|
الاهرام الفرعونية
زهير صاحب
الحوار المتمدن-العدد: 2350 - 2008 / 7 / 22 - 10:24
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الاهرام الفرعونية حين تستقدم مكانة الحداثة، بمفاهيمها الفكرية وانظمتها الشكلية الجديدة الهرم المصري، وهي تحلل وتركب نظم العلاقات، التي تميز هذا المنجز التشكيلي العظيم. فانها ترى فيه، نسقاً شكلياً تجريديا صرفا، معتبرة اياها نظاما نسقيا من الخطوط المائلة والافقية، وتصل بمرجعياته الى فكرة (افلاطون) في الاشكال المطلقة، وتعقد نظاما من الصلة في نسق الشكل، بينه وبين لوحات (موندريان) (مالفتش) في بنائية اللوحة او التشكيل الهندسي. وربما يرى الفكر المعاصر، نظاما من الصلة بين الهرم المصري وعمل النحات (برانكوزي) الخالد (طائر في الفضاء)، في بنائية الدلالة الكاملة في المنجز التشكيلي الساعية نحو اللانهاية وفكرة المطلق في التكوين الفني.
هذه الافكار ذات طبيعة الحداثوية المعاصرة، التي تعقد نظاما من التضايف ما بين القديم والمعاصر، حين تستقدم المنجز التشكيلي القديم الى حوار المنهج النقدي المعاصر، هي احادية النظرة، ذلك انها تولي نظام او نسق الاشكال اهتمامها. حين تقيم مفهوما يعزل المنجز التشكيلي عن المضامين الفكرية الكامنة به، والتي كانت فعالة في زمانه ومكانه، وربما حددت الدافعية والقصدية في البنائية الابداعية للمنجزات التشكيلية. ويمكن تشبيه هذه الاليات التحليلية التركيبية، بفكرة بيكاسو وبراك حين ابدعوا الاشكال التكعيبية في نظام الصورة، بالاستناد الى انظمة الاشكال في الاقنعة الافريقية. ذلك ان القناع الافريقي في مجتمعات الكونغو مثلا، يعتبر بمثابة التعويذة التي تشفي المرضى، الا ان الفكر المعاصر اعتبره نظاما شكليا كان بمثابة الحافز لابتكار المنهج التكعيبي في مناهج الفن الحديث، وهو منهج شكلي بالدرجة الاساس ويفتقر الى حرارة السحر الكامنة في الاقنعة الافريقية. تحتفظ الاهرام المصرية في زمانها ومكانها بدلالات رمزية متعددة التأويلات والدلالات الفكرية. فالنصوص الدينية المصرية تؤول النسق الشكلي لابنية الاهرام، باعتبارها تدليلا رمزيا لربوة الخليقة الاولى التي ظهرت اول مرة بعد انحسار فيضان نهر النيل الاول، وظهر عليها الاله (رع) ليؤدي فكرة خلق الكون. فالتدليل الرمزي هنا، يشتغل بتأويل فكرة الوجود الاول، الظهور الاول، التجلي الاول، في دلالة الهرم كمعنى او كدلالة فكرية. وتصف لنا النصوص الدينية، ان الملك الاله كان ينال الخلود بعد موته، متوحدا مع الالهة في السماء، وانه كان يحُمل في رحلته الابدية، على اشعة الشمس، لذا كان شكل الهرم اقرب شبهاً بحزمة من اشعة الشمس في الافق. كتأويل وكنسق ابداعي تشكيلي لفكرة النصوص الدينية. إن فكرة العلو او الارتفاع بوساطة الابنية المرتفعة، لإقامة منطقة اتصال ارضية سماوية، فكرة مألوفة في حضارات الشرق، وتتصل بفكرة الزقورة في بلاد وادي الرافدين، رغم من الزقورة في بنيتها الفكرية كانت معبدا، في حين كان الهرم رمزاً ملكيا إلهيا، ولذلك فان شكل الهرم كنسق تشكيلي وكدافعية وقصدية في العملية الابداعية، قد جاء لتوصيل بلاغ تشكيلي، كان بمثابة الخطاب المقدس في زمانه ومكانه. فهو بمثابة الرغبة في ابراز الطبيعة الميتافيزيقية للفرعون امام شعبه، وذلك في ابداع نسق شكلي يتجه في خطوطه الى السماء وربما يخرق عباب الفضاء نحو اللامحدود، وكذلك امداد الروحية الالهية المتجسدة على الارض برمز الفرعون، بوسيلة رمزية على هيئة سلم صاعد عظيم على شكل اشعة الشمس، وفي قراءة للخطاب التشكيلي تبدأ من الاسفل الى الاعلى دائما، يَرقى بوساطتها الفرعون الى عالم ابيه الابدي، عوالم الخلود مع الاله (رع). وحين نضيف الى دلالات الهرم الرمزية في الفكر المصري، دلالية مادية فكرية، فان القصدية من بناء الهرم تكون، بمثابة الغلاف الكوني الحافظ لمومياء الفرعون من العدم، ذلك ان ميكانيزم عملية الخلود في اللاهوت المصري الملكي، كانت تقتضي مثل هذه الامانة المطلقة، في مثالية المحافظة على التكوين الفيزيائي للجسم. كون هذا الفعل المتحقق، سيوبد فكرة توالد القوى الاثيرية كالقرين (الكا) والروح (اليا) والتي قد تمكث في جوف الهرم، او تغادره نحو سماء الاله (رع) الخالدة. وبفعل هذه الفكرة كحيثية، ضم الهرم في داخلة، تكوينات معمارية من الغرف المظلمة، والتي ضمت في اروقتها اروع كنوز الفن القديم من الاثاث الفاخرة، والاعمال النحتية، والرسوم الجدارية، انها فكرة تشتغل بآليات السحر التشابهي، لخلق نظام بديل، لصورة الحياة الاولى والتي سيدمرها العدم وفق قانون الطبيعة والذي لم يتحول على مر التاريخ. وفي دراسة تطور الشكل الهرمي في العمارة المصرية القديمة، اوضح مؤرخو الفن، ان النسق الشكلي للهرم، قد مر بمراحل تطورية، وفكرة تطور الشكل الهرمي، ترتبط بمستوى التطور الفكري والمعرفي للحضارة المصرية في سياقاتها التاريخية المعروفة التي اشرنا اليها. ذلك ان فكرة تطور النظام الشكلي للمنجز التشكيلي بشكل عام، ترتبط دوما بارتقاء الثقافة وتطور المعرفة، هذه البنية من التعالق، بين تطور الشكل التشكيلي وبنية الثقافة وتقدم المعرفة، يمكن ان تكون صحيحة حين يقوم علم تاريخ الفن بعرضها وفقا لسياقاتها التاريخية. ونقصد هنا بتطور الشكل الهرمي، هو تحولات الشكل الوظيفية والتي تترك انعكاساتها واضحة في تطور الشكل، في تمرحله الشكلي لتجسيد المطلق بين ايقاع التدرج المتصاعد نحو سلم اللانهائية، وصولا الى الشكل الهرمي التجريدي في بنيته الهندسية التجريدية الصرفة كقيم شكلية، وتأسيسا على ما تقدم يمكن رصد تحولات الشكل الهرمي كمنجز معماري يضم في نسيجه البنائي مضامين فكرية، وقيما شكلية حين نولي نظم العلاقات المتفاعلة والمميزة للاشكال اهتمامنا… وهذه المراحل تتمثل بخارطة يمكننا قراءتها بالشكل الاتي :- 1 – ابنية المصاطب : يمكن تحديد اصطلاح ابنية المصاطب في تطور فن العمارة المصرية، الى انها نوعا من الاسقاط التشبيهي، ذو طبيعة تنتمي الى الفن الشعبي والفلكلور المصري القديم، هذاالنوع من التشييدات العمارية الدينية وجدت خصوصيتها في تشابه نظامها الشكلي مع اشكال المصاطب الطينية، التي يستريح عليها الفلاحون في القرى المصرية المعاصرة، فالتسمية اذن، هي تعالق في النظام الشكلي التشبيهي، يُحرر به الفن المعاصر، الخطاب التشكيلي القديم، حين يستقدمه الى عالم التحليل والبحث المعاصر. ظهرت فكرة المصطبة اول مرة، في عصر السلالتين الاولى والثانية (العهد القديم)، وهي كمنجزات معمارية ترتبط ببنائيتها الفكرية بالمعتقدات الدينية وعلى الاخص عالم ما بعد الموت، وتكون بشكل تكوينات عمارية تتألف من حيزين مكانيين، يضمان بيئتين ثقافيتين، تختلفان بنوع العلاقة التي يشفران بها، كبنيات فكرية اولا، وانساق او انظمة شكلية ثانيا. الحيز المكاني الاول يكون ظاهرا فوق سطح الارض، تقرر الوظيفة طبيعته الدلالية كخطاب تشكيلي او ابلاغ تداولي، بين المعاش والمتمرحل الى عالم الخلود، حيث يحرص الدنيوي على ادامة بنى الترابط مع المترحل الى عالم الخلود والابدية، وتبعا لنظام الوظيفية، كانت الطقوس والممارسات والشعائر اللاهوتية، تعقد هنا بغية اختراق انغلاق العلامة نحو اللامتناهي. اما الحيز المكاني القدسي الثاني، فهو مغلق كبيئة مكانية ومحدود، بدلالة الموت القادم من عالم اخر، وتشتغل العلامة هنا، كبناء ترابطي من نسق شكلي متخفي تحت سطح الارض في عالم الغموض، حيث نظام الصورة البديلة الازلية، المعوضة عن عالم الصورة الارضية الفيزيقية الفاني. هذا الترابط في نظم العلاقات التي تميز البنية في ابنية المصاطب، كمنجزات وظيفية، او انساق شكلية، هي البلاغ الدلالي الذي تقدمه هذه البني المعمارية، لقلق الانسان الميتافيزيقي في زمانه ومكانه. وفي فحص انظمة الاشكال المعمارية لأبنية المصاطب، يظهر انها كمورفولوجيا اشكال معمارية، قد مرت وتمرحلت في مراحل تطورية، تبعا لتطور وارتقاء الفكر الديني، فقد اختزلت البيئة المكانية فوق الارضية كحيز معماري في عصر السلالتين الثانية – الثالثة، حين استغنى الفكر عن دلالتها العلامية في نظام التكوين المعماري، واصبحت حيزا معماريا صلدا، وظيفته الان هو ان يخفي تحت ثقله المعماري ويحافظ على عالم الابدية الخالد. في حين تعاظم اهتمام الفكر بالحيز المكاني الثاني الكامن والمتخفي تحت سطح الارض، فأصبح بيئة ثقافية معقدة يضم تراكيب معقدة من الغرف والممرات، حيث مكان استقرار المومياء الابدي، واماكن اثاثها الجنائزي المتنوع، والمتضمن وظيفيا ابسط مستلزمات الحياة ومعداتها وصولا الى اعقدها. في حين زينت جدارنه بالمنحوتات البارزة والرسوم الجدارية الملونة، والتي تعرض موضوعات، هي بمثابة خلاصة للافكار القادمة من الحياة الاولى المعاشة، نوعا من السحر التشابهي المرتبط بفكرة ادامة ونقل تفاصيل المعاش الفاني الى الابدي الخالد. انه تقمص حقيقة الحياة بعد تكثيفها بشكل خطاب تشكيلي، وانتقالها الى عالم الوجود الخالد، بغية تخليص الوجود، من كارثة العدم حين يحل الموت، وتحقيقا لفكرة البعث والخلود والتجدد في عالم الابدية بعد الموت. يمكن رصد الخصوصية الابداعية لهذه التكوينات المعمارية، في تكييف المواد والخامات المحلية، وجعلها اكثر صلاحية للتشييدات المعمارية لتحقيق فكرة المضمون الديني. حيث شكلت قطع الحجر الى انساق تشكيلية منتظمة، استخدمت كأساسات للجدران، وشيدت الجدران بقطع من اللبن المنتظم الاشكال. وتميزت السطوح الخارجية للابينة (فوق الارضية) بنظام من الطلعات والدخلات ذات اهمية معمارية لتقوية اسناد الجدران، وكمظهر جمالي في امتصاص وعكس انظمة الانارة الطبيعية. وفي هذا الخصوص يبرز نوع من الاهتمام الجمالي باخراج المظهر الخارجي للابنية، حيث تجتهد الذات في تجميل مثل هذه الابنية، بفعل نظم العلاقات الفكرية الرابطة بين الذات والاسقاط الروحي الميتافيزيقي الكامن فيها، والتي يجتهد الفكر المثالي، الكامن في طبيعة الفكر الاجتماعي على ادائها بشكل انيق. وبصدد ارتباط فكرة المصطبة بفكرة الهرم، فبإمكاننا إقامة نظام من الترابط العلائقي في السمات الفكرية والشكلية مع فكرة الهرم كنتيجة نهائية. ذلك ان فكرة الارتفاع العمودي فوق الارضي، ليعمل كسلم رابط بين ما هو ارضي وما هو سماوي، كان تجسدها الاول ومهما كان بسيطا في البنية الفكرية الكامنة في المصاطب الصلدة، على حيز المدفن، وكنوع من تحقق فكرة انبعاث القوى الاثيرية من الموامي. لتحقيق فكرة الخلود الكامنة في بناية الفكر الديني المصري القديم، بفكرة الهرم في مراحل تمرحلاته الشكلية المتعاقبة.
2- الهرم المدرج: ان فحص نسق العلاقات الرابطة بين المضمون الفكري القدسي، وكيفية تجسيده بمادة تعمل كوسيط لاحتواء الفكرة القدسية، والنظام الشكلي الناتج من تفاعل نظم العلاقات هذه، يوضح لنا رقي وتطور الفكر الديني، والذي اكتشف مادة تليق روحيا احتواء الفكرة. من هنا كان اكتشاف الحجر اول مرة كخامة للبناء، والتي تشير سماتها التعبيرية والجمالية، الى ارتباطها بقدسية الفكرة، والتي تبحث عن كيفيات تجسيد الخلود والبقاء والديمومة، لما تتميز به هذه المادة من خصوصية الازلية والخلود، ذلك ان نسق الشكل للهرم المدرج، قد تشكل من خلال الوعي والقصدية للمعمار، وذلك بابداع نظم علاقات، تجمع الفكرة والخامة ونظام الشكل في بودقة واحدة. بُني الهرم المدرج في عهد السلالة الثالثة، ايام الملك (زوسر)، من قبل مهندس مشهور اسمه (امحوتب) والذي ألّه بعد ذلك بفعل مأثرته الابداعية هذه. وقد شيد على مرتفع صخري صلب من الارض في صقارة ويطل على العاصمة منفس. وهو عبارة عن كتلة حجرية هرمية الشكل، تتألف من تعاقب ايقاعي لست طبقات مستطيلة الشكل، اكبرها في الاسفل بقياس 130م×110م، واصغرها في الاعلى ويصل ارتفاعه الى حدود 60م. وهو في تمظهره الشكلي قريب الشبه من ابنية الزقورات في العراق وكذلك زقورة (جوخة زمبيل) في ايران. لقد لخص المهندس (امحوتب) قوانين التشكيل الى نظام من الخطوط العمودية والافقية وصولا الى البنية الرياضية التي تميز الشكل، حيث استحال فيه المضمون الى نسق شكلي، يربط بين عوالم الغيب الميتافيزيقية في الاعلى حيث اللامحدود، وعالم الارض بكل محدوديته وبؤسه. ومن خصوصية اخرى يشير تتابع الطبقات الست المتناغم الى نوع من الوسيط الشكلي الايقاعي المتوالي الى الاعلى، وكأن المادة قد دخلت حيز الفن، بعد ان نظمت بوسيط اشبه بالسلم الموسيقي، فاستحالت الى نوع من الايقاع النغمي المتتالي في عالم الموسيقى الكونية كما اسماها الفنان العظيم (روبرت ديلوني) انه الوسيط الذي يوازن ما بين الروحي، وايقاعه الموسيقي الشكلي كنسق تشكيلي. استقرت غرفة الدفن التي تحتوي المومياء الملكية في اعماق الارض، وهي مُحاطة بعدد كبير من الغرف والممرات، مكونة نسق تشكيلي معقد، والذي ازدانت جدارنه بالقاشاني الازرق، لاحتواء مكملات عملية الخلود، وذلك بتكديس الاثاث الملكي فيها، وتزيين جدرانها بالنصوص السحرية المساعدة لنيل الخلود في عالم الابدية. فعن طريق الفن وبوساطته، استطاعت اللغة الابداعية للفكر، ايجاد وخلق عالم، لم يستطع احيائه في الواقع المحسوس، في بنية مترابطة الانظمة، تخضع لقوانينها الخاصة، وتكفي نفسها بنفسها. وتستند الى نوع متداخل من العوامل السايكلوجية، والحاجات والمتطلبات الاجتماعية، باعتبارها تمثلات فكرية لهذه المدلولات او اشارات او تلميحات اليها. وفي ذلك نوع من الانسجام المتضايف بين المادي والروحي وبين الطبيعي والرمزي. يرتبط الهرم المدرج بكتلته الحجرية الثقيلة، كمنجز معماري ذو طبيعة دينية، بوظيفة الحفاظ على المومياء الملكية الكامنة في جوف الارض اسفله، وكذلك امداد الروح الملكية بوسيلة تأملية لارتقاء سلم الابدية في عالم الاله (رع) الخالد، لقد كان غرض الفن ليس التقليد، بل الكشف عن الصيغ التي تساعد الوجود الانساني على الدخول في صلات وثيقة وحميمة مع آلهتهم. فهي تعود الى عالم لم يكن قائما على الارض، ولا يمكن ان يكون لولا وجود العبقرية لاكتشاف هذه الصور المبهمة للعالم غير المنظور. يتبع الهرم المدرج زوج من المعابد، بنيا الى شماله والى جنوبه. وقد خصصا لتقديم القرابين، وتأدية طقوس العبادات، للروح الملكية الالهية، بالاضافة الى ساحة رحبة تكتنفها هياكل لإقامة الاحتفالات والطقوس، ويحيط بالمبنى بأجمعه سور حجري ضخم ارتفاعه عشرة امتار ومحيطه زهاء ميل واحد. وفي كل ذلك وسائل لتحويل الذات الفيزيقية الزائلة، الى شيء ابدي، غير ان العملية تكون مزدوجة في انظمة البنية الثقافية، وبنوع من التعالق ما بين الزائل وتحولاته الى الابدي الخالد.
3 – الهرم المعوج (المنحني) : بني هذا الهرم في الموضع المعروف بأسم (دهشور)، كقبر للفرعون (سنقرع) أول ملوك السلالة الرابعة, وهو عبارة عن نموذج خاص من الاهرام دعي بالهرم المعوج او الهرم المزيف او المنحني او المثلوم. حيث يبدو الهرم معوجا مائلا الى الداخل بهيئة فجائية بدلا من ان يستمر في الارتفاع الايقاعي الى ان يصل الى ارتفاعه المحسوب والمقرر، ليكون هرما صحيحا كاملا، وقد علل مؤرخو الفن ذلك، ان هذا الاعوجاج انما نشأ من اختزال ارتفاعه بعد بنائه وبلوغه فوق منتصف ارتفاعه بقليل، فاضطر مهندسه الى اختصار ارتفاعه بإمالته امالة فجائية الى الداخل، بدلا من تدرجه في الارتفاع الايقاعي الانسيابي الى الارتفاع المطلوب، ذلك التدرج الذي لو ساروا فيها الى النهاية لأوجدوا الهرم الصحيح او الكامل. وقد يرجع سبب هذا الميل لأسباب فنية معمارية، اذا كان البناة يؤثرون بناء الهرم بزاوية ميل واحدة، غير انهم عدلوا عن ذلك بإمالة الزاوية في الجزء العلوي بقصد تخفيف وزنه، اذ يبدو ان المهندسين المعماريين، قدروا وحسبوا ان ارتفاع الهرم سيكون شاهقا جدا وكبيرا، مما قد يؤثر في سلامة البناء، وربما يؤدي الى تصدع الكتلة الهرمية او نزول في الارضية الصخرية عند القاعدة، وقد يكون السبب ايضا في مثل هذا الميل المفاجيء، هو رغبة الاسراع في انجاز بناء الهرم ربما لوفاة الفرعون، مما يقتضي انجازه بشكل سريع، خصوصا وان عمليات التحنيط تستغرق اكثر من اربعة شهور. ومع هذا الاختزال في ارتفاع الهرم، فان ارتفاعه قد بلغ ثلاثة وتسعون مترا. يتبع الهرم المعوج ايضا، زوج من المعابد لعبادة الفرعون، بالاضافة لعدد من التشيدات المعمارية التي ترتبط بها الفعاليات الدينية. ويعتبر الهرم المنحني في نسقه الشكلي اصل الاهرام الكاملة، ذلك ان الخبرة كانت تتطور بفعل تراكم التجربة ما بين الهرم المدرج وصولا الى الهرم المعوج واخيرا الى الاهرام الكاملة. والمهم هنا هو ان الجثمان الفيزيائي للفرعون، قد انتقل واحتل بيئة مكانية جديدة، تقع في قلب الهرم، بعد ان كان في باطن الارض في التجارب المعمارية السابقة، فعملية الفهم هنا، تهدف الى رد نمط من الواقع الى اخر، وذلك بالتحول نحو البناء الرمزي للفكرة، كي تحقق الروح مطلبها، حين تحمل على شعاع الشمس، المتحقق بالرمز الهرمي نحو عالم الابدية والخلود، فنحن هنا اما نمط التفسير البنائي القائم على مفهوم النسق او النظام. ذلك ان الخبرة كامنة هنا في صميم المطلب العقلي، الذي يريد ادخال الكثرة التجريبية تحت مفاهيم النظام او النسق.
4 – الاهرام الصحيحة (الكاملة): اشتهرت مصر في تاريخها المعماري القديم، باكبر ثلاثة اهرامات. وهي اهرام الفراعنة خوفو وخفرع ومنكورع. وقد كانت الاهرام الكاملة، نتيجة تطور متسلسل في الخبرة المعمارية، وكذلك بفعل تحولات البنية الفكرية وتطورها وتطور وسائل تحقق عمل انظمتها المتشابكة التفاعل والمتمثلة بتحولات النسق الشكلي للهرم من المدرج الى المعوج واخيرا الى الهرم الكامل. وتمر عملية بناء الهرم بعدة مراحل اولها انتخاب الموضع الصالح لبناء الهرم، كوجوب كونه غرب نهر النيل (أي جهة غروب الشمس رمز الموت والنهاية عند قدماء المصريين). ذلك ان مثل هذا الابلاغ المنبثق كدلالة من الانساق التشكيلية المعمارية، كان مثقلا بمضامين فكرية او دلالات، منبثقة من الاعراف الاجتماعية، والعلاقات الذهنية المشتركة، والارتباط العام بمستوى الوعي والفهم والادراك في بنائية الفكر الاجتماعي. ذلك ان النشاط الفني، كعملية قصدية، ينبثق من صميم الحياة نفسها، باعتباره نشاطا اجتماعيا في مجال سوسيولوجيا الفن، وتنحصر غايته في الحياة والواقع نفسه. ويجب ان تكون البيئة المكانية لتشييد الهرم، غير بعيدة عن ضفة النهر الغربية، وذلك لتسهيل عملية نقل الاحجار من جهته الشرقية، ويلزم ايضا ان يكون المكان غير بعيد عن العاصمة الملكية. باعتبار الهرم رمزا لعظمة الملك الاله امام شعبه. وتقتضي قوانين العمارة في بناء الاهرام، ان تكون طبقات الحجارة الارضية خالية من العيوب قوية لا تنهار تحت ثقل الهرم الهائل. وبعد ان يتم اختيار الموضع الصالح للبناء، يبدأ المعماريون بتهيئة البناء، كإزالة الطبقة السطحية السميكة من الرمال والحصى، كي يكون البناء الهرمي قائما على اسس متينة من الارض الحجرية الصلدة، ثم يعمدون الى تسوية ارض البناء في مستوى واحد. وقد ابدع بناة الاهرام في عملية تسوية الارض، بحيث ان ارضية الهرم الاكبر ليس فيها خطأ بالنسبة الى المستوى الافقي الا نحو نصف انج، وذلك عظيم اذا عرفنا ان طول ضلع قاعدة الهرم المربعة كان 250 متر. ثم تأتي عملية تربيع القاعدة وجعلها مربعا صحيحا ذو زاوية قائمة مضبوطة، وبحيث يكون كل ضلع من اضلاع القاعدة باتجاه جهة من الجهات الاربع الاصلية. وقد كانت النتيجة مضبوطة ومدهشة، فلم يكن الفرق بين الاضلاع سوى ثمانية انجات، وهذا خطأ ضئيل في الواقع قياسا بأضلاع القاعدة الطويلة. ولعل ذلك يدلل على تقدم الهندسة المصرية في زمانها ومكانها، حتى ان الفيلسوف افلاطون قد وصف البناة المصريين : بأنهم شدادوا حبال وسحابوا خيوط. واضافة لذلك فقط استنتج الباحثون المحدثون، ان ضبط توجيه اضلاع الهرم نحو الجهات الاربع الاصلية، قد تم بوساطة رصد بعض الاجرام السماوية. وفي ذلك اشارة الى تطور مهم، بلغة العقلية المصرية القديمة في مجال علم الفلك. انه الفن المعتمد على تطور المعرفة، ومن هذه اللحظة في مكانها، يظهر الفن وقوانين التشكيل مرتبطا بالمعرفة، وخاضعا الى تحولاتها، المرتبطة على تعاظم الخبرة من خلال التجريب. بني اكبر الاهرام المصرية وهو هرم (خوفو) من (2300000) قطعة من الحجارة زنة كل منها 2500 كغم، وقد تطلب انجاز البناء تشغيل 100000 عامل، اكملوا بنائه في 20 سنة، وقد تفنن الكتاب والعلماء الذين زاروا الهرم من مختلف العصور في تقدير كمية الحجارة المستعملة في بناء الهرم الاكبر، فحسب بعضهم حسابا طريفا، هو انه لو قطعت الحجارة المشيد بها هذا الهرم، وجعلت بحجم قدم مكعب، ووضعت جنبا الى جنب لامتدت مسافة تبلغ ثلثي محيط الارض في خط الاستواء، ونسب تقدير مماثل الى (نابليون) خلال حملته الشهيرة على مصر، فقد قال لبعض قواده الذين تسلقوا الهرم (ولم يتسلقه هو)، انه حسب احجار الاهرام الثلاثة الكبيرة، تكفي لبناء جدار ارتفاعه 10 قدم وسمكه قدم واحد، يحيط بجميع فرنسا، ويروى ان العلماء الرياضيين الذين رافقوا الحملة، قد وافقوه على ذلك. تقطع الاحجار وتهيئ للبناء من جبل المقطم شرق النيل، وتنقل الى مكان العمل في غرب النيل، في موسم ارتفاع مياه النيل وبطرق بدائية مختلفة، واذا ما تهيأت مواد البناء اللازمة وجلبت الى موضع البناء، تبقى مشكلة اساسية، وهي مشكلة رفع مثل هذه الاحجار الضخمة ووضعها في المكان المقرر، وتلك اشكالية كبيرة اذا عرفنا ان ارتفاع الهرم الكبير بلغ 160م، أي بما يعادل عمارة معاصرة من خمسين طابق، وبالنظر لتعذر معرفة المصريين القدماء بالآلات التي تشتغل على مبدأ العتلات والبكرات، فالمرجح ان طريقة رفع الاحجار التي ابتكرها قدماء المصريين تدور على مبدأ المنحدرات المكونة من الآجر والتراب والرمال، حيث يُعلّون قطع الاحجار منحدرة الى الاعلى حتى الارتفاع المطلوب. واذا ما عرفنا ارتفاع الهرم الشاهق المذكور اعلاه، فان العمل يتطلب تهيئة منحدرات بانسيابية تمتد ربما لعدة كيلو مترات، وبعد اكمال البناء، ترفع المنحدرات الترابية، بعد ان يتم تغليف السطح الخارجي للهرم بحجر الكرانيت، بحيث لا تستطيع قطرة مطر الثبات على سطح الهرم ولو لبرهة واحدة. ويوجد الى شمال الهرم وجنوبه، حفرتان كبيرتان وقد نحتتا في الارض الحجرية، وجعلت هذه الحفر على هيئة السفن، ولعلها كانت مبطنة ومسقفة بالخشب. والغرض من هاتين السفينتين اللتين تؤديان تعبيرا رمزيا، هو ان الفرعون كان يستخدمها في سفرته في عالم الخلود وفي مرافقته للاله الشمس (رع) في رحلته اليومية ليلا ونهارا. ويتبع كل هرم، زوج من المعابد، لعبادة الفرعون بعد مماته، وتتلخص هذه العبادات بأداء الطقوس والشعائر التي ترتبط بنظرية الخلود الفرعوني. واول هذين المعبدين، يعرف باسم المعبد الجنائزي، وهو معبد مهيب وفخم وقد زين بالمنحوتات والنقوش وصفوف الاعمدة المزخرفة الجميلة، ويقع بالقرب من الهرم. اما المعبد الاخر، فيعرف باسم معبد الوادي، ويقع بعيدا عن الهرم قرب التجمع السكاني. ويرتبط بالهرم بطريق طويل، وصفه المؤرخ الاغريقي (هيرودتس) بانه كان مرصوفا بالحجر، ومزينا بالمنحوتات ذات الموضوعات الدينية. وسنأتي على دراسة هذه المعابد عند دراسة المعابد المصرية. وبإمكان الزائر لأهرام الجيزة العظيمة، ان يقف مدهوشا امام اكبر تمثال في تاريخ فن النحت، الا وهو تمثال ابو الهول. وهو بمثابة تركيب سريالي، من بورتريت اله (خوفو) وجسم اسد، فنظم العلاقات التي اختارها الفنان، من تجربته الخارجية كعملية تحليلية، هي فعل ذهني واع، الا ان عملية تركيب هذه المفردات في بنية كلية، هو الفعل السريالي في هذه العملية. ويمكن قراءة نظام العلاقة في تمثال ابي الهول، هو ان الفكر الفرعوني، اختار الاسد تعبيرا عن القوة، مُركّبا اياه مع بورتريت الاله رمز اللانهائية واللامحدود، وبتركيب الاصطلاح المعقد، يصبح التدليل تعبيرا عن القوة المطلقة. ويؤيد هذه القراءة السيميائية لشكل ابي الهول، هو ان وظيفة هذا التمثال الهائل، كانت حراسة اهرام الجيزة الالهية. خصوصا وان طول التمثال كان 187 قدم وارتفاع البورتريت وحده كان 65 قدم، وعرضه 14 قدم. لقد كانت الاهرام قبورا للفراعنة، ورغم كونها صلدة، الا انه ينفذ اليها من مدخل سري، في مكان مرتفع من احد اوجه الهرم. ففي هرم خوفو يكون ارتفاع المدخل حوالي 55 قدم. وينحدر من المدخل رواق عرضه ثلاثة اقدام، ويغور في جسم الهرم الداخلي، ثم يخترق الارض الصخرية، وبعد مسافة 345 قدم من المدخل، يستمر الرواق افقيا، لينتهي بمجموعة من الغرف والممرات، حيث مكان المومياء الابدي. سمى المصريون القدماء الهرم باسم (مير) (Mer). وهي كلمة لا يعرف معناها بالضبط. اما الاسم المتداول في اللغات الاوربية أي (Pyramid) فمأخوذة من الكلمة اليونانية (Pyramis) وجمعها (Pyramids). وهي كلمة قيل في اصلها جملة تفاسير، ترجع الى كلمات مصرية قديمة، من بين ذلك مصطلح رياضي هندسي، لفظه بالمصرية القديمة (بير – ايموس) (Per – em – us) التي اطلقها الرياضيون المصريون القدماء على الارتفاع العمودي للهرم. وربما ايضا ان لا تكون هناك علاقة اشتقاقية بين هذه الكلمة وبين الكلمة اليونانية (بيرميس). أ.د زهير صاحب
#زهير_صاحب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جذور الكتابة الرافدينية في رسوم الفخاريات
-
الكتابة السومرية
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|