|
مذكرة اوكامبو تفضح خوف إنسان السودان المتأصل من العدالة و الحرية!
محمد عثمان دريج
الحوار المتمدن-العدد: 2367 - 2008 / 8 / 8 - 03:05
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
مذكرة الاتهام التى وجهتها محكمة الجنايات الدولية ضد عمر البشير رئيس الطغمة "العسكرعقائدية" الحاكمة فى السودان تُمثّل "حدثاً" بحسب المفهوم الفلسفى العام ليس فقط لأن جرائم الإبادة و الحرب و الجرائم ضد الإنسانية التى أُقترفت و لا تزال فى إقليم دارفور و التى هيمنت على وسائل الإعلام الدولية خلال الخمس سنوات الماضية قرر العالم مؤخراً جداً أن يحمّل مسئوليتها بالتمام و الكمال و على نحو مباشر النظام الحاكم ممثّل فى قمته‘ وهو كذلك ليس لأن البشير هو أوّل رئيس تتقدم محكمة الجنايات الوليدة بمذكرة طلب إيقافه و هو فى السلطة‘ و ليس و ليس (لاحظ هذا التناسل السرطانى) و لكن لأنها أيضاً "كشفت" على نحو دقيق عن عطب خطير و فاحش ضمن البناء النفسى و الأخلاقى لقطاع كبير مكوِّن لإنسان هذا السودان تمثل فى خوفه شبه المطلق و المتأصِّل من قضيتى العدالة و الحريّة و هو الخوف الذى يربض متوجِّساً فى "دهاليز" اللاوعى و يعمل من هناك. و يقيننا أن هذه الوضعية (الخوف من العدالة و الحرية) هى التى أقعت بكل إحتمالات نهوض دولة العدالة و الحرية- و بالتالى مجتمع الأحرار- فى السودان و هى التى ستقود فسيفساء الجغرافيا المسماة سودان إلى وفاتها المحتومة عاجلاً أم آجلاً.
فما ان قدّم مدعى محكمة الجنايات الدولية‘ السيد لويس مورينو اوكامبو‘ مذكرة الدعوى بتلك الطريقة التى إتسمت بالإتساق و المسئولية الإخلاقية العالية و الشجاعة الفائقة المطلوبة فى مثل هذه اللحظات حتى إنتفض وحش الخوف الرابض فى دهاليزه – بعد عن تخلص و فى لمح البصر عن كل مساحيق مزاعم الحرية و العدل و المساواة و الكرم‘ إلخ‘- منتصباً عارياً و مهزوزاً متسربلاً بالهذيان المتمثل فى تلفيق و إجترار ذرائع خطابية مبهمة و غامضة على شاكلة "الوطن و مآلاته"‘ "السيادة الوطنية"‘ "مصير السلام"‘ "الكرامة"‘ إلخ‘ و الطريف أو ربما ليس طريفاً تماماً أن إشترك فى "مسرحة" هذا الإجترار الهذيانى شخصيات و تجمعات هلامية (أحزاب‘ كيانات‘...) كانت حتى وقت قريب (بالتوقيت السودانى!) تتشدق بضرورة "إجتثاث" النظام من جذوره و "لا عفى الله عما سلف"‘ و "سيادة حكم القانون"‘ و "إستعادة الحريات"‘ إلخ‘ و من ضمن اولائك وهؤلاء من إختار "المنفى" الإختيارى على "وطن" ينعق بأوديته البوم الإسلاموى! هذا بالإضافة لحالات الهلع العصابى المتمثلة فى تخريجات "كلام فارغ" على شاكلة "لن تمسوا شعرة من البشير"‘ "المحكمة الدولية إرهابية"‘ إلخ التى أخذت ترددها فى "هيستيريا" بيّنة علب النظام الفارغة!
فاالكثيرين ممن حاولوا أن يلفقوا "وطناً كليّاً" عندما صدمتهم عودة الواقع عارياً على نحو ما ذكرنا آنفاً (Return of the Real) يعلمون جيّداً عدم وجود حتى إحتمال "نبيل" لمثل هذا الوطن و الذى لا يُكاد تصوره بعيداً عن جمود حجارة و اطراف اودية و صحارى الجغرافيا المُقحمة كولونياليّا ممكناًُ‘ و أن خريطة الإنتماءات فى هذه الجغرافيا لم تتجاوز جذر التكوينات "الأولية" من أمثال الاسرة و العشيرة أو القبيلة‘ إلخ‘ و هى على كل حال محسوبة سلباً على أية إمكانية محتملة للإنتماء إلى "وطن كلى" مزعوم. إذن ليس هناك وطن كلى إلا بذريعتى الخوف المتأصل و تضخيم الذات العصابية فى محاولتها اليائسة لان تصبح هى هى الوطن.
أما الذين ما فتئوا يجترون مقولة "السيادة الوطنية" نقول لهم‘ كما ذكرنا فى مكان آخر‘ أن السيادة التى يتشدقون بها و منذ البدء فى تلفيق هذه الجغرافيا الكولونيالية المسماة سودان ليست سو ى هذا الحق شبه المطلق الذى تتمتع به السلطة الحاكمة فى ممارسة القتل و القمع وتكميم أفواه اعدائها "الحقيقيين" أو المتخيليين". و لعل إستخدام السيادة منذ حملات الدفتردار الإنتقامية و حتى حروب الإبادة فى جنوب السودان و دارفور فى التجييش و تعبئة موارد البلاد المنهوبة يقف خير شاهد لماهية هذه السيادة. وبالتالى فالدفاع عن مثل هذه السيادة و بهذه "السبهللية" هو بمثابة الدفاع عن كل ما هو ضد الحرية و حقوق الإنسان والشعوب!
و الادهى و الامر من كل ذلك المحاولات الرخيصة و المبتذلة التى بموجبها حاول البعض ان يُنصِّب من البشير (إختياريا هذه المرة وليس إنقلابياً) رمز الكرامة و العزة‘ إلخ مما تجود به "لا إقتصادية" (Dis-economy) قاموس الخطاب السياسى السودانى. نقول ان يُنصب عمر البشير الذى جاء الى السلطة عبر إجهاض "الشرعية" لإنسان يزعم بـ "حبه الفطرى" للحرية- كما يقول ذات القاموس‘ و هو الشخص الذى أُدخل فى فترة تسلطته وسائل لإرهاب و حط كرامة الإنسان بصورة لم تشهد البلاد بمثلها من قبل‘ إلخ‘ نقول أن يُنصّب مثل هذه الشخص بهذه المواصفات رمزاً للفضيلة و الكرامة فإن ذلك لا يشف عن عطب خطير فى التركيبة النفسية لإنسان هذا السودان و حسب و لكنه يكشف أيضاً عن الإفلاس الكبير فى "جوهر" مكونه الإخلاقى بحسب كل مقاييس الدنيا التى تعمل من اجل السمو الإنسانى!
إذن يحاول الخطاب الذرائعى المأزوم سيئ التغذية ليس فقط فى تأدية وظيفة "الكحة و لا صمة الخشم" كما تجرى الحكمة‘ و لكن و بصفة أساسية إخفاء هذا الخوف المستبطن ضمن البناء النفسى لهذا الكائن الموسّم بـ"السودانى" من "العدالة" و "الحرية"‘ من ناحية‘ و تماهيه شبه المطلق و المطمئن مع السلطة-الذكورية-الأبوية القامعة و غرامه الشبقى بها و ذلك لانها (السلطة الذكورية-الأبوية-القامعة) تمثل "المثل الأعلى للذات" حيث يستمد مُتوهم تماسكه من تماسكها و بالمقابل يرى فى إنهيارها إنهياره و تمزقه و بل تذريره‘ من الناحية الأخرى. و لعل هذه الوضعية تفسر فى رأينا و لو بصفة جزئية بقاء الأنظمة الشمولية القمعية فى السودان لفترات أطول بكثير من النظام (و هى فى الواقع فترتين فقط) "الديمقراطى" الذى غالباُ ما يأتى عابراً و كأنه فاصلة غير ضرورية فى "كراسة" سيرورة الحراك السياسى والمجتمعى فى السودان. فنلاحظ أنه مع الصعود "الفعلى" للانظمة القمعية إلى موضع سلطة الدولة التنفيذية (و التى غالباُ ما تأتى محمولة على فراش مؤسسة الجيش) ترتفع الاصوات و بشكل طقسى ممل فى التنديد بها و الدعوة إلى معارضتها و إجتثاثها من جذورها و من ثم يعكف القوم فى تكوين "الكيان المعارض" الوحيد أو الشرعى (التجمع على سبيل المثال)‘ و نلاحظ كذلك فى ظل معارضة النظام الحالى ذهبت المعارضة الى حد إستخدام علامات الموت فى حربها ضد النظام و ذلك بإعلان تكوين جيوش (حقيقية او متوهمة) متوعدة النظام بالمنازلة المسلحة وواعدة جماهيرها المزعومة بقرب إنبلاج شمس "الحرية" و "العدالة". وفى ظل هذا النظام بالذات فإنه فى الوقت الذى كان فيه التجمع يخطط لمنازلته المزعومة كان الاخير يعانى من وحدة و حصار خارجى محكم و من تمزق فى نسيجه الداخلى‘ أى انه كان فى خانة السقوط حقيقةً ينتظر من يزيحه من موقعه ذاك و يلقى به فى "مذبلة التاريخ"‘ و لكن هيهات. و لكن بيدو ان قضية سقوط النظام فعل لم و لن يمتلك معارضو النظام "رأس المال" النفسى اللازم للقيام به- من ضمن رؤوس أموال أخرى بالطبع. و لذا كانت المعارضة تكتفى بجلسات الزار السياسية تلك قبل ان ينفض سامرها و هى لا تلوى على شيئ سوى خيباتها المتسرطنة و لكن مع ذلك كان يحدوها امل غامض بإمكانية المشاركة فى السلطة و إستعادة شيئ من الق صورة مثال الذات بعد ان تمرغت فى تراب الطرد من كنفها (السلطة). و لذا ما أن مد النظام أياديه الملطخة كليّة بالدماء (كان نافع خادم بيوت الاشباه و التعذيب ضمن وفد الحكومة التى لفّقت إتفاقية القاهرة) ليس فقط دماء إبرياء الجنوب و دارفور ولكن حتى دماء شهدائها التى كانت تتسوّل بهم فى سوق النخاسة السياسية‘ نقول ما أن مدت الحكومة يدها المخضبة بالدماء حتى هرولت المعارضه نحوها بشبق بائن و ألقت بكامل جسدها عليها و كأنها طفلة أو قل هى هى عادت إلى أحضان أمها بعد غيبة قسرية- فطام!
و فى ذات السياق لا نتفق مع الإيحاءات الدلالية للتساؤل الإستنكارى المنسوب للكاتب الطيب صالح و الذى أخذ القوم يلوكونه دون تأنى و هو " من أين جاء هؤلاء؟"‘ و هو التساؤل الذى حتى من يُنسب إليه لم يكترث به كثيراً فإذا به يذهب إلى "فريق" "هؤلاء" و يشترك ضمن جوقتهم فى مسرحية تكريمه سيئة الإخراج و الإداء. نقول جاء هؤلاء و من قبلهم و من بعدهم "هؤلاء كثر" من بنية اللاوعى الجمعى لتشكيلة السلطة (بإبعادها السياسة و الإقتصادية والمجتمعية) المهيمنة والسائدة و هى التشكيلة التى يحتاج سبر غورها "اركيولوجيّاً" أرتالاً من الباحثين النفسيين و الانثروبولوجيين. و لكن لابد من أن نغامر هنا بالقول ان بنية اللاوعى الجمعى الذكورية-الابوية-القمعية هى "الحقيقة" الوحيدة التى تتغذى من مرجعيات تاريخية و ثقافية و مجتمعية بعينها مبذولة بكثرة ضمن جغرافيا دولة السودان وضمن جيوب إنتماءاتها العديدة و المتنوعة و من أمثلة تلك المرجعيات الاسرة‘ القبيلة‘ المسجد‘ الطرق الصوفية‘ الاحزاب‘ الجيش‘ إلخ و جميعها بُنى ذكورية-ابوية-قمعية تغذى المتوهم الجمعى و ترفد سيروراته. و فى ظل هذه الهيمنة المحكمة يصبح الحديث عن العدالة و الحرية مجرد مقولات "منبرية"-إستعراضية و "خاوية" (خاصة إذا جاءت خصماً على تلك البنية الابوية-الذكورية أو احد عناصرها) أو قل أقنعة يتزيّأ بها البعض ضمن المسرح الجمعى و سرعان ما يلقون بها سلة المهملات و يعودون إلى مسيرة حياتهم "الطبيعية" خلف المسرح!
و أيضاً نغامر بالقول أنه يصعب تحقيق السلام (و السلام الذى نعنيه هنا هو إحساس افراد المجتمع بـ"الطمأنينة" و القناعة و القدرة على ممارسة حياتهم بكرامة فى بيئة يسودها الإحترام المتبادل و ليس السلام كما هو فى الخطاب السياسى السائد الذى لا يفصح عن مضمونه بل يُوضع جنباً إلى جنب فى سلة الغيبيات مع مزاعم "الوطن"‘ "السيادة" إلخ)‘ يصعب تحقيق السلام الحقيقى ما لم تتوفّر شروط عدالة تتحقق بإعمال العدل و إزالة أسباب المظالم. و بكلام آخر ها هو الإمام-المشير البشير يصلينا بجهيمه و يدوس على كرامتنا و يواصل فى عنته لأننا منذ البداية لم نقتص لحقوقنا من الإمام السابق- المشير نميرى فلم نوفّر شروط لتحقيق العدل و الحرية و السلام من بعده. محاكمة البشير و نظامه هو آخر ما تبقى من إحتمال لبناء دولة الكرامة و نهوض مجتمع الأحرار.
#محمد_عثمان_دريج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|