محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 2375 - 2008 / 8 / 16 - 10:18
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
أقول والحق يقال أننى أصاب باليأس والإحباط كلما نظرت لأحوال بلدى الآن. فحاله لا يتخير عن حال عالم العربان المحيط بنا. فنحن نشاطرهم مكرمة التخلف, ونعيش معهم فى القرون الوسطى بكل إباء, بالرغم من أن شوارعهم أنظف ومبانيهم أعلى. وبيننا, نحن وهم, وبين التنوير بون شاسع. ولا أمل فيه فى الوقت الراهن. فالعقل عندنا وعندهم مكبل, يرزح تحت أغلال الماضى, والإرهاب الفكرى, والخوف من السلطة والإستبداد.
الإيمان بالخرافة والدجل فى كل مكان, وهى سمة من سمات التخلف. تجده فى البيوت والنوادى, وفى سيرك القناوات الفضائية الممولة بفلوس البترول. والإيمان بالبخت والطالع والمندل تجده هنا وهناك. والإعتقاد فى السحر والحسد والفال تملأ الوديان. والتداوى بالأعشاب والحجامة والمسواك هو البديل الجديد للطب الحديث. والجهود الدينية بدلا من أن توجه لإقناع الحكام العرب بإستثمار أموال البترول داخل البلاد العربية وفيما ينفع المسلمين, نجد هذه الجهود مكرسة لحفظ الفروج وطمس ثلمة الأثداء, والبحث فى طبيعة بول الرسول وإرضاع الكبير. والشعوب تجدها كارهة لحياتها ولا تجد قوت يومها, وترجع إلى الوراء بسرعة شديدة, ويلقى شبابها بنفسه فى اليم هربا من السجن الكبير. والإنسان يعيش حاضر مزرى ومستقبل مظلم. محبط غير آمن على نفسه وعياله. لم يتبق له من متعة الدنيا غير ماتش كورة وكوب شاى وسيجارة, إن وجدها. لذلك قررت أن أترك الكلام عن الحاضر والمستقبل المحزن, وعدت إلى الماضى السحيق. لكى أستلهم من مجده بعض الأمل. لأن كل ما نحتاجه الآن هو الأمل, ولا شئ غير الأمل.
كنت أزور يوما متحف المتروبوليتان بمدينة نيويورك فى الولايات المتحدة, والذى به قسم ضخم للآثار المصرية القديمة. وأشهد أننى لم أدهش بروعة الآثار المصرية المعروضة قدر دهشتى عندما شاهدت إحدى السيدات الأمريكيات وهى تنحنى أمام نموذج لمركب فرعونى حتى إقتربت رأسها من رأس طفل صغير لا يتعدى عمره خمس سنوات, لتشرح له كيف إستطاع الفنان المصرى القديم التعبير عن الصيد, وكيف صنع الفنان تمثال المراكبى وهو يميل بجسده على المجداف, ليستخدم وزنه وكل قوته لتحريك المركب.
سوف أتحدث فى هذا المقال عن فترة من أمجد وأنصع فترات حياة الشعب المصرى قاطبة – عهد الأسرات الأولى والمملكة القديمة التى تبدأ من الأسرةالثالثة إلى نهاية الأسرة السادسة بصفة خاصة. حقيقة هذه الفترة لم تظهر فيها إمبراطوريات أو توسعات وغزوات كما حدث فيما بعد أيام تحتمس الثالث ورمسيس الثانى, ولكن حدث فى هذه الفترة ما هو أهم بكثير. لقد وجد الشعب المصرى نفسه, وبنى أسس حضارته وأرسى دعائم قيمه وخلقه التى ظلت نبراسا يهتدى به العالم كله حتى وقتنا الحاضر.
هذه فترة رائعة من حياة الشعب المصرى, إلتزم فيها الصانع بالدقة المتناهية, والمفكر بالمنهج العلمى, والفرد بالقيم الخلقية والروحية, والمجتمع بالعدالة الإجتماعية. هذه فترة بنيت فيها الأهرام, وظهرت فيها الكتابة والتقويم الشمسى, وفن القصة, والحكمة, وتساءل فيها الإنسان المصرى عن الخالق وسبب الخلق, وتقدم فيها الطب إلى درجة الإعجاز, وكان فيها الحاكم هو الراعى الذى يرعى شئون رعيته. ولولا هذه الفترة وتلك الحضارة, لتأخر ظهور الحضارة الغربية آلاف السنين.
بنى الشعب المصرى فى عصر المملكة القديمة الهرم الأكبر – هرم خوفو. ولا يهمنا هنا الأسباب التى بنى من أجلها, سواء لتخليد الملك أو لتشغيل العمالة الزائدة وقت الفيضان, كما يعتقد بعض العلماء. ولكن الذى يهمنا هنا هو الدقة الشديدة والعناية الفائقة التى أستخدمت فى بنائه.
بنى الهرم الأكبر على قاعدة مسطحة أفقية ملساء, درجة الخطأ فى تسطيحها لا يتعدى أربعة أجزاء من الألف فى المائة. أو بالقياس العملى, ليس هناك خطأ على الإطلاق. قاعدة الهرم على شكل مربع يتجه كل ضلع من أضلاعه إلى إحدى الجهات الأصلية, شرق وغرب وشمال وجنوب. الخطأ فى إتجاه ضلعى الشمال والجنوب يبلغ ثلاثة أجزاء من مائة جزء فى المائة. والخطأ فى إتجاه ضلعى الشرق والغرب لا يتعدى تسعة أجزاء من مائة جزء فى المائة. هل هناك دقة أشد من هذه؟ أحجار الهرم يبلغ وزنها ستة مليون وربع طن, وهى كافية لعمل سور ليحيط بفرنسا كلها. هذه الأحجار وضعت مع بعضها بدقة, بحيث لا يزيد سمك الفراغ الموجود بين حجرين عن خمس البوصة.
داخل الهرم توجد غرفة الملك, وتحتها غرفة الملكة. غرفة الملك بها نافذتان أو ممران هوائيان. الأول يسمح بمرور الضوء الساقط من النجم القطبى مباشرة حتى يضئ جسمان الملك فى رقاده الطويل على الدوام. لأن النجم القطبى ثابت فى مكانه فى السماء دون باقى النجوم التى تدور حوله. ومن ثم يظل جسمان الملك مضاء فى الليل أو النهار بصفة دائمة. وأما النافذة الأخرى, فتقع جهة الجنوب, وتسمح بمرور الضوء الساقط من نجم الشعرى اليمانى, "سيرس" والذى كان يرمز عند قدماء المصرين للإلهه إيزيس, لكى يضئ تابوت الملك مرة واحدة فقط كل عام. وبذلك تستطيع روح الملك فى رقادها الأبدى معرفة عدد السنين التى تمر. وكذلك وضعت الأهرامات الثلاثة فى أماكنها, ليس على خط مستقيم كما هو المتوقع, وإنما فى شبه خط مستقيم لكى تمثل وضع النجوم الثلاثة التى تتوسط برج الجبار "أوريون" والذى يمثل الإله أوزوريس.
لماذا يهتم المصرى القديم بالدقة المتناهية فى الصنع. ألا يكفى وضع الأحجار مع بعضها على شكل كوم ضخم ترتفع قمته نحو السماء. ولماذا يهتم المصرى القديم بالشكل الهرمى الذى تطابق أضلاعه الجهات الأصلية بدون خطأ يذكر, وأى سر فى ذلك؟ ولماذا يهتم بأن تكون نسبة نصف محيط قاعدة الهرم إلى إرتفاعه قريبة من نسبة طول محيط الدائرة إلى قطرها والمعروفة لدينا بالقيمة "ط". وهل صحيح تم إختيار موق الهرم لكى يكون مركز الكرة الأرضية, بمعنى أن خط الطول الذى يمر بالهرم يمر فى نفس الوقت بأكبر مساحة أرضية يمكن أن يمر بها خط طول آخر, وكذلك خط العرض الذى يمر بالهرم هو الآخر يمر بأكبر مساحة أرضية. وهل كان المصرى القديم يعلم أن الأحجار الجيرية المستخدمة فى بناء الهرم, هى تراكمات بيولوجية من الأحياء الدقيقة التى كانت تعيش فى الماء منذ ملايين السنيين. أى أن كل ذرة فى جسم الهرم كانت تنبض بالحياة فى يوم من الأيام, مثل رفاة الملك والملكة اللذان يرقدان داخله. أم كل هذا من قبيل المصادفة؟
ما هى علاقة الهرم بالشمس؟ عندما تشرق الشمس فى الأفق, تبدأ أشعتها الذهبية فى تسلق وجه الهرم الشرقى وكأنها تصعد إلى السماء. وعندما تبدأ فى الغروب, ترى شعاعها القرمزى يهبط الوجه الغربى للهرم إلى أن يختفى رع فى الأفق البعيد.
كيف وضعت هذه الأحجار مع بعضها بحيث لا يضغط ثقلها الرهيب على الغرف والنوافذ والممرات الموجودة داخل الهرم؟ وكيف تتخيل ستة وربع مليون طن من الحجارة صنعت بمهارة الجواهرجى؟ هذه الدقة المتناهية لن نجدها فى أعمال البنائين والفنانين فى الزمن اللاحق, الذين إتهموا بالعجلة والتفاخر فى أعمالهم الفنية. ونظرة سريعة إلى أعمدة الكرنك الضخمة أو إلى معبد أبوسنبل تبين لنا كيف فقد المصرى القديم فى الزمن اللاحق الدقة والعناية والصبر فى أعمالهم الفنية, وإكتفوا بالضخامة والحجم. ونظرة أخرى إلى تمثال خفرع الموجود فى دار الآثار المصرية بالقاهرة والذى لا يضاهيه شئ, أو إلى تمثال منقرع وزوجته الموجود بمتحف بوسطن بالولايات المتحدة, توضح كيف كان الفنان والصانع فى المملكة القديمة. وإذا كانت دقة بناء الهرم تعتبر معجزة, فما بالك بعظمة الإدارة التى أستخدمت لتشغيل هذا الجيش الغفير من العاملين فى مشروع واحد, لكى تجعلهم يعملون فى توافق وتجانس تامين دون تخبط أو تعارض فى القرارات والأوامر.
إننا نخطئ عندما نظن , كما ظن هيرودوت من قبل, أن الهرم ماهو إلا قبر ضخم لملك ظالم سخر شعبه لبنائه. لأن الهرم فى الحقيقة معبد دينى, بنى لأسباب دينية. مثل المساجد والكنائس العظيمة التى بنيت لنفس الغرض. إنه صرح رائع أستخدم فى بنائه العلم والفن والإيمان والإخلاص والصبر والدقة وفوق كل هذا الحب. لأن عربة الحضارة لا تجر بالعبيد, وإنما تقاد دائما وأبدا بالأحرار.
مثال آخر يوضح لنا الأسلوب العلمى الذى كان لدى علماء مصر القديمة. وهو ما جاء فى بردية إدمون سمث الطبية, والتى لا يضاهيها شئ فى العالم القديم. هذه البردية وإن كانت كتبت فى القرن السابع عشر قبل الميلاد, إلا أنه يرجع أصلها إلى عهد المملكة القديمة.
أحد فصول هذه البردية الطبية يوضح وظيفة القلب وأهميته وعلاقته ببقية أعضاء الجسم. وأهمية قياس نبض المريض عند فحصه طبيا لتشخيص مرضه. وتركز البردية بصفة خاصة على أمراض العظام والكسور. وتصف كل أنواع أمراض العظام وطريقة علاجها إذا كان لها علاج. وهى مذيلة بشرح للرموز والإصطلاحات المستخدمة فى البردية.
الغريب أن البردية تكاد تخلو من السحر والشعوذة. والعلاج بها عبارة عن جلسات طبية وراحة وتنظيم فى الغذاء وإستخدام للعقاقير والأعشاب كدواء. وتنصح البردية الطبيب عندما يواجه حالة مستعصية ولا يعرف علاجها, أن يتابع الحالة عن كثب, ويسجل مراحل تطورها. وهذه نقطة فى غاية الأهمية تدل على العقلية العلمية فى المملكة القديمة. فالبردية لم تلجأ إلى طرق السحر وعمل الأحجبة حتى فى الحالات المستعصية والتى ليس لها علاج, وإنما نصحت بمتابعة الحالة وتسجيل مراحل تطورها حتى يستفاد منها فيما بعد. وهذا شئ نادر فى هذا الزمن السحيق. فمثلا فى حالة الشلل النصفى, تصف البردية أن الحالة عضوية محضة وليست بسبب شئ خارجى أصاب المريض. أى أنها تقول أن الشلل النصفى مرض عضوى وليس بسبب مفعول السحر أو الحسد أو غضب الآلهة.
بردية أخرى تبين لنا عقلية المفكر المصرى فى المملكة القديمة, وهى بردية منف والتى تشرح من الناحية الدينية كيف بدأ الخلق. وأهمية هذه البردية أن أحد فصولها يوضح ميكانيكية خلق الكون كما كان يعتقد المصرى القديم. "قبل الخلق كانت هناك مياة محاطة بالعدم والظلام. وكما أن فيضان نهر النيل يرسب تلال الطمى لتظهر عليها الحياة فى مصر, فإن المياة سمحت بظهور الأرض ومن حولها العدم والظلام. وعلى الأرض كان الإله آتوم, والذى يعنى إسمه أنه الكل فى شئ واحد. وعلى الأرض خلق آتوم الكون وكل شئ آخر. وحيث أن آتوم هو الكل فى شئ واحد, فقد خلق الكون بمجرد تسمية أجزاء من نفسه."
فكر فى القلب وتعبير باللسان أو الكلمات هى الطريقة التى خلق بها آتوم الكون. طريقة كن فيكون. وهذا يطابق ما جاء فى الإنجيل والتوراة "فى البدء كانت الكلمة والكلمة كانت مع الرب والكلمة هى الرب"
أهمية بردية ممفيس أنها تدل على أن المصرى القديم كان يبحث عن نفسه وعن الكون وخالقه قبل موسى عليه السلام بألفى عام. إنها تدل على أنه كانت هناك قضايا فلسفية شغلت بال المصرى القديم فى عهد الأسرات الأولى لم نجد لها شبيه بين الأسرات المتوسطة والحديثة.
كان المصرى القديم يعتقد أنه يموت ويأخذ معه حسناته وسيئاته. ويقف أمام الآلهة لتوزن حسناته ضد سيئاته. إنقاذ روحه من الفناء يتوقف على عملية إقرار الحق والعدل, "معات". أى أنه لا يكفى أن يأتى بحسنات كثيرة وخطايا قليلة, ولكن عملية وزن الحسنات ضد السيئات نفسها هى عملية إقرار للحق والعدل. وإذا كانت ضرورية لإنقاذ روح الإنسان المصرى فى الآخرة, فهى أيضا ضرورية ولازمة فى الحياة الدنيا. لأن الحق والعدل هما شئ واحد وجزء لا يتجزأ. شئ مطلق فى المكان والزمان. لذلك نجد الملك ينصح إبنه "مرى-كا-رع" ويحثه على إقامة الحق والعدل على سطح الأرض.
وتستمر نصائح الأب الحكيم إلى ولده, وهى شبيهة بنصائح لقمان لولده: "لا تكن شريرا, وإصبر فالصبر جميل. إعطى حبك لنفسك إلى العالم كله. فالأخلاق الحميدة والسمعة الطيبة تظل خالدة".
لا ننسى أن هذه تعليمات ملك يعد إبنه لتولى الحكم من بعده. هذه ليست تعليمات تبين له كيف يستعبد شعبه, أو كيف يزور الإنتخابات حتى يظل كابس على أنفاس الناس, أو كيف يبقى السلطة فى يده بكل الطرق المشروعة والغير مشروعة. لكنها تعليمات روحية فى الأخلاق والسلوك. والشئ الذى يدهشنا حقا قوله أن الآلهة تفضل الفعل الجميل على تقديم القرابين. وما رأيك فى تعليمات الأب إلى ولده الوزير "كا-جمنى" والتى تنصحه إذا دعى إلى وليمة بأن لا يأكل من الطعام الذى يحبه, حتى لا يأكل كثيرا ويظهر بمظهر غير لائق. هذا شئ راقى فى آداب السلوك لم نقرأ أو نسمع مثله فى أى عصر من العصور.
يقول الحكيم أبوير فى برديته:"الحاكم الصالح هو من يرعى رعيته. وحتى إن كانت الرعية قليلة العدد, فعليه أن يقضى يومه لرعاية شئونها. الحاكم أو المسئول حسب تعريف أبوير هو الراعى الذى يرعى رعيته بعناية وإهتمام. الحكم هنا مسئولية وإلتزام, والراعى ملزم بها.
ولننظر إلى قصة من هذه الفترة, وإن جاءت متأخرة, تبين كيف أن فكرة الحق والعدل ليست علاقة مقصورة بين العبد وربه, وإنما هى علاقة سائدة بين الأفراد أيضا. وهى قصة الفلاح الفصيح كما يسميه برستيد.
والقصة تتلخص فى أنه كان هناك فلاح بسيط وقع تحت ظلم أحد الأثرياء ذوى النفوذ. فقد إستولى الرجل الغنى على حمير الفلاح المحملة بالأسمدة بحجة أن الحمير سارت فى أرضه وأتلفت زرعه. وذهب الفلاح لشكاية الثرى لدى رئيسه, رئيس الديوان الملكى. ولأن الفلاح أثبت إصرارا وفصاحة فى التعبير عن شكواه, فلم يجبه الرئيس إلى طلبه فورا, وإنما جعله يستمر فى عرض شكواه وتقديم شكاوى أخرى حتى وصل عددها تسعة.
وعندما طلب منه السكوت بحجة أنه يقف أمام معبد إله الصمت أوزوريس, إرتفعت جهيرته بالدعاء: "يا إله الصمت, رجع لى مالى". ماذا يريد الفلاح سوى إسترداد بضاعته؟ لقد طلب إقرار الحق والعدل من الرجل المنوط بإقرار الحق والعدل. الحق والعدل ليسا مجرد إقرار نظام أو تطبيق قوانين, وإنما هما بحث إيجابى وفعلى عن الصالح والجيد. وعندما لم يجد الفلاح إنصافا من رئيس الديوان الملكى, بدأ فى مهاجمته نفسه, وبدأ يشرح له مفهوم الحق والعدل, وما يجب أن يفعله لإقرار العدل بين الناس. وتنتهى القصة العظيمة بأن يصل الأمر إلى فرعون مصر, لكى يأمر بإعادة بضاعة الفلاح له, ومكافأته على فصاحته فى عرض شكواه, وعقاب الرجل الذى ظلمه. والقصة تدل على أنه حتى الفلاح البسيط, يمكنه أن ينهض وأن يطالب بحقوقه فى مجتمع كانت تسمح عدالته الإجتماعية بذلك.
هذه هى مصر القديمة. مساواة فى الحقوق والواجبات. هذه هى النظرة الإنسانية للعدالة الإجتماعية التى أوجدها المصرى القديم قبل الإسلام والمسيحية واليهودية بما يزيد على ألفى عام.
ولنتأمل نظرة المصرى القديم إلى الإنسان بصفة عامة فى قصة أخرى هى قصة خوفو والسحرة. "ومثل ديدى الساحر بحضرة الملك خوفو. فقال جلالته: ياديدى كيف لم أرك من قبل؟ أجاب ديدى: إنا نتوجه إلى من يدعونا, وقد دعانى الملك فلبيت. فقال جلالته: أصحيح ما يقولون من أنك قدير على أن تلصق رأسا فصل من الجسد؟ أجاب ديدى: نعم يا مولاى, فى مقدورى ذلك. فقال الملك: على بسجين ننفذ فيه التجربة. فإستدرك ديدى قائلا: حاشا لله يا مولاى, أنا لا أجرب سحرى فى الإنسان. أليس الأخلق بنا أن نجرب مثل هذا العمل فى الحيوان؟ فأحضرو له أوزة ليجرى عليها سحره.
إذا أردنا توضيح تأثير الحضارة المصرية بصفة عامة فى الحضارات التى أعقبتها, لإحتاج الأمر إلى عدة مقالات. لكن يكفى هنا أن نوضح إلى شبابنا أن مصر القديمة هى التى إخترعت فن الكتابة, وبردية بترى تبين أن الحروف التى يستخدمها العالم اليوم, يرجع أصلها إلى اللغة الهيروغلوفية. ومصر هى التى إستخدمت التوقيت الشمسى والسنة الشمسية, التى يستخدمها العالم اليوم مع تحوير طفيف, قبل أية دولة أخرى بعدة قرون. وهى التى قسمت السنة إلى 12 شهرا والشهر إلى 30 يوما. وهى التى قسمت الشهر إلى أسابيع والسنة إلى فصول. ومصر القديمة هى التى ظهر فيها فن القصة ومنها قصة الأخوين التى تشبه قصة سيدنا يوسف. وقصة الملاح التائه التى تشبه قصة الأوديسة والسندباد البحرى وقصص أخرى كثيرة. وهى أول دولة آمنت بوجود الخالق, وأول دولة آمنت بالبعث والحياة الأخرى والخلود. وأول دولة أوجدت القيم الإنسانية والحق والعدل. وأول دولة إستخدمت الأسلوب العلمى. وأول دولة أوجدت الحكومة المركزية. وأول دولة أنشأت المدارس العامة لأبناء الشعب. وأول دولة نشأت بها صناعة التعدين والمناجم وصناعة الزجاج والورق. وأول دولة إهتمت بالموسيقى والرقص والفنون, والنظافة والنظام, والقائمة لا تنتهى. ويكفى أن نقول هنا أن القيم الروحية والخلقية الموجودة فى العالم الغربى اليوم يرجع أصلها إلى أجدادنا قدماء المصريين.
وتستمر الملحمة المصرية. وتأتى أسرات, وتختفى أسرات, ولكن عهد الأسرات الأولى ليس كمثله شئ. إلى أن يودع أسكلبيوس فى القرن الرابع الميلادى حضارة كانت فى زمانها خيرة مجيدة فيقول والحسرة تملأ قلبه: "سيجيئ زمان يظهر فيه كأن المصريين قد حافظوا دون جدوى على دينهم بروح العباد البررة. وما دامت العبادة والصلاح لم تؤدى إلى شئ. فقد أورثهم خيبة الأمل واليأس. فيبدو أن الآلهة سوف تهجر أرض مصر وتذهب إلى سماواتها العلى. حينئذ, تخلوا أرض الرسالات وتغدوا يتيمة من آلهتها. ولن تهمل أركان الدين فحسب, بل المؤمنون به سوف يحل بهم الإضطهاد, لأن القوانين تجعل من إيمانهم وصلاحهم أمرا محظورا. وهذا أقسى ما يرزؤها به القدر. وحينذاك, ستتحول تلك الأرض المقدس مثوى المعابد ومعرش الآلهة إلى أجداث. يا مصر لن يبقى من أصول دينك سوى أحاديث خرافة مسطورة على الحجر. تحكى قصة إيمانك. ولا يأخذها الخلف مأخذ الجد, ولا يجدون فيها مبنى ولا معنى."
هذه هى مصرنا العظيمة التى لا يعرف معظم شبابنا عنها شيئا. والتى تغفل مدارسنا وجامعاتنا, عن قصد أو بدون قصد, مجدها وعظمتها. حتى بدونا اليوم وكأننا شعب آخر لا ينتمى إلى هذا السلف الصالح. وأصبحت معلوماتنا عن كل فرعون لا شئ سوى أنه طاغية ظالم أغرقه الله سبحانه فى اليم على يد موسى عليه السلام. ونسينا أنه كان هناك مئات الحكام الصالحين البررة الورعين الذين لم يلتزموا بالحق والعدل فقط, وإنما جعلوا للحق والعدل إلهة عبدوها هى الإلهة "معات". وهل هناك شعب آخر جعل للحق والعدل إله من قبل؟ وكان منهم كاموس الذى أشعل حرب التحرير ضد الهكسوس. وأحمس الذى تعقبهم خارج أرض الكنانة حتى أبادهم عن آخرهم. وتحتمس الثالث رجل الدين التقى الورع ومؤسس أول إمبراطورية مصرية, وإخناتون الفيلسوف الثائر وإمام الموحدين. فهل نطمع فى أن نعيد هذا المجد من جديد؟ ولم لا.
#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟