علاقة الذات بالموضوع لابد لها أن تنتج خطابها الخاص داخل أية منظومة (اجتماعية, سياسية), وبالتالي يمكن القول استدراكا ً بأن علاقة الذات بالموضوع كصيغة واعية من خلال شكل الخطاب وفاعليته والذي سيؤسس ضمنا ً "اشتراطا ً معرفيا ً واعيا ً" لتلك العلاقة ويمنحها وظيفتها وفقا للوعي, ومهما كان الرصد المفهومي للمنظومة كأن ترتكز وتراهن في خطابها على مفهوم القطيعة-ـ الجدل, الصيرورة.. فإنه, وبشكل مغاير, لنا أن نتساءل هل يمكن تأويل ظاهرة ما تختلط فيها خصائص الموضوع بمقاصد الذات إلى رؤيا متماسكة تتجاوز المفهوم الطبيعي, الفيزيائي, للعضوية الأساسية؟
إذن هذا السؤال/ الإجابة يتصالح مع تفكيك الإنسان وعالمه الثقافي الذي يبحث في اختزالات عدة تطال المباديء, القيم, الهوية, المعنى, اللغة, التقاليد.. وقد أصبح أساس العلاقة البنائية للذات/ الموضوع, ويتشكل فيه الخطاب المعاصر (الأنا, كمشروع يفترض تجاوز المفهوم التقليدي للعضوية الإنسانية).
ولعل كثيرا ً من الاتجاهات التي تدعم أو تناقض الطرح السابق تلامس تحليل مفهوم البنية باعتبارها أساسا ً لفهم الذات, من أجل إخضاع شرط التساؤل إلى العمل بين ما هو خارجي أو داخلي بالنسبة للموضوع/ الأنا (الذات).
ذلك (الفهم التبسيطي أو القسري) سيؤول إلى انتزاع الإجابة كحالة تطمين أو إعادة إنتاج تراكمي لمفهوم التجاوز جزئيا ً أو كليا ً, ولكن في الحقيقة نجد أن الخطاب المؤسس والمنتج سيدعّم الصراع المفاهيمي بشكل مستمر وخطي يجر البنية إلى التناهي صغرا ً من أجل إخفاء الجسد لصالح النزاع التاريخي الذي يغترب فيه المجتمع الإنساني داخل أو خارج كل الفضاءات (السلطوية, الاقتصادية, الاستعمارية, العولمية). إن مكانة الإنسان تتراجع وتبهت صورته أمام التشكّلات المعاصرة, ذلك أن الواقع الحقيقي ليس هو الأكثر وضوحا ً, ما يجعلني أبتعد وانزاح عن تفسير المعطي التاريخي الجاهز لتفسير الذات وتأويلية الحوار كصراع.. فالممارسة تتم خارج الحوار الجدلي فقط.. إنها تمثلات وتمظهرات وأوهام تكشف الميكانزم ولكنها لاتتواصل معه. هذه المكانة تتراجع بقدر ما تدعم الوجود الفردي الإنساني, ولكنها في حالة مواجهة دائمة لمفهوم التواصل, أي أن العضوية الإنسانية واحدة جسديا ً, ولكنها تتعدد في عالم الوعي, وهذا ما ينتج الهوية الذات (الأنا).
فهل البحث عن الذات سيعتبر موت الإنسان ضرورة لتأكيد مشروعية السؤال, أو لتجديد المفهوم الفلسفي للذات/ الموضوع, أو أن السعادة (الحرية, ...) كهاجس إنساني ستدعم اختفاء الإنسان من أجل التقدم والعلم. إن المجموعة الإنسانية تتصل في صراعها أو في توافقها بالرموز لأنها في الواقع تمتلك الغرائز ذاتها, حيث نجد على سبيل المثال إشارات المرور, التواصل الجنسي, الانفعالات,.., لا تحتاج إلى لغة حوار, لأنها لغة تعرفها كل المجموعات الإنسانية, سواء تواصلت معها إيجابا أو سلبا ً, ولكنها تنتج وتشكل خطابا ً خاصا ً ضمن آلية التداول أو التأويل للظاهرة-ـ الموضوع, كحالة تجاوز للوقائع تعتمد الوعي بالموضوع, غموضا ً أو وضوحا ً, ليكون الجسد الواسطة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي. ولكن كيف يمكن تحليل ومعرفة بنائية العلاقة الرابطة للوعي بالأشياء كمتصل كلي أو جزئي مع الذات وليس خارجه أو متعالية عنه؟ الوعي ليس فكرة مجردة, ولكنه يتحدد من خلال الرجوع إلى فكرة وحدة البنية الأساسية. الوعي وجودٌ في العالم, ووجوده يسبق أية ماهية تضاف إليه. يتضح ذلك من خلال تحليل مفهوم البنية العضوية الإنسانية للمجتمع, الأمة والعالم؛ ذلك أن النظام الإنساني ليس نظاما ً مستقلا ً, ولكنه في علاقة جدلية, مع الوعي, الجسد, العالم, يقود إلى التميز, التجاوز, التعالي كشرط نقيض وأساسي وموضوعي للهوية.. التي ستنتج خطابها الخاص كمجموعة إنسانية لها بنيتها الشمولية داخل المنظومة (العالم).
ما سبق عرضه يخضع إلى الاستنتاج, التأويل, الإسناد, والإحالة, وبدوره ينتج خطابا ً مؤسسا ً وأحيانا ً مسايرا ً, هامشيا ً, أو موازيا ً, أو مضادا ً لتحليلات مكونةٍ لخطاب معرفي يعتبر أن الذات, الموضوع, الهوية, تقف عائقا ً أمام التطورات العلمية الهامة للإنسان. إذ كيف يمكن أن نعتبر تقدما ً علميا ً ما (فيزيائيا ً, كيميائيا ً) هو في صالح الإنسانية يجب من أجله أن يختفي الإنسان (كهوية/ ذات)؟
إن ظاهرة تقدم وتعاقب التشكلات الاجتماعية كخطاب تأسّس على تحليل مفهوم بنية الذات في أنساق فاعلة منتجة داخل المنظومة الاجتماعية تخفي تباينا ً نظريا ً, فمن جانب فهي مفهوم غامض ورؤية مغايرة لمفهوم الإنسان كعضو فاعل, المفهوم الذي يختفي اليوم (الآن) ليظهر غدا ً في تصادم مدرك مع الخطاب المؤسس والداعم للذات/ الموضوع, ويحقق شرط العضوية الإنسانية وظيفياً, وبالتالي يمكن القول أن الظواهر عبارة عن تأويلات من الممكن الإفصاح والتعبير عنها بمفهوم إرادة القوة (العولمة, الغات, الفوضى, الحروب,..), وما سبق يختزل بين طيّاته مفهوم العالم ويحوله إلى وقائع وأحداث إنسانية (تاريخيا ً) داخل تشكلات اجتماعية متعددة, متنوعة, متباينة, انثروثقافيا بمختلف مستويات خطابها (هويتها) وأنماطها ومنتوجها المعرفي كي يصورها ويحيلها إلى حوادث مدركة أو ملموسة تتصل تلقائيا ً مهما كانت الأسباب التي أدت إلى إنتاج أو إعادة إنتاج تلك العلاقة العضوية, لأن الشيء الأساسي المقابل للإدراك والمعرفة هو المعطي الأول لفكرة الوعي بمفهوم الذات/ الهوية, وبالتالي فإن شكل الخطاب (نصه, حدوده, تأثيره) هو الذي ينتج شكل رابطة الوعي والأشياء كمتصل كلي أو جزئي مع الذات وليست خارجة أو متعالية عنه.
ومن جانب آخر, لايمكن فصل الوعي عن الموضوع الذي يرتبط به وفقا لمسار العلاقة الأساسية كشرط بنيوي للذات/ الموضوع/ الأنا, وهي الرابطة التي ترتكز على جملة من قضايا واشتراطات الوعي كونه خاصية إنسانية, تجعل الأشياء الجامدة ذات دلالة بالنسبة للذات (القصدية).
وبالتالي فإن شكل ودور فاعلية تلك العلاقة التي ربطت الذات, الموضوع, الهوية.. ضعفا ً أو قوة.
وضمن إشكالية التجاوز المفاهيمي (إقصاء, نفي, إبعاد, ...).. تبرز التوجهات المعرفية المعاصرة خارج مفهوم الهيمنة ليس كهاجس, ولكنها وفق حضور فعلي وأكيد يعي صيرورة التاريخ (تراكمي خطي) داخل مجتمع ينتج خطابات مشروعة همها الحقيقة..".
فالعلاقة بين الحقيقة, التاريخ, الوعي, السلطة, الذات والهوية, بمختلف تجاوزاتها وانهياراتها وإعادة تشكلها أنتجت فضاء حاليا ً ولدّ صراعا ً تأويليا ً انتهك سترة الخطابات الماضية التي انبثقت عن الإرث الفلسفي بكل أسئلته, واستطاعت أن تعيد قراءة المفهوم من خلال بناء رؤية تأويلية تنحت وتحفر الظاهرة "حفرا ً معرفيا ً أركيولوجيا ً, ومن ثم تربط العلاقة بين الفكر والوجود إلى أسس إرادة المعرفة لا إرادة القوة, وهذه الفاعلية كصراع تأويلي تعتمد وتسترشد بالقراءات والتحليل البنيوي كمفهوم للتجاوز وكحدث, خارج التواصل والامتداد الزماني, أي بإلغاء التاريخية كشكل زمني (كرونولوجي), واعتماده كممارسات خطابية من خلال تتبع المسار التاريخي كشكل معرفي, وفي فضاءات أخرى كممارسة تأخذ أشكال التعاقب والتتابع, أي أنها مفهوم اختلاف وإنتاج ٍ لمنظومة الاختلافات والتعددية, وهو ماتعلن عنه حفريات المعرفة في مستويات خطابية وتأويلات تشترط صراع المفاهيم لإنتاج أنظمة معرفية تتجاوز الخطابات التاريخية الماضية والقريبة. فالخطابات التي تفسر الإنسان تأويليا لم تخرج عن التأويل (وتأويل التأويل), وبالتالي أنتجت صراع التأويلات وتعددها وفق تصورات ذاتية (ميتافيزيقا الذات), ولكن بمحاولة تجاوز مفهوم الماورائيات فإنها تقود إلى تحليل مفهوم التجاوز ذاته, وبالتالي فإن السؤال يبقى رهين صراع التأويلات, والبحث في مفهوم التجاوز, عن المسارب التي تؤدي إلى متناهيات يصبح فيها الإنسان صورة, أو إعلانا ً تجاريا ً, أو رقم حساب, أو مجموعة أوراق ثبوتية يتم التحقيق بواسطتها من هويته, شكله, ذاته, صلاحيته, عنوانه, وجوده.. ولكنها في الواقع لاتستطيع أن تطال وعيه, فكره, حريته, سعادته.
وهكذا فمن جانب يؤسس صراع المفاهيم لقواعد أخلاقية تفضي إلى الحقيقة الإنسانية لتستمد مشروعيتها على أساس الفعل البشري (إرادة المعرفة), والتي ستظهر أبعادها ومؤدياتها في العدالة, المساواة, الخير, الحق, الأمن, ..). إلغاء الذات.. دون اعتبار أن المعرفة, الوعي, الإدارة.. تنطلق من الذات, الإنسان, لتصنع التاريخ البشري كخطابات ودلالات تفترض الفعل الوعي وتقف على الاختلافات والتفكيك والصراعات لتصل إلى مفهوم التجاوز وتعلن عن الإنسان.
وغير ذلك سيعتبر إضطرابا ً مفاهيميا ً وتأويلات تحاكي الهامش لتجرد الإنسان من رغباته ووعيه وتفكيره وقدرته على الفعل والمبادرة وصياغة تاريخه الحقيقي دون أن تلامس إنسانية الإنسان ووجوده بالفعل, وطموحاته في السعادة, الحرية, الأمل.. وفق مشروعية وجود الحق, وبالتالي فإن مفهوم التجاوز يعتبر العالم مجرد تأويلات تخفي صراع الإرادات (إرادة القوة -ـ إرادة العولمة), فالأولى تؤكد الهيمنة على الوجود كفوضى وعبث, والثانية تعلن عن مولد إنسان جديد, الإنسان كواقع وحقيقة واعية وفاعلة في التاريخ (الإنسان صانع التاريخ), ولعل هذا الجانب يحتاج إلى مداخلة مفصولة يمكن تناولها استنادا إلى تحولات الخطاب المعرفي, دون اعتبار للتحالفات الخطية بين نظام الخطاب والممارسة.
إذن الدور والوضع الثنائي المتمثل في ازدواجية الإنسان كذات مؤسسة وكموضوع للمعرفة تحتضن وبشكل حميمي الوعي لتعمق علاقة الإنسان الزمانية -ـ المكانية بالعالم والوجود, تعتلي التجاوز وتظهر خلف التناقضات والصراعات الكبرى التي تحاول إعادة الإنسان من أجل إشعال الصراع الطبقي ومرات عدة كآلة مدمرة من أجل الدفاع عن البقاء (صناعة الجوع, الحرب, الإبادة, المخدرات).. لتقود موضوع تحرير الإنسان وتخليصه لترميه في أحضان الأيديولوجيا مستندة إلى تأويلات وصراعات مفاهيم "غائية" مدعومة من البرجوازية التي بدورها تعلن عن مفهوم التجاوز في شكله الطبقي (فقط), خارج مفهوم الإنسان-ـ الفرد, وبالتالي فهي ترسخ لتصورات واهية وزائفة عن العالم لتعيد إنتاجها من خلال المؤسسة.
ووفقا ً لذلك يمكن أن نستخلص من إنتاجات فلسفية وفكرية عدة أن صراع التأويلات هو في حقيقته اضطراب في المفاهيم" التي عبّرت عن تخبط العقل البشري لمدة تاريخية طويلة وحقنته بجرعات قلق (التشكيك الدائم في الحقيقة الإنسانية), هكذا ظهرت مسميات عدة ساهمت في تأسيس خطابات أعلنت عن اختفاء الإنسان وموته, ونهاية التاريخ.
فهل يمكن القول أن النص البرجوازي والليبرالي الذي يدعم الصراع الطبقي مازال يهيمن على الفكر , الإنساني عموما ً؟ أم أن الصراع في حقيقته هو صراع تأويلات تتجاوز المفهوم السائد لتطل على الواقع من خلال إرادة المعرفة؟
كاتب ومفكر – ليبيا