تحسين كرمياني
الحوار المتمدن-العدد: 2369 - 2008 / 8 / 10 - 10:17
المحور:
حقوق الانسان
يقولون إن(أوديسيس)الملك..برع في مهنتي الحرث والنجارة،وأن الأميرة(ناسيكا)..كانت تشارك خادمتها أعمالها في تنظيف الملابس دون أن تشعرها بفوقيتها الطبقية،ومن يقتنع أن الروائي الروسي الكبير(ميخائيل شولوخوف)..صاحب الرواية الرائعة(الدون الهادئ )..لحظة أتاه آت وهو يلهث بالخبر اليقين ـ فوزه بجائزة نوبل للآداب ـ طلب وبكل تواضع من المسكين الذي تقطعت أنفاسه كما لو كان هو من تربع على عرش الأدب العالمي وصار من بين الخالدين أن يسكت كي لا تفر الأسماك من حول سنارته،وأن الكاتب العبقري(برنادشو)..رفض جائزة نوبل للآداب،لسبب وجيه جداً بالنسبة للمتواضعين كونها طوق نجاة ألقي لغريق لحظة وصوله إلى الجرف على حد تعبيره،وهل من الممكن نسيان ما فعله(بابلو نيرودا)الشاعر الذي تمرد على كل سلطات الغطرسة وتغنى بشعره للفقراء يوم جاءه النوبلي الذي طرق بمطرقة الأدب على هامات الدكتاتورية(ماركيز)..هارباً من حكومة قامت عن بكرة أبيها وانتشرت في كل مسلك وشارع لتصطاده،تنازل الشاعر عن هويته بصفته ـ سفيراً لبلاده في المكسيك ـ للمطارد وتمكن من تهريبه إلى (باريس)..بحصانته الدبلوماسية،لقد عرف الشاعر أن الكاتب هو إنسان مقدس وهو أعلى من المناصب وأنه يستحق التضحية بالنفس،لذلك يستحق أن يتنازل كل ذي نفس إنساني وروح نبيلة وأن يتواضع أمام أصحاب الآلام الجميلة،وما بال النبيل الذي ترك الجاه والمال ونزل إلى رحم الحياة ليسكن جنباً إلى جنب مع الفقراء والعبيد الروائي( تولستوي)..صاحب(الحرب والسلام ـ آنا كرنينا ـ البعث..)..وهو أبن نبيل وملاّك لحظة كان يهيم في محطة للقطار،نادته عجوز لحمل متاعها،تواضع(تولستوي)وسار خلفها سير الحمالين خلف سادتهم وهو ينوء بحمل حقيبة،وتقبل في نهاية الرحلة منها ما قدمتها من قطعة نقدية مقابل خدمته لها،هذا العمل لابد أن الكاتب قد أنتظره بفارغ الصبر،كونه كان كما تشير سيرة حياته من أشد المغرمين بالنبي العربي(صلعم)..خصوصاً أن الرسول في بداية دعوته،كان يسير لحظة طلبت منه عجوز أن يحمل متاعها فحملها وهو سيد البشر لكل العصور، وقالت له العجوز:أن رجلاً في المدينة يدعي النبوة لا تصدقه أنه كاذب..!! قال لها بكل تواضع:أنا هو ..!!توقفت العجوز مصعوقة وصاحت:أشهد أنك على حق ..!!ليست من مصادفات الحياة قدر تعلق روح المتنورين ببساطة الحياة والفطرة البدائية التي هي دائماً وأبداً من مقومات اكتمال الحلم وبلوغ السمات الإنسانية الفردوسية،ما الذي جعل(فلادمير بوتين)أن ينحني ـ وهو رئيس بلاد عظمى ـ ويلملم ما سقط عل الأرض من يد شاعر فقد اتزانه في لحظة تاريخية،كان مع الشاعر الروسي المعروف (ألكسندر كوشنر)..يوم فازا بجوائز(بوشكين)..للشعر،سقطت العلبة من يد الشاعر المرتبك وتناثر ما فيها وظلّ واجماً لا يعرف كيف يتصرف قبل أن يبادر الرئيس وينحني إجلالاً لعلو كعب الأديب ويعالج الموقف،لقد تواضع الرئيس وحقق لنفسه مكانة مرموقة في ذاكرة جائزة وشاعر،ومن يصدق في عصرنا هذا أن الرسام الهولندي(فان كوخ)..صاحب لوحة( زهرة عباد الشمس )..تناول شفرة وقطع أذنه ووضعه في ظرف كهدية لسيدة بعثت إليه رسالة مدعية أنها معجبة بأذنه،ومن يصدق أن(جورج بوبميدو )..رئيس فرنسا يوم طالبوه أن يعتقل الوجودي(سارتر)..كونه قاد انتفاضة شعبية في ربيع ـ 1968 ـ لم ينفعل الرئيس ولم يحرك عصا غليظة أو يهيأ زنزانة إن لم نقل مقصلة لكاتب قرأ السياسة الفرنسية آنذاك برؤية فلسفية مغايرة لما هو في الواقع،أبتسم وقال لناقلي الخبر(هل يعقل أن نعتقل الشمس في زنزانة )..وهل بوسع رئيس بلاد شرقي أن يتقبل برحابة صدر عودة وساماً منحه لكاتب من رعيته رافضاً ومحتجاً على سياسته،هكذا فعل(فيركور)..كاتب رواية(صمت البحر)..عام ـ 1957 ـ احتجاجا على ما كانت تفعل حكومته من اضطهاد وانتهاكات غير مشروعة بحق الشعب الجزائري،هذه المواقف والعبر كانت تحدث في أزمنة لم يكن هناك بصيص حريات وكانت القوى العظمى تواصل قبر الشعوب اليائسة ومعظم الشعوب ترزح تحت نير حكومات شمولية ألسنتها نيران وأيديها حراب مشرعة،مئات المواقف تظل راقدة ومضيئة بين أروقة التأريخ لا تأكلها عث الزمن أو تمسخها مواقف مصطنعة من لدن ساسة اكتشفوا عزلتهم عن الرعية،فوظفوا مقدرات البلد كي يفوزوا بشيء ولو يسير من صفات ظلّت بعيدة عن أطماعهم،ورهط دخل إلى عالم الأدب من الشبابيك المهملة أو المحطمة ،وجدوا أنفسهم داخل عربات تقذف بالمهملات خارج محطات الخلود،شتان ما بين هؤلاء وهؤلاء ، فالمواقف الإنسانية تتكلم بصمت عن بلاغة التواضع ونبل القلوب لدى صفوة من البشر أهلتهم الحياة ليكونوا نوابغ أو شوامخ يزرعون أنفسهم بلا تطبيل أو تسليط أضواء في الذاكرة وإن تطلب منهم الموقف تضحيات أو ركوب المهالك،عكس رؤسائنا وملوكنا..أمرائنا وأميراتنا،أيّ كتاب نفتحه لا نجد سوى رقص وحرير ومجوهرات ودسائس،مما سهلوا للغرماء أن يتربصوا بهم ريب المنون،فتهاووا غير مأسوفين عليهم أو تضعهم الذاكرة في الصف الأمامي مع أصحاب المواقف النبيلة،لقد ظلّ الأديب والفنان منارة ترسل الضياء الهادي للبشر،واستحالت جهودهم إلى عربات تسبقنا صوب المديات المغرية في جعبة المستقبل،وعلى رفاتهم تتسامق بنيان الحياة،لم يكلفوا ساستهم شيئاً سوى مطلباً(جد بسيط)..مطلب يوفر لرافعي البنادق الرصاصة المهيأة لرؤوسهم أو الوقت المستغرق لتعليقها على أعواد المشانق،يا لها من مقايضة غير عادلة من لدن بشر زرع الله فيهم السلام وقول الحقيقة كما هي،شتان ما بين صاحب مقاليد الأمور يستحضر ثوبه البشري الإنساني لحظة يجابه موقفاً مضاداً،وبين سمي له يزرع عيون لا ترحم أو لها القدرة على تأويل وتفسير ما لا يصب في صالحه،لقد أبرق(آرثر ميلر)..إلى الرئيس الأمريكي(جونسون)..جملة واحدة فقط ويا لها من جملة(عندما تتكلم المدافع يموت الأدب..!!)وكان ذلك رداً على دعوته إلى البيت الأبيض إبان الحرب الفيتنامية،فالأدب يا من(يحاول)أزاحته من الخط الجبهوي لبناء صرح الحضارة البشرية،لم يحاب السياسة عبر التأريخ،ينبذ المراوغة والتسويف،كون السياسة فيه الكثير من اللف والدوران والخداع وعدم تحقيق ما هو وعود،أما الأدب فهو الحقيقة الناصعة لحركة البشرية،وهو المرآة التي تسترشد كل متعب وضال إلى ظل شجرة الحلم والبراءة،فالأدب لبس ثوب التواضع،وحقق مكانته رغم مخالب السياسة ودنا من براكينه كل ذي قلب ولب وخير ما نختم به هذه السطور..
قول الفنّان(ماتيه )..
[..أن البربرية هي داخل الإنسان]..!!
#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟