علي عباس خفيف
الحوار المتمدن-العدد: 2361 - 2008 / 8 / 2 - 10:26
المحور:
الادب والفن
إثنتان وأربعون أمسية, ذلك هو الزمن المتبقي من سِفْر النهاية .. السِفْر الأخير لحسن فندي المرتعب, الغاضب من كل شيء.. الصامت بألم النهاية..
إثنتان وأربعون خطوة نحو الموت .. حين اختارها حسن فندي , لم يجهد نفسه بعدّها. انتظر نهاية المطاف. وقبل أن تبرق السماء.. قبل أن تودع الريح رغباتها في قلب الأشرعة.. سارت السفن القديمة في جسده الذي بزل الفرح, والأمنيات, والدم والشحم واللحم, حتى صار فزّاعة, ولم تستحي الرحمة من تحوله, كل الرحمة دونما استثناء..سارت السفن في افقه الأخير.. رحلة الصمت, في جسده النحيل..
حول مرابضنا القديمة .. الطريق الترابي, يحيط بخط الأسلاك الشائكة .. ينحدر ببطء, من جهة الجنوب, نحو مقلع ملحي . تتصاعد مع ضياء الشمس الأخير , ذرات حمراء تؤمن الشعور بالتدمير ,كل يوم. من جهة الشرق ينحدر طريق ترابي آخر نحو مدينة كهريزك.. بيوتها المبنية بالطين والقش, تغيب مع الطريق الترابي بين ذرات الغبار.. الدخان.. التلوث, وتختفي في الحفر. عند شمالنا, ترتفع مآذن.. أربع مآذن مصفحة,مُعدُّة للقتال ضد زرقة السماء الصافية. فيما بريق ذهبها تتآكله بقع كبيرة من الصدأ, دون أن تخدعنا القدسية..
المآذن الخربة, في الداخل , يغطيها الصدأ . لا تدور فضاءاتها نحو المعنى السامق.. المطلق .. المقدس.. لا تتعالى.. خالية من السمو.. منكسرة حتى النزع الأخير. تتضاءل .. تهوي ملتفة على الضغينة, والكراهية.. ملتفة حول اللؤم الذي لا يكف بعد مئات .. آلاف........
رهائن حتى الموت .. رهائن مفعمة بالموت.. رهائن مكبلة مصائرها الى أعمدة الموت وجلاله.. الصاعدة ثلاث مرات كل يوم, والنازلة ثلاث مرات, نحو الأرض.. نحو بطون خاوية , تتآكلها الرغبة الدائمة الى (شبع) ما.. المثال الجميل للرعاية!! المثال اللعين لحب الإنسان !! المثال المريع لعبودية الخالق كلي القدرة!!!
يلتاث الوعي.. يتدهور نحو ماضٍ مجنون .. اختطاف الأرواح المسالمة, نحو أحجار, وقش , وبقايا مرابط للخيل . رائحة دمن الحيوانات لم تعد فضاءً. لا اشراق ولا مغيب , ظلمة الأبدية..تتداخل , تكوّن حياتها السرية الخاصة. تنفذ في ممنوعات الجسد. تختلط بالدم , وتصعد الى الدماغ الذي يأنف , ثم يأنف , ثم... ينفلت في غثياناته,مكوناً عالمه المسحور , المرعب , تفعمه روائح الزهور , وأصوات الخرير وتغريد البلابل, حين يختلط بالضجيج ورائحة البراز, ومشهد اللعاب وعفونته..
ساحة واسعة محصبة, تنتابها رعونة الريح, تفصل مرابضنا التسعة المعزول واحدها عن الآخر , بنسب الخوف والموت المتربص .. بنسب الجنون المثخن بالجراح التي لا يسمح لها أن تندمل .
أي كهريزك.. ايها الكراهية.. طامورة الموت.!!
تساءلت؛ كيف يمكنني أن أعود الى الماضي, أخترق الأيام كثيفة الحضور, بهوائها, وأشيائها, وأفكارها, وحوادثها.. بأحلامها, وخوفها, ورعبها, وأمانيها.. بقبورها, ومنازلها, وشوارعها, ومقاهيها, وباراتها.. بصداقاتها وخياناتها.. وذلك الحب, الذي يشبه هلام لزج.. حب أن تعيش..
بين الجدران الإسمنتية الخشنة الكالحة, رماد مبلول, بلا دهان.. تلك الزنزانات المتشابهة, تصطف مثل القلاع المغلقة على الصمت, والخوف, والظلام.. ابوابها المتجاورة بلا مودة, قضبانها الحديد, تمد قاماتها نحو السماء.. مغطاة جدرانها بغبار الموت المكرور كل يوم.. احجارها المجلوبة من عالم الظلمة.. العالم السفلي .. جافة, جارحة, تغرز بغضها في القلب.. تلوكه انيابها بكراهيتها الدائمة.. وبين أسلاك شائكة وأسلاك, ينسفح التراب.. روحه الطائرة في هبوب رياح القيظ, تشتبك بأرواح الموتى الذين نالوا سلامهم الأبدي في الجوار..
- أي إله الظلام.. يا ميثرا.. أيها الرب الذي لايرضى الإنحناء للنور.. تقدّم بجحيمك المظلم الى الأبد.!!
لا شيء قريب من الروح.. لاشيء يقترب . الضوء بلا مساقط, ولا فضاءات تنفتح, ولا مرايا, ترقب عن بعد هياكل الظلام الحجرية. نحن المغروزين فيها, معصوبي الرؤية, مكبلين بقيد الإهمال .. تلك غربتنا, زادها مترع برحيق التذكر, حينما نفر من بهجته الى نعاس لو يطول , ويطول, حتى ينثقب القلب مرّة واحدة..
متى يقدر القلب على انجاب المحبّة؟
ماذا نفعل نحن المكبلين الى تلك الصخور/الأحجارالمصطفة في الزمن/الفراغ, في أفق دونما نهايات؟
لن تنبعث عنقاء الأماني مرة أخرى!! لن تنهض من بين البراز البشري!! ستظل اسيرة الموت المكفن بالظلام , الموت الذي ما حرّقته النار!!
- أي طائر الأماني, ألا نهضت من الظلام/الزنازين..!!
زنزانة انفرادية, بلا ضوء, تمتد قضبانها الحديد الى الرأس, تنبت فيه, وترتحل , تغادر الكونكريت, تغادر منابتها الصلبة, وتعشش في الراس المنفطر, بائسة حتى تورق شجرة اليأس..
السِفْر الذي قامت منه القيامة الملعونة , قيامة الحجارة. كان الرجم حباً معكوساً.. الصلة الإيروسية المنطفئة.. اللبيدو المحبوس, في اجساد النار المغروسة في جسد الكونكريت ..
كنت مغمض العينين, أو ربما مبصر في الظلمة, ما كنت نائماً, حين حط ملاك( بدر الدين بن قاضي سماونة) عند النافذةالحجرية, ولوّح بردائه الأبيض , كيما أتبعه الى ممالك الحلم, دونما جدوى.. وفيما أنا أعتذر لـ(ناظم حكمت), قرأت ؛ قرأت العذاب على حجارة الجدران:
مات عاشور البارحة معلقاً بحبل سرواله!!
مات فاهم عبد مطر , حين أكلت جلده تجارب الطبيب !!
مات عادل فجأة على سريره في الظهيرة.. أوقد الرابضون خوفهم , أحرقوا الأمنيات شموعاً كبيرة على خشبة سريره. بكاه رفيق طعامه حتى الصباح وهو ينتظر ملاك الموت . التهمت الأساطير قلبه, وبين دمعة وأخرى , يستفيق من موت الى موت!!
مات حسن فندي, مضرباً عن الطعام, حتى أصبح وزنه(19 كغم) !! لا يريد أن يموت بحبل السروال, ولا بخيوط ( المنشفة ), أو خيوط الملاءات. لا يريد أن يموت بصعقة التيار الكهربائي . لا يريد أن يلتهم الزرنيخ الذي يستعمله لإزالة شعر العانة.. يريد أن يموت بصمت, بهدوء مطلق,.. كما مات (هوسيب) الأرمني بعد أن أعلن إسلامه!!
مات بصمت كما أراد.. وضعوا جثمانه في ملاءة بالية, بقي تحت طاولة (البينغ بونغ), منذ الصباح حتى التعداد المسائي, فيما السماء تنث نثيثاً ناعماً, ورئيس الحرس يلعب فوق جثمانه (البينغ بونغ) مع أحد حرّاسه, ويقهقه, بغبائه كلّه, وتفاهته كلًها, ولعنته التي لن تفارق مشهد الموت...
مات.. مات.. مات.. مات.. مااااااااات.... ماتوا بصمت.!!
لم يمت على الوزان, حين وضع راسه في برميل الماء عسى أن يغرق بصبر. وصلته رسالة الختام.. فيما كان يحلم , وهو لم يزل عريساً, ببيته الجديد, والزوجة التي لم يرها إلا ليال.. فيما هي الآن تنأى .. تبتعد عن جرثومة الهجر , تصب غضبها على المستحيل, ليستفيق ابن الوزان عند نهاية الأرخبيل الذي لا فضاء للبهجة بعده, وهو لا يصدق أن يكون المستحيل ممكناً. وحين يستفيق سيظل يسير عكس اتجاه عقارب الساعة, خلاف الجميع, الذين أسلموا لدوران عقارب الساعة توجيه أمانيهم الضائعة حتى آخر خطوة .
اخرجوا نعيم نمر من المرحاض في النفس الأخير.. حاصرته جدران المربض.. انطبق عليه السقف..التفت أذرع الجدران حوله, وضغط رأسه السقف المعدني, حتى صار كل المربض مجرد مرحاض, وعليه ان يصنع من دمه قربان محبة. تنفذ القضبان في قلبه كل ليلة, ثم ينزعها بألم . وتنفذ خلال روحه , وينزعها, وينزعها .. وينزعها .. كلنا ( نعيم نمر), دونما أمل. قطع معصميه بموسى مهرّبة, أشتراها بمسبحة من حراسه.
حين تهصرك الجدران, لن تجد دمعة واحدة قادرة على إطفاء النار في الروح..إلاّ دمك!
لك أيها الملاك النبيل, يا بدر الدين, المجد كله.. ولحسن فندي , وعادل , وفاهم عبد مطر, ولهوسيب ضاحكاً من بداية الخلق, ولجيران المقبرة, ولعاشور معلّقاً من معصميه حتى تتقطع أوتار يديه. ترى من علّق له حبل السروال في رحلة النهاية ؟ من جفف روحه لكي لا يستبد به الألم أبداً؟ من رابط عند قدميه وهما تضطربان في توديع أمانيه؟
" لتلك الروح المتمردة , عاشور!!
فوق الفراغ الكبير, تسبح في الكركرات.."
الفراغ الكبير , تسع قلاع متراصة. يحيط بها فراغ آخر , يحيط بالفراغ فراغ, حتى القبر الأخير..
المقبرة تحيط بالزنزانات, أوالتي تحيط الزنزانات بها. شواهدها تتراصف مثل طابور الجنود. تتراصف داخل الرؤوس كل ليلة.. هناك وراء الجدران الكالحة, المقبرة, التي تعلوها أسلاك شائكة.. تقف الشواهد الحجرية بالإنتظار .. الشواهد التي نعرفها والتي لا نعرفها , يدق سكانها الجدران طيلة الليالي المظلمة. وحين يبزغ القمر , لا يراه أحد, فيما تلوّح أشجار الليل , تنبت من كل شاهدة, تلوّح عفاريتها بأيديها المئة. تدعو الى نزهة الفزع الليلي. وحين يهجع الجميع في الأسرة, تبقى أشجار الليل تلوّح للفراغ, دون أن يراها حراس الرحلة الأخيرة .
مقبرة الشرق السعيد الكبيرة , مخازن الأرواح المستهلكة, الخارجة من أتون الترقب الى زمهرير الوحدة.. المقلع المهجور.. مقلع الملح والغبار.. القطعة المنسية من الكون الشاسع.. ذلك اليباب.. (دونما إشارة.. دونما أمنيات..) .
ليكف القدر أياديه عن تحريك المخبوء. لتجف الأمنيات.. الجلود التهمها القمّل والجراد والضفادع والزمهرير.. الجلود المتقيحة, تلتصق بإسمنت الأرضيات المدهون بعرق الصيف اللزج, المنتن, حتى تنطفئ الرغبات.. الصدور الموبوءة .. التدرن الجماعي ..التيفوس .. الملاريا.. اللوكيميا.. تمزق الأحشاء الأميبي. الاسهال الدموي .. الأنتاميبا كولاي... الحبس الانفرادي.!!
العالم الأخطبوطي كله.. أنصاف السجائر, السجائرالمصنوعة من ورق شجرة السدر. السراويل , حبال السراويل المصنوعة من جوارب الصوف والنايلون, النعال الوحيد, الأقدام المشققة عند الكعوب,الأحذية الممنوعة. حصباء ساحة التشمس.. (طاسة) الطعام المخلوط, الوقوف بالدور حتى سيلان اللعاب , الملعقة ( الفافون).. التعداد الصباحي .. التعداد المسائي.. الماء المالح.. ماء الشرب.. ماء الغسيل.. الاستحمام الشهري جماعة..اللحى المقملة...
الى أين قافلة الظلام؟ أي ميثرا العظيم.. أي ميثرا.!!
* * *
البصرة 12/7/200
#علي_عباس_خفيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟