مع اطلالة السنوات الاولى من القرن العشرين كانت شفاعمرو, رغم انها شغلت منصب مديرية من قبل الدولة العثمانية, ما تزال غير متصلة بشبكة طرق معبدة تصلها بالمدن المجاورة لها كمدينة حيفا, ولم يحدث ذلك الا في اواسط سنوات الثلاثين منه.. مما يعني ان علاقتها مع العالم الخارجي حتى ذلك الحين كانت محدودة جداً.. الا انه ورغم تلك المحدودية فشفاعمرو امتلكت قطعاً نادرة من الاعمال التشكيلية التي تعود لسنوات العشرين من القرن الماضي.. ولا تزال الى اليوم باقية على واجهة جدران هيكل كنيسة القديسين بطرس وبولس للروم الملكيين, ثلاث رسومات انجزتها يد الرسام اللبناني عوض الرومي الذي عاش في فلسطين في تلك السنوات,وقد رسم العديد من الاعمال والايقونات الكنسية اللاتينية الغربية في كنائس فلسطين.. منها ايقونة القديس مار الياس في كنيسة مار الياس في فسوطه والتي يعود تاريخها الى سنة 1921, ومثيل لها في كنيسة مار الياس في حيفا.. وهذه الرسومات الباقية على جدار الهيكل في كنيسة شفاعمرو يمكن اعتبارها خيوط الضوء الاولى التي دخلت رحاب هذه المدينة من نافذة الفن التشكيلي المعاصر.
وفي النصف الاول من اربعينيات القرن الماضي عاد الى شفاعمرو ابنها البار, شيخ الفنانين والمبدعين في شفاعمرو المرحوم بطرس لوسيا, اذ كانت والدته قد انتقلت مع اسرتها للعيش في حيفا طلباً للرزق, بعد وفاة زوجها وبقائها وحيدة مع بناتها وابنها الصغير.
ولد الرسام بطرس لوسيا في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين.. كان ابو جريس وحيد اخواته, وقد عملت اخته الكبيرة في بيت القنصل الفرنسي في حيفا.. وفي احدى المرات التي رافقها بطرس الى بيت القنصل كان ينتقل بين حجرة واخرى فوجد صورة لفتاة جميلة, اخذ يرسمها, وما ان ظهرت رسمته بكل ملامحها حتى صادفه القنصل فاعجب بها كثيراً, اذ كانت تلك الصورة صورة الثائرة "جندارك".. فما كان من القنصل الا ان اهدى الطفل البالغ من العمر 12 عاماً طقم ثياب بحرية مع قبعة وبوكار (عكاز), ذهب الخادم واشتراها له مع مجموعة من ادوات الرسم من الوان واوراق.. وكانت هذه اجمل هدية يحصل عليها هذا الطفل في حياته.
عادت العائلة الى شفاعمرو قبل احتلال حيفا .. هرباً من الجرائم البشعة التي نفذها الاستعمار والقادمون الجدد بالعرب هناك, وحيث لم تعد العائلة في مأمن على حياتها. ففي السنوات الماضية كان بطرس لوسيا قد تعلم لدى بعض الفنانين القادمين الجدد من يهود اوروبا.. وذلك من خلال دورات تعليمية تعتمد التدرب على رسم موديل للجسد البشري, اضافة الى تواجده لعدة سنوات في احدى الورش التابعة لدير ترعاه البعثة التبشيرية المسيحية الالمانية في القدس, وقد تعرف من خلالها على الكثير من اسس مهنة الرسم والحفر والنجارة, فمارس العديد من الاعمال الفنية ايام وجوده في حيفا.. لتشكل اهم مصدر له للرزق والمعيشة.
عمل في شفاعمرو في مجال النجارة والتزيين وابتدع الكثير من الاشياء الجميلة التي بحث عنها الناس, وخاصة في مناسباتهم السعيدة.. مثل علب الخطوبة واثواب العرائس وزينة عيد الميلاد وعيد الشعانين. خلال كل هذه السنوات كان لوسيا يمارس الرسم بقدر ما تسمح له الظروف بذلك, وبقي يحتفظ حتى اخر ايامه بلوحة رسمها منذ سنة 1940 تشكل النبي ايليا ومجموعة من المؤمنين يركبون عربة النار المنطلقة نحو السماء.
مع بداية سنوات الستين اخذ الناس من مواطني شفاعمرو يتوجهون اليه ليرسم لهم لوحة دينية (ايقونة لاتينية غربية), يقدمونها بدورهم الى الكنيسة راحة لنفس فقيد عزيز عليهم .. وخلال بعض السنوات اخذت جدران الكنيسة تكتظ بالاعمال الفنية لرسومات دينية على النمط الاتيني الغربي والبيزنطي الشرقي.. والتي كانت جميعها ثمرة اعمال بطرس لوسيا ومرسمه المتواضع والمحاذي للسباط القديم.
مع بداية سنوات السبعين اخذت تنمو في شفاعمرو, كما في باقي المدن والقرى العربية, حركة ثقافية شملت في رحابها الادب والشعر والموسيقى والغناء والمسرح والفنون التشكيلية ايضاً.. وكان اول معرض اقيم في غرف المدرسة الانجيلية سنة 1973 تلك التي كان يرعاها القس شحادة شحادة, قد استضافت اعمال اول الفنانين الفلسطينين في البلاد, الفنان عبد عابدي, ليكون ذلك اول معرض للفنون يقام في مدينة شفاعمرو .
في سنة 1975 اقامت الهيئة التدريسية في المدرسة الثانوية البلدية في شفاعمرو واصدقاء الرسام المرحوم سلمان عزقي معرضاً لذكراه, حيث قتل اثناء الخدمة في الجيش الاسرائيلي في ال 25 من كانون اول سنة 1975.. وقد شارك في هذا المعرض العديد من الرسامين الشباب من ابناء شفاعمرو, منهم زاهد حرش, اسد عزي, زاهي لوسيا, شوقي عبود, جورج سعد, واخرون.. وبعدها بسنة, اي في سنة 1976, اقام مجلس عمال شفاعمرو معرضاً حول موضوع (حارتي), شارك فيه كل من زاهد حرش وزاهي لوسيا. وقد تم اختيار لوحة "السباط" من اعمال زاهي لوسيا للجائزة الاولى وللمشاركة في المعرض القطري الذي اقيم تحت نفس العنوان.
مع بداية سنة 1976/1977 الدراسية بدأت ظاهرة المراكز الجماهيرية تجوب مدارس شفاعمرو, وقد استغلت ابنية المدارس الابتدائية لاستضافة فعاليات هذا المركز, ومنها دورات لمحو الامية , دورات للتمثيل , دورات في الرسم والى غير ذلك, وقد كان الفنان عبد عابدي اول الذين جاؤوا من خارج شفاعمرو لتقديم الدروس اللامنهجية في مجال الفنون التشكيلية .
يعتبر الرسام اسد عزي اول رسام من شفاعمرو يدرس الفنون الجميلة في معهد اكاديمي, فبعد ان انهى الخدمة في الجيش الاسرائيلي.. توجه عزي الى جامعة حيفا لدراسة الفنون الجميلة, بعد ان اتم دراسته الثانوية في مدرسة يهودية, كما اصدر ديوانين من الشعر باللغة العبرية انذاك.
تقدم عزي في مشواره الفني حتى اصبح من الفنانين الاسرائيليين المعروفين في البلاد, وقد مثل اسرائيل في العديد من المناسبات والمعارض الدولية ويعتبر اليوم احد الفنانين البارزين على ساحة الحركة الفنية في اسرائيل.
مع حلول عام 1980 تقدم الفنانان زاهد حرش ووليد ياسين بمبادرة ذاتية لاقامة اول معرض للفنون بشكل مهني في شفاعمرو, وقد افتتح المعرض الفنان عبد عابدي في مقر نادي الشباب الشفاعمري, عرضا فيه باكوره اعمالهما التي انجزاها خلال السنوات الماضية.. وقد انتقل المعرض بعد شفاعمرو الى كفرياسيف وغابة الجيش الاحمر بالقرب من القدس, وذلك بمناسبة احتفالات الحزب الشيوعي بذكرى الانتصار على النازية .
هذا, وتوالت الاعمال والمعارض الفردية والجماعية والتي كان منها سنة 1982 معرض الفنانين العرب الذي اقيم ضمن مشروع "مهرجان الفن الوطني الملتزم" الذي ضم في امسياته العديد من الانشطة الثقافية الاخرى.
مع اواسط سنوات التسعين قامت "جمعية المخلص" بتكليف الرسام زاهد حرش للعمل على احياء الحركة التشكيلية في شفاعمرو, فاقام عام 1995 "مهرجان الابداع الفني الاول" في المدرسة الاسقفية, وقد شارك فيه معظم ابناء شفاعمرو الذين مارسوا هواية الرسم انذاك, كما كان هذا المعرض هو اول معرض يشارك فيه الرسام بطرس لوسيا والرسامة جمانة عبود.. وقد التحقت جمانه بعد ذلك بجامعة القدس لدراسة الفنون التشكيلية, ولا زالت الى اليوم تعيش وتعمل في القدس وتتابع دراستها للقب الثاني وتشارك في المعارض الفلسطينية والدولية التي تعنى بقضية الشعب الفلسطيني وقضية المرأة بشكل خاص .
استمرت اقامة "مهرجان الابداع الفني" الثاني والثالث التي نظمها واشرف عليها الرسام زاهد حرش من خلال عمله التطوعي في جمعية المخلص, وقد اتسعت دائرة اشتراك الفنانين العرب حتى شملت اسماء واعداد كبيرة من الفنانين والاعمال الفنية المختلفة, حتى وصلت في المهرجان الثالث سنة 1997 الى اكثر من 220 عمل ما بين لوحة وتمثال.. استضافته جمعية سوا في قاعة دير راهبات الناصرة .
مع ترسيخ مكانة مركز شفاعمرو الجماهيري وترميم بناية القلعة من الداخل, بادر المسؤولون العاملون فيه الى اقامة العديد من المعارض الفنية, الجماعية والفردية, وقد كان معرض "القدس ووتريات فلسطينية" للرسام الفلسطيني المخضرم كامل المغني, الذي نظمه تطوعاً الرسام زاهد حرش سنة 1999, ذات وقع وبعد خاص, اذ انه المعرض الشخصي الاول الذي يضم اعمال رسام فلسطيني من الاراضي المحتلة ويقام كمعرض شخصي داخل اسرائيل .. وقد تم نقل هذا المعرض الى عكا حيث استضافته مؤسسة الاسوار, والى الناصرة حيث اقيم في جاليري المركز الثقافي البلدي .
في سنة 1998 اقامت جمعية سوا, الوجه العلماني لراهبات الناصرة, والعاملة من موقعها القائم في دير راهبات الناصرة في شفاعمرو.. مشروع المرسم البيزنطي, وقد تم تعيين الرسام زاهد حرش للعمل فيه منذ ذلك الحين. ويمكن اعتبار هذا المرسم الاول من نوعه على صعيد الحركة التشكيلية في البلاد, اذ انه المرسم الوحيد الذي ينتج اعمالاً بيزنطية اصلية, تعود بتقنياتها واسلوبها الى المدرسة البيزنطية الكنسية الشرقية الاولى.
ومن خلال متابعة جمعية سوا لدورها الثقافي والفني, اخذت على عاتقها احياء الحركة التشكيلية في شفاعمرو بصورة متميزة, ومن اجل ذلك تم العمل على انشاء جاليري سوا للفنون واقامة رابطة سوا للفنانين التشكيليين, التي باشرت عملها منذ اوائل عام 2004 باقامت معرض "صمت والوان" للرسام نزيه نصرالله, وها هي اليوم تقيم المعرض الجماعي لاعضائها تحت عنوان "ثلاثيات", الذي سيفتتح يوم السبت 21.02.04.
في شفاعمرو هناك العديد من الاشخاص الذين يمارسون الرسم بتواضع وبعيداً عن العيون, واننا من موقع المسؤولية تجاههم سنعمل ما نستطيعه من اجل ان ندفعهم لتكثيف اهتمامهم وتنمية موهبتهم الفنية.. اما الاسماء التي عرفناها من خلال الاعوام والمعارض السابقة, والذين مارسوا الرسم في حقبة من عمرهم.. ونأتي على ذكرهم هنا وفاء لهم, ونحن لا نستثني احد انما هذه الاسماء التي نعرفها ولا بد من وجود اخرين لا نعرفهم, اما الذين نعرفهم فهم: باسم بحوث, فاطمة ابو سمره, نجاح قشقوش, مروان صباح, رايق عليان, وانيسة الشيتي, ومارون حداد.