط إقناعا بل هي سعي دؤوب إلى التـّـغيير الفعليّ للعقول وطربقة عملها بحيث تتقبـّـل كلّ ما هو أمريكيّ. وتغيير العقول يمرّ عبر محو الأفكار المحمولة مسبقا وبذلك تصبح نوعا من غسيل الأدمغة. هذه الاستراتيجيا ليست حديثة بل وُجدت منذ السـّـتـّـينات من القرن الماضي وقد رفعت شعار "تشكيل العولمة" أو "تكييف العولمة" عبر وصفها بأنّها شيء يجلب السّعادة. وأمّا منهجيّة تشكيل أو تكييف العولمة العولمة فتتمثـّـل في نشر معايير أخلاقيّة ثقافيّة قائمة على التـّـحكـّـم السّياسيّ والتـّـقنيّ. ويبقى الهدف الرّئيسيّ للعولمة في المرحلة الحالية ضمان "المطابقة" للسّياسة الأمريكيّة.
بين القوّة النـّـاعمة والقوّة الغاشمة: Soft Power, Hard Power
كانت السّياسة الأمريكيّة قبل استيلاء المحافظين الجدد على السّلطة تتراوح بين القوّة النـّـاعمة (أو سياسة الإغراء مع استعمال القوّة المعتدلة) وبين القوّة الصّارمة أو الغاشمة أو القوّة المعتمدة على التـّـسلـّـط والتـّدخـّـل العسكريّ. وعند مجيء المحافظين الجدد إلى السّاحة السّياسيّة استبعدوا كلّ تفاهم أو تفاوض مع أيّ طرف وجعلوا القوّة الغاشمة والتـّـدخـّـل العسكريّ وشنّ الحروب الاستباقيّة محورا لسياستهم. وإذا كانت القوّة اللـّـيّنة أو النّاعمة تمنح أهمّية للإشعاع السيّاسيّ والإقتصاديّ والثـّـقافيّ فإنّ القوّة الغاشمة التي تنتهجها أمريكا في الوقت الحاضر تزعم أنّ بإمكانها أن تجعل العالم يعتنق الرّؤى والثـّـقافة الأمريكيّة بالقوّة وبالتـّـالي تستبعد التـّـفاوض والتـّـعاون. ولئن أجبر المحافظون الجدد خلال مرحلة حكم بوش الثـّـانية على تعديل نظرتهم فإنّهم في واقع الأمر لا يؤمنون سوى بإرضاخ البلدان الأخرى بواسطة السّياط. وكانت النّتيجة أن لاقى مشروعهم مقاومة عالميّة ولذلك لجأوا إلى تكثيف البروبغندا.
مجموعة رندن والدّعاية السّرّية في العراق:
لجأت الحكومة الأمريكيّة إلى جون رندن (John Rendon) في مجال البروبغندا السّرية في كلّ حروبها، وهو رئيس مجلس إدارة "مجموعة رندن" المتخصّصة في الدّعاية. استعملته في حربها على نيكاراغوا، لكي يعمل على إضعاف معنويّات السّاندينيين ، وفي حربها على بنما لكي يحقّق زعزعة استقرار الجنرال نورييغا، وفي أفغانستان لكي يقوم بإقناع النّاس بأنّ أمريكا لا توجّه ضربات عسكريّة إلى المدنيّين؛ أي للتصدي للشائعات بشأن قصف المدنيّين.
وكانت السّاحة المفضّلة لحرب رندن الدّعائيّة العراق. وقد بدأ حربه قبل ثلاثة عشر عاما من احتلال العراق، أي طوال الحصار الغذائيّ الذي ضربته أمريكا على العراقيّين وذلك لزعزعة استقرار النّظام. وقد جمع رندن المعارضين العراقيّين المقيمين في أمريكا وكوّن "منظـّـمة التحالف من أجل العدالة في العراق" بمعيّة السّي آي آي. ويقال إنّه هو الذي أوجد لاحقا التـّـسمية للمعارضة العراقيّة في المنفى: المؤتمر الوطنيّ العراقي (الذي ضمّ آنذلك فرانسيس بروكس الذي يعمل لصالح مجموعة رندن).
ومنذ سبتمبر 2002، تعمل عدة منظمات عامّة وخاصّة ، رسميّة وسرّية على "تسويق" تلك الحرب الغير شعبيّة جدا على العراق أي جعل العالم يقبل بها. وعمل تلك المنظـّـمات هو في الحقيقة جزء من خطـّة شاملة هدفها إقناع الرّأي العامّ العالميّ اليوم بأنّ العراق بأحسن حال وبأنّ الإعمار جار على قدم وساق وأنّ الحكومة العراقيّة ماسكة بزمام الأمور وأنّ العساكر الأمريكان موجودون هناك لمساعدة العراقيّين. ولازالت الدّعاية الأمريكيّة إلى اليوم تعمل على كسب قلوب المسلمين وكسب تأييدهم بعد احتلال العراق وتحطيمه ولكنّ الحكومة الأمريكيّة تستغفل المسلمين إذ كيف ستكسب قلوبهم وجيوشها مازالت معسكرة في العراق وتعيث فيه فسادا؟ وعندما يمنع بوش وسائل الإعلام من الحديث عن حرب أهليّة في العراق هل بعتقد أنّ المسلمين والعالم كلـّـه غافلين عن عدد القتلى الذين لا زالوا يسقطون بالعشرات إلى يومنا هذا في العراق؟
الخاتمة:
الإنسان يجب أن يكون محور كلّ مشروع حضاريّ في كلّ بلد ولكنّ الإنسان في أمريكا نفسها لا قيمة له؛ فكيف ستعلـّـم الآخرين طرق التـّـقدّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ أي التـّحضـّـر والتـّـمدّن؟ إنّ علوّ القيم الأمريكيّة التي تحاول الولايات المتـّـحدة إيهامنا بوجوده ليس سوى دعاية كاذبة تهدف من ورائها إلى استعباد الإنسان أينما كان وتجريده من ثقافته وقيمه لكي يعتنق نقافتها وقيمها. وأنا أحترم قيم الآخرين وأدعو إلى الدّيمقراطيّة ولكنـّـي لا أومن بأنّ أمريكا اليوم بلد ديمقراطيّ: ديمقراطيّتها هي ديمقراطيّة المال، إذ يفوز في الانتخابات من يملك المال ولا مجال فيها للفقير أو حتـّـى المنتمي للطـّـبقات الوسطى من أن يترشـّـح ولو لمنصب نائب بالكنغرس.
أمريكا عن طريق العولمة تسعى إلى تقنيع هيمنتها وتشكيل قيم العالم أو تعويضها بقيم تزعم أنّها شموليّة. ذلك يتعارض تعارضا صارخا مع مبدإ الحرّية. إنّ تعدّد الثـّـقافات واحتكاكها هو الذي يؤدّي إلى التـّـطوّر الثـّـقافيّ والحضاريّ وليس فرض القيم على الشـّـعوب من الخارج. العولمة وسيلة استعماريّة جديدة متنكـّـرة في شكل شعارات برّاقة وثقافة "متقـدّمة" على غيرها من الثـّـقافات "المتخلـّـفة". إنّ ممارسات الغرب النـّـابعة من قيمه لم تنتج سوى الفقر في البلدان المتخلـّـفة ولم تؤدّي إلاّ إلى ديكتاتوريّة جديدة أبشع من الدّيكتاتوريّات التـّـقليديّة تتمثـّـل في أمريكا نفسها التي ما إن دخلت العراق حتـّـى أظهرت وجهها الحقيقيّ القبيح: ممارسة التـّـعذيب وقتل المدنيّين والانتقام من دون التـّـثبّت وقتل النّساء والأطفال. العولمة إذا كما تروّج لها أمريكا قوّة غاشمة وتسلـّـط وعنصريّة.
#عزالدّين_بن_عثمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تعطّل وظيفيّ: قصّة
-
أنا القاتلة
-
علاقات السّلطة في المجتمع: فصل من كتاب في علم الإجتماع
-
معنى استقلاليّة القضاء وشروط المحاكمة العادلة
-
حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ود
...
-
حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ود
...
-
حقوق الإنسان ومضمون نظريّات حقوق الإنسان:
المزيد.....
-
إيران تعلن البدء بتشغيل أجهزة الطرد المركزي
-
مراسلنا في لبنان: سلسلة غارات عنيفة على ضاحية بيروت الجنوبية
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما
...
-
سيناتور أمريكي: كييف لا تنوي مهاجمة موسكو وسانت بطرسبرغ بصوا
...
-
مايك والتز: إدارة ترامب ستنخرط في مفاوضات تسوية الأزمة الأوك
...
-
خبير عسكري يوضح احتمال تزويد واشنطن لكييف بمنظومة -ثاد- المض
...
-
-إطلاق الصواريخ وآثار الدمار-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استهدا
...
-
بيل كلينتون يكسر جدار الصمت بشأن تقارير شغلت الرأي العام الأ
...
-
وجهة نظر: الرئيس ترامب والمخاوف التي يثيرها في بكين
-
إسرائيل تشن غارتين في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بعشرات
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|