الظاهر أنني سأستمر بكتابة هذه السلسلة طالما أن هناك إمرأة تتألم , وطالما أن هناك إمرأة لا تفهم ما يجري حولها بل تتلقى فقط ما يريده منها الزوج أو الأب أو الأخ أو سواه من الرجال الأقارب الذين يملأون حياتها أوامرا وتخويفا وحواجزا وممنوعات, لقد فوجئت بموقف النساء العربيات والمسلمات في بعض البلدان الاوربية اللواتي خرجن متظاهرات و منددات بقانون منع الحجاب المفروض بفرنسا, ذهلت لهذا الحماس الذي جعل هؤلاء النسوة يخرجن بالبرد القارص ليستنكرن منع حجاب نساء اخريات , أخوات لهن بالحجاب, وقلت أن من حق أي إنسان أن يمارس طقوسه التي يؤمن بها وأن يتضامن مع من يريد, والتضامن شيء مفرح , يثبت-على كل حال- وجود وعي ما لدى الشخص المتضامن, لكنني تساءلت عن الدافع الفعلي لهؤلاء النسوة وجديتهن بالأمر, خاصة ومن يعيش هنا بأوروبا يرى العجب من إضطرار الكثير من النساء ارتداء الحجاب إرضاءا لذويهن وعند الخروج من المنزل يوضع الحجاب بالحقائب, وتبدأ المرأة خارج المنزل حياة مختلفة تماما ومتطرفة أحيانا, ولا أعني هنا أن جميع المحجبات كذلك ,وحتى لا أقوّل بما لم أقل , بل قلت منهن, وكأي مجموعة من البشر يكون بها الصالح والطالح , وتعرض وسائل الإعلام في أوروبا كثيرا عن حياة هؤلاء النسوة والإزدواجية التي يعانين منها وعدم تمكنهن الوقوف بوجه الزوج أو الأب خوفا من العواقب التي ترهبهن, مع أن القانون يضمن لهن ذلك, وقد عرضت مخرجة مغربية في مكتبة (شخلدرزفيك) بمدينة لاهاي , قبل أربعة أعوام فيلما تناول حياة شابة تعيش مع أهلها كمسلمة ملتزمة وتخرج من غرفتها عبر البالكون الى الخارج ليلا لتقضي الليل كله خارجا وتعود من نفس البالكون سرا ً عند صلاة الفجر حيث يقيم والدها الصلاة, والأب المسكين يظن أن ابنته تغط بنومها آمنة في غرفتها بعد أن تكون قد مارست كل ما يمكن ان يعرض حياتها وصحتها وسمعتها للخطر, وقد تم مناقشة الموضوع كثيرا من قبل مفكرين وأطباء نفس واجتماعيين يهمهم أمر إندماج الأجانب بالمجتمع الهولندي لأنهم يشكلون شريحة واسعة ولا بد من أن يعيش هؤلاء بسوية وصدق مع واقعهم في البيت والخارج , كما أكدوا على أن الضغط يؤدي حتما الى الإنفجار وأن عدم احترام كيان الفتاة وحريتها واختيارها يؤدي بها الى إتخاذ موقف معاد لذويها يجعل العلاقات العائلية أكثر تفككا وتعقيدا , وتدعو الهيئات الإجتماعية المختصة باتخاذ ما يجب لتجنيب المجتمع الجرائم التي يتسبب بها هذا الوضع غير الطبيعي وهذه الشخصية الإزدواجية, وقد لا يخلو هذا من استغلال بعض أعداء العرب والإسلام لهذه الظاهرة للنيل من أفكارنا وتوجهاتنا, فلماذا لا نجنب أنفسنا كل هذه المشاكل ونقر باختيار المرأة نوع ونمط الحياة التي تريد طالما إنها لا ترتكب ما يخدش الطبيعة السوية للمرء , ونغذيها بما هو أعقل وأكبر وأعمق أخلاقا وفهما من حجاب مهلهل تنزعه متى شاءت, فالوعي والحرية إن اجتمعتا خلقتا إمرأة غاية في الروعة والعطاء والإستقامة, مما دعاني للبحث كثيرا لمعرفة الدافع القوي, والحقيقي الذي دفع بهؤلاء النسوة للتظاهر, مع أنهن لم يخرجن بدافع قصف أمريكي لعرس في إفغانستان قبل عامين راح ضحيته أكثر من 40 إمرأة مسلمة , كما أنهن لم يخرجن متظاهرات مستنكرات عشرات المجازر التي ارتكبت ضد نساء وعوائل وأطفال يذبحون في مخادعهم ليلا بالجزائر المسلمة , ولم يخرجن لأن عراق صدام حسين قصف مدينة حلبجة الكردية المسلمة وأباد الالاف بل أباد كل حي بالمدينة من بشر وغير بشر , وقصف المسلمين الشيعة بجنوب العراق وأباد مئات الالاف كما جفف الأهوار وأباد الحياة المائية التي كانت تغذي المنطقة ,ولم تتحرك واحدة منهن لأن العراق غزا الكويت وعاث به فسادا ودمارا , كما لم تتحرك واحدة من أخواتنا العربيات والمسلمات ضد إصدار مجلس الحكم في العراق قرار رقم 137 الذي يلغي قانون الأحوال الشخصية ويجعل المرأة العراقية تتخبط وتضيع بلا حلول واضحة وصريحة وحضارية لمشاكلها , وذلك عبر المحاكم الشرعية أو عبر شيوخ وعشائر يجتهدون كل حسب هواه وتفسيره للنصوص وهناك الاف التفاسير للقرآن والسنة عبر القرون منذ بدء الدعوة الإسلامية حتى اليوم , كما أنهن لم يتظاهرن ويستنكرن لعشرات الجرائم التي تقوم بالعالم ضد النساء والمسلمات منهن , تساءلت وقلت أن هناك سرّ ما ّ بالأمر فمن لا يتفهم ما يجري بالعالم حتما سيكون مدفوعا ومستعملا من قبل من هو أقوى منه , يوجهه كيفما شاء ولمصلحته , بحثت كثيرا بالأمر وعرفت الحقيقة التي جاءت على السنة بعض النسوة , حدثنني سرا وطلبن عدم ذكر اسماءهن , فعرفت أن أولياؤهن أو أزواجهن هم الذين دفعوهن للتظاهر وقد هدد البعض وتوعد إن لم يستجبن له, وعرفت أن بعضهن وقعن تحت الإكراه أو الإبتزاز , إذن إن من يتحرك بالريموند كونترول سوف لا يستطيع أن يغير شيء وسيبقى عبدا يعمل ما يريده الآخرون, حتى وإن كان به هلاكه وضياع حريته وعقله وتطوره , وهذا الوضع قد يصيب البعض بالإحباط لأن نصف أو أكثر من نصف المجتمع مستلب الرأي يـُعامل على أنه مال محرز يجب أن لا تراه الأعين حفاظا عليه من السرقة, مع أنه مسروق ومستغل ٌ من قبل أقرب الناس.
ولابد هنا من توضيح أمر هام وهو أن الشريعة الإسلامية لم تأت لتجعل المرأة عبدة ومالا ً محرزا , أبدا , بل أن الإسلام كان في زمانه ثورة ضد الظلم والإستبداد وذبح النساء ,وأن الإسلام ليس مسؤولا عن وضع الحلول لكل مشاكل البشرية عبر القرون , بل أنه وضع أعمدة لتحديد الحق من الباطل ,وجعل بالأمر مطاطية كبيرة حينما وضع تفسيرات لكل ما هو مختلف عن النصوص بقوله تعالى" إنما الأعمال بالنيـّات ولكل امريء ما نوى " وذهب بأبعد من ذلك حين فتح مجالات كثيرة لتغيير النصوص حسب حياة الناس ومتطلباتهم بالإجتهاد , كما أن عجلة الزمن لا تتوقف أبدا ومجتمع الخيمة والبعير غير مجتمع الإتصالات ولكل زمن قانونه لأن القانون هو كما يفسره علماء القانون " العقد الإجتماعي المتفق عليه بين الناس لتنظيم حياتهم حسب واقعهم المعاش" لكن وحدها الثوابت , الفرق بين الخير والشر , تبقى مدى الزمن كقيم غير متغيرة , فالصدق والأمانة وحب الخير من الثوابت غير المتغيرة في كل عصر وزمن ,تبقى من صور النور والعدل, كما تبقى السرقة والكذب والقتل من صور الشر والظلم المرفوضة في كل الأزمنة والأمكنة , من هنا تغير البلدان الديمقراطية باستمرار بين فترة وأخرى قوانينها وتدرسها باستمرار في برلماناتها لتتمشى مع الواقع ومع المبادئء الطبيعية التي هي احدى مصادر القانون , تلغي بعضها إن تخلف عن ركب التطور أو عجز عن حل مشكلة ما عبر السنين , وتشرع أخرى أكثر مناسبة للمجتمع ,وهذا هو القانون الذي يلبي ويشبع رغبات الناس ويتكفل بحل مشاكلهم , أما أن نتمسك بقوانين وتقاليد سادت منذ أكثر من 14 قرن ونصرّ عليها رغم إختلافها عن الركب العالمي فهذا ضرب من العناد المهلك وإصرار على التخلف والفناء الذي لا يرضاه الله لنا أبدا لأنه لم يشأ أن يجعلنا أمة متأخرة, نساؤها آلات ملفعات بخيم سوداء متحركة, كما أنه نوع من الرغبة بتعذيب النفس وتعقيد الحياة بقيود تضع العصي أمام عجلة التطور البشري, وإن تربية المرأة على الصدق والسوية بعيدا عن الخوف والإزدواجية , ينتج جيلا حرا واثقا بنفسه صادقا مع ذويه ومع الناس, متخلقا بأخلاق قادرة على بناء حضارة صلبة , تتسيد بها المرأة , الأم, تتقدم الركب بخطوات قوية, مؤمنة فعلا بأن "الحضارة إمرأة".
لاهاي 28-1-2004
* شاعرة وناشطة حقوقية عراقية مقيمة في هولندا