في شارع بولشايا أرضينكا , في فسحة صغيرة أمام المبنى رقم17, يوجد نصب تذكاري من البرونز لامرأة عرفت أكثر مما قالت وعانت أكثر بكثير مما بدا عليها. كنت أقف والشاعرة مارينا لازينسكايا نتأمل النصب. دنت امرأة بيريسترويكية منا وسألت لمن هذا النصب ؟ أجابتها مارينا بعصبية: على الإنسان الذي يحترم نفسه أن يعرف. ردت المرأة مضطربة: ولكنهم لم يكتبوا شيئا عليه. قلت لها , ملطّفا الموقف , لآنّا أخماتوفا. بدا الخجل واضحا على وجه المرأة وهي تنصرف دون أن تقول شيئا. في غرفة صغيرة من الشقة 13 في المبنى المذكور كانت تعيش أخماتوفا فترات متفاوتة كل عام (خاصة بين عامي 1938و1964). إنه بيت الكاتب الروسي الساخر فيكتور أردوف. وماذا في ذلك ؟ شاعرة تزور بيت صديق كاتب , بيتا تعده بيتها الثاني , فقد كانت إقامتها الدائمة في لينينغراد! لا شيء , لولا الخصوصية التي كانت تلف مجيء الشاعرة إلى هذا البيت , واللقاءات التي كانت تتم فيه. كأن القدر كان يسخر من الشاعرة , فجعل شباك غرفتها الوحيد يطل على جدار سجن النساء بنوافذه المقضبنة والأسلاك الشائكة التي تعلوه , وهي التي كانت تقيم عند أصدقائها متلمّسة أخبار ابنها المعتقل ليف غومليوف , بعد أن كان زوجها قد اعتقل وأعدم. المرّة الوحيدة التي التقت فيها أخماتوفا الشاعرة الكبيرة مارينا تسفيتايفا كانت في هذا البيت , وهنا كانت تلتقي باسترناك و أوسيب ماندلشتام قبل اعتقاله وإعدامه وهو الذي كان قد عرّفها على عائلة أردوف , ليرحل وتبقى هي أخماتوفا الشاعرة المرهفة المشاعر مثقلة بأرواح الأصدقاء والأقارب المعتقلين والمعدومين والملاحقين والمنفيين , مثقلة بعيون رجال الليل التي تخرج من كل شجرة وكل جدار. حتى صارت أخماتوفا ترى في كل جالس على مقعد قريب منها في الحديقة مخبرا يتعقبها , كما تقول الكاتبة نتاليا إيلينا التي صادقت الشاعرة منذ التقتها أول مرّة في بيت الإبداع في غوليتسين عام 1954 , وكانت تقف قبل ذلك في صف مضطهديها , وصارت تلتقيها لاحقا في بيت أردوف الذي بدأنا منه حديثنا.
في آب 1921مات صديق أخماتوفا الشاعر الكسندر بلوك وفي هذا الشهر المأساوي أيضا من العام نفسه أعدم في المعتقل الشاعر نيقولاي غومليوف (1886-1921) زوج الشاعرة, ثم اعتقل ابنهما ليف نيقولايفيتش غوميليوف ليمضي ثلاث فترات اعتقال: المرّة الأولى عام 1935 كابن لعدو الشعب والثانية عام 1938 بعد أن كان قد أطلق سراحه لفترة قصيرة , ثم مرّة ثالثة عام 1949. وفي العام 1948, وكان بالكاد قد أطلق سراحه بين اعتقالين , تقدّم بأطروحة دكتوراه في علوم التاريخ ونال اللقب بجدارة كباحث موهوب , ليصير فيما بعد باحثا شهيرا في مجال تخصصه. كتبت أخماتوفا عام 1923 قصيدة تتأمل فيها كأس زوجها الفارغ على مائدة الاحتفال بقدوم العام الجديد:
الهلال ضجرا في عتمة الغيم
يلقى نظرة باهتة على حجرة البيت الريفي
هناك على الطاولة ستة كؤوس
واحد منها فارغ دون الجميع
---
هذا زوجي وأنا وأصدقائي
نحتفل بقدوم العام الجديد
ترى ما الذي يدمي أصابعي ؟
والنبيذ لماذا يحرقني كالسم ؟
---
ها هو الداعي يرفع كأسه الملآن
رصينا يبدو لا يهزّه شيء
" أنا أشرب نخب تراب مروجنا
الذي مآلنا جميعا إليه " , قال
---
وها صديقي , متأمّلا وجهي ,
متذكّرا الله يعلم أي شيء
يقول: " سأشرب نخب الأغنيات
التي جميعنا فيها نعيش "
---
أمّا الثالث الذي يجهل كل شيء
فقال ملقيا على أفكاري الضوء:
" بل علينا أن نشرب نخب
ذلك الذي لم يلتحق بنا بعد ".
وفي عام 1939تكتب أنّا أخماتوفا عن حالتها بعد إعدام زوجها غومليوف واعتقال ابنها ليف قصيدة تقول فيها:
الدون الهادئ يجري هادئا
هلال أصفر يدخل البيت
يدخل بقبعة مائلة على الرأس
يرى الهلال الأصفر ظلاّ
هذه المرأة مريضة
هذه المرأة وحيدة
الزوج في القبر والابن في السجن
صلّوا من أجلي
لم يكن الخوف وجبروت السلطة يمنعا أخماتوفا من الوفاء لأصدقائها الملاحقين والمعتقلين. زارت أخماتوفا(عام 1936) صديقها الشاعر أوسيب ماندلشتام (1891-1938) في منفاه في مقاطعة فورونيج وعن ذلك كتبت قصيدة أطلقت عليها اسم " فورونيج ", حيث الليل لا يشف عن فجر ولا ينتهي إلا إلى المزيد من الظلام. بعد ذلك بعامين أعدم الشاعر ماندلشتام. تقول أخماتوفا في المقطع الأخير من قصيدتها:
وفي غرفة الشاعر المغضوب عليه
يتناوب الخوف مع جنيّة الشعر
والليل يسير
الليل الذي لا ينبئ بالفجر.
استمر اعتقال الأصدقاء وموتهم يلاحق أخماتوفا. ففي عام 1953 قضى نيقولاي نيقولايفيتش بونين في قبضة الجلاّد في المعتقل. كانت أخماتوفا قد انتقلت عام 1920 لتعيش في بيت بونين في شارع " نابيريجنايا فانتانكي ,43 " في بطرسبورغ ( لينينغراد) , هذا البيت الذي كتب عنه الكثير من الشعراء كما كتبت عنه أخماتوفا, وصار متحفا فيما بعد. حين علمت أخماتوفا بموت بونين في المعتقل كتبت:
لن يستجيب القلب بعد الآن
لندائي متلهفا منشرح النبض
كل شيء ينتهي .. وقصيدتي ستهيم
في ليل خاو , حيث لم تعد أنت.
أمّا صديق أخماتوفا الشاعر ميخائيل زوشينكا الذي عانى وإياها المنع واضطهاد النقد الجدانوفي وظلَّ القبضة الدامية التي تعتقل الأصدقاء وتعتم النهار , فترك رحيله الشاعرة وحيدة تحت سماء الخوف. عام 1958 , عام وفاته , كتبت أخماتوفا , تبحث عنه:
أرهف السمع لعلّ صوتا يجيء من بعيد
لا شيء حولي , لا أحد
مدِّدوا جسده
في هذه الأرض الطيّبة السوداء
لا غرانيت ولا صفصاف باكي
يظللان جثمانه الخفيف
لا شيء سوى رياح البحر والخليج
تهبّ إليه لتبكي عليه.
وبعد , إذا كان يمكن إجمال حياة أخماتوفا المديدة بعبارة واحدة , فهي ستكون:" حياة متهم قيد المحاكمة " , حياة كانت تنتظر فيها الاعتقال كل يوم:
وحيدة في قفص المتهمين
قريبا سأكمل نصف قرن
حياة زادتها حبا لشعبها الذي لم تكن معاناتها إلا بعضا من معاناته , فكثيرون كانوا معها تحت العيون وكثيرون وقفوا معها في طوابير السجون. قدمت أخماتوفا لقصيدتها "القدّاس" التي كتبتها بين عامي 1935و1940 بالكلمات التالية: في أعوام ييجوف الرهيبة أمضيت في طوابير سجون لينينغراد سبعة عشر شهرا. عرفني أحدهم في إحدى المرّات. حينئذ استفاقت المرأة التي تقف خلفي من ذهولها , الذهول الذي كان يصيب الجميع , وسألتني هامسة في إذني (كان الجميع يتحدثون همسا هناك): هل تستطيعين وصف هذا الذي يجري؟
أجبتها: أستطيع.
عندئذ سرى ما يشبه الابتسامة في ذلك الذي كان وجهها في يوم من الأيام .
أجل , في عالم الطغيان يحمل الناس بدل وجوههم سحنة موسومة بالخوف والذهول وعدم التصديق ومرارة الإحباط وأشياء أخرى يصعب وصفها , أشياء يختبئ تحتها ما كان يوما ما وجها على حد تعبير أخماتوفا.
أخيرا , لم يكن وجود الشاعرة , التي كتبت الكثير عن الحب , بين المعذبين والملاحقين صدفة, فقد كانت تعرف جيدا أين تقف ومن تكون , ولم تكن تنتظر مكافأة على وقوفها في صف مناهضي الطغيان. كتبت أخماتوفا عام 1961 تقول:
لا , ما تحت قبة سماء غريبة
ولا بحمى جناحين غريبين ,
إنما مع شعبي آنذاك كنت
حيث شعبي , لسوء الحظ , كان
أمّا من يكون مع شعبه فيبقى حيا رغم أنف جلّاديه , وهكذا بقي اسم أخماتوفا عصيا على الطغيان وبقيت أشعارها على مسافة يد دافئة وخفقة قلب تعرف معنى الرفض ومعنى الخوف ومعنى الحب.
- انتهى -
منذر حلوم- اللاذقية , سوريا, هاتف: 433126(041-00963)