|
بنية النص الممكن
محمد عبد الرضا شياع
الحوار المتمدن-العدد: 2369 - 2008 / 8 / 10 - 08:39
المحور:
الادب والفن
تُعدّ قراءة علاقة الأدب بالحياة خطاباً محمّلاً بأبعاد معرفيّة ذات طبيعة إشكاليّة، كون هاته القراءة تعيش لحظة برزخيّة بين ضفّتي الخطاب الممهورتين بمعنى الدّاخل والخارج: داخل الذّات وخارجها، وداخل اللغة وخارجها، لأنّ اللحظة الّتي تُقرأ فيها علائق الأدب بالحياة هي لحظة استدعاء لخطابات حاضرة وغائبة في آن، حيث يتجلّى فعل الحضور باستدعاء الغائب المتمثّل بالخطاب التّراثي، وبهذا (( فليس هناك انغلاق على إطار معرفي بعينه، إنّما المهمّ أن يكون الخطاب الغائب محمّلاً بقيم وتوجّهات صالحة للحلول في الخطاب الحاضر، وإضافة بعد معرفي جديد إليه، لأنّه ليس من المتصوّر أن يكون استدعاء هذه الخطابات الغائبة لإنتاج ما تمّ إنتاجه، بل إنّ التّأسيس الدّلالي هو أوّل العوائد الّتي يفيد منها الخطاب الحاضر))(1) وذلك لا ينجز إلاّ بالتّفاعل الخلاّق بين الأنا والسّوى، وبين النّثري والشّعري، وبين التّاريخي والفلسفي، ومن ثَمّ بين الواقع والإبداع، وبالتّالي بين الأدب والحياة، فكيف يمكن أن يتحقّق ذلك ؟ لعلّ الإجابة عن هذا السّؤال تتمثّل في معاينة الأدب الّذي يغدو ذاتاً منصهرة في موضوعها، فتتمرأى الحياة في علائق صيرورته الّتي تقوّض الحدود السّكونيّة للأشياء الّتي يكون الإنسان فيها حاضراً حضوراً ثقافيّاً، لا حضوراً مادّيّاً فحسب، إذ إنّ (( الثّقافة، في اشتقاقها العربي فعل وفاعليّة، لا مجرّد أخذ أو تلقٍّ. وهي تعني الحذق والمهارة والإتقان.))(2) وهذا يعني أنّ الثّقافة، بوصفها فاعليّة وإتقاناًً، ترتبط (( بالذّات وبالحرّيّة، ارتباط الطّفولة بالرّحم. وهي، بوصفها كذلك، القاعدة الأساس، والمحرّك الأساس، في حيويّة المجتمع، ونموّه، وتقدّمه.))(3) إنّ علاقة الأدب بالحياة تشكّل نسقاً تحرّكه العلاقات التّفاعليّة للإنسان وما يحيط به لأنّ غياب هذه التّفاعلات هو غياب لحرارة الوجود الّذي تحكمه العلائق السّياقيّة المختلفة بين الإنسان والزّمان، وبين الإنسان والمكان، وبين الإنسان والإنسان. لأنّ غياب هذه المعطيات (( يتميّز بغياب الدّلالة وسقوطها من مجال الوعي، بما هي دلالة تاريخ لإنسان وطبيعة وزمن، يسبّب غياب الوعي الإنساني المؤهّل لالتقاطها وتركيبها في اللغة.))(4) تلك اللغة الّتي تعدّ اتّقاداً للحظة المواجهة بين الوجود والعدم اللذين يحكمان العالم بدورته الأزليّة. (( والفعل الوحيد الّذي يختصر وجود هذا العالم هو فعل تأكيد ماهيّة ما، قائمة في السّياقات اللغويّة: ماهيّة الأشياء والنّاس والعلاقات.))(5) والّتي يمكن إجمالها بالعلاقة الجدليّة بين الأدب والحياة اللذين يضيء أحدهما الآخر، حينما يرسم الإبداع الحدود الفاصلة بينهما ويعمل على زحزحتها في الوقت ذاته، على الرّغم من أنّ الإبداع لا يتحقّق خارج البنية اللغويّة الّتي تشكّل نظاماً منغلقاً على ذاته ومنفتحاً على الآخر حين تلامسه أصابع الإبداع، وبذلك يكون الأدب عنواناً لهذه الجدليّة الّتي لا يتحقّق خارج وجودها، حينئذ تكون سمة الأدب وهاجسه أن يحوّل السّائد والمألوف واليومي إلى ومض نصّي يجسدن جوهر الأشياء الّتي يغدو فيها المجرّد حسّيّاً، ويعود التّجريد إلى فطرته الأولى. تُعدّ علاقة الأدب بالحياة علاقة تجسيد للمبدع بذاته، لأنّ المبدع حينما يكتب عمّا يحيط به فإنّه ينطلق من ذاك الهجس الحسّي المرتكز في دواخله، وكأنّه يغترف من نبع ميتافيزيقي لائذ في تضاريس الدّاخل الّذي يكون مستودعاً لتجارب الذّات الإنسانيّة. وهذا يعني أنّ الكتابة الإبداعيّة الّتي تحمل إمضاء صاحبها هي هويّة للنّصّ وللكاتب معاً تنجز عبر البناء اللغوي الّذي يمنح تلك الهويّة خصيصتها. وبذلك نجد أنفسنا أمام ثلاثة مستويات للهويّة:(( الأوّل: هويّة اللغة الّتي يهتمّ بها علماء اللغة. والثّاني: هويّة النّصّ الإبداعي الموروث الّتي حقّقتها مرحلة تاريخيّة. والثّالث: هويّة النّصّ الممكن.))(6) وبين الكائن والممكن تحدّد خرائط رسم الحدود بين الذّات وموضوعها واللغة الّتي ينجز فيها هذا الموضوع. لا ريب أنّ للكلمات تاريخها، وبعضها قادر على حمل التّاريخ إلى مديات منذورة للتّشوّف، وبعضها الآخر ينحسر بين أسوار ذاك التّاريخ، فتحمل الأخيرة بصمات الموت ما لم تدخل فضاء الإبداع الّذي ينتشلها من هوّة التّلاشي، فتقبض هذه الكلمات - في ظلّ الإبداع - على هويّتها الّتي نقرأ من خلالها اللغة الّتي تحتفظ بهويّتها وتحافظ عليها في زمن واحد. ولعلّ أقرب صور الإبداع في لغتنا العربيّة هي الكتابة الشّعريّة الّتي كانت هي الأخرى هويّة للذّات العربيّة، بيد أنّ هذا لا يعني أنّ اللغة الشّعريّة هي لغة تاريخ، وإنّما هي لغة ذات مدوفة في ثنايا الرّوح، لأنّه (( ليست مهمّة اللغة، شعريّاً، أن توضّح الشّيء، وإنّما هي أن تنشئ معه علاقة جديدة. لذلك ليس الشّعر طريقة في وصف العالم، وإنّما هو طريقة في تغييره.))(7) وهذا يعني أنّ اللغة تبصر الكون بعيون الشّعر لا بعيون الكلمات، وبذلك تكون قادرة على مواجهة الموت من أجل الحياة. تتجلّى قدرة اللغة على البقاء في كثافة حمولاتها الدّلاليّة الّتي تسمها بالانفتاح على الماحول، أي (( أنّ ما ينطق هنا بصورة بارزة ليس الهيكل البنيوي للغة، بل مستوى الثّقافة والتّجربة الإنسانيّة. وهذا المستوى ذو حرّيّة مطلقة في الزّمان بمعنى أنّه يظلّ ممكناً، مقارنة بمستوى التّراكيب اللغويّة.))(8) ولا يتمّ هذا ما لم يحمل النّصّ المنتج إمضاء الذّات الّتي انصهرت في بوتقة وجوده، فتكون اللغة – حينئذ - قد جدّدت دماءها وهي تغدو شراييناً للشّعر ونشوة له، فيبلغ بها الشّعر ذروة كيانها، فتنسج هويّتها من خيوط النّور المنبثق من أعماق الرّؤيا الذّاتيّة للكاتب الممهورة بالغياب وبالحضور اللذين ينتجان كيمياء اللغة الملتذّة بجنونها المعقلن، وكأنّ علاقة اللغة بالكتابة علاقة مصاهرة منسكبة في أتون التّجربة الإنسانيّة، فيكون (( الفكر هنا شعراً خالصاً، والشّعر فكراً خالصاً.))(9) وبذلك تكتب اللغة هويّتها بأنامل الآخر. تكتسب اللغة هويّتها بالتّعدّد وبالاختلاف في تناول الموضوعات الّتي تعالج جوهر الإنسان وقضاياه المتحقّقة بوجوده. وهذا يعني أنّنا (( حين نتحدّث عن الفكر، فيجب أن نفهم من ذلك أنّنا نتكلّم عن أمر متعدّد من حيث طبيعته. ولا يختلف الحال كذلك بالنّسبة إلى اللغة، حتّى ولو كان حديثاً قائماً في إطار لغة واحدة. ذلك لأنّ أكثر الأشياء تفرّعاً في أصولها إنّما هي اللغات، وأكثر الأشياء تعدّداً في مفردها إنّما هي الأفكار.))(10) هكذا توصّل الباحثون إلى استراتيجيّة التّلازم بين الفكر واللغة المنجزين في تباريح التّجربة الإنسانيّة، (( ولولا ذلك لما تلازم فكر ولغة، ولما تناسبا، ولما تمّ توليد شيء فيهما من شيء منهما، ولتفارقا فلم نعرف لهما في الإنسانيّة وجوداً، ولحلّت البهيميّة محلّهما، ولغادر الإنسان إنسانيّته، فلا يمتدّ بهما زماناً لا ينقضي دوامه، ومكاناً لا ينتهي اتّساعه، ولغاب في الزّمان ماضياً فلا يعود، ولاندثر في المكان رمساً، لا ينسل منه أبداً.))(11) هكذا تتّضح أهمّيّة اللغة لاحتواء الفكر الّذي ينمو في أحشائها فتكون مادّة بقائه، لذلك يمكن القول: (( إنّ اللغة بالنّسبة إلى الفكر، هي اللحظة الانطولوجيّة الّتي ينكشف بها على وجوده الفعلي المحسوس ويباشره. كما أنّه لو خلت اللغة من الفكر لاستحالت إلى أصوات لا تقول شيئاً ولا تعني شيئاً.))(12) إذن كلاهما يضيء الآخر ويبرهن على أنّه سرّ وجوده. إذا كان الفكر يسمو باللغة، واللغة تسمو بالفكر، فإنّ الأدب نتاج تلاقحهما، وعلّة قبولهما، حيث إنّ (( لِلْعُقُولِ سَجِيَّاتٍ وَغَرَائِزَ بِهَا تَقْبَلُ الأَدَبَ، وَبِالأَدَبِ تَنْمِي الْعُقُولُ وَتَزْكُو. فَكَمَا أَنَّ الْحَبَّةَ الْمَدْفُونَةَ فِي الأَرْضِ لاَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَخْلَعَ يُبْسَهَا وَتُظْهِرَ قُوَّتَهَا، وَتَطْلَعَ فَوْقَ الأَرْضِ بِزَهْرَتِهَا وَرَيْعِهَا وَنَظْرَتِهَا وَنَمَائِهَا، إِلاَّ بِمَعُونَةِ الْمَاءِ الَّذِي يَغُورُ إِلَيْهَا فِي مُسْتَوْدَعِهَا، فَيُذْهِبُ عَنْهَا أَذَى الْيُبْسِ وَالْمَوْتِ، وَيُحْدِثُ لَهَا بِإِذْنِ اللهِ الْقُوَّةَ وَالْحَيَاةَ...))(13) هكذا أرى علاقة الأدب باللغة وبالفكر، فهو الماء والضّوء الّذي يوجِد أسباب بقائهما، وديمومة ألقهما، ذلك أنّ (( سَلِيقَةَ الْعَقْلِ مَكْنُونَةٌ فِي مَغْرِزِهَا مِنَ الْقَلْبِ، لاَ قُوَّةَ لَهَا، وَلاَ حَيَاةَ بهَا، وَلاَ مَنْفَعَةَ عِنْدَهَا، حَتَّى يَعْتَمِلَهَا الأَدَبُ الَّذِي هُوَ نَمَاؤُهَا وَحَيَاتُهَا وَلَقَاحُهَا.))(14) من هذه الجدليّة الّتي يعتملها المطلق والنّسبي تنولد النّصوص الإبداعيّة الّتي تطوّح بأحاديّة اللسان؛ لتخلق هويّتها المغايرة وإن كانت محمّلة برذاذ النّصوص الموروثة الّتي تجعلها ذات أبعاد دلاليّة متعدّدة، فتنولد لغة جديدة مع ولادة كلّ نصّ جديد يعبق بعطر الذّات الّتي تكتب تاريخها الشّخصي الّذي لا ينفصل عن التّاريخ الشّخصي للغة الإبداع ذاتها، إذ (( نستنتج من هذا أنّ الممكن التّاريخي يضع مشكلة الهويّة في أفق مختلف. هو أفق النّسبي وليس المطلق. ولئن شهد الموروث الشّعري تثبيتاً لهويّة النّصّ في بنيته السّطحيّة وفي بنيته العميقة، فإنّ هذا التّثبيت ليس بفعل قوّة غيبيّة للغة ما، أو طبيعة ما، أو تفكير ما، بقدر ما هو بفعل قوّة استقرار البُنى المرتبطة علائقيّاً ببُنى اجتماعيّة – ثقافيّة.))(15) توصلنا هذه القراءة إلى أنّ حركيّة الدّوال النّصّيّة هي زحزحة للسّواكن الاجتماعيّة والثّقافيّة، هذا ما يتكفّل به الأدب بامتياز. (( فإذا كان النّصّ الإبداعي اختراقاً لانغلاقيّة وتواتريّة اللغة، واختراقاً لانغلاقيّة وتواتريّة موروثه الخاصّ كما تفرض النّظرة العابرة، فهو في العمق اختراق لانغلاقيّة وتواتريّة هذه البُنى الاجتماعيّة – الثّقافيّة.))(16) وهذا هو صوت الأدب الّذي يأتي موشوماً بحِنّاء الوجود على كفّ كاتبه. من هنا يجد الباحث نفسه مقيمة بين سؤالين؛ سؤال الصّمت وسؤال تفجّر اللغة، يتحقّق الأوّل بوجود النّصّ الموروث وإعادة اجتراره، ويتجلّى الثّاني في تمثّل النّصّ الموروث وتجاوزه، وهذا يعني (( أنّ الإقامة في اللغة مهما كان المبرّر سواء كان اعتبارها مصدر الكينونة، أو اعتبارها مجال تفجير للكينونة، تعني الاطمئنان والانفصال؛ الاطمئنان إلى ما أسّسته القصيدة الموروثة، والانفصال عن التّجربة بوصفها المُعاش في هذا العالم. وستقدّم هذه الإقامة للشّاعر أنماطاً من الحساسيّة باعتبارها أنماطاً خالدة، أو باعتبارها أخصّ خصائص ما هو عربي أو باعتبارها الأكثر جدارة بالوجود.))(17) إنّ الاطمئنان إلى النّصّ الشّعري الموروث هو اطمئنان لحقيقة تمّ التّيقّن من صحّة هويّتها، حتّى باتت نموذجاً للمعرفة النّهائيّة، وأنّ التّفكير في المستقبل موجود أصلاً في هذه الثّقافة، وهذه إشكاليّة لم تكن حديثة عهد بل هذا ما واجه بقوّة حركة المحدثين الّتي ظهرت في العصر العبّاسي، إذ (( تتجسّد هذه الثّقافة في ممارسة معرفيّة، متواصلة، ترى أنّ الحقيقة كامنة في النّصّ، وليس في التّجربة والواقع؛ فهي معطاة نهائيّاً، ولا حقيقة غيرها. ودور الفكر هو أن يشرح ويعلّم، انطلاقاً من الإيمان بهذه الحقيقة، لا أن يبحث، ويتساءل من أجل الوصول إلى حقائق جديدة، مغايرة.))(18) هذه المغايرة هي الّتي يسعى إليها من يرى وجود الذّات المبدعة متحقّقاً في التّجربة الشّخصيّة، لا باتّباع خطى الآخرين، وهذه تجربة عاشها الشّعراء الصّعاليك حينما وجدوا أوّل بوادر المغايرة متجسّدة في مخاطبة الذّات وتوقها إلى بناء واقع آخر هو الواقع المتخيّل الّذي ترنو إليه الأحاسيس والمشاعر الدّاخليّة للإنسان، وبذلك تندفع الذّات إلى تشكيل نسق آخر متخيّل إن لم يكن للوجود فسيكون – حتماً – للموجودات.(19) ولعلّ مشكلة الشّاعر المعاصر تحقّقت في عنوانين رئيسين كلاهما محكوم بالنّصّ الكائن، فأوّل هذين العنوانين هو النّصّ الموروث والثّاني هو النّصّ الغربي الّذي بات يفرض نفسه بطرائق مختلفة وقد تكون أكثر تجذّراً من النّصّ الموروث، هكذا باتت (( تتمثّل المشكلة بجانبها الحادّ، في كون الشّاعر العربي الحديث حقّاً يعيش في حصار مزدوج، تضربه عليه ثقافة التّبعيّة للآخر، من جهة، وثقافة الارتباط الجنيني بالماضي التّقليدي، من جهة ثانية.))(20) فكيف يتمكّن الشّاعر المعاصر من كتابة نصّه: النّصّ الممكن وهو يعيش حالة تناوس بين السّاكن والمتحرّك ؟ إنّ الإجابة عن هذا السّؤال تقود الباحث إلى التّفتيش عن ماهيّة الشّعر، فينطلق سؤال حادّ: ما الشّعر ؟ ولعلّ الإجابة عن هذا السّؤال لا تتحقّق في البحث عن العلاقة بين الكلمات البانية للنّصّ الممكن، ولا في معاينة جوهر الأشياء؛ لأنّ الكلمات تظلّ متّقدة في منطقة الفراغ، وأنّ الأشياء تنفتح على أشياء أخرى تكون الحقيقة في ضوئها بحثاً دائماً عن إجابة لا يمكن القبض عليها بسهولة، ولعلّ هذه الصّعوبات منجزة في أنّ الشّعر معطى ذاتي منبثق من أعماق الذّات الكاتبة الّتي تُنجز الكلمات والأشياء البانية للنّصّ الممكن في أعماقها، حيث إنّ (( الانتقال في الإنتاج الشّعري ملموس في جسد الذّات الكاتبة، لأنّ الشّعر إنتاج بالحواسّ كلّها، ولجميع الأعضاء مكانها في الكتابة. هكذا ينتقل جسد الشّاعر من وضعيّة الموات والالتئام إلى حالة الحياة والحساسيّة، من الخضوع لضوابط مؤسّسات الإخضاع إلى دبيب المتعة الفسيولوجيّة، ولا يبقى جسد القارئ بعيداً عن اختباره بدوره لحالة الانتقال.))(21) وهذا يعني أنّ بنية النّصّ الممكن لا تعني الارتباط بزمان ومكان محدّدين، (( وإنّما هي خصيصة تكمن في بنيته ذاتها.))(22) تأتي محمّلة بأنّات الذّات الكاتبة الّتي تعانق حرارة سؤال الشّعر، ولذّة ابتنائه، وهي تكتب مسرى طفولة الأشياء الّتي تلوّن الكون بتلوينات الحياة الّتي لا تعرف الذّبول، كونها تكتحل بوميض الإبداع السّاري في جوف التّشوّف الشّعري المرتهن لذاته، ولا لشيء سوى هذه الذّات المضاءة بكواكب الوجود الّذي لا تنفصل عنه بالقدر الّذي تتمثّله ولا تستعيده؛ لأنّها تريد أن تحمل إمضاءها فحسب، وما عداها ترنيمات لأشواق بعيدة تحضر لتزيد التّلوينات ألقاً، لا لتعمل على إقصائها، هذه هي العتبة الأولى لانبثاق بنية النّصّ الممكن، بعيداً عن سلطة النّصّ الكائن وإن كان متفاعلاً معه، لأنّ التّفاعل يعدّ لحظة ابتناء لا لحظة انتهاء. إنّ ما يجعل النّصّ الممكن منمازاً عمّا سواه هي الخصيصة الإبداعيّة الّتي تُعدّ حمولة فنّيّة ترسم الحدود القصوى بين الأنا والسّوى، لأنّ السّمة الإبداعيّة هي سمة ذاتيّة آتية من أعماق التّجربة الشّخصيّة (( فأنا أشعر بيقين أنّه مادمت أفكّر في شيء ما، فإنّ ذلك الشّيء يصبح، بطريقة لا يمكن تحديدها، شيئاً يخصّني أنا، وأيّاًً كان الشّيء الّذي أفكّر فيه، فهو جزء من عالمي الذّهني. ومع ذلك، فأنا أفكّر هنا بفكرة تنتمي إلى عالم ذهني آخر بجلاء، فكرة يُفَكَّرُ فيها فِيَّ وكأنّني لم أكن موجوداً.))(23) إذن هناك ثمّة علاقة بين اللغة والفكر (( تجعل كلّ واحد منهما ملازماً للآخر. وتمثّل هذه العلاقة، على مستوى الفعل الإنساني، نشاطاً إدراكيّاً يجمع بين الهويّة بوصفها مبدأ لحدوث الأشياء واستقلالها، والغيريّة بوصفها هدفاً لأداء هذه الأشياء في وجودها. واللغة والفكر يرتبطان بهذا الفعل.))(24) هكذا تكون الذّات وموضوعها علاماتٍ متداخلةً مبثوثة على محجّات التّصوّر الإنساني الّذي تكون فيه التّجربة الشّخصيّة زاد الرّحلة ومداها في زمن لا يكفّ عن التّوهّج المنذور بالتّجدّد الأبدي، فيغدو – وقتئذ - الكلّ واحداً، وإن اختلفت العناصر البانية لهذا الكلّ، ما دامت تلك العناصر موشومة بإمضاء الوجع الشّعري لكاتبها. إنّ التّصوّرات الذّهنيّة مرتهنة بالذّات، ولكنّها - في الآن عينه - منوطة بالآخر، فالذّات والآخر يشتركان في معاينة الأشياء ذاتها، ولكنّهما يختلفان في إدراك كنه هذه الأشياء، فيصبح للذّات وللآخر خصائص يمتاز بها أحدهما عن الآخر. هذه هي خصوصيّة النّصّ الممكن وعلاقته بالذّات الكاتبة الّتي تنماز عن سواها بوجوده. أي أنّ النّصّ الممكن هو نصّ أنتجته ذات كاتبة ضمن بنية نصّيّة مُنْتَجَةٍ في إطار علائق سوسيو ثقافيّة(25) تُحدّد هويّة الذّات والنّصّ والموضوع في ضوئها، وبذلك تكون الكتابة إنجازاً لفعل الحياة. هكذا تتجاوز عمليّة ابتناء النّصّ الممكن المحدّدات الفوقيّة والاشتراطات السّابقة، فتقوم على لذّة البوح بأصوات الدّاخل لتحرير المكبوت والمسكوت عنه؛ لينتج النّصّ الممكن دلالات جديدة لم يُسبق إليها من قبلُ، فيحمل – آنئذ – علامات البقاء في أحشائه النّابضة بكلّ ما هو غير متوقّع، وإن كان منغرساً في طينة الواقع، ومبتلّاً بغبار الذّات الّتي أنتجته. وهذا دليل على حداثة النّصّ الشّعري، حيث الحداثة إنتاج لفعل قراءة لا تخضع لاعتبارات الزّمن الّذي تنبثق من بين مساماته الشّفيفة، وعليه (( فأن يكون الشّاعر العربيّ حديثاً هو أن تتلألأ كتابته كأنّها لهبٌ طالعٌ من نار القديم، وكأنّها في الوقت نفسه نارٌ أخرى.))(26) هذا هو الشّرط الإبداعي الّذي يكون فيه النّصّ الممكن فعلاً محمّلاً بشرائط الحياة وتطلّعاتها الّتي لا تكفّ عن الإبحار في ليل وجودها التّائق إلى معانقة النّور الّذي يفتّش عن ديمومته في صمت بكارة الأشياء.
الهوامش: * قُدمت هذه الورقة في ملتقى الجيلاني طريبشان الثّقافي في دورته الثّالثة، والّذي أقيم تحت شعار: الأدب للحياة... لماذا ؟ في مدينة الرّجبان الليبيّة للفترة 16_17 / 07 / 2008 م. 1_ محمّد عبد المطّلب_ أدوات الخطاب الشّعري المعاصر، مؤسّسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشّعري، الدّورة الرّابعة، 10_12/10/1994م، دورة الشّابي، فاس_المملكة المغربيّة، ص: 38. 2_ أدونيس_ النّظام والكلام، دار الآداب، بيروت، الطّبعة الأولى، 1993م، ص: 149. 3_ المرجع نفسه، الصّفحة ذاتها. 4_ محمّد الأسعد_ بحثاً عن الحداثة: نقد الوعي النّقدي في تجربة الشّعر العربي المعاصر، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، الطّبعة الأولى، 1986م، ص: 107. 5_ المرجع نفسه، الصّفحة ذاتها. 6_ المرجع نفسه، ص: 124. 7_ أدونيس_ النّظام والكلام، مرجع سابق، ص: 198. 8_ محمّد الأسعد_ بحثاً عن الحداثة: نقد الوعي النّقدي في تجربة الشّعر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص:125. 9_ أدونيس_ الشّعريّة العربيّة، دار الآداب، بيروت، الطّبعة الثّانية، 1989م، ص: 66. 10_ منذر عيّاشي_ الكتابة الثّانية وفاتحة المتعة، المركز الثّقافي العربي، بيروت_ الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 1998م، ص: 76. 11_ المرجع نفسه، ص: 77. 12_ المرجع نفسه، الصّفحة ذاتها. 13_ عبدالله بن المقفّع_ الأدب الصّغير والأدب الكبير، دار المعارف للطّباعة والنّشر، سوسة_تونس، الطّبعة الثّانية، 1997م، ص ص: 5_6. 14_ المرجع نفسه، ص: 6. 15_ محمّد الأسعد_ بحثاً عن الحداثة: نقد الوعي النّقدي في تجربة الشّعر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص:126. 16_ المرجع نفسه، الصّفحة ذاتها. 17_ المرجع نفسه، ص: 127. 18_ أدونيس_ الشّعريّة العربيّة، مرجع سابق، ص: 83. 19_ للاستزادة اقرأ: محمّد عبدالرّضا شياع_ سيكولوجيّة المغايرة في شعر تأبّط شرّاً، فضاءات ( مجلّة للفكر والثّقافة والنّقد )، تصدر عن دار الأصالة والمعاصرة، الجماهيريّة العظمى، العدد 32، أبريل ( الطّير ) 2007م، ص_ص: 74_79. 20_ أدونيس_ الشّعريّة العربيّة، مرجع سابق، ص: 87. 21_ محمّد بنّيس_ الشّعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، (1) التّقليديّة، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 1989م، ص ص: 115_116. 22_ أدونيس_ الشّعريّة العربيّة، مرجع سابق، ص: 93. 23_ جورج بوليه_ النّقد والتّجربة الدّاخليّة، في: جين ب. تومبكنز_ نقد استجابة القارئ: من الشّكلانيّة إلى ما بعد البنيويّة، ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم، مراجعة وتقديم: محمّد جواد حسن الموسوي، المجلس الأعلى للثّقافة، القاهرة، الطّبعة الأولى، 1999م، ص: 105. 24_ منذر عيّاشي_ الكتابة الثّانية وفاتحة المتعة، مرجع سابق، ص: 77. 25_ انظر: سعيد يقطين_ انفتاح النّصّ الرّوائي: النّصّ _ السّياق، المركز الثّقافي العربي، بيروت_ الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 1989، ص ص: 33_ 34. 26_ أدونيس_ الشّعريّة العربيّة، مرجع سابق، ص: 112. باحث وأستاذ جامعي عراقي
#محمد_عبد_الرضا_شياع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وَهَجُ الْبَوْحِ فِيْ قَصَاْئِدِ عَاْئِشَة إِدْرِيِس الْمَغْ
...
-
وَهْمُ الْخَيَاْلِ فِيْ شِعْرِ مِفْتَاْحِ الْعَمَّاْرِي
-
المكان السّايكولوجي في قصة - هل تسمعون حكايتي ؟ للأديب الليب
...
-
الرّؤيا الشّعرية بين التّصورين الغربي والعربي*
-
التّرجمة وإشكالية التّواصل الثّقافي*
-
طنجة موتيفة الشّعراء
-
سيرة المعتمد بن عبّاد في مخطوطة الأحلام
-
سايكولوجية التّمرد في شعر تأبط شرا*ً
-
الومضة الشّعرية: انكشاف العتمة وتوهج الذّات*
-
لوث غارثيا كاستنيون: تؤكد عشقها للشعر العربي ولبغداد وللقاهر
...
-
الشّاعر أحمد المجاطي بين عذاب الكتابة وألق الإبداع
-
فيديريكو غارثيا لوركا وثقافة الموت
-
أوكتابيو باث: زمن المكاشفة وبوح الذّات*
-
الاغتراب في الإبداع الأدبي
-
*نازك الملائكة: قارورة الحزن الشفيف
-
السّفر في عذابات الرّوح
-
الرّؤيا الشّعريّة سفر على أجنحة الخيال
-
دلالة المكان الدّائري في رواية جسد ومدينة
-
خليل حاوي : سنديانة الشعر والموت
-
محمد علي شمس الدّين والتّحولات اللوركية في شعره
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|