جون غراي أستاذ الفكر الأوروبي في مدرسة لندن للإقتصاد ، التي لا يشكّ اثنان في أنها واحدة من أكثر قلاع الفكر الرأسمالي الحديث حصانةً ورصانةً وعلوّ شأن. وهو كاتب شبه دائم في الأسبوعية البريطانية New Statesman، الرصينة بدورها، اليسارية في الإجمال، والتي لا يُعرف عنها الحماس للرأسمال واقتصاد السوق. وهو أيضاً أكاديمي وفيلسوف وهجّاء للعولمة المعاصرة الوحشية منها وغير الوحشية (من منطلقات محافظة للإيضاح الفوري، ولكي لا تُظنّ بنا ظنون الترويج لليسار التقليدي المناهض للعولمة كيفما وأينما وُجدت).
غراي كان قد أصدر، قبل أشهر، كتابه المثير "كلاب من قشّ: أفكار حول بني البشر وحيوانات أخرى"، فأثار الكثير من اللغط بالطبع (وهذا ليس جديداً على كتاباته)، ولكنه هذه المرّة أثار مزيجاً من الذعر والذهول والاستغراب والاستنكار في آن. كيف لا والكتاب يقول إنّ الإنسان، كما يفيد العنوان، لم يعد مختلفاً كثيراً عن الحيوان، أو بات يشبهه في جانب مركزي واحد على الأقل: أنه لم يعد يحتلّ مركز الصدارة في ترتيب عناصر الكون!
ما هي محاججة غراي الأساسية، خلف هذه الفرضية التي تبعث على القشعريرة؟ بالغة البساطة، في الواقع: التراث اليهودي ـ المسيحي، وهو الفلسفة الإجمالية التي يرتكز إليها وجدان الغرب مثل عقل الغرب، كان يُفرد الإنسان عن الحيوان في مواهب كبرى مثل الإيمان والاختيار والعقل واللغة والإبداع... الأمر الذي لا يتراجع اليوم أو ينحطّ أو ينعدم عند بني البشر فحسب، بل هو ينقلب إلى حيوانية صريحة صارخة مجانية مدمّرة، أين منها سلوك الحيوان! "على الفلاسفة وعلماء الإجتماع والأدباء أن ينبذوا إلحاحهم على مركزية الإنسان واستقلالية عقله، يقول غراي، لأنّ المدينة باتت أشبه بقفير النحل، والإنترنيت طبيعية مثل شبكة العنكبوت"!
هذا الكتاب ينضمّ إلى سلسلة أفكار غراي حول موضوعة عريضة مشتركة تعلن، للغرابة القصوى، أنّ عصر العولمة قد انتهي. وفي مقال شهير يحمل هذا العنوان بالذات، انتهى عصر العولمة ، يقول غراي إنّ الشيوعية فشلت، وحاول اقتصاد السوق فرض نموذجه الطوباوي الخاصّ على البشرية، لكنّ ما جرى في أمريكا يوم 11 أيلول 2001 ينبغي أن يؤذن بنهاية تلك الحملة الصليبية. لماذا؟ لأنّ اليقين الذي ساد خلال العقد الماضي (حول نهاية التاريخ، وصعود الليبرالية التجارية في سياق مدّ لا تقاومه أمّّة أو سوق أو ثقافة أو فلسفة) اهتزّ من جذوره أمام مشهد انهيار برجَي مركز التجارة الدولي تماماً كما تنهار قصور الكرتون، وبات طبيعياً أن يهتزّ إيمان الأسواق بحصانة العولمة.
ولكي ننزّه آراء غراي عن الوقوع تحت ضغط الحدث الراهن والتأثّر بفورة الحماس الآنية، هذه الفورة التي أخذت تلهم تسعة أعشار الآراء كما يحدث عادة في أزمنة المحنة والمنعطفات والوقائع الخارجة عن المألوف، نشير إلى أنّ الرجل أعرب عن مواقف مماثلة قبل وقت طويل من تدشين حقبة ما بعد 11 أيلول . ففي كتاب متبصّر وغير متعجّل، صدر في بريطانيا قبل سنتين بعنوان "الفجر الزائف: ضلال رأسمالية العولمة"، اعتبر غراي أنّ الديمقراطية واقتصاد السوق في حال تنافس وليس في حال شراكة. جانب آخر في المسألة هو أنّ تجارب اقتصاد السوق القديمة والحديثة برهنت ــ في أوقات الأزمة خصوصاً ــ على سطوة الدولة أكثر من سطوة السوق، وعلى خضوع اليوتوبيا للسياسة الواقعية (الـ Realpoitik في عبارة أوضح) التي تفرضها المصالح والأجندات السرّية، وليس الإستثمار والتنافس الحرّ وقوانين الأسواق.
غنيّ عن القول إنّ هذا ليس رأي المبشّرين القائلين بأنّ انتصار القِيَم الغربية ساعة سقوط جدار برلين (أو لاحقاً، ساعة سقوط بغداد!) هو في الآن ذاته انتصار لليوتوبيا الوحيدة المتبقية في حوزة الإنسانية، اليوتوبيا العليا والقصوى والأخيرة على هيئة خاتم البشر الذي بشّر به فوكوياما، واليوتوبيا التي يُراد لنا أن نسلّم بخلوّها تماماً من الأزمات والهزّات والتشوّهات. كأنّ التاريخ لم يعرف فترات الركود الرأسمالية الطاحنة، وكأنّ اقتصاديات السوق الحرّ في إنكلترا (مهد ولادة هذا الإقتصاد وميدان تطبيقه الأوّل) لم تشهد آلام العيش اليوميّ في كنف سياسات مفقرة وظالمة اجتماعياً، من بالمرستون إلى ثاتشر.
ففي نظر هؤلاء المبشّرين لا يبرهن الإختراع الغربي للرأسمالية وللعلم وللديمقراطية الليبرالية على نجاح منقطع النظير فحسب، بل هو يتقدّم حثيثاً لاجتياح العالم القديم والعالم الحديث في آن معاً، ما قبل الحرب الباردة وما بعدها، ما قبل الحداثة وما بعدها، ما قبل التاريخ وما بعده. أكثر من ذلك، لم يتردد هؤلاء في الجزم بأنّ القرن الواحد والعشرين سوف يكون أوّل قرون الرأسمالية الصافية الصرفة، إذا ما تذكّرنا أنّ القرن العشرين خالطته شوائب غير صغرى مثل الشيوعية والنازية والفاشية والأصولية! فماذا يقولون اليوم في اعتلال هذا القرن الرأسمالي الصافي منذ السنة الثانية في تدشينه، على يد حفنة رجال مستعدّين لممارسة الإنتحار الجماعي، وليس على يد الجيوش والقنابل النووية والبورصات العملاقة؟
وأمّا إذا أشاح المرء بنظره بعيداً عن هذه المخططات الوردية للعالم القادم، وحدّق مليّاً في ما يجري اليوم بالذات في الولايات المتحدة وأوروبا، فإنّ الهويّة الغربية الظافرة يمكن أن تبدو ظافرة وقويّة ومدجّجة بالسلاح والعتاد والمال والأسواق، ولكنها ليست تلك الهوية الظافرة المطمئنة الآمنة. وفي قلب أوروبا، في البلقان التاريخي مهد الحروب والسلام، ثمة جولات مباغتة لا تهدأ الواحدة منها حتى تندلع الأخرى، في حروب إثنية ومذهبية قيل إن نهاية التاريخ قد أجهزت عليها مرّة وإلى الأبد. وهذه، في الجوهر العميق، أمثولة فاضحة حول حضارة غربية متخمة بالتكنولوجيا والعلم والليبرالية، ولكنها أيضاً مختنقة بمواكب اللاجئين والمشرّدين والجائعين والقتلى لأسباب إثنية أو مذهبية مناهضة تماماً لفكرة الأنوار والعقل والمدنية.
وقبل حقبة 11 أيلول التي يريدوننا أن نبدأ منها وحدها، ألا تبدو مشاهد خيام اللاجئين في ألبانيا ومقدونيا ومونتينيغرو وكأنها تنسف تماماً صورة الهوية الغربية المعاصرة، السابحة بأمان واطمئنان في عوالم وردية من الرفاه والإستقرار والعلم والتكنولوجيا والليبرالية التي تعبر الثقافات والأمم كما السكّين في قالب الزبدة؟ ألا تبدو هذه المشاهد وكأنها استعادة طبق الأصل لكلّ أحقاب الـ "ما قبل" في الحكايات الكبرى للحضارة الغربية، من اليونان القديم، إلى روما القديمة، إلى رحلة كريستوفر كولومبوس، إلى عصر الأنوار والحداثة؟
ها نحن، من جديد، أمام اهتزاز المشهد الغربي برّمته، خصوصاً في تلك الرؤية التي نهضت وتنهض على ثلاثة أقانيم جوهرية: الرأسمالية واقتصاد السوق، وحقوق الإنسان كما تقترن وجوباً بالشكل الغربي ـ الأمريكي من الديمقراطية العلمانية، وإطار الأمّة ـ الدولة كصيغة هوية معتمدة في العلاقات الدولية. وهذه الأقانيم بالذات ظلّت ترتدي هيئة مختلفة تماماً كلّما تعلّق الأمر بمجتمعات وثقافات العالم غير الغربي، الأمر الذي ظلّ يفتح باب الاجتهاد حول تصارع حضاري ـ ديني على طريقة صمويل هتنغتون، أو توتّر هيلليني ـ آسيوي على طريقة برنارد لويس، أو ولادة الأيديولوجية التالية على طريقة غراهام فوللر كما بشّر بها في كتابه الشهير "مصيدة الديمقراطية: أخطار العالم ما بعد الحرب الباردة".
الـ "ما بعد"، إذاً، هو أيضاً هذه اليقظة البربرية، وهذا الإنهيار في مبدأ الإستراحة الإستراتيجية للمحارب القديم، وهذه الجولة المباغتة في حروب قيل لنا أنها انقرضت مرّة وإلى الأبد، وفي حروب أخرى لم يكن العقل البشري يسمح بتداول سيناريوهاتها إلا في روايات الخيال العلمي وأفلام الكوارث. إنها، أيضاً، عاقبة شبه حتمية لعجز مجتمعات ما بعد الحرب الباردة عن التلاؤم مع الأقانيم الغربية الظافرة أولاً، ثم سعي تلك المجتمعات إلى صياغة أقانيمها الخاصة التي لا بدّ أن تدخل في تناحر واسع النطاق (وخيم العواقب) مع القِيَم التي تدعو إليها دول ومجتمعات وأنظمة سياسية ـ اقتصادية تحمل عبء إدارة الكون والتخفيف من مآسيه وآلامه وصدوعه وحروبه ومجاعاته. وغراهام فوللر لم يترك هامشاً للريبة في أن الإيديولوجيا التالية التي ستواجه الغرب لن تكون بديلاً واضحاً صافياً، بل ستكون مزيجاً مركباً من رفض التحديث بمعناه الغربي، وتوطيد الإنشقاقات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية. وأما السيناريو الأسوأ، في نظره، فسوف يكون ذهاب أتباع تلك الأيديولوجيا إلى حدّ المطالبة بقيادة الكون (أو حصّتهم من ذلك الكون) وتنحية المركز الغربي الذي يتزعم وينسّق ويحفظ توازنات العالم.
هل كان هذا بعض مضمون الرسالة المعقدة التي حملتها العمليات الإنتحارية في نيويورك وواشنطن؟ لِمَ لا، بالنظر إلى ذلك الجانب الكابوسي الآخر في السيناريو الذي رسمه فوللر نفسه، ذاك المتعلّق بمراكز أخرى في ما تبقّى من بلدان العالم الثالث، تلك التي سوف تظلّ على المدى المتوسط والبعيد حاملة لجرثومة الماضي وضغوطات قرن كامل من رفض الحداثة. ذلك يعني أن النجاحات لن تفلح في تطويع الانتفاضات السوداء والتحام المعضلات الديموغرافية بمعضلات الهجرة والإفقار المتزايد والتصحّر والمجاعات، ثم تَبَلْوُر ذلك كله في خطابات أصولية تنهض وتترعرع وتنتشر في أرض ممهدة ووجدان جمعي جريح وجاهز لاستقبالها واحتضانها.
ولا يغفل فوللر الإشارة إلي التهديد الذي تتعرّض له الثقافات الوطنية بفعل التعميم القسري للقِيَم الغربية، وبوسائط تبادل لا قِبَل لتلك المجتمعات بمقاومتها. ولكنّ طبيعة ونطاق هذا التهديد تقتضي وقفة معمّقة عند ذلك التصدير الأخطبوطي الجبّار للسلعة الثقافية (الكتاب والفيلم والأغنية ونوع الطعام واللباس والدواء)، وصناعة الرمز الثقافي الأشبه بالأسطورة في ذلك كله، بحيث تتحوّل شطيرة الـ "بيغ ماك" إلى رمز للجبروت الأمريكي السياسي والاقتصادي والعسكري، ليس في بلد مثل ماليزيا فحسب، بل حتى في بلد مثل فرنسا أيضاً. ألا يتفق الجميع على أنّ العمليات الإنتحارية الأخيرة استهدفت تدمير رموز الجبروت الأمريكية، وأنّ سقوط الرموز أسفر عن مسّ خطير بمنعة وحصانة وأمان آلة الجبروت ذاتها، الإقتصادية أوّلاً (شركات الطيران، البورصة، مناخات الإستثمار، الأشغال والوظائف)، والعسكرية ثانياً واستطراداً؟
والآن، في حقبة ما بعد 11 أيلول كما عند انهيار جدار برلين، تظلّ الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها، دون استثناء ما يقوله أمثال جون غراي وغراهام فوللر. ومرّة أخرى سوف يدخل الغرب في مرحلة مراجعة راديكالية للذات وللهوية، أشدّ إيلاماً من أية مراجعة نظيرة في العالم الثالث. والأرجح أن النظام الغربي التقليدي الذي حقّق انتصاراً علي ذاته بعد انهيار جدار برلين (الذي كان، في نهاية المطاف، صناعة غربية بامتياز) وعلى الآخرين في أقطار وأقطاب واستقطابات أخرى (اجتياح أفغانتسان، غزو العراق، الحرب على الإرهاب ، الردّة الأمنية، التراجع عن حقوق الإنسان الآخر بذريعة الأمن القومي...)، لن يتمكن من إعادة تصنيع ذاته المعولَمة، بيدٍ تفتح بوّابات اقتصاد السوق وأخرى تغلقها بدافع محاربة أموال الإرهاب .
والمواجهة الكونية الحقّة تجري على امتداد العالم، كلّ يوم، حول مئات الملفات، وفق قوانينها الباردة المستقلّة، وبمعزل عن الإنقسام التقليدي بين غرب وشرق. وإذا كان "مركز التجارة الدولي"، تماماً مثل شطيرة الـ "بيغ ماك"، أكثر حضوراً على جدول الأعمال من أية أيديولوجيا تالية، فإنّ لهذا المركز وتلك الشطيرة تاريخهما الجدلي المتحرّك، في الـ "ما قبل" وفي الـ "ما بعد" على حدّ سواء. وأينما تولّي الإنسانية وجهها، ثَمّ كلاب من قشّ!