أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - حوار مع الشاعر السوري فرج البيرقدار















المزيد.....



حوار مع الشاعر السوري فرج البيرقدار


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 728 - 2004 / 1 / 29 - 05:59
المحور: مقابلات و حوارات
    


حاوره: عدنان حسين أحمد/ أمستردام
• الشاعر السوري فرج البيرقدار
  -   الحرية تاج على رؤوس الأحرار لا يراه إلاّ الأسرى

 لا يحتاج الشاعر السوري فرج البيرقدار إلى أي  تقديم لتجربته الشعرية التي جاوزت الثلاثين عاماً، ورسّخت حضورها ضمن جيل الشعراء السبعينيين سواء  في سوريا أو في الوطن العربي.لكن ما يلفت الانتباه أن هذا الشاعر المبدع قد أمضى أربع عشرة سنة في السجون السورية بسبب انتمائه إلى رابطة العمل الشيوعي السوري. ففي 31-03-1987 ألقي القبض على فرج البيرقدار بتهمة الانتماء إلى حزب معارض ينوي الإطاحة بالسلطة. وقد استغرق التحقيق التمهيدي معه مدة أربعة أشعر شاهد خلالها ( نجوم الضحى والعماء ). لم يكتفِ المحققون بهذا الاستجواب الأولي، خصوصاً بعدما اكتشفوا من خلال الأوراق التي صادروها أن  البيراقدر ما يزال يحتفظ بالجزء الأكبر من أسراره، وأنه لم يسرّب سوى المعلومات العامة التي لا تشفي غليلهم. لذلك أعادوا معه محنة التحقيق التي استمرت سبعة أشهر إضافية في مركز التحقيق الذي ينطوي على تسمية مستفزة هي ( فرع فلسطين! ) حيث لاقى صنوفاً أخرى من التعذيب من أجل انتزاع بعض الاعترافات من رجل عصامي كان مستعداً لأن يضحي بحياته من أجل أن يخرج مرفوع الهامة والجبين، وألا يلطخ تاريخ الشعر السوري ببقعة سوداء. وكان له ما أراد لأنه ،ببساطة شديدة، لم يخن أمه التي أرضعته من حليبها الطاهر، وأمدته بصبر الخيول الأصيلة. وفي شهر شباط ( فبراير ) من عام 1988، رُحل البيرقدار مع ( 16 ) سجيناً إلى سجن ( تدمر ) القابع في قلب الصحراء السورية، حيث أمضى أربع سنوات من العذابات المتواصلة. في سجن ( تدمر ) لاقى البيرقدار، مثلما لاقى أقرانه وزملاؤه صنوفاً غريبة من التعذيب، ولعل أكثرها إثارة للانتباه هو ( الكرسي النازي ) الذي يسبب آلاماً فظيعة في الظهر، وشللاً مؤقتاً في اليدين قد يستمر إلى بضعة أشهر. ناهيك عن عشرات الوسائل الأخرى التي يعرفها القارئ جيداً، ولا حاجة للتوقف عندها. بعد سنوات العزلة الأربع في ( تدمر ) نقل البيرقدار مع عدد آخر من رفاقه إلى سجن سيدناية حيث أكمل فيه مدة حكمه التي وصلت إلى ( 14) سنة مع الأشغال الشاقة، والحرمان من الحقوق المدنية. في أواسط الثمانينات بدأت حملة دولية أطلق شرارتها عدد من أصدقاء الشاعر من بينهم المرحوم جميل حتمن، وعبدلكي، الفنان السوري المقيم في فرنسا منذ سنوات طوال. كما ساهمت منظمات دولية مهمة مثل اللجنة العالمية لمناهضة القمع، ومنظمة صحفيون بلا حدود، ومنظمة العفو الدولية. وبعد أن ترجمت مجموعته الشعرية ( حمامة مطلقة الجناحين ) إلى الفرنسية قدّم ( 72 ) كاتب فرنسي طلباً إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك يلتمسون منه الاتصال بالرئيس السوري من أجل إطلاق سراح الشاعر فرج البيرقدار. وقد أثمرت هذه الضغوط والحملات المتلاحقة التي بدأت منذ أواسط التسعينات إلى أن تمّ إطلاق سراحه في 16-11-2000. وها هو الآن طليق الجناحين ينتقل من بلد أوربي إلى آخر، يرمم المساحات المحروقة من روحه، ويقيم الأماسي الشعرية واحدة إثر أخرى عسى أن يعوّض ما فاته من سنوات لم يحصد منها سوى سلسلة من الإنكسارات المتلاحقة. بعد أمسيته القيمة التي نظمت له في أمستردام اقترحت عليه أن يفتح قلبه لـ ( الحوار المتمدن ) ويترك لذاكرته أن تسترسل بالحديث كما تشاء. هكذا بدأ الحوار مثل ينبوع يتفجر أول مرة.

• طائر الحرية الأجمل

• كرّست جزءاً مهماً من تجربتك الشعرية للكتابة عن فترة السجن التي امتدت بك إلى أربع عشرة سنة أنجزت خلالها ستة دواوين شعرية ونص مفتوح نستطيع أن نعتبره سيرة ذاتية ليست لك فقط، وإنما لكل السجناء الذين كانوا معك في سجن تدمر. هل استطاعت بعض القصائد أن تحلق من خلال مخيلتك خارج فضاء السجن، أم أنها ظلت تدور في ذلك الحيز المكاني المغلق؟
• نعم، خلال تجربة السجن أُتيح لي زمن كافٍ للعودة إلى كتابة الشعر، وللتجريب في ميادين عدة. كان الشعر بالنسبة لي طائر الحرية الأجمل. وكنت من خلاله أستطيع أن أبحث عن فسحات حرية إضافية أو مقتنصة رغم كل ما يحيط بي من جنازير وجدران وأسوار وأقفال. لم يمكن ممكناً بالنسبة لي تحمل وطأة السجن من دون الكتابة. لذلك كنت أستجير باللاوعي جهة، وأستعين بالخيال من جهة ثانية لأنه كان يساعدني على تخطي الطقس اليومي المباشر لتجربة السجن وتفاصيله. أما ما كتبته فهو ست مجموعات شعرية، كما أنجزت نصاً مفتوحاً كما سمّيته أنت، وأعتقد أنها تسمية موفقة. هذا النص المفتوح ليس سيرة ذاتية فردية، وإنما يمكنك اعتباره بدرجة ما سيرة لمجموعة من الأصدقاء والرفاق الذين تشابهت ظروفنا وأماكن تواجدنا، سواء خلال فترة التحقيق التي امتدت قرابة عام كامل، أو في الذهاب إلى سجن تدمر. وفي تدمر بقينا خمس سنوات رأينا فيها نجوم الضحى والعماء. وشاهدنا وعانينا ظروفاً قاسية يصعب على اللغة أن تطالها. وربما لهذا السبب سمّيت نصي المفتوح ب ( خيانات اللغة والصمت ). وكنت واثقاً من أن اللغة إذا أرادت أن تعبّر عن طبيعة الظروف المفجعة التي عايشناها فلابد أن تخون، وفي الوقت نفسه كان الصمت خيانة ثانية. إذاً، لم يكن أمامي سوى أن أقارب ما عانيناه من خلال عشرة اللغة. حقيقة كان واضحاً لي منذ البداية أن ظروف السجن، خاصة عندما تتقدم السنوات أو تتراكم أو تصبح قطاراً طويلاً متعباً من الصفير، ويائساً من المحطات، لا يبقى أمامك سوى أشياء تشبه النسيان. أو أشياء أخرى تتيح لك التحليق خارج إطار  ذلك الفضاء الضيق. إن الشعر بالنسبة لي هو العنصر الرئيسي الذي يخفف عني وطأة السجن. كنت متيقظاً إلى أن شروط السجن ممكن أن تطبع تجربتي الشعرية بطابع ضيق أو خاص أو ربما مباشر، ومع ذلك فقد أصررت على أن أكون أميناً في عكس تجربتي من خلال الشعر. إن تجربتي كسجين هي بشكل ما تجربة كل سجين. فحتى عندما كتبت بضمير ( الأنا ) كان يمكن لهذا الضمير أن يعني أي سجين آخر. أي بمعنى أن أي سجين يستطيع أن يقول أنا كتبت هذه القصيدة أو عانيتها. كما حاولت جاهداً  عبر الحلم والخيال والذاكرة أن أخرج من هذه الربقة، وكان هذا الأمر مريحاً بالنسبة لي. في بعض الأحيان كنت أخرج إلى مسائل تتعلق بالحب. الحب بفهمه العام، حب الإنسان، حب المرأة، حب الزرقة، حب القيم النبيلة وما إلى ذلك. كنت أخرج أحياناً إلى مناخات التصوف التي أتاحت لي التخلص من أجواء السجن، وبالتالي أن أنوّع ميادين الكتابة. هكذا استطعت أن ألوّن العديد من القصائد، لكن مع ذلك ظل مناخ السجن ينيخ بثقله عليَّ، ولم أكن ضد ذلك. كان الهم الأساسي بالنسبة لي ألا يكون الأمر صورة فوتوغرافية، أو شهادة وثائقية. هذا يمكن أن أفعله في النص المفتوح أو في أي نص نثري. أما في الشعر فان يكفيني أن أنقل المناخات. لا أدري إلى أي درجة وفقت، ولكنني أمتحن بعض القصائد الآن من خلال بعض المهرجانات والأمسيات الشعرية عبر الجمهور، وأزعم أنني نجحت في بعضها. وهذا النجاح في الامتحانات الأولية يكفيني. أحاول الآن أن أرتب مخطوطاتي التي لا تحتاج إلى جهد كبير كي تبدو ناجزة تماماً. هناك أمر آخر انتبهت إليه في السجن هو درجة إيماني بالشعر. في السابق كنت أكتب من دون أن أفكر في مسألة الإيمان بالشعر أو بدوره في الحياة، أو بانعكاسه على الذات. في السجن هنالك زمن طويل، فائض، بليد، لزج، ورجراج يتيح لك التأمل لفترات طوال. وخلال هذه الفترات اقتنعت أن الشعر هو نصير الحياة، وبالتالي فهو نقيض الموت. وهو نصير الحرية، ولا يستطيع أن يكون غير ذلك. إذاً، فهو نقيض الأسى أيضاً. كما اتضح لي فيما بعد أنه لم يكن يأخذني إلى فسحات الحرية فقط خلال فترة سجني، وإنما أسهم إسهاماً فعاّلاً بمنحي حريتي، وهي الإفراج عني من السجن. وأعتقد أنني لو لم أكن شاعراً لبقيت في السجن كما بقي معظم رفاقي هناك. ولحسن الحظ أنني كنت شاعراً الأمر الذي أتاح للعديد من الأصدقاء من المثقفين السوريين والعرب والعالميين أن يركزوا على هذه النقطة. هكذا منحني الشعر حريتين، حرية داخل السجن بصورة ما، وحرية خارج السجن. وأنا الآن أسبح على نحو أعلى وأسمى في سماوات الشعر.

• أريد السماء كلها
•  في محاضرتك في قاعة ( دو بالي ) في أمستردام قلت إن زرقة السماء قد خنقتك حينما واجهتها أول مرة بعد خروجك من السجن. هل لك أن تتحدث لنا عن هذا التضاد اللامعقول؟ كيف خنقتك الفضاءات الصافية المفتوحة وأنت السجين الذي كان يتشوق لأن يرى نقطة ضوء لا غير، وأن يستمتع بصخب الحياة وفوضاها الأبدية؟

• في الحقيقة أن صدمة الحرية كانت أخف وطأة عليَّ بالمقارنة مع معتقلين آخرين أفرج عنهم، ومع ذلك شعرت بهذه الصدمة رغم ما منحني إياه الشعر خلال فترة السجن من فسحات حرية، ولكن أن تغدو أكثر حرية بالمعنى الجسدي والمكاني بعد أربعة عشر عاماً فإن الأمر ليس سهلاً ولا يمكن تجرعه دفعة واحدة. لقد كنت مؤمناً بأنني سوف أشرب الحرية يوماً ما حتى الثمالة، بيد أنني اكتشفت أن عطشي للحرية أشد مما كنت أتوقع، وأن أمامي مياه وخمور وقداسات كثيرة، وقد كان شوقي شديداً لتجرعها دفعة واحدة، ولكنني لم أستطع أن أفعل ذلك. كنت أنظر إلى مساحات مترامية من الزرقة، ولكن مع الأسف لم تكن تلك المساحات متاحة في السجن. كنا أحياناً نختلس نظرة خاطفة لنرى قطعة من السماء، ولكنها كانت محجوبة ببرقع من الأسلاك الشائكة الأمر الذي حيرني كيف أسبح. وأين أعوم؟ أريد السماء كلها، أريد الفضاء كله، أريد الأصدقاء كلهم. أريد الذكريات والماضي والحاضر والمستقبل كله دفعة واحدة. أعتقد أن الحرمان من الحرية داخل شروط السجن يؤسس لنقيض جارح وممض أحياناً، ولكن ما من سبيل للتدرب عليه إلا كما يتدرب الطفل  على المشي، يتعثر أو يتعب أو يفشل، ولكنني كنت مؤمناً بأنني يوماً بعد يوم سوف أبدأ بالتلاؤم مع حريتي. لم يكن حصولي على الحرية شيئاُ عادياً، لأنني عندما كنت في السجن لم أكن أتخيل أنني سوف أرتدي حذاءً، أو ألبس بنطالاً وقميصاً. في السجن كنت أرتدي البيجاما طوال الوقت. فلم يكن سهلاً عليَّ أن أرتدي حذاءً أو ثياباً رسمية وأسير بخطىً تبدو عادية أو غير ملفتة للانتباه. وكان أهلي وأصدقائي من حولي يدركون ذلك، ولكنني كنت واثقاً من أن تجربة الطفولة وقدرة الطفل على التعلم والتخطي هي تجربة معلمة واستثنائية، لذلك فإنني اقتنعت بأنني قادر على التلاؤم والتقدم وتجاوز الذاكرة، ونسيان الجسد بوعيه أو لا وعيه، بحركاته الفيزيائية أو ما شابه ذلك. وعلى الرغم من كل ذلك لم أشعر بالحرية تماماً كما كنت أتخيلها. لقد احتجت إلى بضعة شهور حتى بدأت أتلذذ بالحرية ، أو أتمكن من إيقافها قليلاً، أو التعاطي معها شيئاً فشيئاً. لم أعد شديد العطش أو شديد الجوع لهذا بدأت أفكاري الواعية تضبط سلوكي ورغباتي. مع ذلك أوافقك بأن هناك ثمة تناقض، ولكن هل يمكن لنا أن نرى النهار من دون الليل؟ أو هل يمكن لنا أن نرى الحب من دون الكراهية؟ وفي الأساس هل يمكن لنا أن نرى الحرية من دون مقارنتها بالسجن؟ أنا أرى الموضوع يشبه المثل العربي الذي يقول : ( إن الصحة هي تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه غير المرضى ) أنا أزعم أن الحرية هي تاج على رؤوس الأحرار لا يراه إلا الأسرى. كنت أرى تجربتي قبل السجن على نحو مختلف بالمقارنة مع تجربة السجن، وبالتالي أزعم أنني استمتع بحريتي جيداً، ولا ينغّص هذه الحرية سوى أن هناك مئات من المعتقلين لم يحصلوا على حريتهم حتى الآن. وأن هناك العديد من الناس الذين أُفرج عنهم ولم يستطيعوا شق طريقهم في الحياة لأن ظروفهم صعبة وقاسية ومشروطة بالعديد من الموانع مثل حرمانهم من الحقوق المدنية، الأمر الذي يفضي إلى ضيق الخيارات، وانعدام فرض العمل، وصعوبة تأمين الجانب المعيشي. ضمن هذا الحد أستطيع أن أقول إن حريتي لم تكتمل بعد. إلا أنني أحلم وأطمح، ولا أرى الأمر طوباوياً أو مستحيلاً، بأن يأتي ذلك اليوم الذي أشعر فيه بكامل حريتي. كنت أحلم أن أخرج من السجن ولا ألتفت إلى الوراء، أي أخرج من دون أن أترك ورائي سجناء، ولكن للأسف عندما خرجت اضطررت لأن التفت ورائي لفترات طوال. كنت أشعر أن السجناء الآخرين سعداء لي مثلما هم سعداء لخروج أي سجين. وربما كان بعضهم يراهن على أنني سأتحرك على نحو ملائم يخدم الحرية بوجه عام وحريتي كسجين.
• حدود النزف

• أنجزت مجموعتين شعريتين قبل أن يزوجك في السجن، وكتبت في السجن نماذج أخرى من القصائد، وعندما خرجت كتبت وما تزال تكتب الشعر. ما هي أوجه الشبه والاختلاف بين منجزك الشعري عبر هذه المراحل الثلاث؟

• بالنسبة للمجموعتين الأوليتين لم أكن مهتماً كثيراً بمسألة الشكل الفني. للحقيقة أقول كنت أكتب من دون اعتبارات محددة. فلتخرج القصيدة بشكل عفوي كما تشاء، لأن همي كان منصباً على المضامين التي سأتناولها. في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات كانت المسألة الوطنية مطروحة بقوة في ساحتنا السورية. وأنا بطبعي مهتم بهذه القضايا، وبالتالي كنت أتناول معظم مواضيعي من هذه الزاوية التي تنسجم مع وجداني ومشاعري وقناعاتي. في السجن تأملت كثيراً في تجربتي الشعرية السابقة، وقرأت الشروط الموضوعية التي كانت قائمة، والتي بدأت تتغير لاحقاً، ولا سيما في أواخر الثمانينات الأمر الذي جعلني أعيد النظر في العديد من الاعتبارات. كما وصلت في الوقت ذاته إلى العديد من القناعات. لذلك انصبّ اهتمامي على الشكل الفني، وكنت على قناعة تامة بأن الشكل الفني الحقيقي الأجمل لابد أن يحتوي على مضامين جميلة. هكذا بدأت أترك الحرية لنفسي لتغدو أوسع وأكثر طلاقة. كان هناك الكثير من الموضوعات، التي هي أشبه بذكريات، تراودني باستمرار، وأعرف أنني لم أكن أكتب عنها لاعتبارات تتعلق بعربيتي أو بقيمي الأخلاقية أو برؤيتي للمسألة الوطنية. اقتنعت أن الأمر لم يكن صحيحاً، وأنه يحتاج إلى جرأة كبيرة، وانسجام أعلى مع النفس. هكذا بدأت الكتابة في تلك المواضيع التي لم أكن أكتب عنها سابقاً. كتبت عن المرأة، لكن ليس بالطريقة المعهودة. المرأة في السجن غدت بالنسبة لي شيئاً مختلفاً عما كانت عليه في السابق. لقد أصبحت حلماً له شيء من القداسة، أو رمزاً يمتلك بعض المواصفات التي تحدثت بها حضاراتنا عن الآلهة. لقد أصبحت أماً وحبيبة وأثيراً يمكن أن أسبح خلاله بحرية. وفي النهاية أصبحت معادلاً للشعر، وربما معادلاً للحرية. لا يهمني أن يكون الشعر عمودياً أو شعر تفعيلة أو شعر حر. المهم أن القصيدة تنزف في داخلي أولاً، ثم أحاول أن أتلمس حدود هذا النزف وشكله، وعندما أستقر على توصيفه أترك له حرية أن يتدفق ويعبّر عن نفسه. وبالتالي ربما كان أمراً مفاجئاً بالنسبة لي أنني كتبت قصيدة عمودية بعد انقطاع عشرين عاماً عن كتابة القصيدة العمودية. كما كتبت قصيدة التفعيلة، ثم اكتشفت أن هناك مواضيع عديدة في السجن لا يمكن أن تُكتب شعراً، لذلك لجأت إلى النص المفتوح. حينما كنت أسمع عواءات السجناء في تدمر لم يكن ممكناً أن أعبّر عن مثل هذه الأشياء بطريقة موزونة، حتى وإن صار الوزن بالنسبة لي آلياً. ولكن مثل هذه المواضيع لابد لها أن تنزف نفسها بطريقة أخرى غير طريقة الشعر الحر. في النهاية اقتنعت أن الشعر هو الشعر سواء أكان عمودياً أم تفعيلة أم حراً وهذا هو المهم. ومع ذلك بقيت هناك سمات مشتركة بين كتاباتي قبل السجن، وخلال السجن. أما بعد السجن فسأرجئ الحديث عن هذه المرحلة، فلربما تأخذ ملامح جديدة. أما أوجه التشابه فان الشعر ينضح عن مخزون لا واع موغل في القدم. فالشعر هو الرجل والمرأة والشاعر، وبالتالي ثمة خصائص أو أفكار أو مناخات أو صور أو مفردات ثابتة لا أستطع أن أتخلص منها ربما بدأت منذ طفولتي المبكرة. خذ مثلاً لفظة الريح فستجد أن لها في داخلي دلالات عديدة في شعري. أمي تتردد في شعري كثيراً. الظلال كذلك، ربما لأنني ترعرعت في قرية مليئة بالأشجار والظلال. ترى هل هو حنين لعالم متخيل؟ لا أدري. لغتي بشكل عام موروثة من قراءات الشعر الجاهلي أو الشعر العربي القديم بوجه عام، لذلك أشعر أن قاموسي اللغوي ظل يتناول أحدث المواضيع أو الاشكاليات بلغة لا أدري إن كانت سلبية أم إيجابية، لكنها في النهاية لغتي التي أشعر أنها تجري وراء الأشياء التي ينبغي التعبير عنها بدرجة من القسوة، والجرس الحاد الجارح موسيقياً حتى في قصائد الشعر الحر. هذا الموضوع لم يفارقني أبداً، وبالتالي أزعم أن ملامح اللغة أو القاموس اللغوي ظل سائداً في شعري. أما على صعيد المواضيع فقد تغيرت الأمور كثيراً. في السابق لم أكن أكتب في الصوفية. الآن كتبت. لم أكن أكتب في الغزل، لاحقاً كتبت. كما كتبت في المسائل الفلسفية والإنسانية. في السجن تركت نفسي تحلق في فضاءات أخرى جديدة. ربما أن علاقتي بالشعر أو إحساسي الداخلي به قد تغيّر. أو ربما بدأت أقيم علاقة من نوع خاص مع القصيدة. لا أدري هل أسميها علاقة حب؟ أحياناً تغدو القصيدة امرأة. وأحياناً تناورني القصيدة، وأقبل بمناورتها وقد حاولت جاهداً أن أدللها، وأن أكون مرناً معها. أحياناً أتخيلها تخلع ثيابها وتدعوني إلى الفراش فأستجيب لها وأخلع ثيابي. وكنت أدرك أن القصيدة ترتديني أحياناً، بينما أظل أنا عارياً. بصورة ما اشعر أن قصائدي فضحتني في العديد من المواقف التي رغبت أن أكون مفضوحاً بها. وبالتالي أزعم أنني عبّرت عن نفسي، أو تركت لها أن تعبّر عن نفسها بحرية.
• حليبي كان طاهراً
• قلت غير مرة بأن والدتك هي التي علمتك الشعر، وهي التي عمقت لديك التمسك بالهاجس السياسي. هل لك أن تعزز لنا هذه الفكرة؟

•  أمي تكتب الشعر باللهجة الشعبية، وهي تعتقد أن أفضل الأفكار والقيم الإنسانية يمكن أن تقال عبر الشعر. الشعر هو المعلم الأول لكل ما هو جميل وإنساني ونبيل. وكانت ترى بعكس ما يرى الآباء والأجداد أن الشعر هو الصدق، وحين كنت أناقشها بأن الشعر هو الخيال، وأن الخيال لا علاقة له بالواقع، وبالتالي يمكن أن يبتعد عن الصدق، وأن أكذب الشعر أجمله. ربما لم تكن تفهم كلامي تماماً، ولكنها كانت تقول: لا، حتى لو كان الشعر لا يتعلق بالواقع تماماً، ولكنه يخرج من القلب وبالتالي فهو صادق. قيمة الصدق كانت مهمة، ليس في الشعر فقط رغم أن له أصحاب، وإنما في الحياة أيضاً. الكذب بالنسبة لها شيئاً مرذولاً تماماً، وهي تعتقد أن الرجل الكريم لا يكذب، وأن الرجل الشجاع لا يكذب، وأن الرجل العادل لا يكذب. وأن الكذب هو من خصال اللؤماء والفاسدين الذين لا يمتلكون أية قيم أخلاقية. وكانت تقول حتى لو كلّف الصدق أن يخسر المرء حياته فينبغي أن يخسرها راضياً. وعندما بدأت نشاطاتي السياسية تتضح لها كانت تكتفي بأن تحذرني: كن منتبهاً، لا تفرّط بنفسك بسهولة، ولا تخن قناعاتك أيضاً. أحياناً كانت تقول لا بأس أن يذهب ثلاثة من أبنائي فداء الحق والشعب والكرامة والحرية. ولكنها كانت تلوم نفسها لأنها ليست منسجمة مع نفسها وتقول: أنا أضحي بثلاثة، لكن لا أستطيع أن أضحي بالستة. كانت توصيني دائماً: يا بني أنا لا أسمح بغير الثلاثة. هل ضريبة الوطن على أسرتنا فقط. أنا أضحي بثلاثة، لتضحي الأمهات الأخريات بواحد. لاحقاً طلبني الأمن فاضطررت للتخفي، لم تعترض أمي ولم تنزعج، ولم تبدِ لي حزناً أو تأثراً. وكانت تتوقع بين يوم وآخر أنني ينبغي أن أُعتقل، ولكنني ظللت بضع سنوات متخفياً إلى الحد الذي اقتنعت فيه أنه لا يمكن اعتقالي، لكن المسكينة عرفت فيما بعد أنني أُعتقلت، وبعد ست سنوات تمكنت من زيارتي، وكانت تلك هي أول مرة أُزار فيها. ثم مثلت أمام محكمة أمن الدولة، وحكمت عليَّ بخمسة عشر عاماً مع الأشغال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية. سألتها خلال الزيارة: هل تعرفين كم حكموني؟ قالت: لا. قلت لها: خمسة عشر عاماً! قالت: أليس هذا هو الحد الأدنى يا بني؟ قلت لها: أعتقد ذلك. قالت: إذاً، الحمد لله. قلت لها: أنتِ ظللت ورائي لكي أكون صادقاً ولا أخون قناعاتي، ولا أخون مصالح الشعب، وأن أدافع عن كرامته وحريته إلى أن وصلت إلى هذه النتيجة. قالت: ألست راضياً؟ قلت: بلى. قالت: علمتك ذاً ما كان ينبغي أن أعلمك إياه. لاحقاً قال لها أحد الأصدقاء أن ابنك يستطيع أن يخرج من السجن، لكنه لا يريد ذلك. وعندما استفسرت مني قلت لها: نعم، أستطيع أن أخرج، ولكن هل تقبلين أن أخرج محني الرأس. قالت: كلا، يا بني أريدك أن تخرج مرفوع الرأس مهما كلفك الأمر من ثمن. لاحقاً خرجت ولم يتغير شيء في أمي. فقط أكل الدهر جزءاً منها، وأنهكتها المعاناة، وشعرت أنها عجوز، وأنها أصغر حجماً، وأوهن صوتاً، ولكنها ظلت تقول: إن حليبي كان طاهراً.
• هل نتحدث عن كل ما رأيناه؟

• كتبتَ نصاً سردياً عن تجربة السجن عنونته مؤقتاً ب ( خيانات اللغة والصمت )؟ هل تعتقد أن مضمون هذا النص يختلف كثيراً عن نصوص الأدباء العرب الذين عاشوا تجربة السجن وهم كثيرون بحيث يصعب حصر أسمائهم الآن؟

• اعتقد أن نصي شكلاً ومضموناً مختلف عن كل ما قرأته من كتابات عربية عن السجن. أزعم أن هناك عدة أسباب. الأول هو طبيعة تجربتي في السجن لأنني أعتقد بأن أي شاعر في الوطن العربي لم يتعرض لتجربة مشابهة لتجربتي في السجن سوى الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي الذي حُكم بعشر سنوات سجن، وخرج إثر ضغط حملة دولية واسعة النطاق بعد أن أمضى مدة ثماني سنوات. ويمكن أن أتحدث عن الشاعر المصري محمد عفيفي مطر، لكن للأسف، لم يُتح لي أن أقرأ كامل كتاباته عن السجن. باستثناء هذين الاثنين  لا أعرف شاعراً خاض تجربة السجن زمناً طويلاً. هناك، طبعاً، شعراء كثيرون خاضوا تجربة السجن لسنة أو سنتين أو خمس سنوات. والسجن كما لمست أخيراً هو ليس التحقيق ومرارته أو التعذيب وآلامه، ولا شروطه البائسة. السجن هو زمن. إن خصوصية تجربتي، وما أتاحته لي من مشاهدات عديدة ربما لم تُتح لكتاب آخرين أن يروها، وبالتالي فقد عبّروا عما رأوه وعانوه خلال فترة زمنية قصيرة في سجن واحد، بينما تنقلت أنا إلى سجون وفروع عديدة. ورأيت سجناء متهمين بتهم عديدة. ولسوء الحظ عندما أُعتقلت أنا كان الوضع في السجون قاسياً جداً بشكل لا يمكن تصوره إلى درجة كنا نتساءل نحن الأصدقاء عندما نخرج هل نتحدث عن كل ما رأيناه أم نخفف من الصورة المرعبة قليلاً؟ فكنا نتفق جميعاً على ضرورة تخفيف الصورة، لأننا إذا تحدثنا عن ما رأيناه لابد أن يتهمنا الآخرون بالكذب أو بعدم السلامة العقلية. أما من زاوية الشكل فقد كتبت نصي على نحو لم أجربه سابقاً، ولا أدري إن كان يتشابه مع نصوص الآخرين. أنا قرأت روايات وقصصاً قصيرة وقصائد كثيرة، غير أن نصي ليس كذلك. فليس هو يوميات، ولا هو سيرة ذاتية بحتة، ولا هو قصص أو خواطر. بالمناسبة يمكن تحويل نصي إلى رواية ببساطة رغم أنه ليس رواية، لكنني حاولت أن أراعي فيه البعد الأدبي من جهة، ومصداقية الشهادات من جهة أخرى. هناك كثيرون كتبوا شهادات أو يوميات أو نصوص روائية، غير أنني كتبت ما بين هذه الأشكال كلها، وأزعم أنه قابل لأن يكون رواية أو قصصاً قصيرة أو فيلما أو كل هذه الأنواع معاً. حتى الآن لا أدري ما هو التصنيف المناسب الذي يمكنني أن أطلقه على هذا النص. ومع ذلك فإنني أتحدث عن أمر ليس بين يدي القرّاء، وأنا أفضل أن أترك الحكم الأخير للقراء لاحقاً.

• الحرية مفهوم مثالي

• ما هو مفهومك للحرية الآن وأنت تتجول في البلدان الأوربية؟ وهل ستكتب نماذج إبداعية عن المنعطف الجديد في حياتك بعيداً عن القيود والمساحات الضيقة؟

• أعتقد أن مفهوم الحرية هو مفهوم نظري، وربما حلمي. أما على الصعيد الواقعي فليس ثمة حرية مطلقة، ولكن المفهوم الحلمي للحرية يتيح للبشر أن يطمحوا إلى أبدع مما هو كائن. كما أن الحرية لا تنتهي، ولا يتوقف الذهاب إليها. لست واهماً بصدد مفهوم الحرية في أوربا، ولا بصدد تجربة البشر السابقة، ولا حتى في الشيوعية. في كل هذه الأشكال ليست هناك حرية مطلقة. ربما حاولت الشيوعية أن تلامس مفهوم الحرية المثالي أو الحلمي، وهو بالتالي حالة تبشيرية. في الشعر أنا أعيش هذه الحالة التبشيرية في داخلي وفي خيالي. أما واقعياً فإن هناك فوارق وعوائق عديدة. ومع ذلك لم أتوقف عند حد أعلى من الحرية. في السابق كان مفهومي عن الدول الرأسمالية شديد العدائية إلى درجة أنني كنت لا أرى فيها إلا الشر المطلق، مع أن قناعاتي المادية التاريخية تقول أنه ليس هناك أمر مطلق أو شر مطلق. الآن للأسف لا مجال للمقارنة بين الحرية في البلدان الأوربية وبين الدكتاتوريات في العالم الثالث أو في عموم البلدان المتخلفة التي تعيش أدنى مما يليق بالمجتمع البشري أن يبلغه بكثير. ومع ذلك أنا مضطر أن أكون نسبياً، وبالتالي أن أرى ما هو قائم في أوربا وما هو قائم عندنا. إن ما أكتبه شعراً يختلف عما أكتبه نثراً، لأنني في النثر أسمح لحضور العقل بدرجة عالية، بينما في الشعر أسمح لنفسي بالاستسلام لرغباتي وأحلامي، وبالتالي ما يمكن أن أكتبه لاحقاً ينبغي بالضرورة أن يكون مختلفاً، لأن تجربة ما بعد السجن مختلفة حتى لو كنت في سوريا ولم أغادرها سأكتب شيئاً آخر. أشعر أن الزمن الآن لا يزال ضيقاً بالنسبة لي، وأن ما ينبغي إنجازه كثير، بيد أن اليوم لا يزيد عن 24 ساعة.

• القصيدة ميدان حر

• هل تغلّب الجانب الفني على الجانب الإيديولوجي في كتابة نصوصك الشعرية؟ وهل تعتقد بإمكانية أدلجة القصيدة ونجاحها إذا ما ذهبت في هذا المذهب؟

• لم أعر في تجربتي الشعرية داخل السجن ولا الآن انتباها إلى الجانب الآيديولوجي حتى لو تسربت الآيديولوجيا من اللاوعي لا إرادياً، فأنا لا أرغب في التعاطي مع هذا الجانب. الجانب الفني هو بشكل أو بآخر هو جانب آيديولوجي، وبالتالي ليكن الجانب الفني أكثر حرية ليعبّر عن آيديولوجيا هي مع الحرية إلى أبعد حد ممكن. الجانب الفني أكثر إنسانية وديمقراطية مع صاحبه وقارئه، بينما تؤكد قناعتي أن كل آيديولوجيا عمياء. ومع ذلك يمكنني أن أقول لا يوجد إنسان خارج الآيديولوجيا، ولكن ثمة آيديولوجيا مخططة محفوظة يتمترس وراءها المرء ولا يمكن له أن يرى غيرها كما لو كان على عينيه غمامتين. وأعتقد أنني الآن لا أمتلك آيديولوجيا محددة. ربما لا أزال أمتلك منهجاً مادياً تاريخياً إلا أنني لا أتبنى الآيديولوجيا الماركسية أو اللينينية، أو أية آيديولوجيا أخرى. آيديولوجيتي هي مجمل ثقافتي وتراثي وتراثات العالم، وهي مجمل قيمي التي ورثتها عن الثقافة العربية والإسلامية والثقافات الأولى لنا منذ سومر وحتى الآن بما في ذلك الثقافات الأجنبية. كما أن آيديولوجيتي هي ثقافتي التي ورثتها عن الأديان بكافة أشكالها سماوية أو أرضية. فهل يمكن لأحد أن يقول إن الحب قيمة مرذولة؟ لا أعتقد أن حزباً شيوعياً أو رأسمالياً أو قومياً، كما لا يوجد أي دين أو أية مرجعية في العالم تقول إن الحب قيمة مرذولة. الكل يعوَل على الحب، ولكن كيف تمارس هذه القناعة. أنا لست خائفاً عندما أقول إنني لا أريد أن أستند إلى مرجعية آيديولوجية ولكن قيمي وأخلاقي ومفاهيمي ووعيي يمكن أن يأخذ أكثر من آيديولوجيا. ما يهمني أولاً هو القيم التي يتفق عليها البشر الأصيلون والزائفون، العادلون والظالمون. أعني يتفقون عليها نظرياً لأن بعضهم يختبئ وراءها، وبعضهم يقف أمامها، وربما يضحي بحياته من أجلها. أنا أزعم أن موقفي الآن هو كذلك. وأزعم أن الفن هو حصان الرهان الأول، ولا يمكن أن يُراهن على غيره حتى لو تعارض هذا الأمر مع الآيديولوجيا مهما كانت. أما أدلجة القصيدة فأزعم أنها أمر مستحيل، وإلاّ لم تكن قصيدة. قد تكون منظومة نظماً. أنا أذهب إلى القول بأن النثر ينبغي ألا يكون آيديولوجيا بالمعنى الذي أشرت إليه، فما بالك بالقصيدة التي هي ميدان حر. وبالتالي إذا كانت الحرية آيديولوجيا فأنا مع هذه الآيديولوجيا. ربما كتبت قصائد ليست مؤدلجة تماماً قبل عشرين عاماً، أو فيها شيء من الانحياز للجانب الآيديولوجي، لكنها تظل نقطة ضعف ليست في صالح الشعر. أي أنها تصبح قصائد مطعمة ببعض المقاطع التي هي في الحقيقة ليست شعرية.
• أيام متشابهة وحيادية
 
• إلى أي مدى استطاع السجن أن يعمق تجربتك الشعرية عمودياً، ويفتح مخيلتك أفقياً؟ ألا يستطيع الشاعر أن يجوب الآفاق من خلال مخيلته المجنحة حتى وإن كان منزوياً في ركن معتم من سجن تدمر أو غيره من سجون العالم؟

• أعتقد أن السجن يفسد الذاكرة والخيال والمشاعر والبصيرة، وبالتالي يمكن أن يفترض المرء إذا لم يعش هذه التجربة إن السجن فرصة ستفرز نقيضه. ولكي تتغلب على هذه الأطر الضيقة ينبغي أن تنطلق بخيالك هذا صحيح كآلية نفسية، ولكن واقع الحال غير ذلك. فمع الزمن عندما تتكرر الأيام بشكل متشابه أو حيادي، وعندما يحتل الرمادي كل الألوان، ويكون هو الزمان والمكان والوقائع والأبواب والذكريات عندها لا تعود المخيلة خصبة ومجنحة ورحبة، ومع ذلك ليس أمام السجين إلا أن يحاول عبر هذه المخيلة. ورغم قناعتي بكل ذلك فقد حاولت أن أساعد مخيلتي، وأن تساعدني المخيلة للخروج من تلك الأنفاق. كنت أنجح أحياناً، وأحياناً كانت مخيلتي تصطدم باصطفاق أبواب الشعر التي تكفي لفتح وإغلاق عشرين جهنم. ضمن هذه الحالة يمكن أن تفرز المخيلة أشياء لا يمكن أن تفرزها خارج السجن. كل ذلك يغلفك بقيود تنبع أحياناً من الداخل، وبالتالي بقدر ما تؤطرك وتضغطك بقدر ما تستفز الحاجة عندك للخروج عنها حتى ولو في المخيلة. هكذا كنت أعتمد على المخيلة رغم قناعتي أنها تتخثر، ولكن ما من سبيل آخر، لذلك كنت أدفعها أو اترك لنفسي أن أنجر وراءها في حقول ومساحات وفجوات لم تكن قائمة خارج السجن، وبالتالي يمكن للقارئ أن يُدهش عند فكرة ما التقطتها المخيلة فيستنتج أن المخيلة خصبة لأنه سجين. واقع الحال يشير إلى غير ذلك. المخيلة في الخارج لا تضطر لكل ذلك. إنها تسبح على راحتها في الداخل، ولكن المخيلة تضطر إلى ارتياد فجوات وأنفاق جديدة ، وربما تهرب من نافذة صغيرة عبر نظرة خاطفة فتتشبث بكل ما التقطته من أشجار وطيور وسهول وجبال وأنهار ووديان وتضاريس. هذه الحالات يمكن أن توحي للمخيلة أن واقع الحال ليس كذلك.
• الدوران حول اللعنة
• إلى أين تميل كفة قراءات شعراً ونثراً؟ هل تفضل لا شعورياً قراءة المنجز الأدبي الذي كتبه الأدباء العرب الذين عاشوا تجربة السجن أم الأدباء الذين كانوا مسجونين أصلاً في فضاء الحياة العربية التي لا تلبي أبسط متطلبات الإنسان وحقوقه الشرعية؟

• بوجه عام أميل إلى قراءة الآداب المكتوبة بحد من الاحتفاء الخاص باللغة، وإن لم تكن اللغة سيداً في النص الأدبي فأضطر لقراءتها من باب الاطلاع والضرورة. وبالنتيجة لا يختلف الأمر بالنسبة لي أن أقرأ ما كتبه الأدباء العرب الذين عاشوا تجربة السجن أم الذين هم مسجونون في فضاء الحياة العربية. الاثنان بالنسبة لي سيان من زاوية قراءة الأدب. قد يكون لدي فضول أن أقرأ تجارب لكتاب كانوا مسجونين سابقاً، وأحاول أن أفهم كيف تطرح لغتهم هذه التجربة. ومع ذلك أشعر أن بعض من عاشوا تجربة السجن كانوا في داخلهم على الأقل أكثر حرية ممن يعيشون في فضاء الحياة العربية، لكن مع ذلك كنت أفكر قبل السجن، وفي السجن بشكل خاص بكتابات من عاشوا في المنفى. لا أدري لماذا كانت هذه الفكرة تلاحقني باستمرار. العلاقة بين السجن والمنفى بوصفهما وجهين لميدالية واحدة. في عام 1975 كنت في بودابست، وكتبت في حينها قصيدة قارنت في أحد أبياتها بين السجن والمنفى. في السجن كتبت قصائد عديدة من بينها قصيدة بعنوان ( دوران ) وفحواها أنك في السجن أنت الذي تدور حول اللعنة، بينما اللعنة في المنفى هي التي تدور حولك. في السجن كنا نتحاور كثيراً، غير أنني كنت على قناعة تامة بأن المنفى أشد وطأة من السجن رغم تشابه الوجهين في كثير من الميادين. وعندما أتيت إلى أوربا ترسخت لدي هذه القناعة. فمثلما التفاصيل اليومية تأكل حياة السجناء، فإن تفاصيل الغربة تأكل حياة المنفيين. الحنين في السجن يتوهج إلى الأهل والأصدقاء، مثلما يتوهج الحنين في الغربة إلى الوطن والأهل والأصدقاء. الإحساس بالعجز في السجن يطرح نفسه بقوة، كذلك يتأكد هذا العجز في المنفى. انمحاء الهوية يتجسد في السجن، كذلك يتجسد هذا الانمحاء في المنفى. في المنفى حرية مكانية، وربما هامش من الحرية يتيح لفعالية أكثر. هنا تستطيعون الدفاع عن المعتقلين.، بينما المعتقلون لا يستطيعون أن يدافعوا عن أحد، ولكن هذا الأمر لا يغير من حقيقة الصورة. فمعاناة المنفي ومعاناة السجين متشابهة إلى حد كبير. وأنا أشعر بأني سعيد الحظ لأن قضائي قد ساقني إلى السجن لا إلى المنفى. قد يبدو هذا الحديث مريراً للبعض، أي كما لو أن على المنفيين أن يعودوا إلى بلداهم ويدخلوا السجن. أقول أنهما أمران أحلاهما مر. بوجه عام أميل إلى كتابات المنفى وكتابات السجن. أو دعني أقول أميل إلى قراءة الأدب بجمالية أعلى. وكم قرأت لأدباء عرب يعيشون ضمن فضاء الحياة العربية الخانق، وشعرت أنهم يكتبون عن آلامهم بروح إنسانية وبنفس فني أفضل من السجين الذي عاش تجربة السجن ومناخها الخانق. كما قرأت في المنفى كتابات بهذا المستوى من الجودة الفنية. إذاً، دعني أختصر وأقول ليس مهماً إلى أي ميدان أميل، بل يمكن أن أقول إلى نوع من اللغة أو الأدب أو طريقة التناول الفني. أميل إلى الجانب الفني، وحتى لو كانت فنيتي أقل فهذا لا يعني أنني أميل إلى الكتب الأقل فنية، بل آمل أن ترتقي فنيتي إلى الدرجة التي تلبي أحلامي وطموحاتي الأدبية.
• ظلال السجن

• كيف يتعامل معك النقاد أو القراء؟ هل تشعر أنهم يرون فيك الشاعر قبل السياسي أم العكس هو الصحيح؟ وأنت أراك تقدم الشاعر على السياسي على الرغم من المرارة التي سببها لك الثاني؟

• أعتقد أن الكتابات النقدية عني ليست كثيرة لا قبل السجن ولا في أثنائه والسبب معروف. أنا أعرف نقاداً كثيرين لا يستطيعون الكتابة عن تجربتي الشعرية. وازداد الأمر سوءاً عندما كنت متخفياً. فالكتابة عني سوف تورث صاحبها اشكالات عديدة. خلال السجن أصدرت كتاب ( حمامة مُطلقة الجناحين ) في داخل سورية، ولكن لم يجرؤ أحد أن يكتب عن هذه المجموعة، ولكنني قرأت في عدد من الصحف العربية بعض المقالات، وارتحت إلى فكرة تقول: ( على الرغم من أن الشاعر سجين إلا أن كتاباته نجت من ظلال السجن وسواد ملامحه ) وأشاروا إلى الأسباب التي استطعت من خلالها أن أخرج من هذه الاشكالية. ربما أشار البعض إلى أن عنصر الحزن هو الذي حماني من الوقوع في مطب المباشرة. البعض الآخر أشار إلى الاعتماد على الذاكرة واستنفار طاقتها الكامنة في كتابة نصوص هذه المجموعة. لقد كنت مرتاحاً لهذه الآراء لأنني كنت متخوفاً من ألا يكون حكمي صحيحاً فيما كتبته، ولكن ما قرأته لعدد من النقاد العرب جعلني أكثر اطمئناناً إلى أنني لم أتورط كثيراً في مستنقع السجن ومناخاته الضاغطة أو الضيقة. لقد بدأت شاعراً قبل أن أنتمي لحزب ما، وعندما انتميت إلى الحزب توقفت عن كتابة الشعر لعدد من السنوات، ولكنني عدت إلى الكتابة في السجن. أنا أرى أن الشاعر يمكن أن يكون سياسياً، لكن ليس بالضرورة أن يكون السياسي شاعراً. كما أرى أن الثقافة بوجه عام هي أرحب وأوسع من السياسة، وأرى أن الأدب ضمن الثقافة هو الحقل الأجمل والأرقى والأكثر حرية واستقلالية. لهذا كنت ولا أزال شاعراً. وقد ساعدني الشعر في حياتي أكثر مما ساعدتني السياسة بكثير. ربما خدمتني السياسة أكثر مما خدمتها، وربما استطعت تحويل مرارتها من خلال الشعر إلى جانب فني وإنساني، أو لتقديم فعالية يمكن أن تكون مفيدة لي وللآخرين. بعد خروجي من السجن لاحظت أن عدداً كبيراً من الصحفيين الذين اجروا معي مقابلات كانوا يركزون على جانب الشعر أكثر من تركيزهم على جانب السياسة، وهذا في الحقيقة ينسجم مع داخلي، وفي الوقت نفسه لا يصادرني سياسياً. ربما يرى البعض فيَّ سياسياَ، أو أن السياسي فيَّ هو الذين لفت الانتباه إليَّ كشاعر. لا أريد الحكم على هذه النقطة، ولكن لنفترض حتى لو كان الأمر كذلك فأنا أستطيع أن أقول إنني دخلت السجن سياسياً، ولكنني خرجت منه شاعراً. وكان خروجي من السجن بفضل الحملة الدولية التي استمرت منذ أواسط التسعينات حتى تاريخ إطلاق سراحي. وهذه الحملة تعاطت معي كشاعر معتقل أكثر من تعاطيها معي كسياسي. اعتقد أنني لولا الشعر لم أكن حراً تماماً.
• مساحات محروقة
• ما هي الأشياء التي قوضها السجن في داخلك، وهل استطعت أن ترممها من خلال القصيدة أم من خلال التحدي النضالي؟

• أعتقد أن السجن قوض أشياء كثيرة في داخلي مثل بقية السجناء. وربما هناك في القيعان و الأعماق مساحات محروقة تماماً بحيث لم تعد هناك إمكانية لترميمها، ولكن الإنسان يمتلك قابلية كبيرة على التكيّف والتلاؤم والتحمل، ربما أكثر من قابلية أي كائن آخر بما في ذلك الخيول، لذلك استطعت أن أرمم جزءاً ليس بالقليل من مما قوّضه السجن سابقاً. وأزعم أن الشعر كان واحداً من هذه الأسلحة الداخلية، الأمر الذي جعل الخرائب في داخلي أقل من الآخرين. كان الشعر في داخلي يساعدني وأنا في الداخل على ترميم فوري وآني للعديد من الخسائر والإنكسارات. عندما خرجت من السجن ساعدني الشعر أكثر عندما أدركت أن درجة التعاطف من خلال من يعرفوني في السابق، أو سمعوا بي، أو التقوا بي. الشعر كان يخاطبني قائلاً: لاحظ لم تكن سنوات سجنك هباءً. إن الآخرين بحاجة إلى أشعارك، فهم يحبونها ويستفيدون منها. إذاً، التعويل الأساسي كان على الشعر، وليس على التحدي النضالي. كان بعض السجناء يلوموني على درجة تعنتي داخل السجن. إذ كنت أقول لو طلب مني أن أكتب تعهداً أقول فيه إنني أحب أمي لما كتبت أو وقعّت ذلك التعهد، لأنني كنت مصمما أن أخرج من السجن من دون توقيع، ولا يمكن، كما تعرف أن يخرج أي سجين من دون توقيع. وكنت أقول ذلك ليس لأنني سياسي، ولكن لأنني شاعر. ولا أريد أن أسجل في سجل الثقافة السورية، أو في سجل الشعر السوري أن شاعراً سوريا مقابل بضع عشرة سنة من الاعتقال تنازل عن شاعريته وشعره ونفسه وحقوقه وواجباته كي يخرج إلى الحرية الزائفة. وكنت مستعداً في الحقيقة لأن أستمر في السجن إلى ما لا نهاية، أعني حتى الموت داخل السجن من دون أن أتنازل، ولكن لحسن الحظ أن الشعر لم يخني، ولم يتنكر لي، ولم يتخلَ عني، بل أنه انتشلني ووضعني في الاتجاه الآخر. أنا الآن مؤمن بالشعر أكثر من السابق وواثق به ثقة كبيرة. الشعر معادل للحرية، وأشعر أحياناً أنه لا شيء يمكن أن يرمم داخلي أكثر من الشعر. وأحياناً أقول أكثر من المرأة. وأزعم أن المرأة هي أم الشعر، وربما هي العنصر الأول في ترميم أي جانب إنساني يرافقني في السجن، ولكن أريد امرأة قديسة.

• جفاف الصوت

•  ترجمت مجموعتك الشعرية ( حمامة مطلقة الجناحين ) إلى الإسبانية والفرنسية، وسوف تترجم إلى الهولندية في شهر أيلول القادم. ما هي ردود فعل القارئ الأوربي لأشعارك المترجمة؟ هل وصلتك بعض هذه الانطباعات؟
• حتى الآن ليس لدي تصور وافر حول ردود فعل القارئ الأوربي، وإنما لدي بعض الانطباعات التي وصلتني من خلال الآخرين إما عبر الرسائل أو عبر اللقاءات مباشرة أو عبر مشاركات في مهرجانات مثل مهرجان يوم الشعر الهولندي الذي أقيم في أمستردام، إذ أشار البعض إلى خصوصية المناخات التي طرحتها، والبعد الشفيف الذي يفرض حضوره على الآخر. كما أشار البعض إلى درجة الجفاف في المناخات المطروحة وتلاؤمها مع درجة جفاف الصوت أثناء الإلقاء. البعض أشار إلى خصوصية التجربة ووصولها بدرجة كافية من الوضوح رغم أنني تناولت الأمور من دون أي تساهل فني. ولا أدري قد تكون هذه الانطباعات انطباعات مجاملة أو انطباعات حقيقية أو نصف حقيقية. في النهاية لم أقرأ بعد الدراسات المكتوبة باللغة الأجنبية حول المجموعة المترجمة. أنتظر أن تترجم هذه الدراسات لأشكل تصورا دقيقاً حول هذه الآراء والانطباعات.
• نصوص مختلطة الملامح

• هل تحاول الإفادة من بقية الأجناس الأدبية والفنون القولية في كتابة نصك الشعري؟ وهل تؤمن بتقويض الحواجز بين هذه الأجناس الأدبية من أجل كتابة نص مفتوح يستجيب للقارئ المعاصر؟
• إن الفن الأساسي الذي أفدت منه في كتاباتي الشعرية هو الموسيقى، ربما لأن لدي ميول موسيقية منذ سن مبكرة، ولكنني لم أطلع بالمعنى المنهجي والدقيق على الموسيقى قبل فترة السجن، لكن في السجن أتيح لنا أن نصنع آلات موسيقية من أشياء بسيطة مثل العجين أو البلاستك. ثم نجحنا لاحقاً في تصنيع أعواد من الخشب قريبة لى حد ما من الأعواد النظامية. كما تعلمت قراءة النوطة وعزفها، وتعلمت المقامات والعديد من الأمور الموسيقية. فيما بعد اكتشفت أن العديد من المصطلحات الموسيقية بدأت تدخل في شعري. أعتقد لم يكن بإمكاني أن أقول شطراً مثل هذا لولا المؤثرات الموسيقية. ( كأن  الحياةَ   قرارٌ   رخيم       يردُ عليه الغطاءَ جوابٌ من الموت ) إن استخدام القرار والجواب هو استعارة واضحة من الموسيقى. حتى أن عنوان إحدى مجاميعي هو ( تقاسيم أسيوية ) ومفردة تقاسيم لم تأتِ هنا عفو الخاطر، وإنما جاءت من تأثيرات الموسيقى. وربما لم يكن عادياً أن أستخدم هذا التوصيف ( خطواً شجي التقاسيم ) أو ( كأن الخطى شكل إيقاعه ) وهناك العديد من المصطلحات التي استعرتها من الموسيقى، ناهيك عن إفادتي الحقيقية من الإيقاع الداخلي، والموسيقى الداخلية وشيوعها في الأعماق أو اللاوعي. أما حول تقويض الحواجز فأزعم أن ما من نظرية ناجزة في هذا الموضوع، ولا يهمني أن تكون هناك نظرية ناجزة. ما يهمني أن يكون هناك نص ناجز، وليس مهماً أن يقال عنه هذا ليس شعراً أو قصة أو مسرحية. المهم أن يكون النص مقنعا، جميلاً، مفيداً ومؤثراً. إنني أكتب نصوصاً فيها اختلاط ملامح من نوعين أدبيين أو ثلاثة أنواع. لكن بوجه عام لم أخض تجريبياً في ميدان من هذا القبيل، لا إرادياً ولا بشكل لا إرادي، ولكنني أقرأ أحياناً نصوصاً ناجحة للبعض لا يمكن تصنيفها وفق جنس أدبي، فلا هي قصة، ولا قصيدة، ولا خاطرة، ولكنها يمكن أن تكون كل هذه الأشياء مجتمعة. والموضوع رهن بالتجارب العملية للكتاب والفنانين في المستقبل.

• أُصنف ضمن جيل السبعينات

• أين تضع تجربتك الشعرية ضمن الأجيال الأدبية في سورية إذا سلمنا بوجود المجايلة؟ ومن هم الشعراء السوريون أو العرب الأقرب إلى روح الشاعر فرج البيرقدار؟

• يصعب عليّ أن أحدد أين أضع تجربتي ضمن الأجيال العربية. أنا أصنف ضمن جيل السبعينات. أما ضمن جيل السبعينات فلا أدري أين أضع موقع تجربتي الشعرية؟ ولم أسمع أن النقاد صنفوني ربما باستثناء ثلاث أو أربع مرات. قبل أن أتخفى كان هناك برنامج اسمه ( كاتب وموقف ) يبث من إذاعة سورية تحدث من خلاله بعض الشعراء مثل محمد مصطفى درويش وحسن عزت حول شعراء الستينات والسبعينات. وكانت هناك تهمة تقول إن شعراء السبعينات لا يمتلكون شاعرية ولا ثقافة ولا لغة ولا وعي، ويخطأون  في الوزن والنحو وما إلى ذلك. فكان الدفاع عن شعراء السبعينات من خلال عبد القادر الحصني ومن خلالي أنا كشواهد. وبعد أن تخفيت لعدة سنوات، وأعتقلت لمدة أربع عشرة سنة لم يعد سهلاً لأحد أن يتحدث عني. أما الآن فأنا أنشر في الصحف، وصدرت لي مجموعة جديدة، وأهيئ مجموعات أخرى للنشر فأعتقد سوف يكون من السهل على النقاد أن يكتبوا عن تجربتي في سوريا وفي خارجها. الآن لا أدري أين يمكن أن أضع تجربتي. ربما من خلال الكتابات اللاحقة سوف أستطيع أن أحدد ذلك. أما من هم أقرب الشعراء السوريين أو العرب إلى روحي فهم كثيرون، وإن أردت أن أحدد البعض منهم  فهم محمود درويش وعبد القادر الحصني ونزيه أبو عفش وآخرون كثر لا أستطيع أن أذكرهم الآن.

• الشعر أحد تيجان البشرية

• ألا تعتقد أن انتماءك إلى حزب سياسي معين قد يحد من أفق مخيلتك التي لا تقبل الترويض والانضمام إلى فئة أو تجمع أو شريحة ما. فالشاعر هو إنسان كوزموبوليتاني في داخله، القصيدة بيته، والبشرية أسرته ، أليس كذلك؟

• ربما يحد الحزب السياسي من أفق المخيلة لدى أي كاتب أو شاعر بدرجة ما. وهذا أيضاً يتفاوت بين شاعر وآخر. بالنسبة لي أزعم أن هذا الأمر قد حد من أفق مخيلتي طوعياً، ولكنه أيضاً فتح مخيلتي على آفاق أخرى. وسبق أن قلت بأن السياسة قد خدمت تجربتي الشعرية، أكثر مما خدمت تجربتي الشعرية السياسة. وربما لأن تجربتي الحزبية التي خضتها تمتاز بحد واسع من الحرية لأعضائها بما في ذلك آرائهم السياسية، ناهيك عن تجاربهم الأدبية. لم يحدث أن سمعت من أحد رفاقي ملاحظة أو دعوة تحيّز للكتابة بطريقة معينة. وبالتالي أنا عشت حياتي كشاعر بحد واسع من الحرية والاستقلالية عن نشاطي الحزبي أو السياسي. وقبل تجربتي السياسية كنت أكتب بطريقتي الخاصة عن فلسطين أو الوطن أو غيرهما. وعندما أصبحت عضواً في الحزب توقفت عن الكتابة الشعرية. توقفت ليس لأن الحزب لا يتيح لي الفرصة لكتابة الشعر. كلا، وإنما لأن مهماتي وانشغالاتي داخل الحزب لم تتح لي فسحة من الراحة والتأمل في الحياة اليومية. في السجن عدت إلى كتابة الشعر. لم أشعر في لحظة من اللحظات أنني كنت مروضاً لفئة أو تيار أو لخط سياسي محدد. أشعر أنني كنت وما أزال حراً. وفي المستقبل لو فكرت أن أعمل في حزب ما فبالتأكيد لن أفكر بالالتزام على حساب كتابتي الشعرية، لأن كتابتي الشعرية غير قابلة لأي اعتبار أو تحديد، إلا إذا كان هذا التحديد نابعاً من داخلي. إنني الآن، وفي فترة السجن كنت مؤمناً بالشعر أكثر من إيماني بأي حزب. وأيضاً صرت مؤمناً بالإنسان أكثر من أي وقت مضى بعد هذه الحملة الإنسانية الكبيرة التي ساهمت في إطلاق سراحي. مئات من الناس، ومن جنسيات متعددة، ومن منظمات مختلفة، بعضهم كتاب وفنانون أسهموا جميعاً بالضغط للإفراج عني. فإذا كان إيماني بالإنسان بهذا الشكل فإن إيماني بالشعر لا يقل أهمية عن إيماني بالإنسان. الشعر هو أحد تيجان البشرية.
• الشاعر في سطور

• من مواليد حمص/ سورية عام 1951.
• خريج قسم اللغة العربية/ جامعة دمشق. ( لم يتذكر الشاعر سنة التخرج ).
• في عام 1978 سجن الشاعر لمدة أربع أشهر ونصف بسبب كراس أدبي يصدر في الجامعة.
• صدر له حتى الآن:
•  وما أنت وحدك/ شعر. دار الحقائق – بيروت 1979.
• جلسرخي أو( رقصة جديدة في ساحة القلب ). قصيدة مطولة. دار الأفق. بيروت 1981.
• حمامة مطلقة الجناحين. إصدار خاص.1979.
• تقاسيم آسيوية. دار حوارات. 2001.
• ترجمت مجموعة ( حمامة مطلقة الجناحين ) إلى الفرنسية والإسبانية والسويدية، وسوف تترجم إلى الهولندية في مطلع سبمتبر القادم.
• له عدد من المخطوطات الشعرية التي كتبها في السجن، وسوف ترى النور تباعاً بعد أن يضع عليها لمساته الأخيرة.
• كتب نصاً مفتوحاً بعنوان ( خيانات اللغة والصمت ) وهو سيرة جماعية لعدد من رفاقه في سجن تدمر القابع في قلب الصحراء السورية. سوف يظهر في الأشهر القليلة القادمة.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفنان علاء السريح لـ - الحوار المتمدن
- النص الكولاجي. . صنع الله إبراهيم نموذجاً
- حوار مع المخرج المغربي عبد الواحد عوزري
- حوار مع نصر حامد أبو زيد
- أحداق - في عددها الثاني بحُلة جديدة • الخطوة الثانية من رحلة ...
- مخيلة الأدباء المنفيين . . إشكالية الكتابة عن الداخل والخارج
- حوار مع الفنان التشكيلي سعد علي
- ملامح الإستبداد الديني في العراق الجديد
- عقدة الرُهاب من الأجانب وتحفيز خلايا الأحقاد النائمة
- المخرج قتيبة الجنابي في فيلمه الجديد: خليل شوقي. . الرجل الذ ...
- الفنان الكاريكاتوري كفاح محمود لـ - الحوار المتمدن
- حوار مع الشاعرة الأفغانية زاهدة خاني
- القاص إبراهيم أحمد- الكلمات ينبغي ألاّ تفيض أو تشح عن المعنى
- بلجيكا تمنع إرتداء الحجاب والرموز الدينية في المؤسسات الرسمي ...
- مسرحية ( ليلة زواج ) محاولة لاستنطاق الغياب
- حوار مع النحّات والتشكيلي حسام الدين العقيقي
- حوار مع القاص فهد الأسدي
- حوار مع الفنان التشكيلي فاضل نعمة
- حوار مع الفنان والمخرج راجي عبد الله
- ندوة ثقافية في لاهاي عن حق الاختلاف والكتابة الجديدة


المزيد.....




- في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً ...
- مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن ...
- مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة ...
- ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا ...
- كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة.. ...
- لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
- صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل ...
- الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا ...
- العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط ...
- الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - حوار مع الشاعر السوري فرج البيرقدار