|
البلطة والسنبلة ، مصر والعرب
فتحى سيد فرج
الحوار المتمدن-العدد: 2370 - 2008 / 8 / 11 - 09:55
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الحصاد التاريخي للمثاقفة المصرية العربية يؤكد بندق، لم يكن المصريون عربا ولكن لا يشكك أحدا في مثاقفةAcculturation بمعنى الأخذ والعطاء الثقافيين عبر تاريخ يمتد للأكثر من أربعة عشر قرنا؟ فمن جانب العرب، فلقد أفادت النخب المثقفة لديهم من الطرح المصري الأريوسي – نسبة إلى الراهب أريوس الذي بنى مذهبه على إنكار ألوهية المسيح – في تثبيت العقيدة القرآنية حول طبيعة المسيح، الأمر الذي مهد بالمناقشات العقلية لميلاد علم الكلام فالفلسفة، إضافة إلى الأثر الثقافي المصري (إخناتون) في إشاعة مقدمات فكرة التوحيد، كما أفاد البناءون العرب من طراز العمارة المصرية في تشييد المساجد ذات المآذن والقباب، والقصور والساحات، وذلك في نقلة نوعية، أنتجت واقعا متحضرا راح يحل يوما بعد يوم محل مجتمع البداوة . وبالمقابل فقد أعطي العرب لمصر : الإسلام ..تاج الديانات بدعوته العالمية إلى عبادة رب واحد يتساوى أمامه البشر بغير تميز، ولكن اندفاع العرب إلى الفتوحات الخارجية تحت راية الإسلام لأغراض دنيوية، جعلهم ينتهجوا في مصر وغيرها نهج القهر الرامي إلى استلاب الناس، وها هو ابن خلدون يكتب مقرا هذه الحقيقة " من طبيعة العرب أخذ ما في أيدي الناس..فإذا ملكوا أمة جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بما في يديهم، وربما جعلوا العقوبات على المفاسد حرصا على تحصيل الجبايات، فبعدت طباع العرب عن سياسة الملك" وما أوجزه ابن خلدون أوضحه تلميذه المقريزي (ت1445م) راصدا سوء إدارة الحكم العربي لمصر بتوالي النكبات من قحط ومجاعات ونهب لأقوات الناس، وهو ما وجد انعكاسه على تدهور أحوال المصريين، تجلي في تناقص عددهم من حوالي عشرين مليون نسمة عام الفتح إلى مليون ونصف عام 1800 ميلادي . على أن النزوع إلى الإرهاب الفكري الذي تسلل إلى العقل الجمعي المصري في العقود الحالية، إنما هو صناعة عربية، ترجع إلى سيادة نزعة أصولية تنتهج التعامل مع الوجود من منطلق التمركز حول شخص أو حدث تتخذه معيارا للمعرفة ومقياسا للحقائق، ومن ثم فلا مجال لاختيار صواب أو خطأ المعتقد، وقد وجدت هذه الأصولية نصيرا لها في فكر الفقيه تقي الدين ابن تيمية 0ت1328م) الذي عارض كل اجتهاد ودعا إلى الأخذ بمرجعية النص القرآني والسنة، وقد ظل فكره في الكتب حتى قيد له أن يجد جماعة سياسية تروج له، وسلطة تتبناه، فيما سمي بالتيار الوهابي، الذي انكسر شوكته العسكرية بهزيمته أمام الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا بين عامي 1816و 1818 . بالمقابل كانت هزيمة الجيش المصري أمام إسرائيل عام 1967فرصة للتيار الوهابي لاختراق العقل المصري، فيما يشبه الثأر الثقافي، ومن ثم قامت الأصولية بكل ما تعنيه من تزمت وتعصب وتحبيذ للعنف بغزوات ناجحة لمصر، أما المصريون الفقراء فقد تسابقوا للعمل في السعودية تحت وطأة الحاجة الشديدة، فكان شرط بقائهم في وظائفهم أن يقبلوا بثقافة الوهابيين، وأن يتعايشوا معها إلى درجة التبني، وحال عودتهم إلى مصر لم يكن أمامهم من سبيل يشجعهم على الانسلاخ مما اكتسبوه هناك، لاسيما وأن الدولة المدنية في مصر كانت قد بدأت هي الأخرى في النأكل لحساب الأصولية الإسلامية الوافدة، وهكذا أنفتح الباب أمام العنف المادي والفكري كي تقلع "السنبلة" المصرية، ويغرس بدلا منها ثقافة "البلطة" .
مصر وثقافة الحصار شهدت ثمانينات القرن الماضي صعود مشروع الإسلام السياسي – بجناحيه الشيعي والسني – موازيا لتراجع المشروع القومي العربي، فقد تمكن الجناح الشيعي الإيراني من الوصول إلى السلطة، فكان أن برزت في العالم العربي تنظيمات تحت راية الإسلام السني لمواجهة قوى الاستكبار العالمي، وهو هدف سياسي لا شك في نبله، لكنه على المستوى الاستراتيجي لا يحل أية مشكلة، فبفرض تحقيق هذا الهدف، فلا مناص من عودة صيغة الدولة الدينية، التي ترفع شعار الحاكمية لله وليس للشعب(الجهاد) والتي تعلن الحرب على كافة الدول غير المسلمة، وتجبر رعاياها من غير المسلمين على سداد الجزية، مما يدفع بالمشكلات السياسية والاجتماعية داخليا وخارجيا إلى بلوغ حدها الأقصى . ويضع كاتبنا مهدي بندق يده على مظاهر التناقض في هذا المشروع والمتمثلة في منهج الانتقائية بالأخذ بشكل الديمقراطية تحت مسمى الشورى، ورفض مبادئ حقوق الإنسان وعلى رأسها المساواة بين المواطنين، ويرجع ذلك لطبيعة التكوين الثقافي لغالبية الشعوب العربية والإسلامية والتي تأسست في عصر الإمبراطورية على اقتصاديات الفيء والخراج والجزية، ورضعت – سوسيولوجيا – من ثدي أيديولوجية التفوق الديني والعنصري، وصحيح أن كافة الدول في العصر الوسيط كانت كذلك، إلا أن تلك الثقافة أمست محض ذكريات بالنسبة للدولة المدنية الحديثة، أما عالمنا العربي فلا يزال يعيش على هذه المخايلة التاريخية، التي تجعله يعيش في إطار مجموعة من الأساطير . فأول هذه الأساطير هي أسطورة "إعادة الماضي الذهبي"، فمستقبل هذه الأمة قابع وراءها، وأي حديث عن إبداع مصير إنساني بغير نموذج سابق، إنما هو حديث بدعة وضلال، هذا التصور يقوم على أمل غامض أن يدب الضعف في أوصال الغرب كما حدث للإمبراطوريتين الفارسية والرومانية في العصر الوسيط، وأن يتقدم المسلمون كما تقدموا في السابق (نظرية حسن حنفي) يتفرع عن ذلك أسطورة أخري تدعى "أسلمة العلوم" أي القبول بالنواتج الاستهلاكية للعلم ورفض مناهجه، وأما الأسطورة الثالثة فهي أن الإسلام يتعرض "لمؤامرة تاريخية" تقوم أمريكا وأوربا بتنفيذها، والأسطورة الرابعة تتركز في "المخلص" الذي هو فرد عبقري ملهم، فيه تتجسد الأمة بآمالها وأحلامها وقدراتها الكامنة، ولهذا فإن تسليم القيادة للبطل المخلص بغير مراجعة أو مناقشة كفيل بإحراز النصر . ويستخلص المؤلف من ذلك أن كل التيارات والقوى السياسية والدينية محاصرة، فجماعة الإخوان "المسلمين" والتي نشأت لا لتكون حزبا بين أحزاب ليبرالية، ولكن لتحل محل كل هذه الأحزاب، فالتعددية ليست إلا تكريسا للانقسام والفرقة، والخير للأمة في التوحد تحت راية الإسلامٍ، ويشير مهدي إلى تقييم عدد من المثقفين لهذه الجماعة من خلال مدخل التناقض بين الوسائل والغايات مضيفا تحفظه على هذه الجماعة من خلال رصد العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة،ٍ فمشكلة الإخوان لا تكمن في نواياهم بل في حدود معرفهم، تلك المعارف المنبثقة عن أبنية اجتماعية محاصرة من الخارج، ومن الداخل . فأما الحصار الخارجي فيعود إلى مصالح عظمى وليس كما يتصور الإخوان نتيجة كراهية صليبية للإسلام، وأما الحصار الداخلي فيتمثل في ثقافة الدولة الشمولية، التي ترجع لتراث الجمود السياسي والتخلخل الاقتصادي الكامن في طبيعة التكوين والتطور لنظام الدولة الاستبدادية في الشرق، والذي أعيد إنتاجه على أيدي نظام يوليو، حيث احتكر العمل السياسي لحساب مشروعه في التنمية، ولأن الثقافة تبقي حتى بعد زوال دوافع تأسيسها، فإن تخلي الدولة المصرية عن المشروع الناصري منذ عهد السادات، لم يلغ الأبنية السياسية والتنظيمية التي قامت لتحقيق هذا المشروع، فقد ورث حزب الرئيس السادات مكونات ونظم الاتحاد الاشتراكي بنفس مواصفات حزب الدولة الأوحد تاركا لباقي الأحزاب اللعب في الهامش، وأصبح الحزب الحاكم بفعل ضغوط من الخارج والداخل يناور أمام آلية تداول السلطة، بيد أن مأزق البلاد الحقيقي يكمن في البديل الذي ظهر على الساحة(الإخوان) فهو نفسه صاحب ثقافة شمولية، فهو محاصر( بفتح الصاد) من قبل غريمه الحاكم، وهو محاصر(بكسر الصاد) لغيره من الأحزاب بفضل أيديولوجيته السلفية، ومخايلاته الماضوية بمعرفة غير دقيقة عن قوانين التطور التاريخي . واليسار أيضا محاصر، فالأحزاب الليبرالية واليسارية لم تحاول تجديد خطابها السياسي بما يوائم المتغيرات، فزعماء هذه الأحزاب ورثوا سطوة وسيطرة الأسلاف حتى لو تغيرت شخصياتهم، لا يقبلون النقد ولا يحتفون بالنقد الذاتي، تسود بينهم ثقافة اليقين، والديمقراطية التي يطالبون الجميع بها لا يمارسونها داخل تشكيلاتهم الحزبية . لقد فات على اليسار المصري التفكير في أن القضاء على الفقر يتطلب زيادة الإنتاج بقدر ما يتطلب عدالة التوزيع، وأن إدارة المجتمع الطبقي تقتضي الاعتراف بوجود طبقات غير متجانسة المصالح، لكنها جميعا صاحبة حق في التعبير السياسي عن مصالحها، ومن هنا فإن احتكار اليسار للحديث باسم الشعب أدي إلى انقلاب الطبقات غير الشعبية على فقراء الشعب فيما يشبه الانتقام من اليسار برمته . والدولة أيضا محاصرة بين رؤيتها التقليدية لذاتها، وبين دواعي التغيير الضاغطة من الخارج والداخل، فمنذ أن ادخل الرئيس السادات نصا في دستور 1971 يجعل مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، استجابة لحلفائه الوهابيين في السعودية، وحلفائه الجدد: الأخوان المسلمين وسائر جماعات الإسلام السياسي، أصبحت الدولة محاصرة في الداخل لحساب "الأخوان" المصممين على الوصول إلى السلطة ارتكازا على نص المادة الثانية من الدستور التي تقرر أن "الإسلام هو دين الدولة الرسمي" ومحاصرة أيضا من الخارج بضرورة الإصلاح السياسي، بما يتواكب مع الإصلاح الاقتصادي المتحول إلى الليبرالية بضغوط من الغرب . والمصريون جميعا محاصرون بين الثقافتين العربية والغربية، فمصر المتميزة أنثروبولوجيا عن العرب، قد غدت عربية الثقافة بفضل الاحتكاك الطويل لغويا ودينيا، بل وسياسيا، وحيث أن التقدم الذي أنجزه الأوربيون بدءا من القرن السادس عشر الميلادي، قد صاحبه انحطاط للثقافة العربية التي أصبحت قوام فكر وسلوك المصريون، والدليل على ذلك أنه ومع قدوم الحملة الفرنسية ومحاولة نابليون أن يغرس في التربة المصرية أفكار ومبادئ الحداثة جوبه بالرفض والمقاومة، فكيف يمكن أن يعيش المصريون بين الأطلال، وتحت ظلال الأساطير، في عصر أميز ما فيه هو تلك السيولة الكونية التي تهدد بزوال الحضارة الحالية ذات الملمح الغربي، ولعلنا بالرغم من تلك الصورة القاتمة أن نستشرف ملامح حضارية جديدة لمسيرة الإنسان الصعبة . للخروج من هذا الحصار ليس أمامنا إلا أن نأخذ بأسباب التحول إلى ثقافة عصرية، تقوم على مبدأ الإنتاج، باعتبار أن مصدر الثروة هو العمل الاجتماعي المنتج، وليس انتظار الرزق من السماء، ثقافة تقوم على مساواة الناس أمام القانون، تجعل الشعب مصدرا لكل سلطة ولكل تشريع، تفصل بين الدين(الذي هو مجلي إيماني للأفراد والجماعات) وبين الدولة (التي هي شخص اعتباري محايد وغير منحاز بالضرورة) فذلك هو السبيل الوحيد للانخراط الحي في المجتمع الدولي أخذا وعطاءا، تأثرا وتأثيرا .
#فتحى_سيد_فرج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البلطة والسنبلة إطلالة على تحولات المصريين
-
الثقافة والتنمية
-
شواهد العجز عن الإصلاح في العالم العربي
-
العجز العربي عن مسيرة الإصلاح مرصد الإصلاح نموذجا
-
الليبرالية الجديدة : هل يمكن المصالحة بين الوضعية المنطقية و
...
-
مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي
-
العقد الاجتماعي الجديد
-
البنات البنات ... أفضل الكائنات
-
3 - المؤتمر الخامس للإصلاح العربي
-
2 - المؤتمر الخامس للإصلاح العربي
-
1 - المؤتمر الخامس للإصلاح العربي
-
الجزء الأخير من العقل السياسي العربي
-
العقل السياسي العربي2
-
العقل السياسي العربي 1
-
بنية العقل العربي
-
فانتازيا الواقع المرير
-
اشكالية الديمقراطية في الواقع المصري 1
-
نقد العقل العربي
-
تعليق على مقالة اللغة والثقافة الشعبية المظلومة لمهدى بندق
-
تمكين الفقراء من التنمية الاقتصادية
المزيد.....
-
الأردن.. ماذا نعلم عن مطلق النار في منطقة الرابية بعمّان؟
-
من هو الإسرائيلي الذي عثر عليه ميتا بالإمارات بجريمة؟
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
إصابة إسرائيلي جراء سقوط صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل
...
-
التغير المناخي.. اتفاق كوب 29 بين الإشادة وتحفظ الدول النامي
...
-
هل تناول السمك يحد فعلاً من طنين الأذن؟
-
مقتل مُسلح في إطلاق نار قرب سفارة إسرائيل في الأردن
-
إسرائيل تحذر مواطنيها من السفر إلى الإمارات بعد مقتل الحاخام
...
-
الأمن الأردني يكشف تفاصيل جديدة عن حادث إطلاق النار بالرابية
...
-
الصفدي: حادث الاعتداء على رجال الأمن العام في الرابية عمل إر
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|