صلاح عودة الله
الحوار المتمدن-العدد: 2370 - 2008 / 8 / 11 - 09:53
المحور:
القضية الفلسطينية
يا وطنى : كل العصافير لها منازل,الا العصافير التى تحترف الحريه..فهى تموت خارج الأوطان..!الشاعر الراحل نزار قبانى. رحل عنا يوم أمس السبت التاسع من اب 2008 الشاعرالفلسطيني العظيم محمود درويش وكان قد خضع صباح الأربعاء 6 آب الجاري، لعملية قلب مفتوح، تضمنت إصلاح ما يقارب 26 سنتمتراً من الشريان الأبهر"الأورطي"، الذي كان قد تعرّض لتوسّع شــــديد"انيفريزما بالمصطلح الطبي" تــــجاوز درجة الأمان الطبيــــعية المقبــــولة طبياً. وقام بها الجرّاح العراقي الأصل حازم صافي، الذي يعتبر اليوم أحد أمهر الجرّاحين في هذا المضمار.وجدير بالذكر أنّ الشاعر سبق له أن أجرى عمليتين في القلب، سنة 1984 و1998، وكانت العملية الأخيرة وراء ولادة قصيدته المطوّلة "جدارية"، وفيها يقول: هزمتكَ يا موتُ الفنونُ جميعها هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين. مسلّة المصريّ، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبد. هزمتك وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنك الخلودُ فاصنعْ بنا، واصنعْ بنفسك ما تريدُ..!
لقد بكاه الشعب الفلسطيني وبكافة اطيافه بل كل الشعوب العربية من المحيط الى الخليج, كيف لا فهو ابن فلسطين الغالي..فلسطين الذي أحبها ودافع عنها وهو شاعر مقاومتها الأول..! ومن اخر قصائده "سيناريو جاهز": لنفترضِ الآن أَنَّا سقطنا..أَنا والعَدُوُّ ،سقطنا من الجوِّ..في حُفْرة فماذا سيحدثُ ؟سيناريو جاهزٌ:في البداية ننتظرُ الحظَّ..قد يعثُرُ المنقذونَ علينا هنا..ويمدّونَ حَبْلَ النجاة لنا..فيقول : أَنا أَوَّلاً,وأَقول : أَنا أَوَّلاً..وَيشتُمني ثم أَشتمُهُ,دون جدوى ،فلم يصل الحَبْلُ بعد, يقول السيناريو:سأهمس في السرّ..تلك تُسَمَّي أَنانيَّةَ المتفائل..دون التساؤل عمَّا يقول عَدُوِّي,أَنا وَهُوَ ،شريكان في شَرَك ٍ واحد وشريكان في لعبة الاحتمالات..ننتظر الحبلَ ... حَبْلَ النجاة..لنمضي على حِدَة وعلى حافة الحفرة ِ - الهاوية, إلى ما تبقَّى لنا من حياة وحرب, إذا ما استطعنا النجاة..ثم يختتمها قائلا:
ومع الوقت ِ ، والوقتُ رَمْلٌ ورغوة ُ صابونة..كسر الصمتَ ما بيننا والمللْ..قال لي : ما العملْ؟قلت : لا شيء ... نستنزف الاحتمالات..قال : من أَين يأتي الأملْ ؟قلت : يأتي من الجوّ..قال : أَلم تَنْسَ أَني دَفَنْتكَ في حفرة مثل هذي ؟فقلت له : كِدْتُ أَنسى لأنَّ غداً خُـلَّبـاً..شدَّني من يدي ... ومضى متعباً..قال لي : هل تُفَاوضني الآن ؟قلت : على أَيّ شيء تفاوضني الآن في هذه الحفرةِ القبر ِ ؟قال : على حصَّتي وعلى حصّتك.. من سُدَانا ومن قبرنا المشتركْ..قلت : ما الفائدة ْ ؟هرب الوقتُ منّا..وشذَّ المصيرُ عن القاعدة..ههنا قاتلٌ وقتيل ينامان في حفرة واحدة..وعلى شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو..إلى آخره..! كان محمود درويش وسيبقى الناطق الرسمي وبلا منازع باسم الشعب الفلسطيني... ناطق رسمي عبر عن صوت الشعب من خلال آلة الشعر التي عز نظيرها ، فحمل على أجنحة كلماته أعظم المعاني والعواطف حتى جاءت قصائده انعكاسا لسيرته الشخصية المعذبة على مرآة مجمل القضية الفلسطينية ، فأصبحت الوقود المحرك لمقاومة الشعب ضد من اغتصب الأرض وشرد الأهل واعتدى على الهوية
لقد كان حلمه الذي أرقه في الفترة الأخيرة من حياته تجاوز الأزمة الحالية في فلسطين، وإعادة اللحمة إلى صفوفه... لكنه مضى إلى الله قبل أن يتحقق أمله... إلا أن أملنا كبير في أن يصون شعب المقاومة موروث محمود درويش، حتى تتحقق الآمال في الحرية والاستقلال والعودة. لقد كان الشاعر محمود درويش أفضل من رسم صورة فلسطين الجميلة عن طريق الكلمات الشعرية , العالم العربي يقف صامت أمام هذا المصاب الاليم , هذا الشاعر الكبير عشق قضيته وعشقه الناس , شاعر أبى قلمة مفارقة أوراقه حتى اللحظة الأخيرة لعشقه للكلمات النادرة لشاعر نادر الوجود.
شاعر لم ولن يمت ما دامت أشعاره يرددها كل عربي كبير كان أم صغير, أشعاره أصبحت وستبقى تراث ثقافي وطني باق الى الابد. وهذا مقطع من نثرية محمود درويش في يوم رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير توفيق زياد أوائل تموزعام 1994 "آخر أصوات العاصفة":
في انطفاء توفيق زياد المفاجئ ينطفئ آخر أصوات العاصفة..الغبار يعانق الغبار والشيء يشبه الشيء ولا مطر على المشهد..بيد أن هذا المسافر، أمس، كانت طلائع عالمه القديم قد سافرت من قبل، وبقي هو حيث شاءت لغته... قابضا على شبكة الأعصاب التي تربط الفكرة بحاملها..كم كان يتمزق أكثر، كلما رأيته أكثر..!ثم ينهيها قائلا:هو العلامة الشاهقة على شمولية الواجب، وعلى وحدة المستويات المنسجمة في ذات الفرد..وهو أحد أسماء الجليل العالي، العالي إلى ما لا نهاية..وفيه، أكثر مما في سواه، التموج الهادئ والعاصف بين صلابة الفرفحينة وبين سيولة الرخام..فإلى من أشير بعد الآن؟ومع من أضحك حتى آخر الشارع؟
مع من أكسر نظام الزجاج؟مع من أستعيد الحكاية؟ولمن أتهيأ للزيارة هنا، أو هناك؟آن لي ان أعرف، وأن لي أن أعترف بأن أشياء كثيرة تموت فيّ، تموت فيّ على مهل على مهل، في أوج هذا الفراغ..ولم يعد للعاصفة صوت..! إن الكنز الأدبي والثوري الذي تركه درويش، سيبقى منارة لكل الثائرين من أجل الحرية، في حركة التحرر الفلسطينية وحركات التحرر العالمية، وستظل شاهدا ماسيا، على إنسان، ما وطأ أرضا قفراء إلا وأخصبها بأدبه الإنساني. كتب شاعرنا عن المطر والشجر، وكتب عن الحب والغضب والصبر، كما كتب وغنى لمن أعطاه عمره ونبض قلبه الذي استكان أخيراً ليقدم ذلك الهدوء وتلك الطمأنينة التي نشرها شعراً ونثراً في ربوع وطنه وفي شغاف القلوب التي تبكيه الآن وتشتاق لتعويذاته، وعلى هضاب فلسطين وبين سهولها ووديانها تجيبك أصداء نغم حزين يردد تلك القصائد والأشعار التي غناها راحلنا الحبيب. لم تكن أعوامه السبعة والستين كافية لتعطينا كل ما يملكه الرجل ولا كان لمثلها تضاف إليه قادرة على استبطان ذلك العمق في المعنى وربما في المبنى لعطاء مدهش ومثير للقلق كما الثورة والغضب والحب وكل ما يمكن أن تصدره النفس البشرية. غادرنا درويش وهو ما يزال متشبثا بحق العودة, فنقرأ له من قصيدته"لماذا تركت الحصان وحيدا"..؟: إلى أين تأخذني يا أبي؟ إلى جهة الريح يا ولدي..وهما يخرجان من السهل ، حيث أقام جنود بونابرت تلاً لرصد الظلال على سور عكا القديم ـيقول أبٌ لابنه: لا تخف.. لا تخفْ من أزيز الرصاص..! التصقْ بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على جبل في الشمال,ونرجع حينَ يعود الجنود إلى أهلهم في البعيدِ.. ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي ؟ سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي..! تحسس مفتاحه مثلما يتحسس..أعضاءه ، واطمئن. وقال لهُ وهما يعبران سياجاً من الشوك: يا ابني تذكّرْ! هنا صلب الإنجليزُ أباك على شوك صبارة ليلتين،ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهم..سيرة الدم فوق الحديدِ..! لماذا تركت الحصان وحيداً؟ لكي يؤنس البيت ، يا ولدي ،فالبيوت تموت إذا غاب سكانها..! جاء رحيل محمود درويش في مرحلة تاريخية هي بمثابة المنعطف المصيري والخطير في تاريخ القضية الفلسطينية، مرحلة انتقال من (وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر) إلى مرحلة أصبح فيها الوطن حقيبة والمواطنون مسافرين، كان رفضه بأن يكون الوطن حقيبة هو رفض للغربة والشتات، رفض واحتجاج على ما يلاقيه الفلسطينيون من معاناة وإذلال على الحدود والمطارات العربية، وتوق للعودة للوطن ووضع حد لحالة السفر من المنفى إلى المنفى. يقول درويش: "عن إنسان..وضعوا على فمه السلاسل..ربطوا يديه بصخرة الموتى، وقالوا: أنت قاتل..أخذوا طعامه، والملابس، والبيارق..ورموه في زنزانة الموتى، وقالوا : أنت سارق..طردوه من كل المرافئ..أخذوا حبيبته الصغيرة،ثم قالوا: أنت لاجئ..يا دامي العينين، والكفين إن الليل زائل..لا غرفة التوقيف باقيةٌ ولا زرد السلاسل..! نيرون مات، ولم تمت روما بعينيها تقاتل..وحبوب سنبلةٍ تموت..ستملأ الوادي سنابل"..! محمود درويش في سطور: ولد عام 1941 في قرية البروة في الجليل، ونزح مع عائلته إلى لبنان في نكبة 1948. وعاد إلى فلسطين متخفيا ليجد قريته قد دمرت، فاستقر في قرية الجديدة شمالي غربي قريته البروة. وأتم تعليمه الابتدائي في قرية دير الأسد بالجليل، وتلقى تعليمه الثانوي في قرية كفر ياسيف. انضم درويش إلى "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" في فلسطين الداخل، وعمل محررا ومترجما في صحيفة الاتحاد ومجلة الجديد التابعتين للحزب، وأصبح فيما بعد مشرفا على تحرير المجلة كما اشترك في تحرير جريدة الفجر. اعتقل أكثر من مرة من قبل السلطات الإسرائيلية منذ عام 1961 بسبب نشاطاته وأقواله السياسية، وفي عام 1972 توجه إلى موسكو ومنها إلى القاهرة وانتقل بعدها إلى لبنان حيث ترأس مركز الأبحاث الفلسطينية وشغل منصب رئيس تحرير مجلة شؤون فلسطينية، ورئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وأسس مجلة الكرمل الثقافية في بيروت عام 1981 ومازال رئيسا لتحريرها حتى الآن. انتخب درويش كعضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، ثم مستشارا للرئيس الراحل ياسر عرفات، وفي عام 1993 استقال من اللجنة التنفيذية احتجاجا على توقيع اتفاق أوسلو.عاد عام 1994 إلى فلسطين ليقيم في رام الله، بعد أن تنقل في عدة أماكن كبيروت والقاهرة وتونس وباريس. بدأ كتابة الشعر في المرحلة الابتدائية وعرف كأحد أدباء المقاومة، ولدرويش ما يزيد على ثلاثين ديوانا من الشعر والنثر بالإضافة إلى ثمانية كتب. وترجم شعره إلى عدة لغات، وقد أثارت قصيدته"عابرون في كلام عابر" جدلا داخل" الكنيست الاسرائيلي". نشر درويش آخر قصائده بعنوان "أنت منذ الآن غيرك" يوم 17 حزيران 2007، وقد انتقد فيها التقاتل الفلسطيني. ومن دواوينه عصافير بلا أجنحة، أوراق الزيتون، أصدقائي لا تموتوا، عاشق من فلسطين، العصافير تموت في الجليل، مديح الظل العالي، حالة حصار، وغيرها. كما حصل على عدة جوائز منها جائزة لوتس عام 1969، جائزة البحر المتوسط عام 1980، دروع الثورة الفلسطينية عام 1981، لوحة أوروبا للشعر عام 1981، جائزة ابن سينا في الاتحاد السوفياتي عام 1982، جائزة لينين في الاتحاد السوفياتي عام 1983، جائزة الأمير كلاوس (هولندا) عام 2004، جائزة العويس الثقافية مناصفة مع الشاعر السوري أدونيس عام 2004وقد أصدرت السلطة الفلسطينية في الفترة الأخيرة طابعا يحمل صورته. افتقدناك أيها المحمود درويش ... افتقدناك ونحن ننبش في قصائدك عن وطن كبير يتسع للوجودية التي بحثت عنها دوماً ولا زلت تبحث حتى توقف قلبك دون عناء في هيوستن ، وأنت تسجل لنا ثورة ووطن وقضية..افتقدناك, وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر..!
#صلاح_عودة_الله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟